ما بعد البنية التحتية: مقاربات مصر في حوكمة الإنترنت

مقدمة

بدأت اﻹنترنت انتشارها الواسع خلال تسعينات القرن الماضي. تحولت الإنترنت منذ ذلك الوقت من أحد مشروعات وزارة الدفاع اﻷمريكية، التي لم يملك حق الوصول إليها خارج المؤسسة الرسمية المسؤولة عنها سوى بعض اﻷكاديميين في الجامعات الأمريكية، إلى مشروع تجاري ذو إمكانيات كامنة غير محدودة. 

في النصف الثاني من نفس العقد بدأت اﻹنترنت كوسيط اتصالات جديد مختلف عن كل سابقيه تجتذب اهتمام الدول حول العالم. بدأ كثير من هذه الدول يستشعر القلق نتيجة الشعور بأن هذا الوسيط الواعد تنمويًا والذي قد يحمل أيضًا مخاطر مختلفة ينمو ويتطور دون أن يكون لها أي قدر من السيطرة عليه.

كان ذلك هو الحافز الرئيسي وراء بدء العملية الدولية التي بادرت بتدشينها هيئة اﻷمم المتحدة. حاولت تلك المبادرة تنظيم عملية لقاء ونقاش الأطراف المختلفة ذات المصلحة على كيفية عمل شبكة الإنترنت. الهدف الأساسي كان مناقشة القضايا المختلفة والوصول إلى أرضية مشتركة لدفع نمو الشبكة في اتجاه يخدم جميع اﻷطراف بشكل متوازن. 

كواحدة من الدول النامية، كانت مصر منذ ذلك الحين ولا تزال تولي اهتمامًا كبيرًا لشبكة اﻹنترنت ولتكنولوجيات الاتصالات والمعلومات بصفة عامة. التوجه المبدئي لمصر نحو اﻹنترنت تعلق أولًا بإمكانياتها التنموية. لكن مع الوقت، تغلب الهاجس اﻷمني الداخلي والخارجي وأصبح قدر أكبر من الاهتمام بحوكمة اﻹنترنت ينصب على المحتوى المنشور عليها. 

تتصف الحالة المصرية بعديد من الملامح الخاصة بها. من بين تلك الملامح طبيعة المنظومة السياسية الحاكمة والتقاليد البيروقراطية لجهازها الحكومة. هذا بالإضافة إلى حجم السوق المصري، والموقع الجغرافي وأهميته لشبكات الاتصالات العالمية. هذه الملامح جميعها، مع إضافة التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها مصر في العقدين اﻷخيرين، تسهم بنسب مختلفة في تشكيل التجربة المصرية في التعامل مع حوكمة اﻹنترنت، وصولًا إلى الوضع الحالي له. 

تسعى هذه الورقة إلى تقديم صورة شاملة لعلاقة الدولة المصرية بحوكمة اﻹنترنت عبر ما يقرب من ثلاثة عقود، منذ النصف الثاني لتسعينات القرن الماضي وحتى اليوم. خلال هذه الفترة تغيرت كثير من ملامح شبكة اﻹنترنت وتضخم موقعها المؤثر في الحياة اليومية للناس في كل مكان من العالم. كما تغيرت كثير من ملامح المجتمع المصري ودولته. 

تتناول الورقة علاقة الدولة المصرية بحوكمة اﻹنترنت من خلال عدة محاور رئيسية هي؛ الملامح العامة لعلاقة الدولة المصرية بحوكمة اﻹنترنت، والمشاركة والدور على الصعيد الدولي، والقضايا الرئيسية لحوكمة اﻹنترنت وموقف الدولة المصرية حيالها، وممارسات الدولة المصرية ذات الصلة بحوكمة اﻹنترنت داخليًا.

الملامح العامة لتعامل الدولة المصرية مع حوكمة اﻹنترنت

التوجه التنموي

كدولة نامية، كان المشروع الرئيسي للدولة المصرية في تسعينات القرن الماضي هو دفع عجلة التنمية بأقصى قوة ممكنة. أسفر هذا التوجه عن إنشاء وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في عام 1999.

