الإنترنت الحر الذي نريده (3): ماذا نعني بالإنترنت الحر؟

الإنترنت الحر الذي نريده هو سلسلة من الأوراق البحثية، يمكن الاطلاع عليها من الروابط التالية:

تقرؤون..

الإنترنت كشبكة في الواقع المادي هي ملايين الأجهزة المتصلة ببعضها البعض، وهي شبكة لا مركزية، لا يمكن لأحد أن يسيطر على اتصال جميع أجهزتها ببعضها البعض، ولا يمكن لأحد أن يوقف عملها في كل مكان في نفس الوقت. مع ذلك، إذا صحوت يومًا لتجد أن خدمات جوجل قد توقفت عن العمل، فبالنسبة للكثيرين قد يعني ذلك أن أغلب الإنترنت كما يعرفونه قد اختفى، وربما اختفى معه قدر هائل من البيانات الشخصية أو الخاصة بالعمل. إضافة إلى أن ذلك سيسبب الشلل بقدر أو بآخر: لن يمكن تبادل رسائل البريد الإلكتروني مع أحد، والبعض لن يمكن التواصل معهم على الإطلاق لأنه ليس لديك وسيلة اتصال أخرى معهم. لن يمكن أداء كثير من مهام العمل، ولن يكون بالإمكان التعاون مع زملاء العمل بالطريقة التي أصبحت معتادة لكم طوال سنوات. الأسوأ هو أن العديد من خدمات مواقع أخرى على الشبكة ستصبح مغلقة في وجهك لأنك قد استخدمت بيانات حسابك على جوجل لتسجيل حساباتك عليها، وبالتالي فوصولك لأي من هذه الخدمات يتوقف على أن تكون خدمات جوجل متاحة للتحقق من هويتك.
هذا الموقف الكابوسي ليس مستبعدًا تمامًا كما قد يظن أي منا. لقد نما اعتماد كل منا على شبكة الإنترنت في حياتنا اليومية بشكل هائل خلال السنوات الأخيرة، وخاصة مع الانتشار الكبير للهواتف الذكية. هذا الاعتماد ليس مشكلة في حد ذاته، بل على العكس، لقد جعل كثيرًا من أمور حياتنا أسهل وأسرع وأفضل. المشكلة أننا لا نعتمد على شبكة الإنترنت، بل نعتمد على خدمات مثل جوجل وفيسبوك، هذه الخدمات هي الإنترنت بالنسبة للغالبية العظمى منا، فإذا اختفت لأي سبب، اختفت معها الإنترنت التي نعتمد عليها في حياتنا اليومية، وهو ما يعني أن تصاب الحياة بالشلل لبعض الوقت على الأقل، وأن يضيع كثير من ذكرياتنا الشخصية ومن إنتاج عملنا وغير ذلك. شبكة الإنترنت نفسها من الناحية المادية لن تتأثر باختفاء أي خدمة تقدم من خلالها، فهذه الخدمات بالنسبة لها هي فقط عدة آلاف من الأجهزة التي قد خرجت من الشبكة. وهذا هو الفرق العملي بين حقيقة أن الإنترنت شبكة لا مركزية كواقع مادي، ولكنها بالنسبة لأي واحد منا شبكة شديدة المركزية؛ لأن كل اتصال لنا بها يمر من خلال نقطة واحدة هي خدمات جوجل، التي إن اختفت انقطع عمليا اتصالنا بالإنترنت نفسها، برغم أنها ستظل موجودة.

