السيادة السيبرانية ومستقبل الإنترنت والحقوق الرقمية

مقدمة

السيادة السيبرانية (Cyber Sovereignty) هو مفهوم متنامي الانتشار في مجال السياسة الخارجية وحوكمة الإنترنت. تسعى عديد من الدول حول العالم، سواء ذات الأنظمة الديموقراطية أو ذات الأنظمة الاستبدادية، إلى تطبيق مفهوم السيادة السيبرانية والتوسع فيه لأهداف مختلفة.

بدأت أغلب الدول حول العالم في تطبيق مبدأ السيادة السيبرانية أو بعض سياساته بشكل أو بآخر خلال الأعوام الأخيرة. أدى ذلك  إلى تغييرات واسعة النطاق في طريقة عمل شبكة الإنترنت وفي خبرة مستخدميها في التعامل معها. هذه التغييرات تتجه إلى التزايد وهو ما يؤثر على العديد من مصالح الأفراد والمؤسسات المرتبطة بالشبكة، كما يؤثر بصفة خاصة على ممارسة الأفراد لحقوقهم الرقمية من خلال تعاملهم اليومي مع الشبكة.

تسعى هذه الورقة إلى إيضاح معنى السيادة السيبرانية وبيان أسباب نشأتها وأهداف الأطراف المروجة لها. كما تسعى الورقة إلى إيضاح آثار تطبيق سياسات السيادة السيبرانية على مستقبل شبكة الإنترنت ومنظومة حوكمتها، بما في ذلك بروتوكولاتها، والمؤسسات المستقلة ذات الدور في إدارة شؤونها، ومنظومة الحوكمة المبنية على مبدأ تعددية أصحاب المصلحة. بالإضافة إلى ذلك، تركز الورقة في القسم الأخير منها على إبراز أثر تطبيق سياسات السيادة السيبرانية على الحقوق الرقمية وتحديدًا الحق في الوصول إلى المعلومات، والحق في حرية التعبير، والحق في الخصوصية.

ما هو مفهوم السيادة السيبرانية؟

يعتمد مفهوم السيادة السيبرانية في تعريفه إلى حد كبير على التعريف التقليدي السياسي لسيادة الدول. في هذا التعريف سيادة الدولة تعني استقلالها عن غيرها من الدول، أي عدم خضوعها لسيادة دولة أخرى عليها، واستقلاليتها في إدارة شؤونها الداخلية دون أي تدخل خارجي، ويسمى ذلك بالسيادة الخارجية للدولة. إضافة إلى ذلك، تعني سيادة الدولة انفرادها بالسلطة العليا فوق أي قوى داخل إقليمها الجغرافي، وهو ما يسمى بالسيادة الداخلية للدولة. يرتبط المفهوم السياسي التقليدي للدول بالإقليم الجغرافي الذي تمارس الدولة سيادتها عليه، وتسري قوانينها على الأشخاص الطبيعيين والقانونيين المقيمين فيه، وتمتلك السلطات التنفيذية إمكانية تطبيق هذه القوانين في نطاقه.

مع تناقض الطبيعة العابرة للحدود للفضاء السيبراني مع الأساس المادي الجغرافي الذي تقوم عليه السيادة السياسية التقليدية للدولة فقد ظل تمتع الدول بأي قدر من السيادة في الفضاء السيبراني أمرًا مستبعدًا نظريا وعمليا لبعض الوقت. لكن، مع نمو أهمية شبكة الإنترنت وارتباط المصالح السياسية والاقتصادية الحيوية للدول بها سعت الدول إلى فرض سيادتها في الفضاء السيبراني، وظهر مفهوم السيادة السيبرانية مع وجود اختلافات كبيرة في تعريفه.

يمكن بصفة عامة القول أن السيادة السيبرانية تعني فرض الدولة سيادتها على كل من العناصر المادية للبنية التحتية لشبكات الاتصالات والمعلومات الواقعة داخل حدودها، وعلى الأنشطة الممارسة باستخدام هذه العناصر على أراضيها، بما في ذلك البيانات المنتَجة من خلال هذه الأنشطة.

