ملفات أوبر: غنيمة سنوات من الكر والفر

 

ما هي ملفات أوبر؟

ملفات أوبر، أو الغنيمة (trove) كما يصفها محررو الجارديان، هي مجموعة ضخمة من الوثائق السرية لشركة أوبر العالمية. أمكن لجريدة الجارديان الحصول على هذه الغنيمة بعدما قام بتسريبها مارك ماكجين (Mark MacGann)، أحد كبار موظفي أوبر السابقين.

يبلغ عدد الوثائق في ملفات أوبر 124 ألف وثيقة، وتضم رسائل بريد إلكتروني، ورسائل نصية، ومحادثات من خلال خدمة واتسآب، تبادلها كبار مديري الشركة. إضافة إلى مذكرات تنفيذية وعروض تقديمية، وملاحظات، وأوراق تلخيصية، وإيصالات. تغطي هذه الوثائق أعمال شركة أوبر في 40 دولة حول العالم، خلال الفترة من عام 2013 وحتى عام 2017. وهي الفترة التي تحولت فيها شركة أوبر من شركة ناشئة إلى كيان اقتصادي عالمي بالغ الضخامة.

تكشف الوثائق، وفقًا لـالجارديان، عن ازدراء قيادات أوبر للقوانين، وممارسات للالتفاف على الشرطة وتضليل المسؤولين الحكوميين في بلدان العالم التي تعمل بها الشركة. كما تكشف عن استغلال مسؤولي الشركة للعنف الذي تعرض له سائقوها نتيجة لأساليبها العدائية في اختراق الأسواق. كذلك تفضح الوثائق الاتصالات السرية لمروجي أعمال الشركة بمسؤولين حكوميين وحصولهم على معاملة خاصة بشكل غير عادل تجاه منافسي الشركة وعلى حساب مصالح فئات اجتماعية مختلفة.

تسعى هذه الورقة لتقديم أهم المعلومات التي جاءت في هذا التسريب بالغ الأهمية، مع دعم التفاصيل المتعلقة به بمعلومات وافية عن شركة أوبر ومسيرتها وما تمثله بالنسبة للاقتصاد العالمي وما شاركت في إحداثه من تغييرات هامة في الحياة اليومية للملايين من البشر حول العالم.

صعود يخطف الأنفاس

أغلبنا يعرف أوبر من خلال تطبيقها على الهواتف الذكية الذي يستخدمه الملايين حول العالم للحصول على خدمات نقل الركاب بسيارات خاصة يقودها سائقون شبه محترفين. ولكن بالرغم من أن خدمات نقل الركاب هي الوجه الأكثر شهرة للشركة، ولا تزال تمثل نسبة كبيرة من عملها، إلا أنه خلال نمو أعمالها في 40 دولة حول العالم تنوعت خدماتها بشكل كبير، واليوم تمثل خدمات تسليم الأطعمة الجاهزة على سبيل المثال مصدر الدخل الأكبر للشركة. ولكن ذلك كله يختلف بشكل كبير عن البدايات الأولى للشركة التي نشأت في أغسطس 2008 تحت اسم “تاكسي أوبر” (UberCab)، وكان ما يخططه لها مؤسساها ترافيس كالانيك وجاريت كامب، هو أن تكون خدمة سريعة وفاخرة بديلة عن التاكسي العادي وموجهة إلى الطبقات الأكثر ثراًء في المدن الكبرى، وفي نموذجها الأول كانت هذه الخدمة حصرية وقاصرة على الأعضاء المشاركين بها.

الفكرة المحورية التي تقوم عليها خدمة نقل الركاب لأوبر اليوم، أي استخدام سائقين يقودون سياراتهم الخاصة، لم تكن هي نفسها موجودة في المخطط الأولي للشركة الناشئة في عام 2008. على النقيض من ذلك، كان المخطط للشركة أن تمتلك سياراتها. هذا في حد ذاته مثير للاهتمام حيث أن أوبر تعد المثال الأكثر نجاحًا لنموذج اقتصادي يقوم على توفير فرص عمل بالقطعة لعمال مستقلين.

البدايات المبكرة

أسس أوبر كل من ترافيس كالانيك ورائد الأعمال الكندي جاريت كامب في عام 2009، بعدما ألهمتهما بفكرتها أمسية أمضياها في باريس يبحثان عن سيارة أجرة تقلهما دون جدوى.

تنتمي أوبر، كما نعرفها اليوم وعبر أغلب مسيرتها، إلى فئة من الأعمال التي أحدثت تغييرات سريعة زلزلت الأسواق، والتي اعتنق منشئاها مبدأ مارك زوكربرج: “تحرْك سريعًا وأكسر الأشياء.” وكانت أوبر من بين رواد نموذج أعمال اقتصاد “الجيج (gig-economy)، وهو نموذج يعتمد على استخدام عمال مستقلين لأداء مهام محددة دون الحاجة إلى التعاقد معهم ودون أي مسؤولية لصاحب العمل تجاههم. وقد استخدمت أوبر مستودعًا ضخمًا من العمالة المستقلة (Freelancers)، وهو ما سمح لها في البداية بتجنب التكاليف المرتبطة بالعمالة التعاقدية، مثل الإجازات المدفوعة الأجر والمعاشات.

ولكن عرضًا تقديميًا مبكرًا للترويج للشركة لدى المستثمرين يعود إلى عام 2008 يكشف أن تصورات كالانيك وكامب الأولى عن شركتهما كانت تختلف كثيرًا عما تطورت إليه. ففي هذا العرض قدم مؤسسا الشركة تصورًا عن خدمة حصرية لأعضائها أسموها أوبركاب، تجمع بين “مناسبة تاكسي نيويورك” (سهولة إيجاده لتوافره في أي وقت تحتاج فيه إليه) وبين “خبرة السائق المحترف.”