ماذا نعني بالإنترنت الحر؟

هذه الصورة التي أوضحنا ملامحها في المقال السابق وأعدنا تأكيدها في مقدمة هذا المقال يمكن تلخيصها بطريقة مختلفة في أن شبكة الإنترنت بالنسبة لنا ليست حرة، أو بعبارة أخرى نحن لا نتمتع بالحرية في استخدامنا للإنترنت. لكن ما الذي نعنيه بأن يكون الإنترنت حرًا؟ أو بمعنى آخر ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لكل واحد منا؟
الأمن والخصوصية هما نظريًا مفهومان مستقلان، لكنهما في الواقع العملي متصلين ببعضيهما، لأنهما يتعلقان بالبيانات الشخصية لنا على شبكة الإنترنت. أمننا المعلوماتي يتعلق أولًا بأن تكون بياناتنا هذه آمنة من الضياع، بمعنى أنها لن تتعرض للاختفاء ولن تتعرض للفساد (لعيوب في معدات التخزين، أو لتعديل خاطئ بأي شكل) بحيث لا يعود بالإمكان استخدامها بشكل عادي، وكذلك ألا يكون ثمة ما يمنع وصولنا إليها في أي وقت. خصوصية البيانات تعني أن يكون لنا وحدنا كامل السيطرة على تحديد من يكون له حق الوصول إلى أي بيانات تخصنا، وهذا يعني تحديد من نسمح له بالوصول إلى أية بيانات، ومتى نسمح له، ولأي وقت، ولأي غرض. هذا أيضًا يعني حقنا الكامل في ألا تكون هويتنا الحقيقية متاحة إلا لمن نقرر إتاحتها له بإرادتنا.
نحن لسنا أحرارًا طالما لم تكن لنا سيطرة كاملة على بياناتنا الشخصية على شبكة الإنترنت، وبالتالي فالإنترنت الحر هو ذلك الذي يمكننا أن نستخدمه لخلق وحفظ بيانات شخصية يكون بإمكاننا الوصول إليها طيلة الوقت ويكون لنا سيطرة كاملة على إمكانية وصول الآخرين إليها.
الوصول إلى المعلومات هو الغرض الأساسي الذي أنشئت من أجله شبكة الإنترنت. هؤلاء الذين عملوا على إتاحة وصول الجميع إلى الإنترنت كان هدفهم هو أن يكون لكل إنسان إمكانية الوصول إلى المعلومات وتبادلها مع الآخرين بحرية تامة. حرية الوصول إلى المعلومات بواسطة شبكة الإنترنت بالنسبة لأي منا تعني أن يكون بإمكاننا الوصول إلى أي معلومة طالما كانت موجودة بالفعل في صورة بيانات (غير شخصية) على الشبكة. هذا يعني ألّا يكون لأي جهة القدرة على التحكم فيما يمكن أو لا يمكن الوصول إليه لأي سبب وبأي مبرر. عندما يبحث أي منا عن معلومات حول أي موضوع ينبغي أن يكون هو وحده من يحدد أولوية المصادر المختلفة، لا أن يكون ثمة تطبيق يحدد هذه الأولوية حسب أي تصنيف لا يختاره المستخدم (فيعطي الأولوية لمصادر إعلانية أو لمصادر تدفع مقابل الحصول على أولوية عرض معلوماتها)، أو أن يحدد إن كان مصدر المعلومة موثوقًا أو صحيحًا حسب أي معايير لم يحددها المستخدم بنفسه.
حرية الوصول إلى المعلومات تعني أيضًا حرية تبادلها، وهذا يعني أن ما نقدمه من معلومات من خلال الإنترنت تكون للآخرين فرصة عادلة للوصول إليه، أي فرصة متساوية مع المصادر الأخرى. بعبارة أشمل، لا يجب أن يكون لأي جهة الحق في إعطاء أوزان نسبية مختلفة لمصادر المعلومات على الشبكة بحيث تكون المعلومات من مصدر بعينه متاحة أكثر من المعلومات من مصدر آخر، كما يجب ألا يكون لها الحق في “فلترة” المعلومات، أي تمرير البعض منها وحجب البعض اﻵخر حسب أي معايير تختارها. هذا المبدأ يسمى أيضًا حيادية الإنترنت. ولا يعني هذا المبدأ عند تطبيقه أن نتعرض لكم هائل من المعلومات غير المفيدة فيصعب علينا أن نصل إلى معلومات موثوقة ودقيقة، ولكنه يعني أن نكون نحن من يحدد نوع المصادر التي نعتقد أنها ستقدم لنا معلومات موثوقة ودقيقة، وأن تتاح لنا أدوات التعرف على هذه المصادر وفق المعايير التي نعرفها ونختارها، وليس وفق معايير يحددها طرف ثالث.
جانب آخر يتعلق بحرية الوصول إلى المعلومات بواسطة شبكة اﻹنترنت هو آليات الحجب التي تستخدمها بعض الدول القمعية من خلال مزودي خدمة اﻹنترنت، والتي من خلالها تقوم بحجب مواقع وصفحات على الشبكة عن مستخدميها داخل هذه الدول. وهذا يتصل أيضًا بنوع المركزية الذي يجعل الوصول إلى الشبكة نفسه متوقف على عدد محدود من الشركات التي تقدم خدمة اﻹنترنت في كل دولة، وخضوع هذه الشركات لقوانين وقرارات إدارية تصدرها الدول التي تعمل على أراضيها. اﻹنترنت اللامركزي الحر بحق يسمح بوصول أي شخص من أي مكان إليه دون الخضوع للقيود التي تفرضها الدول على حريته في استخدامه، أو حدود تسعير الخدمة التي تحول دون أن يتمكن كثيرون من الوصول إلى الشبكة.
