حوكمة التقنيات الناشئة: الإشكاليات القانونية والمسارات البديلة

مقدمة
تشهد التقنيات الناشئة تطورًا متسارعًا وغير مسبوق، حيث تظهر ابتكارات جديدة تمتد تأثيراتها إلى مختلف جوانب الحياة. ويُقصد بالتقنيات الناشئة تلك الابتكارات الحديثة التي لا تزال في طور التشكل ودخول الأسواق، مثل الذكاء الاصطناعي، وسلاسل الكتل والعملات الرقمية، وإنترنت الأشياء وشبكات الجيل الخامس (5G)، والروبوتات المستقلة، والطائرات المُسيّرة، وغيرها. تمتلك هذه التقنيات إمكانات هائلة لتعزيز الاقتصاد وتحسين جودة الحياة، لكنها في الوقت ذاته تتطلب أطرًا تنظيمية تضمن الاستخدام السليم والآمن لها.
أمام هذا التسارع التقني يبرز تحدٍ تشريعي جوهري، فالقوانين والأنظمة بطبيعتها تحتاج إلى وقت للتطوير والإقرار، بينما تتغير التقنيات بسرعة وتنطلق في الأسواق دون انتظار. وغالبًا ما يجد المشرّعون أنفسهم في سباق للحاق بتقنيات انتشرت بالفعل وأثّرت في المجتمع قبل أن يوجد لها إطار قانوني مناسب. وقد أشار تقرير حكومي أمريكي حديث إلى أن بروز التقنيات الناشئة خلق ما يُعرف بـ “مشكلة الإيقاع” بين سرعة الابتكار وبطء التنظيم، مؤكدًا أن مواكبة التشريعات للتطورات التقنية أمر أساسي لحماية المصلحة العامة ودعم الابتكار في الوقت ذاته.
يثير هذا الوضع إشكالية عامة تتعلق بتوقيت التدخل التشريعي، فهل ينبغي سنّ القواعد استباقيًا -أي قبل انتشار التقنية على نطاق واسع وقبل اتضاح آثارها بالكامل- أم من الأفضل الانتظار حتى تتضح معالم التقنية ومشكلاتها ثم التدخل لاحقًا لتنظيمها؟ كلا النهجين يحمل في طياته مزايا ومخاطر.
فالتنظيم الاستباقي قد يحمي من أضرار محتملة منذ البداية، لكنه يصطدم بصعوبة التنبؤ بمسار التقنية المستقبلي. أما الانتظار والتركيز على رد الفعل، فيعني أن المجتمع قد يواجه أضرارًا فعلية قبل أن يتحرك القانون، وقد تصبح التقنية راسخة لدرجة تجعل ضبطها أكثر صعوبة.
هذا التردد بين مبدأ الحذر المسبق ومبدأ الابتكار الحر هو ما ستتناوله هذه الورقة، عبر مناقشة دوافع تنظيم التقنيات الناشئة، والصعوبات التي يواجهها المشرّعون في هذا السياق، إضافة إلى عرض تجارب دولية مختلفة في التعامل مع التقنيات الجديدة.
كما تتناول الورقة السياق المصري، الذي يحمل بالإضافة إلى هذه الإشكاليات العامة إشكاليات خاصة تتعلق بالحذر الشديد من المطالبة باستحداث تشريعات جديدة، حتى وإن كانت تنظيمية بالأساس. فقد كشفت التجربة المصرية في السنوات الأخيرة عن توجهات تشريعية تتعامل بشكل غير متناسب مع التطورات التكنولوجية، وتُضفي صبغة عقابية على الأطر التنظيمية.
لماذا تحتاج التقنيات الناشئة إلى تنظيم قانوني؟
على الرغم من الفرص الكبيرة التي تحملها التقنيات الناشئة، فإن هناك دوافع تستدعي تنظيمها ووضع حدود وضوابط لاستخدامها. ويُظهر هذا الطرح أن النقاش حول هذه التقنيات لا ينفصل عن النقاش الأوسع المتعلق بالحقوق والحريات والتوازن بين المصالح الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية . ومن ثم، فإن إدراك أهمية هذه الدوافع يمثل مدخلًا أساسيًا لفهم الأبعاد التشريعية المرتبطة بالتطورات التقنية وصياغة السياسات العامة الملائمة لها.