أما الشركة التي بدأت العمل في سان فرانسيسكو في عام 2010 فقد تطورت سريعًا من خدمة الليموزين إلى خدمة تعتمد بالأساس على السائقين شبه المحترفين الذين يقودون سياراتهم الخاصة، وهو تحديدًا ما أدى إلى توسعها الخاطف. وبحلول عام 2012 كانت أوبر تعمل عبر الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ثلاث مدن بأوروبا. وبعد عام واحد فقط، كانت أوبر تعمل في 74 مدينة حول العالم وتبلغ قيمتها السوقية حوالي 3.5 مليار دولار أمريكي.

روح الخارج عن القانون

يمكن أن نرى ملمحًا كاشفًا لخروج المسؤولين التنفيذيين بأوبر عن القانون في رسالة لكبير مسؤولي أوبر في الهند، أرسلها إلى مرؤوسيه في أغسطس عام 2014، بعد عام واحد فقط من دخول أوبر إلى سوق الهند أمكنها خلالها أن تمد أعمالها إلى عشر مدن هندية. النصيحة التي وجهها المسؤول التنفيذي لموظفيه كانت تقبل بل و“معانقة الفوضى”، لأن هذه الفوضى في اعتقاده “تعني أنكم تقومون بشيء ذو معنى.”

لم يوضح المسؤول التنفيذي مزيدًا من التفاصيل عن طبيعة الفوضى المتوقعة، ولكنه ألمح إليها في قوله: “من المرجح أن نواجه مشاكل محلية وعلى المستوى القومي، في كل مدينة في الهند، طيلة فترة عملكم بأوبر … فعليكم اعتياد ذلك كوضع دائم.” توقعات المسؤول كانت في موضعها نتيجة لإصرار أوبر على أنها ليست بحاجة إلى الالتزام بقواعد اللعبة لصناعة سيارات الأجرة في أي بلد تعمل به.

ولكن سياسات أوبر “العدائية” لاقتحام الأسواق لم تتوقف عند خلق المشاكل مع المنافسين أو مع السلطات الرقابية، بل امتدت عواقبها إلى سلامة عملائها، وأتى مثال فاضح على ذلك بعد أربعة أشهر فقط عندما اتُّهم أحد سائقي أوبر باغتصاب عميلة مما أدى إلى حظر خدمات أوبر في مدينة دلهي بصفة مؤقتة. وبعد ثلاثة أعوام، في الوقت الذي كانت فيه قيادة كالانيك للشركة تتهاوى، ظهرت تقارير أكدت أنه في الوقت الذي كانت فيه أوبر تعد علانية بتحسين مستوى أمان عملائها، كان أحد مسؤولي الشركة يحاول الحصول على الملفات الطبية لضحية جريمة الاغتصاب بغرض تشويه سمعتها.

أعمال غير مُرخّصة

لم يكن المسؤولون التنفيذيون لأوبر فقط على علم بأنهم يقدمون خدمة غير مشروعة في العديد من المدن، بل إن إدارة عمل غير مرخص كانت في حد ذاتها ضرورية لاستمرار الشركة. في رسائل بريد إلكتروني ورسائل نصية اعترف المسؤولون بأن مقاومة الجهات المنفذة للقانون هي أمر ضروري، وفي إحدى الحالات وصِفّت بأنها “ذات أهمية استراتيجية بالغة” لأجل “مقدرة الشركة على توسيع أعمالها” في أوروبا على وجه التحديد. وبحلول عام 2016 كانت أوبر قد اقتحمت 400 مدينة في 68 دولة، ووصلت قيمتها السوقية إلى حوالي 66 مليار دولار أمريكي.

في بريد إلكتروني أرُسِّل عام 2014 إلى أحد أعضاء فريق سياسات الشركة، قال رئيس الاتصالات العالمية للشركة حينها نايري هوراجيان، “أحيانًا نواجه المشاكل، لأننا في الحقيقة، لسنا شرعيين.” وتوضح رسائل أخرى أن المسؤولين التنفيديين قد أقاموا وناقشوا ممارسات تهدف إلى عرقلة مسؤولي الرقابة الحكوميين، عبر أوروبا، بما في ذلك في أسبانيا وبلجيكا، وهولندا. فعندما كان مسؤولو إنفاذ القانون يحاولون استئجار سيارة من خلال التطبيق على أمل الامساك بأوبر متورطة في العمل دون تصريح، حاول موظفو الشركة أن يقدموا لهم “صورة زائفة” للتطبيق باستخدام تطبيق يدعى جرايبول (Grayball). وعندما قام مسؤولو إنفاذ القانون بالإغارة على مكاتب الشركة لضبط المخالفات، كانت أوبر متقدمة دائما بخطوة، واستخدمت “مفتاح قتل الخدمة” لإغلاق كل الحواسيب. وقد نوقش استخدام هذه الأداة بين المسؤولين التنفيذيين للشركة في ستة بلدان على الأقل.

