
مقدمة
خلال مرحلة إعداد دستور عام 2014، دار نقاش واسع حول ضرورة وضع إطار تشريعي موحد ينظم عمل وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، وقد تجسدت هذه الرؤية في قانون تنظيم الصحافة والإعلام. وقد أدى صدور القانون وما تبعه من لوائح تنفيذية، وعلى رأسها لائحتي التراخيص والجزاءات إلى تحولًا جذريًا ترخيص المواقع الإلكترونية في مصر.
إلا أن القانون لم يقتصر على تنظيم قواعد إنشاء وسائل الإعلام التقليدية وعملها، بل توسّع ليشمل جميع أشكال المواقع الإلكترونية، بما في ذلك المواقع التابعة للكيانات التجارية والنقابية والجمعيات والأندية، وهو ما مثّل تحولًا جوهريًا نحو استخدام التنظيم القانوني كأداة رقابية على أشكال التعبير الرقمي المختلفة.
وقد منح هذا التوسع غير المسبوق المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام صلاحية ترخيص هذه المواقع، وبالتالي مراقبة المحتوى المنشور عليها. كما سعى المجلس إلى فرض قواعد تنظيمية على الحسابات الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي التي يتجاوز عدد متابعيها خمسة آلاف متابع، ما يُعد امتدادًا واضحًا لمنطق الرقابة إلى المجال الخاص والتعبير الشخصي.
ويُترجم هذا الواقع التشريعي في الممارسة العملية إلى اتساع دائرة الاتهامات المتعلقة بإدارة مواقع إلكترونية دون الحصول على الترخيص المطلوب، الأمر الذي يُثير تساؤلات قانونية وحقوقية حول مدى مشروعية هذه الاتهامات والأساس القانوني الذي تستند إليه.
وفي هذا السياق، تهدف هذه الورقة إلى رصد التحولات القانونية والتنظيمية التي طرأت منذ إقرار دستور 2014 وحتى صدور قانون تنظيم الصحافة والإعلام في عام 2018، مع تقييم المشهد بعد مرور نحو سبع سنوات على تطبيق القانون. كما تسعى الورقة إلى تحليل الأثر التشريعي لتطبيق نصوص القانون داخل أروقة المحاكم المصرية، من خلال اختبار دقة الصياغات القانونية، ورصد آثارها الفعلية على حرية التعبير الرقمية، وعلى بيئة عمل المواقع الإلكترونية على اختلاف أنواعها.
أولًا: الإطار الدستوري الحاكم لعمل المواقع الإلكترونية
لم يتضمن الدستور المصري الصادر في عام 2014 أحكامًا مستقلة تنظم بصورة مباشرة عمل المواقع الإلكترونية في مصر. فلم ينص على إصدار تشريع يحدد ضوابط وشروط تشغيلها، أو الجهات المختصة بالإشراف عليها، كما لم يوفر ضمانات قانونية خاصة لحماية حريتها واستقلالها.
ومع ذلك، تضمّن الدستور بعض الجوانب التنظيمية والحمائية المتعلقة بعمل المواقع الإلكترونية من خلال تقاطعها مع عدد من الحقوق والحريات الأساسية. إذ أقرّ الدستور التزام الدولة بحماية حق المواطنين في استخدام وسائل الاتصال العامة بجميع أشكالها، وعدم جواز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها بشكل تعسفي.1 بالإضافة إلى الحقوق الأخرى التي ترتبط مباشرة بالمواقع الإلكترونية ترتبط حرية عمل المواقع الإلكترونية مثل حرية التعبير وحق الحصول على المعلومات، وغيرها من الحقوق الواردة في باب الحقوق والحريات.
إلّا أن الدستور قد خصّ بالذكر المواقع الإلكترونية العاملة في مجال الصحافة والإعلام، التي أشار إليها بعبارة “الصحف الإلكترونية”. ونصّ على عدد من الضوابط المتعلقة بالحق في تملك وسائل الإعلام وإصدارها، بما يشمل الصحافة الرقمية، مع التأكيد على ضمان حريتها.
في هذا السياق، ميّز المشرّع الدستوري بين درجات حرية إصدار وسائل الإعلام، فنص على إنشاء وإصدار الصحف الورقية بموجب الإخطار، بينما أرجأ تنظيم إجراءات إصدار الصحف الإلكترونية إلى إطار قانوني خاص يتضمن اشتراطات ترخيص. كما أحال الجوانب التنظيمية المرتبطة بملكية وإدارة الصحف الإلكترونية إلى القانون.2
لاحقًا، صدر قانون تنظيم الصحافة والإعلام عام 2018، والذي منح المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام صلاحيات واسعة، شملت إصدار التراخيص لكافة أنواع المواقع الإلكترونية العاملة في مصر، وليس الصحفية فقط. ويمثل هذا التوسّع تجاوزًا لنية المشرّع الدستوري، ويستدعي الرجوع إلى مناقشات لجنة الخمسين المكلفة بصياغة دستور 2014 لفهم المقاصد الأصلية من النصوص الدستورية وحدود السلطات التنظيمية الممنوحة للقانون.
وقد تضمّن المقترح المقدم من نقابة الصحفيين للمادة 70 النص التالي:
“حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووثائق الإعلام الرقمي. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الإلكترونية.”
أما الصيغة النهائية التي أُقرت وأصبحت نافذة فجاءت كما يلي:
المادة 70: “حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الإلكترونية.”
وقد كشفت مناقشات لجنة الخمسين أثناء وضع المادة عن تركيز واضح على الجوانب التنظيمية الخاصة بـ”الصحف الإلكترونية”، دون أي إشارة إلى المواقع الإلكترونية غير الصحفية. بل إن اللجنة ناقشت صراحة عدم جواز إخضاع صفحات التواصل الاجتماعي لأي قواعد تنظيمية.
فقد أكّد ضياء رشوان، نقيب الصحفيين آنذاك وممثل النقابة في اللجنة، أن المادة تتناول جانبين. الأول يتعلق بحرية الصحافة والنشر بمختلف أشكالها، بما فيها الوسائط الرقمية، والتي لا يجوز إخضاعها لتنظيم قانوني مباشر كصفحات التواصل الاجتماعي، نظرًا لصعوبة، بل استحالة، تنظيمها. أما الجانب الثاني، فيرتبط بإصدار الصحف الورقية الذي يتم بموجب الإخطار، بينما تخضع وسائل الإعلام المرئي والمسموع والصحف الإلكترونية لإجراءات تنظيمية خاصة بحكم طبيعتها الفنية والتقنية.
يتضح مما سبق أن المشرّع الدستوري لم يفرض قواعد تنظيمية أو حمائية صريحة للمواقع الإلكترونية غير الصحفية، مما أتاح للمشرّع البرلماني لاحقًا توسيع نطاق التنظيم القانوني ليشمل هذه المواقع تحت مظلة “الصحف الإلكترونية”، دون مسوّغ دستوري واضح. ونتيجة لذلك، فقدت هذه المواقع أي ضمانات تقيها من تدخلات السلطة التنفيذية أو الجهات الإدارية، بما يشكّل مساسًا مباشرًا بحرية التعبير الرقمية واستقلالية الفضاء الإلكتروني.
ثانيًا: إشكالية إلزام كافة المواقع العاملة في مصر بالحصول على ترخيص
قبل صدور قانون تنظيم الصحافة والإعلام عام 2018، لم يكن هناك إطار قانوني ملزم ينظم عمل المواقع الإلكترونية بوجه عام. واكتفى بعض القائمين على إدارة المواقع الإلكترونية باستخراج شهادة تسجيل وإيداع من مكتب حماية حقوق الملكية الفكرية التابع لهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات، أو شهادة استخدام للمصنفات الفنية تصدرها الإدارة العامة للتراخيص الفنية بوزارة الثقافة المصرية.
غير أن صدور القانون مثّل نقطة تحوّل جوهرية، حيث أسند حصريًا إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام سلطة منح تراخيص عمل المواقع الإلكترونية. وقد استخدم القانون صياغات عامة توحي، للوهلة الأولى، بأن جميع المواقع الإلكترونية العاملة داخل مصر، بصرف النظر عن طبيعة نشاطها، مطالبة بالحصول على ترخيص من المجلس لمزاولة نشاطها.