ما أسباب نشأة مفهوم السيادة السيبرانية؟

في السنوات الأولى من عمر الإنترنت لم تكن الإمكانيات الهائلة لنموها وانتشارها وتدخلها في تفاصيل الحياة اليومية للأفراد والدول وسياساتها الداخلية والخارجية أمورًا واضحة للغالبية العظمى من صناع السياسات حول العالم. ومن ثم، لم تشغل شؤون حوكمة وإدارة الإنترنت حيزًا من اهتمام السلطات المعنية في غالبية دول العالم في ذلك الحين.

مع تتجير الإنترنت في التسعينات، وبدء انتشارها عالميًا بفضل نشأة الوب، أصبحت أهميتها أكثر وضوحًا، وبالتالي بدأ اهتمام الدول بها وكذلك بدأ سعيها إلى أن يكون لها سيطرة أكبر على إدارتها. كان ذلك المحرك الرئيسي لدفع جهود دولية مثل القمة العالمية لمجتمع المعلومات الذي دعت إليه الأمم المتحدة في جنيف عام 2003، وعقدت دورته الثانية في تونس عام 2005.

واجهت دول العالم عند بدء اهتمامها بالفصاء السيبراني وشبكة الإنترنت تحديين أساسيين للمفهوم التقليدي للسيادة. التحدي الأول هو الاستثنائية السيبرانية Cyber exceptionalism، والتحدي الثاني هو الحوكمة بالاعتماد على مبدأ تعددية أصحاب المصلحة Multistakeholder governance. ويمكن القول بأن هذين التحديين قد شكلا الحافز النظري لتطوير مفهوم السيادة السيبرانية في مواجهتهما. كما أنهما وراء كثير من الحجج النظرية المستخدمة لدعم مفهوم السيادة السيبرانية.

تعني الاستثنائية السيبرانية أن الفضاء السيبراني الرقمي متميز من حيث الكيف عن العالم الواقعي غير الرقمي. يؤدي ذلك إلى الحاجة إلى التعامل مع الفضاء السيراني بشكل مختلف عن الطريقة التي تُعامَل بها الفضاءات الواقعية، بما في ذلك النطاقات الجغرافية التي تتحدد على أساسها سيادة الدول.

من المثير للاهتمام أن الاستخدام الأول لمصطلح السيادة السيبرانية كان للتعبير عن أن الفضاء السيبراني له استقلالية تبرر أن تكون له السيادة على شؤونه بشكل مستقل عن الدول وغيرها من الكيانات السياسية. يأتي هذا الاستخدام على النقيض من المفهوم السائد حاليًا للمصطلح والذي يُستخدَم للإشارة إلى حق الدول في أن تمتد سيادتها إلى الفضاء السيبراني.

على جانب آخر، نشأ مبدأ تعددية أصحاب المصلحة بشكل طبيعي مع تطور شبكة الإنترنت. فقد أشرف على تطوير وإدارة بروتوكولات الإنترنت ومواردها الافتراضية هؤلاء الذين كانوا في حاجة إليها لتطوير الإنترنت نفسها. لاحقًا ومع تتجير الإنترنت بدأت الشركات في إضافة مزيد من البروتوكولات والتطبيقات وتنظيم عمليات إدارتها. ومن هنا نشأ مبدأ تعددية أصحاب المصلحة، بمعنى أن تكون إدارة الإنترنت هي مهمة من يتأثرون مباشرة بعملها والقائمون فعليًا على تشغيل عناصرها المختلفة. وفي هذا الإطار، تأسست معظم عمليات حوكمة الإنترنت على مبادئ الانفتاح والشمولية واتخاذ القرارات من أسفل إلى أعلى وبشكل توافقي.

انبنت حجج السيادة السيبرانية في مواجهة كل من الاستثنائية السيبرانية ومبدأ تعددية أصحاب المصلحة على عدة عناصر. أبرز تلك العناصر هو أنه في حين أن الفضاء السيبراني الافتراضي عابر بطبيعته للحدود بين الدول إلا أن المكونات المادية للبنية التحتية الضرورية لتشغيل الإنترنت موجودة في العالم الواقعي داخل الحدود الجغرافية للدول، ومن ثم تخضع نظريًا على الأقل لقواعد السيادة التقليدية. يخضع أيضًا لهذه القواعد مستخدمو شبكة الإنترنت كمواطنين يحملون جنسية دول ويقيمون فيها أو في غيرها ويخضعون لقوانينها. على جانب آخر، وُجهت الانتقادات إلى منظومة تعددية أصحاب المصلحة في الواقع العملي لأنها تتيح قدرًا غير متناسب من النفوذ لشركات التكنولوجيا الكبرى في مواجهة الأطراف الأخرى.