سنوات الكر والفر في مراوغة السلطات

تتباين القوانين واللوائح المستخدمة في الدول المختلفة لإصدار رخص قيادة السيارات لأغراض تجارية أو لغرض العمل، ولإصدار رخص المركبات المصرح باستخدامها لنقل الركاب. ولكن المشترك بين جميع الدول، على الأقل حتى وقت قريب، هو التوافق على أن تنظيم عمل السائقين واستخدام السيارات لنقل الركاب أمر ضروري. يمكن ملاحظة ثلاثة أسباب رئيسية للحاجة إلى تنظيم نشاط نقل الركاب، وهي ضرورة تنظيم كل من سعر الخدمة، لضمان عدالته، تنظيم مجمل كفاية الخدمة المتاحة مقارنة بالطلب عليها، لضمان حق من يحتاجونها في فرصة عادلة للوصول إليها، وأخيرًا تنظيم جودة الخدمة، لضمان أن يحصل مستخدميها على مقابل عادل لما يدفعونه، إضافة إلى ضمان سلامتهم وحماية أموالهم وممتلكاتهم.

ضرورة تطبيق قواعد منظمة، يفرضها القانون، للترخيص للأفراد والسيارات بممارسة نشاط نقل الركاب تضع خدمات أوبر بشكل واضح خارج إطار القانون، على الأقل حتى يتم تعديل القوانين بشكل يسمح بتخفيف الاشتراطات التي تفرضها مثل هذه القواعد. سعت شركة أوبر إلى دفع السلطات المختصة في عديد من الدول إلى إصدار تلك التعديلات. نجحت الشركة في ذلك في بعض الأحيان، بينما فشلت في أحيان أخرى، لذلك تتباين خدمات شركة أوبر في نقل الركاب اليوم بين بلد وآخر، كما أن الشركة نفسها قد اتجهت إلى الاهتمام بأنشطتها الأخرى في الآونة الأخيرة.

من المهم هنا التركيز على كيف تعاملت أوبر خلال أعوام صعودها السريع في عالم الأعمال مع موقف نشاطها غير القانوني في جميع الدول التي عملت بأسواقها. وما تكشف عنه ملفات أوبر المسربة مؤخرًا هو أن الشركة عملت من خلال مسارين، كلاهما ينطوي على تحد للقوانين، الأول هو مراوغة القائمين على تنفيذ القانون والاحتيال عليهم وتجنب تمكنهم من الحصول على أدلة على مخالفة ممارساتها للقانون. وهذا هو ما سيتم تناوله في هذا القسم. أما المسار الثاني والذي سيتناوله القسم التالي فهو ممارسة الضغط السياسي والاجتماعي، لاستمالة الشخصيات النافذة في حكومات الدول ومجالسها التشريعية، وتوجيه الرأي العام إلى الضغط بدوره على صناع القرار لتعديل القوانين بحيث تتحرك حدود الشرعية القانونية لتشمل أوبر، بدلًا من أن تعدل أوبر من أنشطتها لتعمل داخل إطار القانون.

ولكن قبل الشروع في تتبع جهود أوبر لمراوغة السلطات والتحايل عليها في مختلف دول العالم التي عملت بها، ثمة سؤال لابد من طرحه، وهو يحتاج بالفعل إلى إجابة توضيحية وهو: إن كانت أوبر تمارس نشاطًا غير مشروع فلماذا سُمِّح لها بالعمل في كل هذه البلدان من الأساس، بدلًا من إضاعة الوقت في محاولات تعقب أعمالها والإيقاع بها؟ والإجابة أنه من حيث التعريف الدقيق فنشاط شركة أوبر في توفير تطبيق يسمح لمستخدمه بالوصول إلى خدمة نقل ركاب، لا يتضمن القيام بنفسها بنقل الركاب بأي حال، فهي لا تملك السيارات المستخدمة وليس السائقون موظفين يعملون لديها، وبالتالي فلا يوجد قانونًا ما يمنع ممارستها لنشاطها المعلن. مخالفة أوبر للقوانين تقع فقط عندما تقوم بإتاحة أن يصل الركاب إلى أشخاص ليس مرخص لهم بالعمل كسائقين، يقودون سيارات ليس مرخص باستخدامها لنقل الركاب مقابل أجرة. دور أوبر أنها وسيط بين طالب خدمة ومقدمها، فإذا كانت على علم بأن مقدم الخدمة يخالف القانون، فهنا فقط تصبح ممارستها غير قانونية. وهذا يتطلب من سلطات إنفاذ القانون، إما ضبط سائقين يقومون بنقل الركاب دون ترخيص لهم أو لمركباتهم مع إثبات أن أوبر كانت الوسيط في قيامهم بذلك، أو الوصول إلى سجلات أوبر التي يرد بها هوية سائقين قاموا برحلات وفرتها أوبر كوسيط في حين أنهم غير مرخص لهم بالعمل كسائقين، ولا سياراتهم مرخص باستخدامها لغرض نقل الركاب.

سيارات شبحية

في محاولتهم للحصول على أدلة على ممارسة شركة أوبر لنشاط غير مشروع، سعى مسؤولو إنفاذ الفانون في دول عدة إلى ضبط أشخاص يقومون بنقل الركاب مقابل أجر دون الترخيص لهم بذلك ويستخدمون لهذا النشاط سيارات غير مرخص باستخدامها لذلك. وعلى خلاف ما قد يبدو، ليس هذا الأمر سهلًا. فمجرد استيقاف سيارة للاشتباه في أنها تُستخدّم لنقل ركاب بدون ترخيص لها أو لقائدها، لا يسهل أن يؤدي لا إلى إثبات ذلك وحتى في حال إثباته (وهو يتطلب شهادة الركاب، التي لن يقدموها طوعًا بأي حال)، فإثبات أن أوبر توسطت من خلال تطبيقها في وصول الركاب إلى السائق وسيارته أمر أكثر صعوبة لأنه يتطلب شهادة السائق نفسه، التي لن يقدمها بالطبع. والحل الوحيد هو أن يكون الراكب نفسه أحد رجال الشرطة أو أي جهة مختصة، وأن يقوم بنفسه بطلب السيارة من خلال تطبيق أوبر مع تسجيل ذلك، ثم بضبط السائق وسيارته يمكن إثبات وقوع المخالفة وربطها بشركة أوبر.