إلّا أن القراءة المتأنية لنصوص القانون، وتحليلها في ضوء أحكام الدستور، تقود إلى نتيجة مغايرة. إذ تبدأ إشكالية غموض الوضع القانوني للمواقع الإلكترونية من نص المادة 6 من القانون، التي تقرر:
“لا يجوز تأسيس مواقع إلكترونية في جمهورية مصر العربية، أو إدارتها، أو إدارة مكاتب أو فروع لمواقع إلكترونية تعمل من خارج الجمهورية، إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من المجلس الأعلى وفق الضوابط والشروط التي يضعها في هذا الشأن. ومع عدم الإخلال بالعقوبات الجنائية المقررة، للمجلس الأعلى في حالة مخالفة أحكام الفقرة السابقة اتخاذ الإجراءات اللازمة، بما في ذلك إلغاء الترخيص، أو وقف نشاط الموقع أو حجبه، في حالة عدم الحصول على ترخيص سار، ولذوي الشأن الطعن على القرار الصادر بذلك أمام محكمة القضاء الإداري.”
وقد ساهمت نماذج طلبات الترخيص المنشورة على الموقع الرسمي للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في تعميق حالة الغموض، حيث نُشرت تسعة نماذج لتراخيص أنواع متعددة من المواقع الإلكترونية. شملت هذه النماذج نماذج لمواقع تابعة للهيئة الوطنية للإعلام، ومواقع ذات ترخيص أجنبي، ومواقع إلكترونية يملكها أشخاص طبيعيون أو شركات، فضلًا عن مواقع تخص جهات اعتبارية عامة وجهات علمية وبحثية وثقافية، وأخرى تابعة لأحزاب سياسية، أو نقابات، أو جمعيات، أو اتحادات، أو أندية. كما تضمنت النماذج نموذجًا لموقعًا إلكترونيًا حاصلًا على ترخيص أجنبي، ونموذجًا لموقع يقدم خدمات إخبارية آنية للصحف أو الوسائل الإعلامية.
ويتبين من هذه النماذج أن المجلس توسّع في إخضاع طيف واسع من المواقع الإلكترونية لضوابط الترخيص، بما يشمل مواقع لا تمارس أنشطة صحفية أو إعلامية، وهو توسّع غير مبرر قانونًا.
غير أن تحليل المادة 6 في ضوء التعريفات الواردة بالقانون يقود إلى تفسير مختلف. فقد عرّف القانون الموقع الإلكتروني بأنه: “الصفحة أو الرابط أو التطبيق الإلكتروني المرخص له والذي يقدم من خلاله محتوى صحفي أو إعلامي أو إعلاني، نصيًا كان أو سمعيًا أو مرئيًا ثابتًا أو متحركًا أو متعدد الوسائط، ويصدر باسم معين، وله عنوان ونطاق إلكتروني محدد، وينشأ أو يستضاف أو يتم النفاذ إليه من خلال شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت).”3
كما عرّف القانون الخدمات الإعلامية أو الإعلانية التجارية الإلكترونية بأنها: “المحتوى المتضمن الترويج للأعمال أو الخدمات أو المنتجات أو الأشخاص من خلال شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت).”
ومن ثم، يتضح أن نطاق الخضوع للقانون ينحصر في المواقع التي تقدم محتوى صحفيًا أو إعلاميًا أو إعلانيًا، دون أن يمتد ليشمل المواقع ذات الطبيعة غير الإعلامية، مثل مواقع الشركات التجارية أو النقابات أو الجمعيات أو الأندية، التي وردت في نماذج الترخيص دون سند صريح في القانون.
ويدعم هذا التفسير الطابع الوظيفي للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والذي حصر القانون اختصاصاته في المادة 70 ضمن 24 بندًا، تركز معظمها على تنظيم وسائل الإعلام الصحفية والمرئية والمسموعة والرقمية. ولم يتطرق أي من هذه الاختصاصات إلى المواقع الإلكترونية غير الإعلامية، باستثناء بند وحيد يتعلق بوضع ضوابط تحصيل الضرائب على الإعلانات المنشورة على المواقع الإلكترونية والمدونات والحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي.
إذ تنص المادة 70 من القانون على أن المجلس الأعلى للإعلام يباشر اختصاصاته لتحقيق أهدافه، وتشمل أبرزها الترخيص لوسائل الإعلام، والصحف، والقنوات، والمنصات الإعلامية، بالإضافة إلى وضع الضوابط المهنية والأخلاقية، ومراقبة مصادر التمويل، ومراجعة المحتوى الإعلاني، ووضع قواعد التعامل مع المراسلين الأجانب، والنظر في الشكاوى واتخاذ الإجراءات المناسبة بشأنها. وباستقراء كافة هذه الاختصاصات، يتضح أن القانون خوّل المجلس دورًا تنظيميًا يقتصر على الأنشطة الإعلامية والصحفية، مع استثناء محدود يتعلق بالإعلانات على الوسائط الرقمية.
وبالتالي، فإن التوسّع الذي انتهجه المجلس الأعلى للإعلام في فرض الترخيص على المواقع غير الصحفية أو الإعلامية، لا يستند إلى أساس دستوري أو قانوني، ويمثل تجاوزًا لاختصاصاته، ما يهدد حرية التعبير والحق في الاتصال الرقمي خارج الإطار الصحفي التقليدي.
ثالثا: المواقع الإلكترونية المستثناة صراحة من ضوابط الحصول على الترخيص
تناول قانون تنظيم الصحافة والإعلام بشكل مباشر مسألة خضوع ما يُعرف بـ”الكيانات والمؤسسات والوسائل الصحفية والإعلامية والمواقع الإلكترونية” لأحكامه. وأشار صراحة إلى بعض الفئات المستثناة من تطبيق أحكامه، محددًا هذه الفئات على سبيل الحصر، وهي الموقع الإلكتروني الشخصي، والوسيلة الإلكترونية الشخصية، والحساب الإلكتروني الشخصي.
إلا أن القانون ولائحته التنفيذية أخفقا في تقديم تعريفات واضحة لهذه الفئات الثلاث، وهو ما يُعد خللًا تشريعيًا بيّنًا ساهم في تعميق الالتباس الذي تواجهه جهات إنفاذ القانون والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام عند التطبيق. فبينما عمد القانون إلى تعريف الجهات الخاضعة لأحكامه، فإنه لم يُقدّم بالمقابل تعريفًا دقيقًا للفئات المستثناة، بالرغم من أن التشريع المصري لم يسبق له أن وضع تعريفات واضحة لمصطلحات من قبيل “الموقع الشخصي” أو “الحساب الشخصي” أو “الوسيلة الشخصية” قبل صدور هذا القانون.4
وفي محاولة لسدّ هذا الفراغ، أدرج المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بعض التعريفات العامة في لائحة تنظيم التراخيص، فجاء تعريف “الموقع الإلكتروني الشخصي” بأنه الموقع الذي ينشئه فرد على شبكة الإنترنت لعرض سيرته الذاتية أو اهتماماته أو هواياته أو أفكاره. أما “الحساب الشخصي”، فتم تعريفه بأنه حساب إلكتروني على أحد المواقع يُستخدم لنفس الأغراض.
ورغم ذلك، لم تتضمن اللائحة تعريفًا صريحًا لمفهوم “الوسيلة الإلكترونية الشخصية”، وإن كان يمكن استنتاج معناها ضمنيًا من خلال الربط بين تعريف “الحساب الشخصي” وتعريف “مواقع التواصل الاجتماعي”، التي عرّفتها اللائحة بأنها المواقع الإلكترونية التي تتيح للمستخدمين تبادل المحتوى بكافة أشكاله عبر شبكة الإنترنت.
وعلى الرغم من هذه المحاولات التعريفية، فإن معالجة هذا القصور تثير إشكاليتين. أولًا، لا يجوز من الناحية القانونية أن تُترك مسألة تحديد نطاق تطبيق القانون وتعريف الفئات الخاضعة أو المستثناة منه للقرارات اللائحية الصادرة عن جهة إدارية، كالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. وثانيًا، فإن التعريفات الواردة باللائحة تتسم بقدر كبير من العمومية والسطحية، ما يعكس غياب الجهد التشريعي الكافي، ويؤكد أن هذه التعريفات جاءت لتدارك خلل في البناء الأصلي للقانون أكثر من كونها تأسيسًا منضبطًا لنطاق سريانه.