اتصفت المرحلة التنموية اﻷولى لتعامل الدولة المصرية مع تكنولوجيا الاتصالات وشبكة اﻹنترنت بتشجيع شركات القطاع الخاص على العمل في مجال تقديم تلك الخدمات. أحد مظاهر هذا التشجيع كان امتناع الشركة الوطنية، شركة المصرية للاتصالات، عن دخول مجال تقديم خدمات الهاتف المحمول، في هذه الفترة، لإتاحة منافسة عادلة بين شركات القطاع الخاص في هذا السوق. 

اكتفت الدولة حينها باحتكار تنفيذ وملكية البنية التحتية للاتصالات من خلال شركة المصرية للاتصالات، بحيث يظل بيدها قدر كاف من السيطرة على قطاع الاتصالات. ومن ثم، فالوضع القائم منذ ذلك الحين وحتى اليوم هو أن شركات القطاع الخاص تعتمد على البنية التحتية التي تشترى حق استخدامها من المصرية للاتصالات.

الملمح التنموي الرئيسي اﻵخر لهذه الفترة هو الدفع بقوة لنشر استخدام شبكة اﻹنترنت على أوسع نطاق ممكن. في هذا اﻹطار، رعت الحكومة عدة مبادرات كان أبرزها مبادرة الخدمة المجانية للاتصال باﻹنترنت. أتاحت المبادرة لكل مشترك بشبكة التليفونات الاتصال بشبكة اﻹنترنت من خلال عدد من اﻷرقام، مقابل تعريفة المكالمات التليفونية فقط. 

كان هذا يعني أن المستخدمين غير ملزمين بالاشتراك في خدمة اﻹنترنت بشكل مستقل. ففي ذلك الوقت، كانت الشركات تقدم خدمة الإنترنت بتكلفة مرتفعة وسعات محدودة، وحد أقصى ضئيل للاستخدام. أسهم ذلك في أن يتزايد عدد من يمكنهم الاتصال بشبكة اﻹنترنت في مصر عدة أضعاف في وقت قصير، مع بداية اﻷلفية.

التوجه التقني

ثمة عدة عوامل أدت إلى أن يكون أحد التوجهات الغالبة على تعامل الدولة المصرية مع قطاع الاتصالات والمعلومات هو التوجه التقني وبصفة خاصة المتعلق بالبنية التحتية. من بين هذه العوامل طبيعة الخبرة السابقة للبيروقراطية المصرية مع مجال الاتصالات وبصفة خاصة الهاتفية.

العامل اﻵخر هو تقادم شبكات الاتصالات الهاتفية في مصر في ذلك الحين. من ثم، فقد كان تطوير واستبدال هذه الشبكات بأخرى حديثة أحد الهموم الرئيسية للحكومات المصرية. لذلك، كان العمل في مجال مشروعات البنية التحتية يستهلك قدرًا كبيرًا من الموارد المالية والبشرية المتاحة. كما أن القطاع الخاص لم يُسمَح له بالدخول في هذا المجال إلا بقدر محدود، وبالتالي تحملت الدولة وحدها أعبائه.

انعكس ذلك على اهتمامات مصر المتعلقة بنشاطها على الصعيد الدولي. فكان من بينها السعي لتوفير الدعم المالي والفني للدول النامية لتحديث بنيتها التحتية بما يتناسب مع متطلبات تكنولوجيات الاتصالات والمعلومات الجديدة.

التوجه اﻷمني

لم تكن شبكة اﻹنترنت كوسيلة اتصال منذ بداية انتشارها في مصر بعيدة بأي حال عن اهتمام الأجهزة اﻷمنية. إلا أن هذا الاهتمام تصاعد بشكل واضح منذ النصف الثاني للعقد اﻷول من اﻷلفية. تزامن هذا مع توسع استخدام اﻹنترنت في مصر بشكل كبير ومع ظهور تطبيقات وب-2 (Web 2.0)، و تطبيقات الوب التفاعلية مثل المنتديات والمدونات ثم مواقع التواصل الاجتماعي. 

واكب ذلك نشاطًا متناميًا لحركات المعارضة السياسية في مصر. كما بدأ كثيرون التوجه إلى شبكة اﻹنترنت كمساحة أكثر حرية للتعبير عن الأفكار واﻵراء، خاصة المعارضة للنظام الحاكم. وصل نشاط المعارضين للنظام من خلال شبكة اﻹنترنت ذروته عشية اندلاع ثورة يناير 2011. 