هذه كانت الثغرة الوحيدة التي يمكن من خلالها الإيقاع بأوبر عن طريق التطبيق والسائقين ومركباتهم، وبالفعل حاولت سلطات إنفاذ القانون في عدة دول أوروبية القيام بعمليات سرية يتخفى فيها رجل شرطة كراكب عادي، ولكن ما حدث أن رجال الشرطة أو مسؤولي الجهات الرقابية المختلفة عندما كانوا يحاولون استخدام تطبيق أوبر لاستئجار رحلة من مكان إلى آخر، كانوا دائمًا يفشلون في ذلك، فإما ألا يظهر التطبيق وجود سيارات متاحة أو أن تظهر السيارات عليه ولكنها لا تستجيب لطلبهم. لماذا؟ لأن تلك السيارات التي يظهرها التطبيق لهم كانت مجرد أشباح لا وجود لها، والتطبيق الذي يستخدمونه كان نفسه شبحًا، مجرد نسخة زائفة من تطبيق أوبر الأصلي.

التطبيق الزائف يسمى “جرايبول” وطورته أوبر في البداية في إطار نظام لحماية سائقيها من التعرض لأعمال عنف عن طريق سائقي أجرة وأعضاء في نقاباتهم أو روابطهم يسعون إلى الإيقاع بسائقيها. ولكن أوبر توسعت في استخدام التطبيق في حربها ضد سلطات إنفاذ القانون الساعية للإيقاع بها.

حتى يمكن لجرايبول أن يعمل لابد من الوصول إلى معلومات حول هوية الشخص الذي يطلب الخدمة، حتى يتم استبدال التطبيق الأصلي بتطبيق زائف، ولتحقيق هذا الغرض قامت شركة أوبر بواحدة من أوسع عمليات المراقبة وتسجيل البيانات الشخصية لأفراد دون علمهم التي تمت في العالم كله حتى ذلك الحين. واعتمدت على جمع معلومات حول الأماكن التي يتردد عليها الأشخاص وربطها بمقرات الشرطة والأجهزة الأخرى، وكذلك بمقرات نقابات أو روابط سائقي الأجرة وأماكن تجمعهم، بهذه الطريقة ومن خلال جمع معلومات أخرى أنشأت الشركة قوائم بالأشخاص المشتبه بكونهم غير مرغوب بهم، ومن ثم استخدم تطبيق جرايبول لتضليلهم ولعدم السماح لهم بالوصول إلى أي من سيارات أوبر الحقيقية.

أحد الأساليب الإضافية التي استخدمتها أوبر أيضا كان تكتيكًا يسمى بالتحويط الجغرافي (geofencing) وهو عملية استبعاد مناطق بكاملها وفق اعتبارات محددة، لا تكون الخدمة متاحة بها، أو لا يتاح بها إلا التطبيق الزائف.

برغم أن استخدام أوبر لتطبيق جرايبول قد تم الكشف عنه منذ سنوات، وتحديدًا في عام 2017، لكن طريقة عمل التطبيق وما إذا كان استخدامه قد تم بعلم المسؤولين التنفيذيين في أوبر ووفق توجيهاتهم ظلت سرًا حتى كشفت التسريبات الأخيرة عن الرسائل المتبادلة التي ناقش فيها هؤلاء المسؤولون استخدام جرايبول وأدوات وأساليب أخرى بهدف تضليل السلطات. في مقدمة هؤلاء كان ترافيس كالانيك، رئيس الشركة في ذلك الحين، والذي استقال من منصبه بعد سلسلة من الفضائح في عام 2017. ولكن أحد المسؤولين البارزين والذي تشير الوثائق إلى دور كبير له في عمليات مقاومة السلطات والاحتيال عليها هو بيير-ديميتري جور-كوتي، الذي لا يزال يعمل بأوبر حتى اليوم ويدير قطاع تسليم الأغذية الذي تركز الشركة الآن كثيرًا من اهتمامها عليه.

في أكتوبر 2014، كان جور-كوتي رئيسًا لعمليات أوبر في أوروبا الغربية، حيث وقعت أغلب معارك الكر والفر مع السلطات في هذه الفترة. بعث جور-كوتي برسالة بريد إلكتروني قال فيها أن ترافيس كالانيك، رئيس الشركة حينها، قد أراد من العاملين بها “النفاذ إلى بيانات مستخدمي التطبيق” غالبًا للتعرف على هوية من يعمل منهم بجهات إنفاذ القانون. وفي رسالة أخرى بعث بها إلى عدد من المسؤولين التنفيذيين الآخرين بالشركة ناقش جور-كوتي فوائد استخدام جرايبول، واحتوت الرسالة على قسم بعنوان “مكافحة قوى إنفاذ القانون”، وفيه قال جور-كوتي أن هذه المكافحة ضرورية لأوبر “لتكون قادرة على توسيع أعمالها.”