وإلى جانب ما تقدم، ترك القانون منطقة رمادية بين الفئات الملزمة بالترخيص وتلك المستثناة منه. فهناك طيف واسع من المواقع الإلكترونية لا يندرج تحت وصف الصحفية أو الإعلامية أو الإعلانية أو الشخصية، ولا تجد موقعًا واضحًا ضمن خريطة القانون. هذه الفجوة تؤدي إلى إشكالية قانونية حقيقية، لأن القوانين التنظيمية، بطبيعتها، يفترض أن تتسم بالوضوح والدقة، وأن تُحدد الجهات المخاطبة بأحكامها على سبيل الحصر، دون توسع أو قياس.
وعليه، فإن أية فئة لم يرد ذكرها صراحة في نصوص القانون يجب أن تُستبعد من نطاق الإلزام، ولا يجوز إخضاعها لضوابط الترخيص، كما لا ينبغي تعريضها للعقوبات المترتبة على مخالفة هذه الضوابط. هذا النهج وحده هو الكفيل بحماية مبدأ اليقين القانوني، وضمان عدم التعدي على حرية الاستخدام الرقمي للمواطنين خارج الأطر الإعلامية الصريحة.
رابعًا: شروط ومحددات تحقق جريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص
تُعد جريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص كغيرها من الجرائم التي تتطلب لتحقّقها توافر شروط محددة، ويترتب على غياب أحد هذه الشروط انتفاء الجريمة. غير أن هذا الافتراض يستند ضمنًا إلى وضوح الجريمة وتحديد أركانها، وإمكانية التحقق من توافرها مجتمعة. إلا أن الواقع منذ صدور قانون تنظيم الصحافة والإعلام يُظهر غياب اجتهاد قضائي واضح يفسر نصوص هذا القانون بشكل عام، وبوجه خاص المادتين 6 و105 المتعلقتين بجريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص.
فعمليًا، نادرًا ما يتم توجيه اتهام مستقل لشخص أو كيان قانوني على خلفية هذه الجريمة وحدها. إذ غالبًا ما تُقرَن باتهامات أخرى مثل إدارة موقع بغرض ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا، وهي الجريمة المنصوص عليها في المادة 27 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، أو اتهامات بنشر أخبار كاذبة، أو جرائم السبّ والقذف، وغيرها من الجرائم المرتبطة بالمحتوى المنشور.
وقد لوحظ تميل المحاكم إلى التركيز في الغالب على الجرائم المصاحبة، وتعتمد في توصيف الجريمة وتكييفها القانوني على الإفادة الصادرة عن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والتي تُبيّن ما إذا كان الموقع المعني حاصلًا على ترخيص أم لا.
وانطلاقًا من هذا الواقع، فستقُدّم هذه الورقة قراءة مباشرة لنصي المادتين 6 و105 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، بهدف استنباط الشروط القانونية اللازمة لقيام الجريمة، وتحليل السيناريوهات المحتملة لتفسيرها، ومن ثم الوقوف على المعايير التي يجب توافرها لتحقّق الجريمة من الناحية القانونية.
1. شرط إدارة الموقع الإلكتروني من داخل مصر لتحقق جريمة إدارة موقع بدون ترخيص
يُعد شرط إدارة الموقع الإلكتروني من داخل إقليم الدولة المصرية أحد العناصر الجوهرية اللازمة لقيام جريمة إدارة موقع بدون ترخيص. ومع ذلك، لا تزال النصوص القانونية المنظمة لعمل المواقع الإلكترونية، وعلى رأسها قانون تنظيم الصحافة والإعلام وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، تدور في حلقة مفرغة في ما يتعلق بضوابط الاختصاص المكاني، أي المكان الذي تُرتكب فيه الجريمة، حين تكون الوسيلة المستخدمة موقعًا إلكترونيًا أو حسابًا على وسائل التواصل الاجتماعي.
في هذا السياق، نصّت المادة 6 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام على شكلين رئيسيين لوقوع جريمة إدارة موقع بدون ترخيص. الأول، تأسيس أو إدارة موقع إلكتروني داخل جمهورية مصر العربية، والثاني، إدارة مكاتب أو فروع لمواقع إلكترونية تعمل من خارج الدولة.
ورغم أن المشرّع لم يُميز صراحة بين مصطلحي “التأسيس” و”الإدارة”، إلا أنه يُفهم ضمنًا أن التأسيس يُقصد به الشروع في إنشاء الموقع الإلكتروني، حتى وإن لم يبدأ نشاطه بعد. وهذا التفسير يُوسّع من نطاق التجريم بشكل غير مبرر، إذ أن مرحلة التأسيس أو البث التجريبي لا تعني بالضرورة أن الموقع سيبدأ العمل فعليًا. كما أن اشتراط الترخيص المسبق قبل تدشين الموقع يفرض عبئًا غير عملي على أصحاب المواقع، خاصة وأن من ضمن متطلبات الحصول على الترخيص تحديد نطاق وعنوان الموقع، ما يعني ضرورة وجود الموقع فعليًا قبل التقدم بالترخيص، وهو تناقض تشريعي واضح.
تُضاف إلى هذه الإشكالية مسألة غموض المقصود بـ”الإدارة من داخل مصر”. هل يُقصد بها مكان استضافة الموقع (الخوادم)، أم المقر القانوني للكيان المسؤول عن تشغيله، أم مكان تواجد الشخص أو الأشخاص القائمين على تشغيل الموقع ومتابعة محتواه.5
وقد حاولت إحدى الدوائر الاقتصادية بالمحاكم المصرية، في أحد أحكامها، أن تضع تأويلًا لمفهوم “الإدارة من داخل مصر”. ففي قضية تتعلق باتهام سيدة بتأسيس وإدارة موقع إلكتروني وقناة على يوتيوب دون ترخيص، أشارت المحكمة إلى ما ورد في التقرير الفني الذي بيّن أن الموقع محل الاتهام يُبث من خوادم تقع في ألمانيا، وأن الإدارة الفنية للموقع يتولاها شخص آخر ، لم يتم توجيه اتهام له، ولم يُقدّم للمحاكمة. وانتهت المحكمة، بناءً على ذلك، إلى تبرئة المتهمة لعدم توافر الدليل القاطع على قيامها بإدارة الموقع، ومن ثم انتفاء أحد الشروط الأساسية لقيام الجريمة.6
ويُفهم من حيثيات الحكم أن المحكمة أولت أهمية لمكان استضافة الموقع وتواجد الشخص الذي يديره فعليًا، ولم تكتفِ بتقرير المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. وعلى الرغم من أن الحكم لم يؤسس البراءة حصرًا على عنصر “الإدارة من داخل مصر”، فإنه انطلق من قاعدة مفادها أن جميع الشروط القانونية للجريمة يجب أن تتحقق مجتمعة، ومن بينها شرط الإدارة من داخل القُطر المصري.
2. المسؤولية الجنائية عن الإدارة ” الفعلية ” للموقع الإلكتروني
تشترط جريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام توافر عناصر محددة. وكما أشرنا سابقًا، فإن المادة 6 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام ساوت بين مصطلحي “الإدارة” و”التأسيس”. مصطلح “الإدارة” أيضًا لم يحظَ بتوضيح كافٍ، رغم أنه يُشكّل الفعل الجوهري الذي يُرتّب المسؤولية الجنائية.
إن غياب التحديد الدقيق لفعل “الإدارة” يطرح تساؤلات حول المقصود به، هل تشير الإدارة إلى مسؤولية الكيان القانوني (الشخص الاعتباري) عن الموقع، أم أنها تُسند إلى الأفراد القائمين فعليًا على تشغيل الموقع الإلكتروني غير المرخّص، أم أن المسؤولية تُوزّع تضامنيًا بين الكيان القانوني والمدير الفعلي. وهذه التفرقة ليست تفصيلًا شكليًا، بل تمثل الأساس الذي يُبنى عليه نطاق المسؤولية الجنائية.