كان لمواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر دور لا يمكن إنكار أثره في الدعوة إلى التظاهرات التي خرجت في المدن المصرية في 25 يناير 2011. دفع هذا الحكومة المصرية إلى قطع خدمات اﻹنترنت والهواتف المحمولة بشكل شبه كامل يوم الجمعة 28 يناير، مع تصاعد المظاهرات في مختلف محافظات مصر.

في أعقاب ثورة يناير 2011، وحتى اليوم، أصبح التوجه اﻷمني هو اﻷبرز في سياسات الدولة المصرية تجاه شبكة الإنترنت. يمكن القول بأنه يحكم التوجهات التشريعية والتنفيذية للدولة، سواء في وضعها للقوانين التي تتعامل مع حوكمة اﻹنترنت أو في الممارسات اليومية للأجهزة اﻷمنية وغيرها من مؤسسات الدولة على اختلافها. 

فرض الرقابة والمراقبة على شبكة اﻹنترنت هو ملمح رئيسي لسياسات الدولة المصرية في الوقت الحالي، سواء تم ذلك تحت الغطاء القانوني أو خارجه. كما تستعين الحكومة المصرية بشركات التكنولوجيا العالمية الكبرى للحصول على الأكثر تقدمًا من برمجيات وتطبيقات المراقبة واختراق نظم المعلومات، ومنها أجهزة الحواسب الشخصية والهواتف المحمولة، وحجب المواقع.

الدور المصري في حوكمة اﻹنترنت على الصعيد الدولي

تعتبر مصر من بين أكثر الدول النامية نشاطًا في المشاركة على الصعيد الدولي في المؤتمرات والمنتديات ذات الصلة بحوكمة اﻹنترنت. بدأ ذلك منذ مرحلة الإعداد للقمة العالمية لمجتمع المعلومات في عام 2003 واستمر مع المشاركة المنتظمة لمصر في الاجتماعات السنوية لمنتدى حوكمة اﻹنترنت.

كذلك شاركت مصر في تأسيس واستضافة المنتديات اﻹقليمية اﻹفريقية والعربية لحوكمة اﻹنترنت. وفيما يلي بعض من التفاصيل اﻹضافية حول مشاركة مصر في عمليات حوكمة اﻹنترنت على الصعيد الدولي.

القمة العالمية لمجتمع المعلومات (WSIS)

طرحت هيئة اﻷمم المتحدة فكرة عقد قمة عالمية لمجتمع المعلومات في عام 1998. استغرق التوافق حول عقد هذه القمة عدة سنوات، حتى تم تحديد عام 2003 موعدًا لها. سبق ذلك عملية إعداد لهذا المؤتمر تمثلت في عقد اجتماعات إقليمية للتوافق حول القضايا التي سيتم طرحها ومناقشتها فيه. 

شاركت مصر بشكل نشط في مرحلة اﻹعداد بالمشاركة في الاجتماع اﻹقليمي لدول القارة اﻹفريقية للإعداد للقمة. في الوقت نفسه، بادرت مصر إلى دعوة الدول العربية إلى عقد اجتماع تحضيري للتوافق حول مواقف متناغمة في مؤتمر القمة. عقد هذا الاجتماع في القاهرة على المستوى الوزاري في يونيو 2003. صدر عن هذا الاجتماع وثيقة إعلان القاهرة التي ضمت خطة عمل مشتركة للدول العربية فيما يخص التعاون في مجال حوكمة اﻹنترنت.

حضرت مصر المرحلة اﻷولى من القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي عقدت اجتماعاتها في جنيف بوفد كبير. كذلك شاركت مصر لاحقًا في المرحلة الثانية للمؤتمر التي عقدت اجتماعاتها في عام 2005 في العاصمة التونسية. تمخضت تلك المرحلة عن إعلان تونس وعن إنشاء منتدى حوكمة اﻹنترنت.

أبرز النقاط التي شغلت اهتمام الحكومة المصرية في هذه الفترة فيما يخص مشاركتها في القمة العالمية لمجتمع المعلومات كانت: تنمية البنية اﻷساسية، وإعداد الكوادر الفنية المؤهلة لمجال العمل في قطاع تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، والحكومة اﻹلكترونية، والدفع لزيادة المحتوى باللغة العربية على شبكة اﻹنترنت. تكرر التركيز على تلك النقاط في معظم الوثائق ذات الصلة الصادرة عن الحكومة المصرية خلال السنوات التالية.