إلى جانب الحجج النظرية، أدى تطور البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتطبيقاتها المختلفة إلى جعل مراقبة وتوجيه مرور وتدفق البيانات والمعلومات أكثر سهولة. هذا التوجه نحو تطوير التكنولوجيا لتحقيق سيطرة أكبر على توجيه البيانات كان وراؤه في الأساس شركات التكنولوجيا المعنية بتحقيق الأرباح من وراء التحكم في الوصول إلى المعلومات والخدمات على الشبكة. سعت تلك الشركات إلى أن تكون بنية الشبكة أقل مجهولية وأقل أفقية وأن تسمح بنقاط متعددة للتدخل والتحكم في عملها. هذه التكنولوجيات دعمت عمليًا سعي الدول إلى فرض سيطرة أكبر على عمل شبكة الإنترنت داخل أراضيها.

أدت تسريبات إدوارد سنودن (Edward Snowden) في عام 2013 إلى نقلة مهمة في تطوير خطاب السيادة السيبرانية وكذلك في دفع عجلة تطبيق سياساتها. كشفت هذه التسريبات عن استغلال الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لهيمنتها على موارد شبكات الاتصالات المادية والافتراضية لتحقيق مصالحها الأمنية والسياسية بالتجسس على مواطنيها وعلى مواطني الدول الأخرى.

نتج عن هذا الكشف استخدام عديد من الدول حجة حماية البيانات الشخصية لمواطنيها وأسرار أمنها القومي والاقتصادي كمبرر لضرورة فرض سيادتها على هذه البيانات وعلى البنى التحتية التي تتيح التحكم في الوصول إليها. تزامن ذلك أيضًا مع تصاعد ونمو المخاطر الأمنية السيبرانية وانخراط أفراد وجماعات وكذلك جهات استخباراتية في عمليات وهجمات إلكترونية كان لبعضها آثار كبيرة على اقتصادات دول وأمنها ومصالحها الاستراتيجية.

في حين تمس العوامل السابق مناقشتها جميع دول العالم تقريبًا فإن الدول ذات الأنظمة الشمولية والاستبدادية اهتمت بشكل أكبر بالطريقة التي يؤثر بها صعود الاتصالات الشبكية على حرية تداول المعلومات وحرية التعبير والمجهولية. ينبع هذا الاهتمام من معرفة تلك الأنظمة بالخطر الذي تشكله هذه الحقوق والحريات على استقرارها.

أبرزت الثورات المعروفة بالثورات الملونة في شرق أوروبا وفي إيران ثم ثورات الربيع العربي نموذجًا عمليًا أزعج عديدًا من أنظمة الدول السلطوية وفي مقدمتها كل من الصين وروسيا. دفع ذلك هذه الدول إلى استخدام حجج السيادة السيبرانية لفرض مزيد من السيطرة على المحتوى المتداول من خلال شبكة الإنترنت. تمثلت هذه السيطرة في صور حجب المحتوى الذي تعتبره ضارًا بأنظمتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وفرض قيود على ممارسة مواطنيها لحرية التعبير، والاحتفاظ بإمكانية خرق خصوصية اتصالات مواطنيها لكشف المعارضين وتعقبهم.

ما هي أهداف السيادة السيبرانية؟

المسعى الرئيسي لدعاوى السيادة السيبرانية هو استعادة اتساق المنظومة الدولية القائمة على مبدأ سيادة الدول القومية المستقلة. ويكون ذلك من خلال إعادة تأكيد سيادة الدولة القومية وانفرادها بإدارة شؤون مواطنيها واقتصادها الوطني.