إذا افترضنا أن المشرّع يقصد بالإدارة المسؤولية القانونية للكيان الاعتباري، فهناك شواهد تُعزز هذا التفسير، من أبرزها العقوبة التكميلية المنصوص عليها في المادة 105 من القانون، التي تقضي بـ”الغلق ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استُعملت في ارتكاب الجريمة”. وهذه العقوبة بطبيعتها تُوجَّه إلى كيان يمكن غلقه فعليًا، وهو ما يصعب تصوره في حالة الأفراد.
أما إذا اعتبرنا أن المقصود بالإدارة هو الإشراف الفعلي على تشغيل الموقع، فإن المسؤولية الجنائية تقع حينها على الأفراد القائمين على الإدارة الفنية أو التحريرية. وفي هذه الحالة، يصبح من الضروري أن يُحدد القانون بشكل واضح خصائص هذا النوع من الإدارة، حتى لا تُترك مسألة الإسناد لتقديرات متباينة.
وعلى سبيل الاسترشاد والتفسير يمكن الإشارة إلى تجربة المشرّع في قوانين أخرى، مثل المادة 65 مكررًا من قانون سوق رأس المال، التي تجرّم تأخير تسليم القوائم المالية إلى الهيئة العامة لسوق المال. وقد نصّت المادة 68 من ذات القانون على مساءلة الشخص المسؤول عن الإدارة الفعلية في الشركة، وهو الشخص الذي أوكلت إليه مهام مباشرة تتصل بالفعل الإجرامي موضوع التجريم، حتى وإن ارتكبه باسم الشركة أو لحسابها. ويؤسس هذا النموذج لفكرة محورية مفادها أن العقوبة يجب أن يتحملها من يرتكب الفعل بشكل شخصي، وهو ما يتسق مع مبدأ شخصية العقوبة.7
كما وتؤكد المحكمة الدستورية العليا هذا المعنى في أحكامها، حيث قررت أن الأصل في العقوبة أنها لا تُوقَّع إلا على من ثبتت مسؤوليته عن الجريمة، وأنها يجب أن تكون متناسبة مع طبيعتها. وقد جاء في أحد أحكامها: “أن الأصل في الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسؤول عنها، وهي عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة موضوعها، بما مؤداه أن الشخص لا يُؤاخذ إلا عن فعله، وأن الجريرة لا تُنسَب إلا إلى مرتكبها”.
وبالتالي، فإن غياب نص صريح في قانون تنظيم الصحافة والإعلام يُحدد طبيعة المسؤولية الجنائية عن الإدارة الفعلية للمواقع الإلكترونية، يُعد إخلالًا بالضمانات القانونية الأساسية. وكان الأجدر بالمشرّع أن يضع تحديدًا دقيقًا وواضحًا للفاعل المسؤول، بما ينسجم مع المبادئ الدستورية المستقرة ويمنع اللبس في التطبيق.
3. الفئات الخاضعة لضوابط الحصول على ترخيص
من خلال ما ورد في قانون تنظيم الصحافة والإعلام ولائحته التنفيذية، وما تضمنه من تعريفات وتصنيفات تنظيمية تتعلق بضوابط التراخيص وشروطها، إضافة إلى نطاق العقوبات والاستثناءات المنصوص عليها، يمكن استخلاص وجود ثلاث فئات رئيسية للمواقع الإلكترونية التي يشملها نطاق القانون.
الفئة الأولى تشمل المواقع الإلكترونية العاملة في مجال الصحافة والإعلام. ورغم أن القانون ذاته لم يضع تعريفًا صريحًا لهذه المواقع، فإن لائحة التراخيص قدمت تعريفين رئيسيين. الأول هو “الموقع الإلكتروني الإخباري”، ويُقصد به الموقع المتخصص في تقديم الخدمات الإخبارية وبث الأخبار بشكل لحظي أو المواد المرتبطة بها. والثاني هو “الصحيفة الإلكترونية”، التي يُعرّفها النص بأنها كل إصدار إلكتروني يتولى تحريره صحفيون نقابيون، ويصدر باسم موحّد، بصفة دورية منتظمة، عن شخص طبيعي أو اعتباري مصري، عام أو خاص، ووفقًا للقواعد القانونية المعتمدة. وتخضع هذه المواقع، إضافة إلى المواقع الإلكترونية التابعة لوسائل إعلامية مرئية أو مسموعة، لضوابط الترخيص الصادرة عن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
الفئة الثانية تتعلق بالمواقع الإلكترونية ذات الطابع الإعلاني، والتي عرفها القانون بأنها تلك التي تقدم “محتوىً يتضمن الترويج للأعمال أو الخدمات أو المنتجات أو الأشخاص من خلال شبكة الإنترنت”. وتنطبق عليها ذات الالتزامات بالحصول على ترخيص من المجلس الأعلى.
أما الفئة الثالثة، فهي المواقع الإلكترونية الشخصية، والتي عرّفتها لائحة التراخيص بأنها المواقع التي ينشئها الأفراد عبر الإنترنت لعرض سيرهم الذاتية أو اهتماماتهم أو أفكارهم أو هواياتهم. وهذه المواقع مستثناة صراحةً من الخضوع لضوابط الترخيص، بموجب المادة الأولى من مواد إصدار القانون، رغم أن القانون يمنح المجلس سلطة حجب هذه المواقع في حال مخالفتها للمادة 19 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام.
تؤسس هذه التقسيمات الثلاثة لشرط جوهري لقيام جريمة إدارة موقع بدون ترخيص، يتمثل في أن يكون الموقع مندرجًا ضمن الفئات الملزمة قانونًا بالحصول على الترخيص، وهي فئات محصورة تحديدًا في المواقع الصحفية والإعلامية والإعلانية. ورغم أن تعريف “المحتوى الإعلاني” يفتقر إلى الدقة والوضوح، خاصة في ظل اتساع النطاق المفترض له، إلا أن الفهم السليم يستدعي التمييز بين المواقع التي تمارس نشاطًا إعلانيًا مهنيًا لمصلحة الغير أو تعمل في التجارة الإلكترونية، وبين تلك التي قد تتضمن محتوى ترويجيًا عرضيًا.
وبناء عليه، فإن المواقع غير الداخلة في هذه الفئات الثلاث لا تندرج تحت نطاق التجريم المنصوص عليه في المادة 6 من القانون، ولا يجوز مساءلة مسؤوليها عن تهمة إدارة موقع بدون ترخيص. ويُعد توسيع المجلس الأعلى للإعلام لنطاق الخضوع القانوني ليشمل مواقع النقابات، والجمعيات، والأندية، والكيانات غير الصحفية، خروجًا عن النص وتجاوزًا لاختصاصه، حتى وإن أرفق ذلك بنماذج ترخيص منشورة.
وعليه، ينبغي على جهات التحقيق التحقق أولًا من طبيعة نشاط الموقع الإلكتروني قبل توجيه الاتهام، وعدم الركون إلى رأي فني أو تقرير يصدره المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بشأن مواقع لا تدخل ضمن نطاق اختصاصه. فاختصاص المجلس ينحصر في المواقع الإعلامية والإعلانية فقط، وأي رأي صادر منه بشأن مواقع أخرى لا يُعتد به قانونًا، ويُعد من قبيل الآراء غير المؤثرة في المسار القانوني للتحقيق، ولا تصلح وحدها أساسًا لتحريك الدعوى الجنائية أو توجيه الاتهام.
خامسًا: حسابات مواقع التواصل الاجتماعي غير ملزمة بضوابط الترخيص
ورد استثناء الحسابات والمواقع الشخصية صراحةً في المادة الأولى من مواد إصدار قانون تنظيم الصحافة والإعلام. إلا أن غياب تعريف دقيق وواضح للفئات المستثناة من نطاق تطبيق القانون – كما أشرنا سابقًا – أدى في بعض الحالات إلى تعرّض بعض مستخدمي الحسابات الشخصية لاتهامات جنائية تتعلق بإدارة حساب إلكتروني بدون ترخيص.
فعلى سبيل المثال، في إحدى القضايا المنظورة أمام المحكمة الاقتصادية بالقاهرة، كيفّت النيابة العامة وقائع النشر عبر قناة على منصة “يوتيوب” على نحو يثير التساؤل حول مدى خضوع القناة للترخيص من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. وبناءً عليه، خاطبت النيابة المجلس الأعلى للإعلام لطلب الإفادة حول الموقف القانوني للقناة وموقع إلكتروني مرتبط بها. ورد المجلس الأعلى للإعلام بالقول إن الرابط الإلكتروني محل القضية والقناة المنشأة على منصة يوتيوب غير حاصلين على ترخيص من المجلس.