حماية الحقوق الأساسية
تُعد حماية الحقوق والحريات الأساسية أحد أهم الدوافع لوضع تنظيم قانوني للتقنيات الناشئة، ويشمل ذلك الحق في الخصوصية وحماية البيانات الشخصية، وكذلك الحق في الأمن والسلامة. فعلى سبيل المثال، أثار الانتشار الواسع لتقنيات الذكاء الاصطناعي مخاوف متزايدة بشأن انتهاك الخصوصية عبر جمع البيانات وتحليلها على نطاق واسع.
دفع ذلك الأمر المشرّعين – ولا سيما في السياق الأوروبي – إلى تعزيز الأطر التشريعية القائمة، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) من جهة، والعمل في الوقت ذاته على إعداد مقترح قانون مستقل لتنظيم الذكاء الاصطناعي (AI Act) من جهة أخرى. ويهدف هذا التوجه إلى ضمان أن تُستخدم التقنية بطريقة تحافظ على خصوصية الأفراد وحقوقهم الأساسية، مع وضع التزامات واضحة على المطورين تتعلق بالشفافية والمساءلة والرقابة.
وفي السياق ذاته، أثارت تقنيات إنترنت الأشياء والأجهزة المتصلة نقاشًا واسعًا حول هشاشة البنية الرقمية المعاصرة، إذ إن اتصالها الدائم بالشبكات يجعلها هدفًا مثاليًا لهجمات معقدة قد تهدد خصوصية الأفراد، واستقرار البنى التحتية الحيوية كالطاقة والمياه والقطاع الصحي. وكشفت بالفعل وقائع عملية، مثل الهجمات على شبكات الكهرباء والمستشفيات عبر أجهزة متصلة، عن حجم المخاطر الواقعية.
ومن ثمّ، لا يقتصر دور التشريع هنا على وضع معايير عامة للأمن السيبراني، بل يمتد إلى فرض التزامات دقيقة على المصنعين ومزودي الخدمة. تتضمن هذه الالتزامات دمج معايير الأمان منذ مرحلة التصميم (Security by Design)، وضمان خضوع الأجهزة لاختبارات تقييم المخاطر، مع إنشاء آليات رقابية مستقلة لمراجعة الامتثال ومساءلة الفاعلين في حال الإخلال بهذه الالتزامات.
منع الأضرار المجتمعية والآثار السلبية
بالإضافة إلى حماية الحقوق الفردية، تعمل التشريعات المنظمة للتقنيات الناشئة على معالجة التداعيات الاجتماعية الواسعة التي قد تترتب على انتشار هذه التقنيات بلا ضوابط. إذ يمكن أن تُنتج عنها أضرار تمس بنية المجتمع وتماسكه، سواء عبر إعادة إنتاج أنماط التمييز القائمة أو خلق أشكال جديدة من الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي.
ففي حالة الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، أدّت ممارسات التدريب على بيانات غير متوازنة أو متحيزة إلى نتائج تعزز التمييز ضد فئات معينة على أساس العرق أو النوع الاجتماعي أو الوضع الاقتصادي. هذا الخطر دفع عدداً من المشرّعين والباحثين إلى المطالبة بوضع أطر قانونية تفرض الشفافية في بناء الخوارزميات، وتُلزم مطوري الأنظمة بإجراء اختبارات منتظمة للكشف عن الانحيازات والتقليل من آثارها.
كذلك يثير الانتشار المتزايد للأتمتة والروبوتات مخاوف متعلقة بظاهرة البطالة التكنولوجية، نتيجة إحلال الآلات محل العمال في قطاعات متعددة كالصناعات التقليدية وبعض المهن الخدمية. هنا يبرز الدور التنظيمي في إلزام الدول والشركات بوضع سياسات للانتقال العادل (Just Transition)، تضمن إعادة تأهيل العمال وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي، بما يحول دون تفاقم التفاوتات الاقتصادية.
إضافة إلى ذلك، مكّنت البيئة الرقمية من انتشار غير مسبوق للمعلومات المضللة وخطاب الكراهية، وهو ما أثّر في الاستقرار المجتمعي والعمليات الديمقراطية على حد سواء. وقد استدعى ذلك سنّ تشريعات خاصة بمكافحة المحتوى الضار، تجمع بين إلزام المنصات الرقمية بوضع آليات فعّالة للرصد والإبلاغ، وبين حماية حرية التعبير من القيود المفرطة.