تحقيقًا لهذا المبدأ تسعى الدول بدرجات متفاوتة وسبل مختلفة إما إلى أن يكون لها دور أكبر في عمليات أدارة وحوكمة شبكة الإنترنت، أو إلى استبدال المنظومة الحالية لحوكمة الإنترنت والقائمة على مبدأ تعددية أصحاب المصلحة بمنظومة بين-حكومية Intergovernmental. تهدف الدول إلى تحقيق ذلك إما بإنشاء منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة أو بإضافة مهام إدارة شبكة الإنترنت إلى الاتحاد الدولي للاتصالات ITU.

أحد الأهداف الرئيسية للسيادة السيبرانية هو توفير إمكانيات حماية الدولة لأمنها القومي وأمن مؤسساتها ومرافقها ومواطنيها في مواجهة تهديدات الهجمات الإلكترونية. كما تسعى الدول إلى توفير إمكانيات مواجهة الأخطار التقليدية التي يمكن استغلال شبكات المعلومات فيها، مثل استخدام الجماعات الإرهابية والمنظمات الإجرامية الأخرى لشبكات المعلومات والاتصالات لتنسيق جهودها وتنفيذ عملياتها.

امتدادًا لذلك فمن الأهداف المعلنة أيضًا للسيادة السيبرانية هو حماية أمن المعلومات لمواطني الدولة ومؤسساتها العامة والخاصة. بناءًا على هذا الهدف يتم تصميم سياسات من أبرزها سياسة توطين البيانات التي تفرض إبقاء البيانات المنتَجة باستخدام البنية التحتية المعلوماتية للدولة داخل أراضيها وحظر نقلها إلى الخارج إلا بشروط يحددها القانون.

على جانب آخر، لا تخفي كثير من الدول أن من أهداف سعيها لتطبيق سياسات السيادة السيبرانية هو أن تفرض سيطرتها على تدفق المعلومات من وإلى داخل حدودها. يُمكِن ذلك الدولة من أن يكون لها وحدها كامل السيطرة فيما يتاح لمواطنيها الاطلاع عليه بدعوى إمكانية التأثير على الأمن القومي لها أو المساس بالقيم الثقافية والاجتماعية والدينية السائدة فيها. بالتالي، كثير من سياسات وإجراءات السيادة السيبرانية يمتد إلى فرض الرقابة على محتوى شبكة الإنترنت، وإلى توسيع إمكانيات المراقبة لأنشطة المواطنين على الشبكة.

آثار السيادة السيبرانية على حوكمة الإنترنت

تعديل بروتوكولات الإنترنت

تطورت بروتوكولات الإنترنت في وقت مبكر للغاية من تاريخ نشأتها، ولم يضع مصمموها في اعتبارهم أية متطلبات تتعلق بالسيطرة المركزية على تدفق المعلومات وتبادلها. ومن ذلك، فهذه البروتوكولات بطبيعتها مفتوحة ولا تتيح إمكانية توجيه أو حجب البيانات على أساس محتواها أو معرفة هذا المحتوى أصلًا بطريقة ميسرة. مثل هذه الأهداف يمكن فقط تحقيقها بسبل إضافية تختلف في تعقيدها وطريقة تنفيذها لكنها في النهاية تؤثر على كفاءة عمل الشبكة.

لذلك، بروتوكولات الإنترنت هي هدف لجهود مختلفة لتصميم بديل عنها يتيح إمكانية وضع حدود نطاقية واضحة تعكس الحدود السياسية للدولة وكذلك إمكانية فحص محتوى البيانات دون التأثير على كفاءة نقلها. بدائل مثل هذه اقترحها بالفعل خبراء لدول مثل الصين وروسيا في اجتماعات المؤسسات التقنية مثل فريق هندسة الإنترنت IETF.

على جانب آخر، ربما تكون بروتوكولات الإنترنت هي الأكثر استعصاءًا على محاولات تعديلها في المستقبل القريب على الأقل. مدى ارتباط هذه البروتوكولات بالبنية التحتية للاتصالات التي يقوم عليها عمل شبكة الإنترنت، بما في ذلك إعدادات جميع الأجهزة والمعدات التي يتطلب عملها الاتصال بالإنترنت أو تتطلب الإنترنت نفسها وجودها، يجعل مهمة تعديل هذه البروتوكولات وما يؤدي إليه من تعديلات في جميع التفاصيل المادية والافتراضية ذات الصلة بها، أمرًا باهظ التكاليف ماليًا ويتطلب وقتًا طويلا لإتمامه.