اعتمدت النيابة في تحريك الاتهام على هذا الخطاب، الذي خلط بين تأسيس موقع إلكتروني وإنشاء قناة على منصة تواصل اجتماعي. ولم تلتفت النيابة إلى هذا الخلط في التكييف القانوني، بل بنت عليه إجراءات الاتهام. غير أن المحكمة الاقتصادية بالقاهرة خلُصت في حكمها إلى غياب الدليل اليقيني المقبول على قيام المتهمة الأولى بتأسيس أو إدارة الموقع الإلكتروني محل الواقعة، مشيرة إلى أن شخصًا آخر يُدعى “مايكل ميلاد” هو من يدير الموقع، وأن النيابة لم توجّه له أي اتهام أو تُقدّمه للمحاكمة.8
أما فيما يتعلق بالقناة على يوتيوب، فقد بيّنت المحكمة أن المادة 6 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام تُطبّق فقط على تأسيس وإدارة المواقع الإلكترونية، وليس على الحسابات الشخصية أو قنوات منصات التواصل الاجتماعي. وقررت المحكمة أن هذا النوع من الحسابات لا يدخل ضمن نطاق التنظيم الذي يخضع لاشتراطات الترخيص المنصوص عليها في القانون، وقضت ببراءة المتهمة من التهم المسندة إليها.
ويكشف هذا الحكم عن إدراك قضائي سليم للفارق بين المواقع الإلكترونية المنظمة بموجب القانون، والحسابات الشخصية التي لا تخضع لنطاقه. كما يسلط الضوء على ممارسة خاطئة من جانب المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الذي يحاول التوسّع في فرض سلطته لتشمل الحسابات والقنوات الشخصية، ليس فقط في ما يتعلق بالمحتوى المنشور، بل حتى في ما يخص مشروعية الإنشاء والإدارة، وهو توسّع يفتقر إلى السند القانوني.
وبالإضافة إلى افتقار هذا التوسع للأساس القانوني، فإن الواقع العملي يؤكد استحالة فرض التزام شامل على جميع أصحاب الحسابات الشخصية بالحصول على تراخيص من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. ومع ذلك، فإن خطر التطبيق الانتقائي يظل قائمًا، إذ يمكن أن تُستهدف بعض الحسابات دون غيرها، في ممارسات قد تحمل طابعًا تمييزيًا أو انتقاميًا، وهو ما يهدد مبدأ المساواة أمام القانون ويقوّض الشرعية الإجرائية.
سادسًا: الأثر المترتب على مخالفة ضوابط الحصول على ترخيص
أفرد قانون تنظيم الصحافة والإعلام بابًا مستقلًا للعقوبات المقررة بحق المؤسسات الإعلامية، إلا أن المادة 6 من القانون تضمّنت عقوبة خاصة بجريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص. ورغم أن تحليلنا السابق أوضح أن الفئات الملزمة بالحصول على ترخيص تقتصر على المواقع الإعلامية والإعلانية، فإن الواقع العملي يُظهر اتساعًا في تفسير المادة 6 من قبل جهات التحقيق والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ما أدى إلى توجيه اتهامات لمواقع لا تندرج ضمن هذا النطاق.
وقد حدّدت المادة 105 من القانون العقوبة المقررة لمخالفة المادة 6، على النحو التالي:
يعاقب بالغرامة التي لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد على ثلاثة ملايين جنيه، كل من خالف أحكام المواد (6، 41، 59، 67) من هذا القانون. وتقضي المحكمة، فضلًا عن ذلك، بالغلق ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استُعملت في ارتكاب الجريمة.
يتضح من ذلك أن المشرّع اختار تشديد العقوبة المالية المقررة على جريمة إدارة موقع بدون ترخيص إلى درجة مبالغ فيها، إذ تُعد من أشد العقوبات المالية في قانون تنظيم الصحافة والإعلام. ففي حين تراوحت أغلب العقوبات المالية المنصوص عليها في القانون بين خمسين ألف جنيه ومليون جنيه في حدها الأقصى، جاءت عقوبة هذه الجريمة بحد أدنى يبلغ مليون جنيه، وحد أقصى يصل إلى ثلاثة ملايين جنيه، دون وجود سبب منطقي يتناسب مع طبيعة الجُرم.
وتزداد المفارقة وضوحًا عند المقارنة مع المادة 104 من القانون، التي تُجرّم أفعالًا عمدية مثل اعتراض أو تعطيل أو تشويش موجات بث إذاعي أو تليفزيوني، وتُوقّع عليها نفس الغرامة المالية التي تُفرض على إدارة موقع بدون ترخيص. هذا التماثل في العقوبة بين جريمة ذات طبيعة تقنية عدوانية تمس البث العام، وجريمة تنظيمية بحتة تتعلق بالترخيص، يُعد إخلالًا جسيمًا بمبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة.
وإلى جانب الغرامة المالية، تنص المادة 105 على عقوبات تكميلية تشمل الغلق ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استُخدمت في ارتكاب الجريمة. وهذه العقوبات التكميلية، كالعقوبة الأصلية، تعاني من المبالغة وعدم التناسب، فضلًا عن غموضها من حيث مدى انطباقها على الأفراد مقارنة بالكيانات القانونية، مما يفتح الباب أمام تعسف محتمل في تطبيقها.
ومن ثم، فإن العقوبة المقررة لجريمة إدارة موقع بدون ترخيص، سواء في شقها المالي أو التكميلي، تُظهر خللًا واضحًا في بنية القانون العقابية، وتستدعي مراجعة تشريعية تراعي طبيعة الجريمة، والفئات الخاضعة لأحكام القانون، ومبدأ التناسب الذي يُعد ركيزة أساسية في العدالة الجنائية.
1. العقوبات التي تضمنها قانون تنظيم الصحافة والإعلام ( الغلق والمصادرة )
بالإضافة إلى ما تم الإشارة إليه سابقًا بشأن المبالغة غير المبررة في تقدير العقوبات المالية لجريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص، فإن المادة 105 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام تُظهر إفراطًا آخر، يتمثل في تعدد العقوبات المقررة على ذات الفعل. فالمادة تلزم المحكمة، في حال الإدانة، بتوقيع عقوبة تكميلية تتمثل في الغلق ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استُخدمت في ارتكاب الجريمة. ورغم أن هذه العقوبة قد تكون مفهومة في حالات العود أو التكرار، فإن تطبيقها في المخالفة الأولى، بمجرد إنشاء موقع دون ترخيص، يُعد غير منطقي، نظرًا لطبيعتها الدائمة والتي يصعب تدارك آثارها. إذ لا يُتصور أن تُطبق عقوبة بهذه الجسامة على مخالفة تنظيمية ليست من الجرائم الجسيمة أو الماسة بالأمن العام.
الفلسفة العقابية التي تبناها المشرّع في هذا السياق، والتي تُعامل جريمة تنظيمية بسيطة كجريمة تستوجب عقوبات أصلية وتكميلية مشددة، تُوحي بأن الفعل محل التجريم ينطوي على خطر كبير، وهو ما لا يتوافق مع طبيعته الواقعية. وللمقارنة، فقد نص قانون العقوبات على عقوبات تكميلية مثل حل الجمعيات أو الهيئات أو الجماعات التي تهدف إلى تقويض نظام الدولة، ومصادرة أدوات الجريمة، وهي جرائم بطبيعتها خطيرة وتمس أمن الدولة من الداخل.9
أما جريمة إدارة موقع بدون ترخيص، فتبقى في جوهرها مخالفة إدارية، تتعلق بعدم الالتزام بالإجراءات التنظيمية، ولا تتضمن عنصر الضرر الجسيم أو الفعل العمدي العدواني. ولولا ما قرره القانون من عقوبة مالية تصل إلى ثلاثة ملايين جنيه، لكان من الأجدر تصنيفها كمخالفة إدارية وفقًا لمعيار الجسامة المعتمد في السياسة العقابية.