ضمان المنافسة العادلة ومنع الاحتكار
غالبًا ما تُفضي التقنيات الناشئة إلى نشوء أسواق جديدة تُعيد تشكيل قواعد التفاعل الاقتصادي بسرعة، إلا أن هذه الأسواق كثيرًا ما تتحول إلى ساحة تُهيمن عليها قلة من الشركات الكبرى. ويعود ذلك إلى عوامل متشابكة أبرزها تأثيرات الشبكة، حيث تزداد قيمة المنصات بزيادة عدد المستخدمين، وميزة السبق التقني التي تمكّن الشركات الأولى من تحقيق موقع مهيمن يصعب زعزعته.
تمثل شركات التكنولوجيا العملاقة اليوم المثال الأوضح لهذه الظاهرة؛ إذ تحتكر قطاعات مركزية مثل محركات البحث، والمنصات الاجتماعية، والإعلانات الرقمية، ما يثير مخاوف من تكوّن احتكارات تقنية قادرة على إقصاء المنافسين والتحكم في تدفق المعلومات والبيانات. ولذا برزت دعوات متزايدة إلى تطبيق آليات مكافحة الاحتكار الكلاسيكية على البيئة الرقمية، بل وتطوير أطر جديدة تتلاءم مع الخصائص الفريدة للتقنيات الناشئة.
وفي السياق ذاته، أثيرت مخاوف خاصة بقطاع الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن لسيطرة عدد محدود من الشركات على النماذج العملاقة والبنية التحتية السحابية أن يحدّ من إمكانات المنافسة ويضعف قدرة الفاعلين الجدد على دخول السوق. لذلك، توجد حاجة إلى سنّ قواعد تنظيمية تضمن حياد الوصول إلى البيانات والبنى التحتية، وتُقيّد الممارسات الاحتكارية التي قد تؤدي إلى تمركز السلطة التقنية في أيدي قلة.
ولا يقتصر الأمر على كبح الاحتكار، بل يمتد إلى ضرورة تصميم سياسات تنظيم مسبقة للأسواق الرقمية، بما يضمن تكافؤ الفرص أمام الشركات الناشئة والمتوسطة، ويعزز الابتكار عبر فتح المجال أمام تنوع الفاعلين. يحقق هذا التوجه هدفين متكاملين في الوقت ذاته: حماية المستهلكين من آثار الاحتكار، وإرساء بيئة تنافسية عادلة تشجع على تطوير حلول مبتكرة تتماشى مع المصلحة العامة.
حماية الفئات الضعيفة والأكثر عرضة للمخاطر
تُعد حماية الفئات الضعيفة من أبرز المبررات التي تفرض نفسها في سياق تنظيم التقنيات الناشئة. فالأطفال والقُصَّر، والمستهلكون العاديون غير المتمرسين تقنيًا، إضافة إلى غير المتعلمين، قد يفتقروا إلى الأدوات المعرفية أو القدرات التقنية التي تمكّنهم من إدراك المخاطر الرقمية أو التصدي لها. ومن ثمّ، يصبحون أكثر عرضة للاستغلال أو التضرر من الممارسات المرتبطة باستخدام تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، أو إنترنت الأشياء، أو التطبيقات الطبية الرقمية.
وقد أولى المشرّع الأوروبي اهتمامًا خاصًا بهذه الفئات في قانون الذكاء الاصطناعي (AI Act)، حيث نصّ صراحةً على ضرورة حماية الأطفال وغير البالغين، مع الأخذ في الاعتبار محدودية نضجهم الرقمي وضعف قدرتهم على تقييم المخاطر. كما تضمّن القانون حظرًا لبعض التطبيقات التي تستغل هشاشتهم أو تُوجَّه خصيصًا للتأثير على خياراتهم وقراراتهم بطرق قد تضر بمصالحهم أو حقوقهم الأساسية.
وعلى نحو موازٍ، شددت تشريعات حماية البيانات حول العالم على وضع قواعد خاصة لحماية بيانات الأطفال. على سبيل المثال، يفرض قانون حماية خصوصية الأطفال على الإنترنت (COPPA)، في الولايات المتحدة، التزامات على الشركات لجمع بيانات الأطفال ومعالجتها بشفافية، فضلًا عن اشتراط موافقة الوالدين في حالات عديدة. كذلك، تعمد قوانين حماية البيانات الصحية (مثل HIPAA في الولايات المتحدة) إلى فرض معايير صارمة لضمان سرية بيانات المرضى، إدراكًا لوضعهم الحساس.