إضافة إلى الوسائل التقنية المختلفة التي استخدمتها شركة أوبر لإعاقة مساعي جهات إنفاذ القوانين لكشف أنشطتها غير القانونية، استخدمت أيضًا وسائل تقليدية أقرب للعمل السري. ففي عام 2015 حاول فريق العمل في بروكسل الحصول على معلومات داخلية عن العمليات السرية لجهات إنفاذ القانون، فقاموا بتسجيل أقارب وأصدقاء لهم تحت أسماء مزيفة كمشتركين مجهولين لوكالة توظيف تعاقدت معها السطات خصيصًا للمساعدة في ضبط سيارات الأجرة العاملة خارج إطار القانون. وتُظهِّر رسائل البريد الإلكتروني أن جور-كوتي كان متورطًا في هذه الخطة، وقد نصح باستخدام أداة مراقبة أخرى طورتها أوبر وهي المعروفة داخل الشركة بأسماء “السموات العلى” (Heaven) أو “عين الرب” (God View)، لتقويض العملية السرية لجهات إنفاذ القانون. وتسمح هذه المنظومة لشركة أوبر بأن تتعقب لحظة بلحظة حركة أي عميل. وطالب جور-كوتي الفريق “بمتابعة منظومة السموات العلى عن قرب وعلى الهواء مباشرة، في الأوقات التي ترد فيها معلومات عن أن ثمة خطة للإغارة على مكاتب الشركة،” وأضاف قائلا: “دعوهم يظنون أنهم على وشك الوصول إلى شيء ما أحيانًا، (أي عندما ترون أنهم يطلبون سائقًا، تحدثوا إليه واطلبوا منه أن يتحرك في دوائر، أو أن يتصل بالعميل هاتفيًا ويخبره أنه عالق في زحام المرور أو ما يشبه ذلك، بدلا من إلغاء الرحلة مباشرة).”

تكشف الوثائق أن تطبيق جرايبول، وغيره من وسائل الخداع والتضليل، قد ساعد على النمو السريع لشركة أوبر في سوق أوروبا الغربية، وقد استُخدِّم في عديد من بلدانها بما في ذلك بلجيكا وهولندا وألمانيا وإسبانيا والدانمارك. كما أنه قد اسُتخدِّم في دول أخرى خارج أوروبا الغربية، مثل روسيا وبلغاريا. بالإضافة إلى استخدامه لتجنيب سائقي أوبر التعرض للعنف من قبل سائقي سيارات الأجرة النظاميين في مدن مثل ريو دي جانيرو في البرازيل.

مفتاح القتل

مفتاح القتل (Kill Switch) هو مصطلح يستخدم للإشارة إلى الحالات التي تقوم فيها جهة ما عمدًا بقطع الوصول إلى شبكة أو عدة شبكات بشكل جماعي عن عدد من الأجهزة المتصلة بها لتحقيق هدف ما. في سنوات الكر والفر بين أوبر وبين جهات إنفاذ القانون في العديد من دول العالم، استخدمت الشركة مفتاح القتل عدة مرات لقطع اتصال الحواسيب في مكاتبها عن شبكتها الرئيسية عندما تتعرض هذه المكاتب للإغارة عليها من قبل جهات إنفاذ القانون للتحقيق في عمل الشركة دون ترخيص أو مخالفتها لشروط العمل. قطع الاتصال بالشبكة عن مكاتب الشركة كان الوسيلة التي اتبعتها أوبر في 12 حالة وثقتها “ملفات أوبر”. جرى ذلك في كل من فرنسا وهولندا وبلجيكا، والهند، والمجر، ورومانيا. ثمة حالات كانت معروفة من قبل لاستخدام أوبر لمفتاح القتل في عدة بلدان منها كندا وهونج كونج، ولكن ما يميز الحالات التي تم ذكرها في غنيمة الوثائق هذه هو أنها لأول مرة تكشف دون لبس عن أن هذه الممارسة قد تمت بأوامر مباشرة من كبار مسؤولي الشركة صعودًا إلى رئيسها في هذه الفترة “ترافيس كالانيك”.

الأمثلة البارزة لاستخدام أوبر لمفتاح القتل توضح تطور هذه الممارسة نتيجة الدروس المستفادة عبر سنوات من مراوغة السلطات. المرة الأولى التي يرد فيها ذكر مفتاح القتل في الرسائل المتبادلة بين مسؤولي أوبر وبين المهندسين التقنيين بها كانت في عام 2014. في نوفمبر من ذلك العام، أغارت قوة تابعة لهيئة حماية المنافسة التجارية في فرنسا على مكاتب المركز الرئيسي لأوبر في حي الأعمال بالدائرة الـ19 في باريس. لم يكن موظفو أوبر ومسؤولوها على استعداد لمواجهة هذه الغارة، ومن ثم فقد وصلت الرسالة الأولى المتعلقة بالغارة من المدير القانوني للشركة في أوروبا حينها إلى أحد مهندسيها في المقر الرئيسي لأوروبا في مدينة أمستردام الهولندية بعد بدء الغارة بالفعل، وفي الرسالة طلب المسؤول باستخدام مفتاح القتل لقطع اتصال مكاتب الشركة في باريس عن شبكتها، ونقل المسؤول القانوني الأمر عن كل من كالانيك، رئيس الشركة، وجور-كوتي مدير منطقة غرب أوروبا.

نجاج مفتاح القتل في تقويض مساعي مسؤولي تنفيذ القانون في فرنسا كان درسًا لتلك الجهات ولغيرها في أوروبا، ومن ثم فعندما أرادت السلطات البلجيكية، في العام التالي (2015) الحصول على بيانات الشركة حول سائقيها، والتي يتم تخزينها على خوادم الشركة في سان فرانسيسكو، أغارت على مكاتب الشركة في بروكسل دون اخطار مسبق. ونجحت بالفعل في منع موظفي المقر من التواصل مع مسؤوليها، ومن ثم فقد أمكن لفنييها مصادرة الحواسيب الموجودة بالمكان قبل قتل اتصالها بالشبكة. وأبلغ المسؤول القانوني السابق ذكرة بقية المسؤولين التنفيذيين بما كان قائلًا: “لفد تم استيقاف موظفينا ولم تتح لهم فرصة استخدام مفتاح القتل.” ولكن هذا لم يعني استسلام مسؤولي الشركة الذين طالبوا مهندسيها بإيجاد حل بديل، وهو ما تمكنوا منه بالفعل، فقد أبلغ أحد كبار مهندسي الشركة مارك ماكجين حينها بأنه قد تمكن من قطع اتصال الحواسيب بالشبكة بالرغم من وجودها في حيازة الشرطة، واستخدم لتحقيق ذلك نظام إدارة يسمى كاسبر (Casper).