يدعم أهمية الحفاظ على وحدة بروتوكولات الإنترنت أن البنية الحالية لشبكة الإنترنت وأهميتها لأهداف التنمية الاقتصادية لجميع دول العالم يقوم على وحدة الشبكة التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال وحدة بروتوكولاتها. مع ذلك، فثمة مساع للالتفاف حول هذه المحددات. عمليًا، بنت عديد من الدول طبقة من البرمجيات فوق طبقة البروتوكولات تؤدي أدوار الرقابة والمراقبة الجماعية واختراق خصوصية المستخدمين. من ثم، فتفتيت شبكة الإنترنت إلى شبكات متعددة منفصلة بدرجات مختلفة عن بعضها البعض هي عملية بدأت بالفعل وتتقدم بصفة مستمرة.

دور المؤسسات والهيئات المستقلة

مع اتجاه الدول إلى تأكيد سيادتها على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بصفة خاصة يمكن للدور الحالي للمؤسسات والهيئات المستقلة في حوكمة الإنترنت أن يتضاءل مع الوقت. وتسعى دول عدة منذ وقت طويل إلى استبدال مؤسسات مثل شركة الإنترنت للأرقام والأسماء المخصصة ICANN بمنظمات دولية بين-حكومية بحيث تكون العمليات التي تشرف عليها تحت سيطرة الدول.

في حين أن عملية القمة العالمية لمجتمع المعلومات قد تمخضت عن الإبقاء على ICANN واستبعاد استبدالها فإن هذا الوضع ليس بالضرورة مستقرًا إلى ما لا نهاية، خاصة مع التعديلات المستمرة لموازين القوى والنفوذ للدول المختلفة في الفضاء السيبراني وفضاء تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ومع صعود دور دول مثل الصين يمكن توقع مزيدًا من التغيرات التي تعكس توجهاتها السياسية وتصوراتها حول مستقبل شبكة الإنترنت، بما في ذلك دور المؤسسات والهيئات المستقلة في مقابل دول المؤسسات الحكومة المحلية والبين-حكومية الدولية.

مصير منظومة تعددية أصحاب المصلحة

يتعلق مصير منظومة تعددية أصحاب المصلحة بمدي حفاظ شركات التكنولوجيا، وخاصة الكبرى منها، على نفوذها في مواجهة الدول القومية. فهذه المنظومة تمثل حاليًا مجال فرض الشركات لمصالحها في الفضاء السيبراني أكثر مما تمثل أي دور يذكر لمنظمات المجتمع المدني التي يفترض أنها ممثلة في هذه المنظومة. ويشهد وقتنا الحاضر صراعًا واضحًا لجهود فرض سيادة الدول على الفضاء التكنولوجي بصفة عامة في مواجهة سعي الشركات الكبرى إلى فرض مبدأ التنظيم الذاتي لأعمالها في هذا الفضاء. مظاهر هذا الصراع واضحة في عمليات تمرير قوانين الاتحاد الأوروبي ذات الصلة بتنظيم حماية البيانات وعمل منصات التواصل الاجتماعي وماكينات البحث، ومؤخرًا تنظيم تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. كما يتضح هذا الصراع في جهود المشرعين في الولايات المتحدة لتطوير قوانين مماثلة، وفي حملات الحكومة الصينية لكبح جماح شركات التكنولوجيا الصينية الكبرى وإبقائها تحت السيطرة.

لا يزال الاتجاه الذي يمكن أن يأخذه هذا الصراع على النفوذ بين الحكومات والشركات غير محسوم في الوقت الحالي. لا يزال بإمكان الشركات أن تمارس ضغوطًا ناجحة لتحجيم مدى أثر القوانين الصادرة في أوروبا والولايات المتحدة على حرية ممارستها لأعمالها على سبيل المثال، في حين تفتقد إلى إمكانية ممارسة هذه الضغوط في حال دول مثل الصين وروسيا. لكن، نمو نفوذ الحكومات في الغرب أمر ممكن تمامًا، كما أن نمو نفوذ شركات التكنولوجيا المحلية في الصين وروسيا في ظل ظروف المنافسة العالمية مع الولايات المتحدة في حالة الأولى، وفي ظل احتياجات الحرب ضد أوكرانيا في حالة الثانية هو أمر ممكن أيضًا. لذلك، تبدل موازين القوى لا يزال أمر محتملا ومعه يظل مصير منظومة تعددية أصحاب المصلحة غير مؤكد، وإن كانت إمكانية أن تنفرد هذه المنظومة بحوكمة وإدارة شبكة الإنترنت في المستقبل مستبعدة والأقرب للتصور أن تُمثِل منظومة موازية لإدارة قطاعات بعينها من الشؤون اليومية للشبكة في حين تنفرد الدول بإدارة قطاعات أخرى.