ويُضاف إلى ذلك إشكال قانوني خطير يطرحه نص المادة 105، يتمثل في أن العقوبة التكميلية بالغلق تُعلّق مشروعية الكيان القانوني ذاته على شرط الحصول على ترخيص من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. ففي حال صدور حكم بالإدانة، يترتب على ذلك زوال الشكل القانوني للكيان الذي يُدير الموقع الإلكتروني، بغض النظر عن طبيعته أو نشاطه الأساسي.
وتُفاقم هذه الإشكالية ممارسات المجلس الأعلى للإعلام، التي توسّعت في إخضاع كيانات لم تُذكر صراحة في القانون إلى متطلبات الترخيص، مثل النقابات، والجمعيات، والأندية، ما يفتح الباب أمام تهديد دائم لهذه الكيانات بالغلق والمصادرة، سواء في حالة عدم الحصول على الترخيص، أو في حال سحبه أو عدم تجديده.
هذا الوضع يُخل بمبدأ اليقين القانوني، ويُعرّض فئات واسعة من المؤسسات العاملة في مصر لمخاطر قانونية غير مبررة، ويقوّض الضمانات الدستورية المتعلقة بحرية التنظيم والملكية المشروعة. لذلك، فإن المادة 105، بصيغتها الحالية، تستدعي مراجعة تشريعية عاجلة لضبط نطاق تطبيقها وتوفير الحماية القانونية اللازمة للكيانات التي لا تخضع أصلاً لاختصاص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
2. إدارة المواقع بين حرية التكوين و العقوبات المغلظة
يميل المشرّع المصري، في العديد من التشريعات، إلى الإفراط في توقيع العقوبات، سواء من حيث التوسّع في العقوبات السالبة للحرية أو في الغرامات المالية المغلظة. ويبرّر هذا التوجه تقليديًا بالرغبة في تحقيق الردع العام، بزعم أن الغرض من العقوبة هو منع ارتكاب الجريمة لا التشدد في العقاب ذاته. غير أن هذا المبرر يفقد وجاهته حين يغفل المشرّع عن التباين في طبيعة الجرائم، واختلاف مستويات خطورتها، وبالتالي الحاجة إلى مقاربات عقابية متميّزة ومتدرجة.
وفي حالة قانون تنظيم الصحافة والإعلام، يتضح أن المشرّع لم يراعِ معيارًا جوهريًا يتعلق بطبيعة الأفعال المجرّمة ومدى جسامتها. فهذا القانون، بوصفه قانونًا تنظيميًا بالأساس، يهدف إلى وضع ضوابط إجرائية تضمن إنفاذ الحقوق الدستورية، لا إلى خلق نظام عقابي قمعي. وبالتالي، فإن الموازنة بين حرية تكوين وسائل الإعلام والصحف من جهة، وضرورة احترام الضوابط القانونية من جهة أخرى، تقتضي أن تكون العقوبات ذات طابع إداري وتنظيمي يتناسب مع المخالفة المرتكبة.
لكن المشرّع، في التفاف على الضمانات الدستورية، استبعد العقوبة السالبة للحرية، ليُبدّلها بغرامات مالية بالغة القسوة، تُنزل أثرًا مماثلًا – أو أشد – من الحبس الفعلي، خاصة وأنها تستهدف في جوهرها حقًا دستوريًا يتعلق بحرية التعبير وتكوين وسائل الإعلام. وفي سياق مثل هذا، تصبح الغرامات الباهظة بمثابة أداة للمصادرة المقنّعة لهذا الحق.
والأمر يزداد تعقيدًا حين نعلم أن الغرامات المفروضة، كما في المادة 105 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، تصل إلى ثلاثة ملايين جنيه، دون أن ترتبط بضرر فعلي وقع على أفراد أو جهات معينة. فهذه الغرامة لا تُخصّص كتعويض، بل تُحوّل مباشرة إلى خزينة الدولة، ما يُفقدها أي مشروعية تعويضية أو إصلاحية.
فهل يستحق إنشاء موقع إلكتروني – كفعل إجرائي أو إداري في الأساس – عقوبة رادعة بهذا الحجم؟ أم أن الهدف الفعلي من العقوبة هو المنع لا الردع، وتضييق المجال العام الرقمي، وضمان إخضاع التعبير للرقابة؟
يقودنا هذا إلى نتيجة حاسمة: العقوبات المفروضة على مخالفة ضوابط الحصول على ترخيص لإنشاء موقع إلكتروني تتّسم بعدم المعقولية. ويُقصد بذلك أن العقوبة، كلما كانت مغلظة بصورة مفرطة، أو فُرضت على أفعال لا يُبرر تجريمها، أو تجاوزت بشكل ظاهر خطورة الفعل محل التجريم، فإنها تفقد مشروعيتها وتتحوّل إلى اعتداء على الحرية الشخصية.10
ومن هنا، تبرز ثلاثة معايير أساسية يجب مراعاتها عند صياغة العقوبات التشريعية:
- التناسب بين طبيعة الفعل المجرّم والعقوبة المقررة له.
- وجود ضرورة مجتمعية حقيقية تُبرر تغليظ العقوبة.
- اتباع مبدأ التدرج في العقوبات، وعدم البدء بالعقوبات القصوى.
وبتطبيق هذه المعايير على المادة 105 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، نجد أنها تفتقر لكل هذه الأسس. فمن غير المعقول أن تبدأ العقوبة بغرامة لا تقل عن مليون جنيه لمجرد مخالفة إجرائية تتعلق بعدم الحصول على ترخيص. ولا نجد في القانون بدائل معقولة مثل منح مهلة لتصحيح الوضع، أو حتى توجيه إنذار إداري قبل توقيع العقوبة. كما أن المادة لا توفّر أي رابط واضح بين النتيجة المتحققة من مخالفة الإجراء – أي إنشاء موقع دون ترخيص – وبين جسامة الجزاء المقرر.
إن هذا الغياب للتدرج والتناسب، مع التوسّع في التجريم دون ضرورة مجتمعية واضحة، يجعل من العقوبات المقررة أداة ترهيب لا تنظيم، ويقوّض ثقة المخاطبين بالقانون، ويهدّد المشروعية الدستورية لسياسات التنظيم الإعلامي في المجال الرقمي.
سابعًا: شبهة عدم دستورية جريمة إدارة موقع بدون الحصول على ترخيص
انطوت جريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص المنصوص عليها في المادة 6 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام على أكثر من وجه لشبهة عدم الدستورية في شأن التجريم، كذلك تضمنت المادة 105 من القانون أوجه لشبهة عدم الدستورية في فيما يتعلق بالعقوبة الجنائية المقررة للجريمة.
1. عدم دستورية عقوبات الغلق والمصادرة والوقف والحجب
تنطوي جريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص، المنصوص عليها في المادة 6 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، على أكثر من وجه لشبهة عدم الدستورية في ما يتعلق بالفعل المجرَّم. كما تُثير المادة 105 من القانون، والتي تحدد العقوبة الجنائية المقررة لهذه الجريمة، بدورها شبهات مماثلة، سواء من حيث طبيعة العقوبة أو مدى مشروعيتها الدستورية.
تنص الفقرة الأولى من المادة 71 من الدستور على أنه: “يحظر بأي وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها”، وهو نص يرسخ الحماية الدستورية لحرية الصحافة والطباعة والنشر، بكافة وسائطها وأشكالها، ويمنع أي صورة من صور التعسف أو الترهيب أو التقييد على حرية النشر من جانب السلطة التنفيذية أو غيرها.
وقد أورد الدستور استثناءً وحيدًا في الفقرة الثانية من المادة نفسها، أجاز فيه فرض رقابة محددة في زمن الحرب أو التعبئة العامة. غير أن هذا الاستثناء لا يمتد ليشمل المصادرة أو الوقف أو الغلق أو الحجب، التي جاء النص الدستوري بشأنها بصيغة الحظر المطلق، سواء في الظروف الطبيعية أو الاستثنائية، وسواء أكان ذلك بعقوبة جنائية أو بقرار إداري.
ورغم وضوح هذا الحظر، أقرّ قانون تنظيم الصحافة والإعلام عقوبتي الغلق ومصادرة المعدات والأجهزة المستخدمة في ارتكاب الجريمة، كعقوبات تكميلية واجبة التطبيق على جريمة إدارة موقع بدون ترخيص. بل ذهب المشرّع إلى الجمع بين الغرامة المالية المشددة، والعقوبات التكميلية بالغلق والمصادرة، دون أن يمنح المحكمة أي سلطة تقديرية في توقيعها، وهو ما يمثّل افتئاتًا صريحًا على الحماية الدستورية لحرية الصحافة.