التواصل مع الآخرين أحد أهم أغراض شبكة الإنترنت كشبكة اتصالات قبل أي شيء آخر. في الواقع كل ما نقوم به بواسطة الإنترنت يعتبر تواصل مباشر أو غير مباشر مع مستخدمين آخرين للشبكة. حرية التواصل مع الآخرين تعني أولاً حرية أن نختار من نتواصل معه ومن يمكنه التواصل معنا من خلال الشبكة. التعرف على أشخاص لم يسبق لنا معرفتهم هو أحد المزايا الهامة لشبكة الإنترنت، ولكن ينبغي أن يكون لنا كامل الحرية في تحديد من يتاح لنا التعرف عليهم، بمعنى ألا يمكن لطرف ثالث أن يقرر ذلك بناء على أي معايير أو بيانات يعطي لها أوزانًا بناء على تقييمه. شبكة الإنترنت تتيح لنا انفتاحًا أوسع على البشر الذين قد يكونون مختلفين عنا كثيرًا، ولكن عندما يحدد تطبيق واحد الآلية التي يتاح بها لمستخدمي الشبكة التعرف بها على بعضهم البعض فهو يطبق معايير واحدة على الجميع، وهذا يعني أنه بدلًا من الانفتاح على الناس من شتى البلاد ومن مختلف الأديان والعادات الاجتماعية والاهتمامات إلخ، يفرض علينا تطبيق واحد معايير تحصر من يمكننا التعرف عليهم في من يشبهوننا إلى أقصى حد ممكن. قد يكون ذلك ما يريده بعضنا، ولكن حتى إذا ما كنا نرغب في التعرف على من يشبهوننا فقط، فلابد أن يكون لنا الحق في تحديد أوجه التشابه التي تهمنا، فربما نريد التعرف على من يستخدمون نفس اللغة أو من ينتمون إلى نفس البلد أو حتى نفس المدينة والحي، ولكن قد نريد أيضًا التعرف على من لهم نفس الاهتمامات، التي لن يكون لتطبيق ما القدرة على أن يحددها بالنيابة عنا، و قد يرغب بعضنا في الانفتاح بأكبر قدر ممكن على من لا يشبهونهم. في النهاية لابد أن يكون تواصلنا مع الآخرين خاضع لسيطرتنا نحن وليس أي جهة أخرى.
حرية التعبير واحدة من أهم الحريات التي كانت شبكة الإنترنت تعد بتوسيعها بأكبر قدر ممكن وبإتاحتها للجميع، وتعني أن يكون لأي منا أن يعبر عن آرائه وأفكاره وينقلها إلى الآخرين بأي صورة يمكنهم أن يتلقوها فيها سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية أو خليط من ذلك كله. ينبغي أن يكون ذلك دون أي قيود مسبقة، ودون أي عواقب تمثل خطرًا على سلامة أو حياة من يمارس هذا الحق، وهذا يشمل أيضًا الحق في المجهولية التي أشرنا إليها كجزء من الحق في الخصوصية، ولكنه هنا ضروري أيضًا، طالما يستحيل في مواقف متعددة ألا يجر رأي أو موقف على صاحبه مخاطر مختلفة، مثلًا في ظل نظام حكم استبدادي يلاحق معارضيه، أو أصحاب الآراء التي يحظر هذا النظام تداولها، أو في إطار مجتمع لا يقبل المختلفين عن العادات والتقاليد والأفكار السائدة فيه. لذلك فحرية التعبير على الإنترنت تعني ألا يكون ثمة جهة تفرض قيودًا على ما ينشره أي منا في أي صورة، بأي مبرر، ففي النهاية للجميع الحق في اختيار ما يتلقونه من خلال الشبكة، وبالتالي فبإمكان أي أحد تجنب ما يزعجه أو يعتبره ضارًا، ولكن تحديد ذلك ومعاييره ينبغي فقط أن يتحكم فيها الشخص نفسه، لا أن تقوم عنه جهة ما بهذه المهمة على حساب حرية الآخرين في التعبير عما يشاؤون. حرية التعبير في النهاية تعنى أن يتاح للأفكار والآراء أن تتقاطع وتواجه بعضها بعضًا، وأن يكون لكل منا حق اختيار ما يرضيه منها، ولكن عندما تفرض جهة ما معايير محددة بناءًا على ما تعتقد أنه يرضي الغالبية فهي تساهم في فرض الثقافة السائدة وجمودها وتحاصر فرص التطور والتغيير.
الابتكار والتطوير المستمر هما العمود الفقري لشبكة الإنترنت ولتكنولوجيا الاتصالات والحواسب أيضًا، وفي حين أننا لسنا جميعًا من مطوري البرمجيات أو التكنولوجيا فنحن جميعًا مستفيدون مما ينتجه هؤلاء المطورين. مستقبل الإنترنت، وبالتالي مستقبل استخدامنا لها، يعتمد بشكل كبير على أن يكون للمطورين حرية أكبر في ابتكار تكنولوجيا جديدة تتيح تطوير تطبيقات أفضل وأفضل مع الوقت. اللامركزية تتيح للمطورين عدم التقيد بمنصات برمجية محدودة يكون عليهم تطوير برامجهم لتتوافق معها حتى يمكن أن تصل إلى أكبر عدد من المستخدمين. في نموذج لا-مركزي يمكن لخدمات تستخدم قواعد كود مختلفة أن تتواصل من خلال بروتوكولات موحدة دون الحاجة إلى أن تكون امتدادًا لقواعد الكود الخاصة بمنصة أو أخرى. هذا يعني تطوير خدمات قادرة على التنافس لتقديم الأفضل، وأن يتاح لنا الاختيار فيما بينها بحرية دون التقيد بما يتوافق فقط مع منصة أو أخرى.