آثار السيادة السيبرانية على الحقوق الرقمية

الحق في الوصول إلى المعلومات

الحق في الوصول إلى المعلومات هو أكثر الحقوق اتصالًا بالطريقة التي تعمل بها شبكة الإنترنت. فهو الأكثر تأثرًا بسياسات إدارة الشبكة، سواء مارستها الدول أو الشركات أو المؤسسات المستقلة. وهو كذلك عرضة للتأثر بسياسات السيادة السيبرانية بقدر كبير، خاصة وأن في معظم الآحيان تهدف هذه السياسات إلى أن تفرض الدول سيطرتها على ما يمكن لمواطنيها الوصول إليه من معلومات والتحكم في إتاحة وحجب هذه المعلومات بناء على ما ترى هذه الدول أنه ضار بأمنها القومي أو المصالح الاقتصادية لها أو يتعارض مع القيم الثقافية أو الاجتماعية أو الدينية السائدة فيها.

واحدة من أبرز سياسات السيادة السيبرانية هي سياسة توطين البيانات Data localization، والتي يقصد بها أن تفرض الدولة على الجهات المقدمة للخدمات المختلفة على شبكة الإنترنت أن تقوم بتخزين البيانات الناشئة عن أنشطة داخل أراضي هذه الدولة على وسائل تخزين (مراكز بيانات) قائمة أيضًا على أراضيها. كما تفرض ألا تتم معالجة هذه البيانات إلا داخل الدولة نفسها.

في حين أن الغرض المعلن لهذه السياسة هو حماية البيانات الخاصة لمواطني الدولة من أخطار الوصول غير المصرح به إلا أن آليات تنفيذها تضع عوائق كثيرة أمام الحركة الحرة للبيانات عبر حدود الدول وهو ما يجعل الوصول إلى المعلومات أكثر صعوبة لمستخدمي الشبكة. وقد تؤدي تكاليف توطين البيانات إلى إحجام مقدمي خدمات مختلفة عن تقديم خدماتهم في بعض الدول بناء على حسابات الجدوى الاقتصادية. يحرم ذلك المستخدمين في هذه الدول من الوصول إلى هذه الخدمات وإلى المعلومات التي كانوا يصلون إليها من خلالها.

يمكن أيضًا لسياسات السيادة السيبرانية أن تؤثر على الحق في الوصول إلى المعلومات من خلال تشريع قوانين منظمة لعمل منصات التواصل الاجتماعي والمحتوى المنشور من خلالها. فتسعى الدول من خلال هذه القوانين إلى أن تفرض على مقدمي خدمات هذه المنصات ممارسة دورًا رقابيًا على المحتوى المتاح لمواطنيها بحيث تحجب ما تعتبره هذه الدول وأنظمتها الحاكمة ضارًا بأمنها أو مصالحها.

تؤدي هذه السياسة إما إلى انصياع مقدمي خدمات المنصات لهذه القوانين وممارسة هذا الدور الرقابي ومن ثم حرمان المستخدمين في هذه الدول من الوصول إلى المعلومات بحرية، أو أن يقرر مقدمو الخدمات أن عائد تقديم خدماتهم في هذه الدولة أو تلك لا يغطي تكاليف ممارسة دور رقابي ينصاع لقوانينها، ومن ثم يمتنعون عن تقديم خدماتهم في هذه الدول بشكل كامل، وهو ما يحرم المستخدمين فيها من الوصول إلى الخدمة والمعلومات المتاحة من خلالها بشكل كامل.