بعد أربعة أيام فقط من هذه الغارة على مكاتب أوبر في بلجيكا، أغارت قوات وحدة متخصصة في تعقب عمل سيارات الأجرة غير المرخص لها في فرنسا على مكاتب أوبر في باريس، ولكن مع قصر الفترة بين الإغارتين كان مسؤولو أوبر قد تعلموا الدروس المستفادة بالفعل، ورفعوا حالة الاستعداد على ضوء ما حدث في بروكسل، وفي رسالة بريد إلكتروني بعث بها ماكجين إلى ديفيد بلوف رئيس قسم السياسات والاستراتيجية بالشركة، بعد الغارة، طمأنه قائلًا: “لفد تم قطع الوصول إلى أدوات تقنية المعلومات فورًا، ومن ثم لم يتمكن رجال الشرطة من الحصول على الكثير، هذا إن حصلوا على أي شيء من الأساس.”

اختراق دوائر السلطة والنفوذ

أوبر في مصر

مثلت مصر حالة خاصة في تعامل أوبر مع دوائر النفوذ السياسي مقارنة بغيرها من دول المنطقة العربية والعالم. فعلى عكس الدول الأخرى فضل المسؤولون التنفيذيون لأوبر عدم التورط في بناء علاقات وثيقة مع أصحاب النفوذ السياسي. أتى دخول أوبر إلى السوق المصري في عام 2014 مثل بقية دول المنطقة، ورأى مسؤوليها أن الوضع السياسي غير المستقر لا يشجع على السعى لعقد صداقات في أروقة السياسة المصرية المتقلبة، وفي أحد الوثائق التي تضمها غنيمة ملفات أوبر كتب أحد مسؤولي الشركة: “في مصر سنكون أصدقاءًا لأحدهم في اليوم الأول، وفي اليوم التالي سيطاح به.”

في اعتقاد إدارة أوبر حينها كان عالم الأعمال أكثر استقرارًا نسبيًا عن عالم السياسة في مصر، فسعى ممثلوهم إلى التقرب من رجال الأعمال ذوي العلاقات القريبة من السلطة، وفي مقدمة هؤلاء محمد شفيق جبر، رجل الأعمال الذي يمتلك مجموعة “آرتوك” للاستثمار والتنمية. واعتبر قياديون في أوبر أن جبر مؤهل لأن يكون مفتاح الدخول إلى السوق المصري.

بدأت توجهات أوبر نحو دوائر النفوذ في القاهرة بالتغير في عام 2016، ربما لأن أوبر كانت تواجه مشاكل في أوضاعها القانونية وتضييقًا أمنيًا على سائقيها. ومن ثم بدأ مسؤولو أوبر في التقرب من سفير مصر في الأمم المتحدة حينها، بهدف الوصول من خلاله إلى وزير الخارجية سامح شكري. كانت تلك محاولات على استحياء في عهد الرئيس السابق للشركة ترافيس كالانيك. ومع إزاحة كالانيك في عام 2017، تغيرت سياسة أوبر تجاه مصر بشكل كبير، واستهدف رئيسها الجديد دارا خسروشاهي الوصول مباشرة إلى رأس السلطة،  إذ تلقت أوبر، في 2014، دعوة مغلقة من مكتب الرئيس عبد الفتاح السيسي يشارك فيها 10 إلى 15 مديرًا تنفيذيًا لشركات أمريكية كبرى. ولكن إدارة أوبر رفضت حينها أن يقبل كالانيك الدعوة واقترحت كبديل عنه نائب الرئيس الأعلى للشركة “إيميل مايكل” وهو أمريكي-مصري. ولم يرد في الوثائق المسربة إن كان الاقتراج قد قُبِل، وما إذا كان فريقًا من أوبر قد حضر هذا اللقاء بالفعل.

في عام 2016 احتدمت المواجهة بين سائقي الأجرة المصريين وبين أوبر، حيث نظم السائقون اعتصامات اعتراضًا على عمل الشركة بشكل غير قانوني في مصر، كما حركوا عدة دعاوى قضائية ضدها. واختارت إدارة أوبر حينها أن ترسل إلى القاهرة “ديفيد بلوف” المستشار الرئيسي لرئيسها التنفيذي والذي عمل سابقًا بالحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي باراك أوباما وإدارته. لهذه الخلفية اعتقد مسؤولو الشركة أن بلوف هو الشخص المناسب للتفاوض مع الحكومة المصرية وحل مشاكل الشركة في مصر. وبالفعل قام بلوف بزيارة القاهرة في فبراير من عام 2016، وأبدى في اجتماعاته بممثلي الحكومة المصرية استعداد الشركة لدفع الضرائب المقررة عليها، وفي نفس الوقت تحدث عن ضرورة تعديل قوانين النقل العام والمشترك في مصر بحيث تفتح المجال لعمل أوبر في مصر بصفة شرعية.