منتدى حوكمة اﻹنترنت (IGF)

تشارك مصر بشكل منتظم في الاجتماعات السنوية لمنتدى حوكمة اﻹنترنت. إضافة إلى ذلك، شاركت مصر في تأسيس المنتديات الإقليمية لحوكمة اﻹنترنت لكل من قارة إفريقيا والعالم العربي وإقليم شمال إفريقيا.

كما استضافت مصر اجتماعات منتدى حوكمة اﻹنترنت في نسخته الرابعة في مدينة شرم الشيخ، في نوفمبر من عام 2009. هذا المنتدى كان اﻷول الذي يناقش الموضوعات المتعلقة بمواقع التواصل الاجتماعي. وصف المنتدى حينها مواقع التواصل الاجتماعي بأنها “نمت بشكل هائل في السنوات القليلة” السابقة على المنتدى الرابع، “وأصبحت ضرورية للوصول إلى جمهور واسع.”

كذلك استضافت مصر الاجتماع اﻷول لمنتدى شمال إفريقيا لحوكمة اﻹنترنت في مدينة شرم الشيخ في ديسمبر عام 2017.

الموقف المصري من قضايا حوكمة اﻹنترنت الرئيسية

نموذج تعدد أصحاب المصلحة في حوكمة اﻹنترنت

واحدة من مشاكل كثير من الدول، وفي مقدمتها الدول النامية، مع نموذج تعدد أصحاب المصلحة أنه يعتمد على المشاركة الدائمة والنشطة في العديد من المنتديات. أغلب الدول النامية لا تمتلك الموارد المادية أو الفنية اللازمة للمشاركة في جميع أو معظم هذه المنتديات بشكل مؤثر. يعني هذا حرمانها من فرصة الدفاع عن مصالحها ووجهات نظرها تجاه قضايا حوكمة اﻹنترنت.

في المقابل، تملك دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، مزايا واضحة في ظل هذا النموذج. تمتلك تلك الدول الموارد اللازمة للمشاركة النشطة في منتديات حوكمة اﻹنترنت. كما أنه في أغلب اﻷحيان، مصالح ووجهات النظر التي تتبناها تلك الدول في هذه المنتديات يمثلها وفودها الرسمية وكذلك عدد كبير من ممثلي القطاع الخاص.

لا تعد مشكلة الموارد هي المشكلة الوحيدة مع نموذج تعدد أصحاب المصلحة. فمشكلة أخرى يستشعرها عديد من الأطراف، وخاصة المجتمع المدني، هو أن هذا النموذج يتيح لشركات التكنولوجيا الكبرى أن تمارس قدرًا كبيرًا من التأثير على صنع القرارات الدولية المتعلقة بحوكمة اﻹنترنت. يعني هذا أن كثيرًا من هذه القرارات من شأنه أن يخدم مصالح تلك الشركات، والتي في عديد من اﻷحيان تتعارض مع المصالح التي تدافع عنها حكومات الدول أو منظمات المجتمع المدني. وبالنسبة للأخيرة، فإن عديدًا مما تحاول الدفاع عنه يتعلق بحماية مصالح مستخدمي اﻹنترنت أنفسهم من خلال الدفاع عن حرية اﻹنترنت وضمان انفتاحها. 

الوضع المثالي في اعتقاد كثير من الدول، ومنها مصر، هو أن يتولى حوكمة اﻹنترنت هيئة دولية تابعة للأمم المتحدة مثل الاتحاد الدولي للاتصالات (International Telecommunication Union) أو مستقلة عنها. في مثل هذه الهيئة، التي تضم ممثلين عن الدول وحدها، يكون لكل دولة صوت واحد. كما أنه لا يكون ﻷية أطراف أخرى دور مباشر في صنع القرار. إلا أن هذا البديل يهدد حرية اﻹنترنت، حيث يعطي لكثير من الدول ذات النظم غير الديموقراطية قدرًا أكبر من التأثير على القرارات التي تحكم كيفية عمل الشبكة.