جانب آخر لسياسات السيادة السيبرانية هو التطوير المحلي للبنية التحتية الرقمية والذي من شأنه أيضًا أن يؤثر على الحق في الوصول إلى المعلومات، وذلك حسب مدى إمكانية توفير تجهيزات بنية تحتية ذات كفاءة كافية ومتوافقة مع بروتوكولات تبادل المعلومات القياسية. يهدد تركيز الدول على السيطرة على تكنولوجيا البنية التحتية الرقمية داخل أراضيها على حساب كفاءة خدماتها بحرمان مواطنيها من الوصول إلى المعلومات المتاحة من خلال الشبكة بسبب العوائق التكنولوجية، خاصة إن كانت القدرات المادية المتاحة للدولة لا تسمح لها بتطوير تكنولوجياتها للحاق بالتطور المستمر للتكنولوجيات الرقمية العالمية.

الحق في حرية التعبير

تؤثر سياسات السيادة السيبرانية بشكل بالغ الخطورة على حق مستخدمي شبكة الإنترنت في حرية التعبير. مع فرض الدول لسلطتها على المجال الرقمي تزيد إمكانيتها لممارسة المراقبة الجماعية لأنشطة مواطنيها على الشبكة. يجعل ذلك المواطنين عرضة بشكل دائم للملاحقة داخل أو خارج إطار القانون بسبب ما يعبرون عنه من آراء ومواقف سياسية أو اجتماعية. كما ويؤدي ذلك إلى ممارسة المستخدمين للرقابة الذاتية على ما ينشرونه من خلال شبكة الإنترنت تجنبًا للملاحقة وتبعاتها.

على جانب آخر، يمكن لسياسات السيادة السيبرانية، وبصفة خاصة في الدول الاستبدادية، أن تؤدي إلى إجراءات للرقابة على محتوى الشبكة وتنظيم ما يُسمَح وما لا يُسمَح بنشره عليها. يمكن للدول أن تبرر مثل تلك الإجراءات بحماية مصالحها الوطنية والسيطرة على المجال الرقمي، مما يؤدي إلى تقييد المحتوى المتاح على الشبكة. ويمكن أن تستخدم هذه الإجراءات بصفة خاصة لتكميم أفواه المعارضين للأنظمة الحاكمة ولحجب المعلومات الفاضحة لممارسات الفساد السياسي والمالي ولانتهاكات حقوق الإنسان.

تؤثر سياسات السيادة السيبرانية على ممارسة الحق في حرية التعبير كذلك من خلال تنظيم عمل منصات التواصل الاجتماعي. كانت هذه المنصات لوقت طويل نافذة للتعبير عن الآراء والمواقف الاجتماعية والسياسية المختلفة والمعارضة بحرية أكبر.

مع سعي الدول لتشريع قوانين تنظم عمل هذه المنصات تفرض عليها ممارسة رقابة على المحتوى المنشور عليها بحجج مثل حماية الأمن القومي والقيم الثقافية والأخلاقية وغير ذلك يصبح أمام مقدمي خدمات هذه المنصات أحد خيارين؛ فإما أن تنصاع لهذه القوانين حفاظًا على أعمالها في الدولة المعنية، أو أن تضحي بهذه الأعمال. وفي كلا الحالتين يتضرر مستخدمو هذه المنصات في الدولة المعنية، ففي الحالة الأولى يواجهون رقابة على المحتوى المنشور تحول دون تعبيرهم عن آرائهم ومواقفهم بحرية، وفي الحالة الثانية يحرمون بشكل كامل من نافذة للتعبير والوصول إلى المعلومات.

الحق في الخصوصية

يمكن لسياسات السيادة السيبرانية أن تؤثر بشكل كبير في ممارسة مستخدمي الإنترنت لحقهم في الخصوصية. في سياق المناقشة التالية تستخدم الورقة تعريفًا للخصوصية في الفضاء السيبراني بأنها سيطرة الأشخاص على البيانات الخاصة بهم، وحقهم في تحديد من يمكنه الوصول إليها سواء للاطلاع عليها أو نسخها أو نقلها أو معالجتها بأي طريقة ولأي غرض. يشمل الحق في الخصوصية أيضًا حق الأشخاص في الموافقة المسبقة على جمع أية جهة لبيانات خاصة بهم مع معرفة الغرض من جمعها وكيفية التعامل معها بما في ذلك تخزينها ونسخها ونقلها ومعالجتها ومشاركتها مع أي طرف ثالث.