حسب وثائق أوبر، بدا أن زيارة بلوف قد نجحت في إحداث قدر أكبر من المرونة لدى الحكومة المصرية في تعاملها مع الشركة. وفي شهر مايو من العام نفسه (2016) تفاوضت الشركة مع الحكومة المصرية ساعية إلى تسهيل عمل الشركة في مصر بإصدار رخصة عمل بشروط مخففة. على جانب آخر وبرغم وعود بلوف بسداد الضرائب المقررة غلى الشركة فقد استمرت في التهرب من ذلك، وهو ما أدى إلى أن يقوم فريق من مصلحة الضرائب المصرية بزيارة مكاتب الشركة بالقاهرة.

مع بداية عهد خسروشاهي تطورت علاقة الشركة مع القيادة السياسية في مصر بمعدل متزايد، حيث التقى خسروشاهي بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أكتوبر عام 2018. وحسب وثائق أوبر، أبدى السيسي امتنانه لاستثمارات أوبر في مصر، وشجع على توسع الشركة في أعمالها. أتى توثيق العلاقات بالحكومة المصرية في وقت مناسب تمامًا، فقد وصلت الدعاوى القضائية المرفوعة ضدها إلى محطتها الأخيرة وحكمت المحكمة الإدارية العليا بوقف عمل الشركة على الفور، وهو ما رفضت أوبر الامتثال له. ولكن قبل صدور الحكم النهائي في القضية وقع السيسي مرسومًا شرع عمل شركات النقل التشاركي للركاب وهو التصنيف القانوني لشركة أوبر. وبذلك أصبح عمل الشركة وسائقيها قانونيًا بشكل كامل.

التوسع أولا قبل اعتبارات الأمان

في الخامس من ديسمبر عام 2014، كانت شابة هندية عائدة إلى بيتها في العاصمة دلهي بعد تناول العشاء مع أصدقاء لها. متعبة بعد يوم عمل طويل ثم سهرة مع الأصدقاء أغفت الشابة في المقعد الخلفي لسيارة أوبر التي كانت تستقلها. بعد قليل من الوقت انتبهت الشابة لتجد أن سائق السيارة قد أوقفها في مكان منعزل قبل أن يشرع في تحسس جسدها، وعندما حاولت الصراخ أو الهرب من السيارة تعدى السائق عليها بالضرب قبل أن يغتصبها.

هذه الواقعة كان لها صدى كبير، وكما تشير ملفات أوبر فقد عكست مراسلات فريق العمل بالمركز الرئيسي للشركة في سان فرانسيسكو إصابتهم بالفزع مما يمكن أن تجره من عواقب. محاكمة السائق التي تلت إلقاء القبض عليه كشفت أنه قد سبق اتهامه بالاغتصاب في واقعة سابقة عام 2011، وقبل ذلك اتُهِّم في عام 2004 في ولاية أوتار براديش الهندية بالاعتداء الجنسي. بعد أيام من الواقعة علق مارك ماكجين الذي كان حينها مسؤول الترويج لشركة أوبر في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا في رسالة كتبها قائلا: “نحن نخوض مباحثات أزمة حاليًا والإعلام في حال اشتعال … السائق الهندي يحمل بالفعل رخصة عمل، وبالتالي فالضعف والتقصير يبدو أنهما في جانب منظومة الترخيص المحلية.”

إلقاء المسؤولية على تقصير السلطات المحلية هو وسيلة لتنصل أوبر من مسؤوليتها عن حماية مستخدمي خدماتها، فحسب إدعاءات الشركة المتواصلة في حملاتها الدعائية، توفر إجراءات اختيار سائقيها ضمانات أكبر لجودة الخدمة بما في ذلك عامل الأمان مقارنة بإجراءات استخراج رخص القيادة المهنية التي تقوم بها السلطات المحلية في أي مكان تعمل أوبر به. بصفة خاصة وجهت أوبر حملات دعائية إلى النساء في الدول التي ترتفع فيها معدلات العنف ضد النساء مثل الهند ومصر مدعية أن خدماتها توفر وسيلة التنقل الآمنة التي تفتقد إليها النساء في هذه الدول عندما يحتجن إلى التنقل بمفردهن.

في الوقت نفسه يتناقض هذا التنصل من المسؤولية مع الوعود التي قدمها مسؤولو الشركة في أعقاب الواقعة بتوفير ضمانات أمان أكثر لمستخدمي خدماتها. وعلى جانب آخر تتناقض هذه الوعود مع ما كشفت عنه ملفات أوبر المسربة مؤخرًا من أن مسؤول الشركة في الهند قد أرسل إلى رئيسها ملفات تحتوي على بيانات خاصة بالضحية لمحاولة استخدامها في تشويه سمعتها. وقد إدعى كالانيك رئيس أوبر التنفيذي حينها أن الواقعة قد تكون “محاولة تخريب” يقف خلفها منافسو أوبر في الهند، وهو ما دفع الشابة الهندية إلى مقاضاة الشركة أمام المحاكم الأمريكية متهمة إياها بالإساءة إلى سمعتها.

إضافة إلى كل ما سبق، من المثير للاهتمام أن الإجراءات التي وعدت شركة أوبر باتخاذها والضمانات التي ادعت أنها ستوفرها بتطبيقها لم يتم تطبيق أي منها حتى اليوم. من بين هذه الأدوات الموعود بها، عنصر بواجهة الاستخدام روِّج له أولًا باسم “زر الفزع”، يسُتخدّم في حال شعر الراكب بأن سلامته مهددة، وفي الوقت الذي لم يتم فيه تطبيق التعديلات المطلوبة لإضافته انشغل موظفو الشركة بالجدل حول تعديل الاسم إلى (SoS) وهي الإشارة العالمية للاستغاثة، بدلًا من استخدام مصطلح الفزع والذي يمكن أن ينعكس بشكل سلبي على صورة الشركة.