مركزية المستخدم لا مركزية الخدمات

إذا أردنا أن نلخص ما تعنيه النقاط السابقة مع بعضها البعض، وكيف يتعلق ذلك بمفهوم المركزية واللامركزية، فيمكننا التعبير عن ذلك بقول أن الإنترنت الحر، كما ينبغي أن يبدو بالنسبة لكل واحد منا، هو شبكة يكون كلًا منا في مركزها. بمعنى أنه كنقطة افتراضية على الشبكة ينبغي أن يكون قادرًا على الاتصال بأي نقطة أخرى عليها وكأنه هو مركز الشبكة الذي يمر به كل شيء. في ظل مركزية الخدمات التي تحدثنا عنها، يعيش المستخدم منعزلًا عن الشبكة ولا يمكنه الوصول إلا إلى ما تتيحه له الخدمة التي أصبح أسيرًا لها. مركزية المستخدم تعني أيضًا أنه وحده من يسيطر على تجربته في التعامل مع الشبكة، فهو يحدد أين توجد بياناته ويختار الطريقة الأنسب لحمايتها، ومن يمكنه أن يصل إليها، ولا تنقطع صلته بها في أي وقت؛ وهو يحدد أي معلومات يريد الوصول إليها، ومن أي مصادر، وحسب أي معايير، وفي أي صورة؛ وهو من يختار من يتواصل معهم ومن يتعرف عليهم وبأي معايير؛ وهو قادر على التعبير عن آرائه وأفكاره بالصورة التي يختارها، ويضمن أن تصل إلى الطرف الذي يختار بنفسه الاطلاع عليها، دون قيود من طرف ثالث.
الإنترنت الحر إذن هو تلك الشبكة التي يكون لنا نحن كمستخدمين حرية استخدام خدماتها المختلفة بالطريقة التي تناسب احتياجاتنا وتناسب أذواقنا دون أن نتعرض لأي مخاطر تطولنا أو تطول بياناتنا. مثل هذه الشبكة التي يكون كل منا في تجربته معها هو مركزها لا يمكن أن يكون لها مركز آخر، بمعنى أنها يجب ألا تكون هي نفسها مركزية. وكما أن شبكة الإنترنت ككيان مادي، كمجموعة من الأجهزة المتصلة ببعضها البعض، ليست مركزية، ومع ذلك تفرض تكنولوجيا تطوير وإتاحة الخدمات من خلالها أن تكون مركزية، فيمكن أيضا لتكنولوجيا بديلة أن تسمح بتطوير وإتاحة خدمات الشبكة بطريقة لا مركزية، ليس هذا ممكن من الناحية النظرية فقط بل هو ممكن في الواقع العملي أيضًا، وثمة العديد من التكنولوجيا المتاحة بالفعل والقادرة على دعم إنترنت لا-مركزي.
في الجزء التالي من “الإنترنت الحر الذي نريده”، سنتعرض لبدائل المركزية وكيف يمكن أن تتيحها تكنولوجيا بديلة،روما هي الأمثلة المتاحة لهذه التكنولوجيا.