يتعارض هذا النهج التشريعي أيضًا مع ما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا، التي أكدت في أحكامها أن حرية الصحافة مكفولة بنص الدستور، وأنه لا يجوز فرض قيود جائرة عليها أو التدخل في شؤونها أو تقليص دورها، باعتبارها أحد الأعمدة الأساسية للحوار المجتمعي الحر. وقد جاء في أحد أحكام المحكمة الدستورية العليا:
“حيث إن الدستور كفل بموجب المادة (65) حرية الرأي والحق في التعبير، كما صان بمقتضى نص المادتين (70، 71) منه للصحافة حريتها، وحظر رقابتها، إلا استثناء في زمن الحرب أو التعبئة العامة، كما حظر مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، بما يحول كأصل عام دون التدخل في شئونها، أو إرهاقها بقيود ترد رسالتها على أعقابها، أو إضعافها من خلال تقليص دورها في بناء مجتمعها وتطويره، متوخيا دوما أن يكرس بها قيما جوهرية، يتصدرها أن يكون الحوار بديلا عن القهر والتسلط، ونافذة لإطلال المواطنين على الحقائق التي لا يجوز حجبها عنهم، ومدخلا لتعميق معلوماتهم فلا يجوز طمسها أو تلوينها، بل يكون تقييمها عملا موضوعيا محددا لكل سلطة مضمونها الحق وفقا للدستور، فلا تكون ممارستها إلا توكيدا لصفتها التمثيلية، وطريقا إلى حرية أبعد تتعدد مظاهرها وتتنوع توجهاتها· بل إن الصحافة تكفل للمواطن دورا فاعلا، وعلى الأخص من خلال الفرص التي تتيحها معبرا بواسطتها عن تلك الآراء التي يؤمن بها individual self- expression ويحقق بها تكامل شخصيته self – realization. بيد أن هذا الحق وتلك الحرية، وهما من نسيج واحد، لا يتأبيان على التنظيم التشريعي”.11
يتكرر وجه شبهة عدم الدستورية في المادة 19 من القانون، التي منحت المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام سلطة إدارية بوقف أو حجب الموقع الإلكتروني أو المدونة أو الحساب الشخصي، إذا تضمن محتواه ما يُعتبر أخبارًا كاذبة، أو دعوة إلى مخالفة القانون أو العنف أو الكراهية أو التمييز أو السب أو القذف أو ازدراء الأديان.
ورغم أن بعض هذه الأفعال قد تُشكّل جرائم فعلية تستوجب المحاسبة، إلا أن منح جهة إدارية سلطة توقيع جزاء بالغ الأثر – كالحجب – دون المرور بالإجراءات القضائية الواجبة، يُعدّ مخالفة صريحة لمبدأ استقلال القضاء ومبدأ المشروعية الإجرائية، فضلًا عن كونه يتعارض مع الحظر الدستوري الوارد في المادة 71 بشأن الغلق أو الحجب.
إن الجمع بين التجريم التنظيمي لجريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص، وتوقيع عقوبات جنائية و/أو إدارية من طبيعة قمعية – كالغلق أو المصادرة أو الحجب – يتنافى مع النصوص الدستورية الصريحة، ومع المبادئ المستقرة في فقه المحكمة الدستورية، ويقوّض حرية الصحافة والتعبير، ويحوّل القانون من أداة لتنظيم الحريات إلى وسيلة لقمعها. وهو ما يُشكّل أساسًا قويًا للطعن بعدم دستورية هاتين المادتين في حال تحقّق المصلحة الشخصية المباشرة لأحد المتقاضين.
2. عدم الدستورية بسبب الغموض والإبهام في تحديد نطاق المسئولية الجنائية
انطلاقًا من عدم وضوح المخاطبين بأحكام قانون تنظيم الصحافة والإعلام، نتيجة توسّع المجلس الأعلى للإعلام في تطبيق ضوابط الترخيص على كيانات وجهات لم يرد ذكرها صراحة أو ضمنًا في نصوص القانون، وتحديدًا المادتين 6 و105، يثور تساؤل جوهري حول المقصود بمصطلح “الإدارة” في سياق جريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص.
ففي حين عامل نص المادة 6 من القانون بين مصطلحي “الإدارة” و”التأسيس” على قدم المساواة، دون تقديم تعريف دقيق لأي منهما، فإن مصطلح “الإدارة” يكتسب أهمية خاصة، بوصفه المحدِّد لنطاق المسؤولية الجنائية. غير أن المشرّع لم يبيّن على وجه الدقة ما إذا كان المقصود بالإدارة هو:
- مسؤولية الكيان القانوني (الشخص الاعتباري) عن الإشراف العام على الموقع،
- أم المسؤولية الجنائية الواقعة على الشخص الطبيعي القائم بالإدارة الفنية اليومية للموقع (الإدارة الفعلية)،
- أم هي مسؤولية تضامنية بين الشخصين.
وهذا الغموض يُفضي إلى نتائج خطيرة فيما يتعلق بتحديد المسؤول الجنائي الفعلي، ويخل بمبدأ أساسي من مبادئ العدالة الجنائية.
فإذا افترضنا أن المشرّع يقصد بالإدارة مسؤولية الكيان القانوني، فإن تطبيق العقوبة الجنائية، لا سيما العقوبات التكميلية كالغلق والمصادرة، يغدو غير متصور عمليًا إذا لم يكن هناك شخص طبيعي مسؤول يمكن مساءلته.
أما إذا كان المقصود هو الإدارة الفعلية، فإن إثباتها يتطلب تحقق شروط موضوعية ترتبط بممارسة الفعل المجرَّم بشكل مباشر ومستمر، وهو أمر لم يُنظّمه القانون بدقة.
هذا الغموض يتعارض صراحة مع ما أقرته المحكمة الدستورية العليا بشأن ضرورة وضوح النصوص العقابية، حيث جاء في إحدى أحكامها:
“الأصل في النصوص العقابية أن تُصاغ في حدود ضيقة تعريفًا بالأفعال التي جرّمها المشرّع، وتحديدًا لماهيتها، لضمان ألا يكون التجهيل بها موطئًا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين […] كما أن الأصل في الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أُدين مسؤولًا عنها، وهي عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة موضوعها.”
وبناءً عليه، فإن غياب التحديد التشريعي الواضح لمعنى “الإدارة” يخلّ بمبدأ شخصية العقوبة المنصوص عليه في المادة 66 من الدستور، ويؤدي إلى توسيع دائرة التجريم دون ضوابط، ما يشكّل شبهة جدية بعدم دستورية النص.12
إن هذا الخلل التشريعي لا يمسّ فقط ضمانات المتهمين، بل يفتح الباب أيضًا أمام ممارسات انتقائية أو تأويلات موسعة من جهات الضبط والتحقيق، ويقوّض مبدأ المشروعية الجنائية بوصفه أحد أعمدة دولة القانون.
3. عدم دستورية العقوبات لعدم تناسبها مع السلوك الإجرامي
يُعد مبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة من الركائز الجوهرية للعدالة الجنائية، وقد كفلته الدساتير الحديثة، ومن بينها الدستور المصري، باعتباره أحد تطبيقات مبدأي الشرعية الجنائية وشخصية العقوبة. وتقتضي هذه المبادئ أن تتناسب العقوبة المقررة مع جسامة الفعل الإجرامي، من حيث طبيعته ونتيجته ودرجة خطورته الاجتماعية، دون إفراط أو تعسف.
في ضوء ذلك، فإن العقوبات المقررة لجريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص، كما وردت في المادتين 6 و105 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، تُثير إشكاليات جدية من زاوية التناسب والمعقولية، لكونها تتجاوز بكثير نطاق السلوك المجرَّم، بل وتُفرِغ مبدأ حرية الصحافة من مضمونه.