شهدت العاصمة اللبنانية بيروت في ديسمبر عام 2017 واقعة اغتصاب شبيهة بتلك التي وقعت في دلهي، لكنها انتهت بمقتل الضحية “ريبيكا دايكس” على يد مغتصبها سائق الأوبر اللبناني، الذي أدانته المحكمة بعد عامين وحكمت بإعدامه. دايكس، التي كانت تعمل بالسفارة البريطانية ببيروت، وكانت وقت وقوع الحادث تستعد للسفر لتمضي إجازة أعياد الميلاد مع أسرتها في إنجلترا، اختُطفِّت على يد سائق أوبر الذي أقلها من أحد أحياء بيروت بعدما غادرت أحد البارات التي كانت تحضر فيه حفل وداع أحد زملائها بالسفارة. القاسم المشترك مع واقعة اغتصاب دلهي هو حقيقة أن سائق أوبر اللبناني سبقت إدانته بعدة جرائم وأمضى عدة أحكام بالسجن. هذه الحقيقة تؤكد أن إهمال أوبر للتحقق من خلفية سائقيها هو نمط متكرر، ربما في دول الجنوب، التي تستشعر فيها الشركة مساحة أوسع للإفلات بممارسات مماثلة. وهو ما حدث بالفعل في حالة هذه الجريمة التي مرت بسهولة أكبر من نظيرتها في دلهي، ربما نتيجة لأن أوبر كانت قد أمضت وقتًا أطول بالسوق اللبناني ونجحت في توثيق علاقاتها بمراكز السلطة والنفوذ في لبنان.

تناقض حملات الدعاية المخطط لها، والوعود المبذولة من الشركة مع واقع ممارساتها على الأرض يعكسه أيضًا بشكل واضح تاريخ دخولها إلى السوق المصرية ثم تدهور مستوى خدماتها مع التزايد المستمر لأسعارها. فتمهيدًا لدخول هذا السوق ركزت أوبر بشكل خاص على المعدلات المرتفعة لتعرض النساء المصريات للعنف والاعتداءات الجنسية عند استخدامهن لوسائل النقل التقليدية وبصفة خاصة سيارات الأجرة. ونظمت الشركة حملة بعنوان “حكايا الرعب بالتاكسي” شجعت النساء المصريات من خلال مواقع التواصل الاجتماعي على أن تروين تجاربهن السيئة مع سائقي سيارات الأجرة. كان ذلك تمهيدًا لأن تقدم أوبر نفسها كبديل آمن يتبع إجراءات فحص دقيقة للسائقين ولسياراتهم قبل السماح لهم بالعمل من خلال تطبيق الشركة.

الواقع العملي على الأرض تدهور بسرعة مع سياسات التوسع السريع لأوبر في السوق المصري، وانقلب خلال سنوات إلى النقيض من وعودها السابقة، وأصبح لأوبر مكان دائم على سلسلة حكايا الرعب للنساء في مصر، لا تختلف عن تلك التي استخدمتها أوبر في حملتها تمهيدًا لاقتحام المدن المصرية. في الواقع، بعض حكايا الرعب كانت خاصة بخدمة أوبر وحدها دون مقابل لها في وسائل النقل التقليدية، فحتى وقت قريب كان تطبيق أوبر في مصر يسمح للسائق بالاطلاع على رقم هاتف العميل، وتكرر استغلال سائقين لهذا لملاحقة السيدات والفتيات اللاتي يحصلون على أرقام هواتفهن. إضافة إلى ذلك ثمة سلسلة من وقائع الخطف والسرقة بالإكراه تعرض لها عميلات وعملاء أوبر، كان من بين أحدثها، تعرض فتاتين لمحاولة سرقة بالإكراه أدت إلى طعن إحداهما بآلة حادة، بعدما تعمد سائق أوبر إخفاء شقيقته بصندوق السيارة لتْعاونه في محاولة السرقة بعدما أوقف سيارته بمنطقة منعزلة.

خاتمة

عرضت هذه الورقة أهم مظاهر الاحتيال والخداع والخروج على القانون التي مارستها أوبر في سنوات صعودها المحموم كما تكشف عنها غنيمة الوثائق التي سربها المدير السابق للدعاية لأوبر في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا مارك ماكجين ونشرتها الجارديان البريطانية بمشاركة العديد من الصحف حول العالم برعاية من الرابطة الدولية للصحفيين الاستقصائيين. قد لا يزال ثمة جديد تكشف عنه هذه الوثائق، ولكن ما كشفته حتى الآن يثير كثيرًا من التساؤلات التي يجب الالتفات إليها. أوبر نموذج هام للاستثمار والأعمال المعتمدة بشكل أساسي على التكنولوجيا الرقمية وشبكة الإنترنت وعلى التغيرات الاجتماعية العميقة التي أحدثتها هذه التكنولوجيا في العالم كله، وسيكون على المعنيين بهذه التكنولوجيات وتطور آثارها الاجتماعية والاقتصادية أن يقفوا طويلًا أمام أوبر كنموذج (فاشل)، فباعتراف مسؤوليها لم يكن بإمكان أوبر الاستمرار والنمو بالمعدل الكبير الذي حققته دون الخداع والتحايل ومقاومة سلطات إنفاذ القانون في العالم كله، واليوم تتخبط أوبر وتضطر إلى التنازل على قطاعات كبيرة من الشركة في محاولة للاستمرار بعد اضطرارها للعمل إلى حد ما في إطار القوانين.