تسمح سياسات السيادة السيبرانية للدول بقدر أكبر من الحرية في ممارسة المراقبة الجماعية لأنشطة مواطنيها على الإنترنت، بما في ذلك إمكانية الوصول إلى بياناتهم الشخصية بسهولة أكبر. على رأس تلك السياسات سياسة توطين البيانات. يؤدي ذلك إلى خضوع هذه البيانات لقوانين الدولة التي يمكن أن تتناقض مع اشتراطات حماية الحق في الخصوصية، إضافة إلى خضوعها لضغوط الأجهزة الأمنية خارج إطار القانون.

كما يؤدي توطين البيانات أيضًا إلى خرق حق المستخدمين في اختيار أو الموافقة المسبقة على مكان وكيفية تخزين البيانات الخاصة بهم، وهو أحد العناصر الأساسية للحق في الخصوصية. كذلك يؤدي خضوع خدمات تخزين البيانات العاملة على أراضي الدولة لقوانينها إمكان أن تفرض هذه القوانين ممارسات تهدد حصوصية البيانات. فيمكن على سبيل المثال فرض الاحتفاظ ببيانات لفترات أطول مما هو مطلوب للغرض من جمعها وتخزينها، وهو ما يجعل هذه البيانات أكثر عرضة للوصول غير المصرح به سواء من قبل أجهزة تابعة للدولة نفسها أو أطراف أخرى.

تؤدي سياسة توطين البيانات كذلك إلى تركيز البيانات في نطاق جغرافي محدد وهو ما يجعل استهدافها بهجمات الوصول غير المصرح به أكثر سهولة. كما أن تطبيق هذه السياسة في الدول النامية أو الدول الأكثر فقرًا يمكن أن يؤدي إلى تخزين البيانات بواسطة تجهيزات أدنى كفاءة ولا تتوافر لها وسائل الحماية المناسبة.

في إطار سياسات السيادة السيبرانية يمكن للدول أن تشرع قوانين تنظم عمل منصات التواصل الاجتماعي. قد يفرض هذا على مشغلي هذه المنصات الانصياع لاشتراطات هذه القوانين أو مواجهة عقوبات تتراوح بين الغرامات المالية وبين وقف نشاطها (حجب خدماتها) في الدولة المعنية. مثل هذه الاشتراطات القانونية قد تمس بالحق في الخصوصية لمستخدمي هذه المنصات من مواطني الدولة المعنية، مثل فرض التعاون مع الجهات الأمنية التي قد تطلب إتاحة الوصول إلى بيانات شخصية للمستخدم، بما في ذلك بيانات اتصاله بأشخاص آخرين سواء كانوا مواطنين بنفس الدولة أو بغيرها.

خاتمة

سعت هذه الورقة إلى تقديم صورة مختصرة لمفهوم السيادة السيبرانية والسياسات المنتهجة في تطبيقه وأثر هذه السياسات على مستقبل شبكة الإنترنت وممارسة مستخدميها لحقوقهم الرقمية عليها. الغرض من عرض هذه الصورة هو التنبيه إلى أن مفهوم السيادة السيبرانية ليس بأي حال مفهوم مستقبلي أو مسعى لم يبدأ تنفيذه فعليًا على أرض الواقع، فالحقيقة على عكس ذلك تمامًا.

نحن اليوم نعيش بالفعل في ظل تطبيق سياسات السيادة السيبرانية للدول ونشهد التغيرات الناجمة عنه. حدود ما يمكن أن تصل إليه سياسات السيادة السيبرانية في المستقبل هي حاليًا رهن بتوازنات القوى بين حكومات الدول وبين نفوذ شركات التكنولوجيا الكبرى. أما إمكانية أن يكون لمستخدمي الإنترنت أنفسهم دور في رسم مستقبلها من خلال فعاليات المجتمع المدني الدولي فهو لا يزال أمر مستبعد وإن كان لا ينبغي استبعاد أن يحمل المستقبل تغييرات تسمح بمساحة أكبر له.