وقد أرست المحكمة الدستورية العليا مبدأً مستقراً مفاده أن شرعية الجزاء – سواء كان جنائيًا أو مدنيًا أو تأديبيًا – مرهونة بأن يكون متناسباً مع الأفعال التي أثمها المشرّع. وقالت في أحد أحكامها:
“فالأصل في العقوبة هو معقوليتها، فكلما كان الجزاء الجنائي بغيضاً أو عاتياً، أو كان متصلاً بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسباً مع خطورة الأفعال التي أثمها المشرّع، فإنه يفقد مبررات وجوده، ويُصبح تقييده للحرية الشخصية اعتسافًا”.13
ورغم ذلك، نصّ قانون تنظيم الصحافة والإعلام على ثلاث عقوبات شديدة لجريمة واحدة، هي: الغرامة المالية التي لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد على ثلاثة ملايين جنيه، وعقوبة الغلق، وعقوبة المصادرة. وهذه العقوبات الثلاثة تُوقع مجتمعة بحكم القانون، دون أن يملك القاضي سلطة تقديرية في تقدير مدى مناسبتها أو استبدالها.
وتتسم كل واحدة من هذه العقوبات على حدة بعدم التناسب مع طبيعة الجريمة – التي تظل في جوهرها مخالفة تنظيمية – فضلًا عن أن اجتماعها معًا يُشكل إخلالًا جسيمًا بمبدأ التناسب، ويمثل في حقيقته مصادرة للحق في حرية الصحافة والنشر، ويؤدي إلى تقييد مباشر وغير مشروع لحرية التعبير.
فأما عقوبتا الغلق والمصادرة، فإنهما لا تنتهكان فقط نص المادة 71 من الدستور التي حظرت غلق أو مصادرة أو وقف وسائل الإعلام، بل تمثلان كذلك عقوبات دائمة وجذرية لا يمكن تدارك آثارها، خاصة إذا ما أُوقعت على كيان قانوني يعمل بصورة منتظمة.
وأما عقوبة الغرامة المالية، فإنها بحدها الأقصى تُعد من أعلى الغرامات المقررة في التشريعات المصرية المتعلقة بالإعلام، دون أن تكون هناك مبررات موضوعية لهذا التشديد المبالغ فيه، خاصة وأن الفعل المُجرَّم لا ينطوي على ضرر فعلي أو خطر داهم، وإنما يتصل بإخلال بضوابط إدارية.
في هذا السياق، تغدو العقوبات الثلاثة – سواء منفردة أو مجتمعة – أقرب إلى أدوات قمع، وليست وسائل مشروعة لتنظيم المهنة. ويُصبح الهدف منها ليس حماية النظام العام، بل الحد من التعددية الإعلامية وتقليص مساحات التعبير.
وبناء عليه، فإن استمرار العمل بهذه النصوص العقابية بصورتها الحالية يُهدد الحق في حرية الإعلام والتعبير، ويقوض أسس العدالة الجنائية الدستورية، ما يستدعي تدخلاً تشريعيًا عاجلاً لإعادة تقييم العقوبات المقررة، وضمان اتساقها مع المبادئ الدستورية ومقتضيات المصلحة العامة.
خاتمة
تكشف الدراسة عن حجم التناقضات والتجاوزات التي تنطوي عليها المنظومة القانونية والتنظيمية التي تحكم ترخيص وإدارة المواقع الإلكترونية في مصر، لاسيما كما وردت في المادتين 6 و105 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام. فعلى الرغم من أن الأصل في القوانين التنظيمية هو ضمان ممارسة الحقوق الدستورية، وعلى رأسها حرية التعبير وتكوين وسائل الإعلام، إلا أن الصياغة الفضفاضة للنصوص، والخلط بين مفهومي التأسيس والإدارة، والتوسع في إلزام فئات غير مخاطبة بالقانون بالحصول على تراخيص من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، أدى إلى حالة من الغموض القانوني والاضطراب في التطبيق.
وقد تبيّن من خلال التحليل أن العقوبات المقررة لجريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص – سواء العقوبات الأصلية كالغرامة، أو التكميلية كالغلق والمصادرة – لا تتوافق مع المبادئ الدستورية المستقرة، وعلى رأسها مبدأي الشرعية وشخصية العقوبة، ومبدأ التناسب بين الفعل والعقوبة، فضلًا عن مخالفتها الصريحة لنص المادة 71 من الدستور التي تحظر بشكل مطلق مصادرة أو وقف أو غلق وسائل الإعلام.
إن الإبقاء على هذه النصوص بصيغتها الحالية، والممارسات الإدارية المصاحبة لها، من شأنه أن يُحوّل القانون من أداة لتنظيم الحريات إلى أداة لتقييدها، ومن ضمانة لحرية الإعلام إلى وسيلة للمصادرة والإقصاء، خاصة في ظل غياب معايير واضحة تحكم توصيف “الإدارة” أو تحدد بدقة الفئات الملزمة بالترخيص. كما أن الفرض شبه الآلي لعقوبات شديدة على أفعال تنظيمية غير جوهرية يتعارض مع المبادئ الأساسية للعدالة الجنائية، ويُثير شبهة الانحراف في التجريم والعقاب.
وعليه، توصي الدراسة بإعادة النظر في نصوص القانون المذكورة، سواء من حيث المفاهيم والتعاريف، أو من حيث العقوبات المقررة، بما يضمن التزام المشرّع بالمبادئ الدستورية، ويكفل حماية حقيقية لحرية الصحافة والتعبير، دون التفريط في مقتضيات التنظيم الرشيد. كما تدعو إلى ضبط صلاحيات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ومنعه من التوسع خارج نطاق القانون، مع ضرورة إنشاء آلية مستقلة لمراجعة قراراته، وضمان خضوعها للرقابة القضائية الفعالة.
بهذا، لا تقتصر ضرورة الإصلاح على الصياغة القانونية، بل تشمل أيضًا الممارسة الإدارية، ومداخل الفهم والتفسير القضائي، من أجل حماية الفضاء الرقمي كمساحة حيوية للتعبير، والحفاظ على الحقوق الدستورية في مواجهة النزعة التقييدية المتزايدة.
الهوامش
- المادة 57 من الدستور المصري الصادر في عام 2014 المنشور بالوقائع المصرية بالعدد رقم 14 بتاريخ 19 يناير 2014. ↩︎
- المادة 70 من الدستور المصري الصادر في عام 2014 المنشور بالوقائع المصرية بالعدد رقم 14 بتاريخ 19 يناير 2014. ↩︎
- المادة رقم 1 من قانون 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الباب الأول “التعريفات”. ↩︎
- المادة 1 من قـرار رقـم 26 لسنة 2020 بإصدار لائحة تنظيم التراخيص بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. ↩︎
- من التعريفات الواردة بالمادة 1 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والتي عرفت مدير الموقع ” مدير الموقع : كل شخص مسئول عن تنظيم أو إدارة أو متابعة أو الحفاظ على موقع أو أكثر على الشبكة المعلوماتية ، بما فى ذلك حقوق الوصول لمختلف المستخدمين على ذلك الموقع أو تصميمه أو توليد وتنظيم صفحاته أو محتواه أو المسئول عنه”. ↩︎
- من الحكم الصادر من المحكمة الاقتصادية بالقاهرة في الجنحة رقم 819 لسنة 2022 جنح اقتصادية القاهرة- محكمة القاهرة الاقتصادية. ↩︎
- يراجع في هذا المعنى الحكم الصادر من المحكمة الدستورية في الدعوى رقم 107 لسنة 32 – دستورية – المحكمة الدستورية العليا – مرفوعة علنية بتاريخ 2015/03/14. ↩︎
- الجنحة رقم 819 لسنة 2022 جنح اقتصادية القاهرة، والصادر الحكم فيها بجلسة يوم الاثنين الموافق 13/6/2022. ↩︎
- الباب الثاني من الكتاب الثاني بقانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937 “الجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل”. ↩︎
- يراجع في هذا المعنى الحكم الصادر في الدعوى رقم 114 لسنة 21 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية”. ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا – القضية رقم 139 لسنة 29 ق | تاريخ الجلسة 13/1/2018. ↩︎
- دستورية – القضية رقم 49 لسنة 17 ق | تاريخ الجلسة 15/6/1996 – مكتب فني 7 – رقم الجزء 1 – رقم الصفحة 739 – القاعدة رقم 48. ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا، جلسة 2-6-2002، الدعوى رقم 114 لسنة 21 قضائية دستورية، ج 9، ص 986. ↩︎