بالنسبة لمصر، لا تمثل الموارد اللازمة للمشاركة في منتديات الإنترنت بشكل نشط إشكالية كبيرة. ومن ثم، ففي حالات عديدة كان لمصر مواقف مؤيدة لنموذج تعدد أصحاب المصلحة. من بين تلك المواقف مشاركتها في تأسيس المنتدى العربي لحوكمة اﻹنترنت في عام 2012. يعتبر المنتدى واحدًا من بين المنتديات اﻹقليمية كامتداد لمنتدى حوكمة اﻹنترنت الدولي. 

عُقد المؤتمر الخامس للمنتدى العربي لحوكمة اﻹنترنت في مصر. تعاون في تنظيم تلك النسخة الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات مع كل من اﻹسكوا وجامعة الدول العربية. 

في المقابل، تظل مصر دولة نامية. وبحكم طبيعة النظام الحاكم فيها تميل مصر إلى دعم الشكل التقليدي ﻹدارة الشؤون الدولية من خلال هيئات تضم ممثلين رسميين للدول المختلفة. لذلك، كانت مصر بين الدول التي دعمت أن يكون للاتحاد الدولي للاتصالات دورًا أكبر في حوكمة اﻹنترنت، وهو ما ترفضه دول الغرب بشكل قاطع.

السيادة السيبرانية

مفهوم السيادة السيبرانية يسعى لتمديد مفهوم سيادة الدولة إلى الفضاء السيبراني. يعني ذلك أن يكون للدولة السيادة على اﻷنشطة التي تتم في هذا الفضاء ما دام يمارسها مواطنوها أو المقيمون داخل أراضيها أو تمس أمنها القومي بشكل أو بآخر.

يتم تطبيق هذا المفهوم من خلال سن تشريعات وممارسة سياسات مختلفة. في خلال العقد الأخير، كان التوجه المصري واضحًا في تبنيها لمفهوم السيادة السيبرانية من خلال ما سنته الدولة من تشريعات وكذلك من خلال السياسات التي تتبعها. إلا أن مصر لم تعلن عن ذلك صراحة في وثائق محددة.

واحدة من أهم ملامح تطبيق السيادة السيبرانية هو التحكم في الموقع الجغرافي للمعدات والتجهيزات المستخدمة في تخزين البيانات. بمعنى أوضح، تسعى الدول التي تمارس هذا المفهوم على أن تبقى البيانات الخاصة بمواطنيها بشكل مادي داخل أراضيها بحيث تمتلك الشرعية القانونية اللازمة للتعامل معها عند الحاجة، ولضمان عدم تسرب أية بيانات حساسة

تطبق مصر هذا المفهوم من خلال نصوص قانون حماية البيانات الشخصية والتي تلزم الجهات التي تقوم بجمع ومعالجة وتخزين البيانات داخل مصر بعدم مشاركتها مع طرف خارجي دون موافقة مسبقة من الجهات المختصة. 

حوكمة اﻹنترنت محليًا في مصر

تنفرد الدولة المصرية بوضع وتنفيذ السياسات ذات الصلة بحوكمة اﻹنترنت داخل مصر. ويغيب بشكل واضح أي دور ملموس للأطراف ذات المصلحة إلا بصورة استشارية. يعد الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات هو الهيئة الرسمية صاحبة أكبر سلطة على القضايا ذات الصلة بحوكمة اﻹنترنت في مصر في الوقت الحالي. في المقابل، تراجع إلى حد كبير الدور المباشر لوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وإن كان لا يزال ملموسًا وخاصة في إصدار الاستراتيجيات وبرامج العمل ذات الصلة.

اﻷدوات الرئيسية التي تستخدمها الدولة المصرية لتوجيه وتنظيم عمل شبكة اﻹنترنت داخل مصر هي اﻷدوات التشريعية. يكون ذلك من خلال إصدار القوانين ذات الصلة بتنظيم شؤون الاتصالات والبيانات والمعلومات واﻷنشطة المختلفة التي تتم من خلال شبكة اﻹنترنت، وفي مقدمتها التبادلات المالية والتجارية. كذلك يلعب الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات دورًا كبيرًا في إصدار اﻷطر التنظيمية الحاكمة لمجالات العمل ذات الصلة، ومنها على سبيل المثال تنظيم إنشاء وعمل مراكز البيانات.