إلى جانب ذلك، أصبح لزامًا على التشريعات أن تمتد لحماية المستهلك الرقمي بشكل عام، عبر فرض التزامات تتعلق بالشفافية والإفصاح. ومن أبرزها مبدأ “الحق في المعرفة” الذي يفرض على الشركات الإفصاح بوضوح عما إذا كان المستخدم يتعامل مع نظام ذكاء اصطناعي أو روبوت، بما يتيح للمستهلك اتخاذ قراراته على بينة من طبيعة الطرف الآخر.
يعكس هذا التوجه إدراكًا متزايدًا بأن ضعف بعض الفئات لا يرتبط فقط بالسن أو الوضع الصحي، لكنه يمتد ليشمل ضعف الخبرة التقنية والمعرفية في مواجهة أنظمة رقمية متطورة ومعقدة. ويتضح من ذلك أن حماية الفئات الضعيفة أصبحت محورًا تشريعيًا جوهريًا لضمان أن لا تتحول التقنيات الناشئة إلى أداة لتكريس التفاوت أو استغلال الفئات الأقل قدرة على الدفاع عن نفسها.
تحديات تقنين التقنيات الناشئة
رغم الدوافع القوية لتنظيم التقنيات الناشئة، فإن عملية سنّ التشريعات ووضع الأطر التنظيمية لهذه المجالات لا تزال محفوفة بالصعوبات والتعقيدات. ويمكن إبراز أبرز هذه التحديات على النحو التالي:
ضبابية التكنولوجيا وحداثتها
تُعد ضبابية التكنولوجيا وحداثتها من أبرز المعضلات التي تواجه المشرّعين عند التعامل مع التقنيات الناشئة. ففي المراحل الأولى من ظهور أي تقنية جديدة، تكون المعرفة المتاحة حولها محدودة وملتبسة، حتى بالنسبة إلى المطورين والخبراء أنفسهم. ذلك أن هذه التقنيات بطبيعتها تخضع لدورات سريعة من الابتكار والتغيير المستمر، بما يجعل التنبؤ بمساراتها المستقبلية وآثارها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أمرًا محفوفًا بالشكوك.
يتضح هذا الغموض بجلاء عند النظر إلى تجارب سابقة. فعند انطلاق شبكات التواصل الاجتماعي مثلًا، لم يكن أحد يتصور أنها ستتحول خلال عقد واحد إلى بنى تحتية أساسية للخطاب العام، ومؤثرة بعمق في الانتخابات، وتوازنات القوى السياسية، وأنماط التواصل الاجتماعي. المثال ذاته يمكن إسقاطه اليوم على تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي أو سلاسل الكتل، حيث لا يزال الجدل قائمًا حول ما إذا كانت ستفتح آفاقًا غير مسبوقة للابتكار والإنتاجية، أم أنها ستفاقم من الأزمات القائمة مثل التفاوتات الاقتصادية وتهديد الخصوصية.
وقد صاغ بعض الباحثين هذه المعضلة في إطار ما يُعرف بـ “معضلة كولينجريدج” (Collingridge Dilemma)، التي تعبّر عن التناقض الكامن في مراحل تطور التقنية: ففي المراحل المبكرة يسهل نسبيًا التدخل والتقنين نظرًا لمحدودية انتشارها، لكن المعرفة بآثارها الحقيقية تكون ناقصة. بينما مع مرور الوقت، وحين تتضح التأثيرات الواقعية وتصبح المعرفة أكثر اكتمالًا، تكون التقنية قد ترسخت في البنية الاجتماعية والاقتصادية على نحو يجعل التحكم فيها أو إعادة توجيهها أكثر صعوبة وكلفة.
من هنا، يجد المشرّع نفسه أمام إشكالية مزدوجة، إما أن يضع قواعد استباقية قد تُقيد الابتكار بناءً على معرفة غير مكتملة، أو ينتظر حتى تتضح الصورة ويتحمل حينها أعباء التعامل مع آثار متجذرة يصعب احتواؤها. تعكس هذه المعضلة صعوبة تقدير المخاطر المستقبلية، كما أنها تكشف عن حدود القدرة التنظيمية للدول في مواجهة سرعة الابتكار التكنولوجي.