تطور البيئة التشريعية

شهدت البيئة التشريعية ذات الصلة بحوكمة اﻹنترنت تطورًا كبيرًا منذ عام 2003 الذي شهد صدور قانون تنظيم الاتصالات. توالى بعد ذلك إصدار قوانين توجهت خصيصًا لتنظيم الأنشطة على شبكة اﻹنترنت. كذلك صدرت تعديلات لقوانين مختلفة قامت بتمديد أحكامها لتشمل اﻷنشطة الممارسة على الإنترنت. وفيما يلي تستعرض الورقة بعض أهم هذه التشريعات.

  • القانون رقم 10 لسنة 2003 بشأن تنظيم الاتصالات: أهم ما جاء بهذا القانون هو النص على إنشاء الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، وتنظيم اختصاصاته وصلاحياته وتشكيل مجلس إدارته. أصبح هذا الجهاز هو المهيمن على تنظيم أغلب الأنشطة ذات الصلة بحوكمة اﻹنترنت.
  • قانون رقم 15 لسنة 2004 بتنظيم التوقيع اﻹلكتروني وبإنشاء هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات: ينص القانون على أن يضم تشكيل مجلس إدارة هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات ممثلين عن وزارتي الدفاع والداخلية إضافة إلى ممثل لجهاز المخابرات العامة. صدرت اللائحة التنفيذية لهذا القانون بقرار وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات رقم 109 لسنة 2005.
  • قانون رقم 175 لسنة 2018 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات: يعد هذا القانون بين اﻷكثر إثارة للجدل من التشريعات المصرية ذات الصلة باﻷنشطة الممارسة على شبكة اﻹنترنت. اشتملت نصوص القانون على مواد تعطي جهات التحقيق صلاحية حجب المواقع، وتلزم مقدمي الخدمة بجمع والاحتفاظ ببيانات المستخدمين. هذا بالإضافة إلى وجود مواد يتم تطبيقها بشكل واسع في غير محلها على مستخدمي الإنترنت، مثل جريمة إدارة موقع أو حساب بهدف ارتكاب جريمة وجريمة الاعتداء على القيم الأسرية. صدرت اللائحة التنفيذية لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1699 لسنة.
  •  قانون رقم 180 لسنة 2018 بإصدار قانون تنظيم الصحافة والإعلام: على الرغم من أن القانون معني بتنظيم الصحافة والإعلام إلا أنه يتقاطع مع أنشطة الأفراد على الإنترنت. من بين أحكام القانون إخضاع الحسابات الشخصية للأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي لقانون تنظيم الإعلام في حال بلغ عدد متابعيها 5000 شخص أو أكثر. يعني ذلك أن أصحاب هذه الحسابات يمكن أن يقعوا تحت طائلة القانون باتهامات مثل نشر أخبار كاذبة، والتي حسب تعريف قانون الإعلام كل أخبار تختلف عما جاء في البيانات الرسمية. كما أن القانون يسمح بحجب المواقع كعقوبة إدارية على مخالفة أحكامه. صدرت اللائحة التنفيذية للقانون بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 418 لسنة 2020.
  • قانون رقم 151 لسنة 2020 بإصدار قانون حماية البيانات الشخصية: ينظم هذا القانون عمليات جمع وحفظ ومعالجة البيانات الشخصية. كما يرتب القانون على الجهات القائمة بهذه اﻷنشطة مسؤوليات قانونية، ويفرض عقوبات مختلفة في حال اﻹخلال بأحكامه. لم تصدر اللائحة التنفيذية للقانون حتى الآن ما يجعل القانون معطل لإحالة عددًا كبيرًا من الجوانب الإجرائية إلى اللائحة التنفيذية.

إضافة إلى هذه القوانين، ثمة ممارسات للأجهزة التنفيذية للدولة ذات صلة باﻷنشطة على شبكة اﻹنترنت. من أمثلة ذلك، إعلان مصلحة الضرائب المصرية عن إخضاع عمليات بيع وشراء السلع والخدمات بشكل فردي من خلال اﻹنترنت، وكذلك أنشطة صناعة المحتوى المرئي والمسموع والمقروء على الإنترنت للضريبة على الدخل وضريبة القيمة المضافة. كما ألزمت المصلحة ممارسي هذه اﻷنشطة باستخراج بطاقات ضريبية وتقديم اﻹقرارات الضريبية الدورية التي ينص عليها القانون.

الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات

أنشئ الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات NTRA بموجب نصوص قانون تنظيم الاتصالات. توضح المادة (3) من القانون أن الجهاز يتبع الوزير المختص، والمقصود به وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. في حين توضح المواد (4 – 6) أهداف وصلاحيات واختصاصات الجهاز. 

بصفة عامة، يملك الجهاز سلطة شاملة على إدارة شؤون الاتصالات داخل مصر. وفيما يتعلق بحوكمة اﻹنترنت، فيضع الجهاز ويطبق قواعد الترخيص لمقدمي خدمات اﻹنترنت. كما يضع ويطبق قواعد تصنيع أو استيراد أو استخدام المعدات واﻷجهزة ذات الصلة، إلى جانب عديد من الصلاحيات والاختصاصات اﻷخرى.

توضح المادتين (12) و(13) من قانون تنظيم الاتصالات على الترتيب كل من تشكيل مجلس إدارة الجهاز وصلاحيات واختصاصات هذا المجلس. يكون الوزير المختص رئيسًا للمجلس وهو يختار الرئيس التنفيذي للجهاز. يضم المجلس في عضويته ممثلًا عن وزارة الدفاع يختاره وزير الدفاع، وأربعة ممثلين لأجهزة اﻷمن القومي، المخابرات العامة، المخابرات الحربية وهيئة اﻷمن القومي.

التمثيل المباشر للأجهزة اﻷمنية بالإضافة إلى الصلاحيات الواسعة في إدارة الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات ومن خلاله التحكم في الشؤون المحلية للاتصالات، يعكس التوجه العام للدولة المصرية نحو ما يمكن تسميته بأمننة Securtization إدارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وحوكمة اﻹنترنت، وهو التوجه الذي قد يجعل ﻷجهزة اﻷمن الكلمة اﻷخيرة في عمليات هذه اﻹدارة.

خاتمة

سعت هذه الورقة إلى رسم صورة عامة لعلاقة الدولة المصرية بحكومة اﻹنترنت والجوانب المختلفة لتعاملها معها. عرضت الورقة أهم الملامح العامة لهذه العلاقة ثم تناولت النشاط والدور المصري على الصعيد الدولي فيما يخص حوكمة اﻹنترنت. كما تناولت الورقة بعض مظاهر استخدام الدولة المصرية ﻷدوات التشريع والسياسات التنفيذية للتعامل مع حوكمة اﻹنترنت. 

يمكن القول بأن العلاقة بين الدولة المصرية وبين حوكمة اﻹنترنت لها جانبين رئيسيين هما الاتجاه التنموي والاهتمام بتطوير البنية التحتية لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وإعداد الكوادر الفنية القادرة على أداء الوظائف المختلفة ذات الصلة بهذه التكنولوجيات، والاتجاه اﻷمني الذي يسعى إلى تضييق مساحة حرية التعبير عن اﻵراء المعارضة للنظام الحاكم من خلال شبكة اﻹنترنت وبصفة خاصة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك السيطرة على المحتوى الذي يمكن للمواطنين المصريين الوصول إليه من خلال عمليات حجب المواقع وخاصة المواقع الصحفية المعارضة أو المستقلة.
مما لا شك فيه أن التناقض بين هذين الاتجاهين لا يمكن تجنبه أو الالتفاف عليه، وفي الممارسة العملية يتضح أنه في حالات التعارض تتغلب النظرة اﻷمنية على التوجه التنموي مما يؤدي إلى عرقلة كثير من الجهود المبذولة لدعم نمو قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مصر. مع ذلك يظل هذا القطاع اﻷكثر نموا بين القطاعات الاقتصادية المصرية، وهو ما يشير إلى إمكانيات واسعة لتعظيم هذا النمو في حال الوصول إلى توازن أفضل بين الاحتياجات اﻷمنية الحقيقية للدولة وبين الاحتياجات التنموية ذات الصلة بحوكمة اﻹنترنت.

في سياق متصل تشكل الممارسات التشريعية والتنفيذية للدولة المصرية بخصوص حوكمة اﻹنترنت بيئة خانقة للحقوق الرقمية وفي مقدمتها الحق في حرية التعبير، والحق في حرية الوصول إلى المعلومات، إضافة إلى إتاحة الفرصة لانتهاك الحق في الخصوصية من خلال ممارسات المراقبة.