الخوف من كبح الابتكار والمغالاة في التقييد
يشكّل هاجس إبطاء الابتكار أو تهجير الاستثمارات أحد الاعتبارات المحورية لدى صانعي القرار عند التفكير في تقنين التقنيات الناشئة. فالقطاع التكنولوجي يتميز بديناميكية وسرعة غير مسبوقة، وغالبًا ما يُستشهد في وادي السيليكون بشعار “الابتكار بلا إذن” (Permissionless Innovation) الذي ارتبط بنجاح العديد من الشركات الكبرى. في هذا السياق، تميل الولايات المتحدة تاريخيًا إلى تبني نهج تنظيمي مرن يقوم على السماح بالابتكار أولًا وطلب الإذن لاحقًا، الأمر الذي وفر بيئة حاضنة لريادة الأعمال وخلق شركات تقنية عملاقة.
في المقابل، تتبنى أوروبا نهجًا أكثر تحفظًا يقوم على مبدأ الحذر الاستباقي (Precautionary Principle)، والذي يسعى إلى التنظيم الاستباقي، أي توقع المخاطر المحتملة ومحاولة الحد منها قبل وقوعها، حتى لو كان ذلك على حساب بعض حرية التجريب.
في نفس السياق، هناك ما يُسمّى بـ”التنظيم الذكي” (Smart Regulation)، أي وضع قواعد واضحة ومرنة في الوقت نفسه. يسهم هذا النهج في تحفيز الابتكار بدل إعاقته، من خلال طمأنة المستثمرين، وتوفير رؤية أكثر يقينًا للمخاطر القانونية، وضمان بيئة تنافسية مستدامة. بهذا المعنى، لا يُنظر إلى التنظيم كعقبة بقدر ما يمكن اعتباره أداة لصياغة قواعد عادلة وواضحة تعزز ثقة جميع الأطراف.
يتضح مما سبق أن التحدي الأساسي يكمن في تحقيق الموازنة الدقيقة، فالمغالاة في التنظيم منذ البداية قد تؤدي إلى رفع تكاليف الامتثال القانوني وتعقيد مسارات الابتكار، بما قد يثني رواد الأعمال والمستثمرين عن دخول السوق أو يدفعهم إلى نقل استثماراتهم نحو بيئات أكثر مرونة. في المقابل، فإن غياب الأطر التنظيمية الكافية قد يفتح المجال أمام أضرار اجتماعية واقتصادية جسيمة، مثل تعزيز التفاوتات أو تهديد الخصوصية أو حتى خلق مخاطر أمنية.
عالمية التقنية وتجاوزها للحدود الوطنية
تتميّز التقنيات الرقمية بطبيعتها العابرة للحدود، إذ تنتقل التطبيقات والخدمات والبيانات عبر الفضاء السيبراني متجاوزة الحواجز الجغرافية أو السياسية التقليدية. هذا الطابع الكوني يجعل أي جهد تنظيمي وطني بمفرده محدود الأثر، بل قد يكون عاجزًا عن تحقيق الغايات المرجوة. فعلى سبيل المثال، شكّلت العملات الرقمية المشفّرة معضلة واضحة في تنظيمها، فبينما اتجهت الصين إلى حظرها بشكل كامل، ظل المواطنون قادرين على الوصول إليها عبر منصات أجنبية غير خاضعة للسلطة المحلية.
الأمر ذاته ينطبق على المحتوى الرقمي المضر، مثل المعلومات المضللة وخطابات الكراهية، والتي تنتشر عالميًا في ثوانٍ معدودة، ما يجعل أي قانون وطني ذا أثر جزئي فقط إذا لم يتكامل مع آليات تعاون دولي فعّالة. هنا يُطرح تساؤل ضروري، من هي الجهة صاحبة الاختصاص في تنظيم هذه الظواهر العابرة للحدود؟ وهل تكفي الأطر المحلية في مواجهة تهديدات ذات طبيعة كونية؟
وقد دفعت هذه الإشكالية بعض الباحثين إلى الدعوة نحو تطوير أطر تنظيمية دولية، أو على الأقل تنسيق إقليمي بين الدول الكبرى لضمان الحد الأدنى من الانسجام القانوني. غير أن الواقع يعكس صورة أكثر تعقيدًا، إذ تتباين المقاربات التنظيمية بشكل كبير. فالولايات المتحدة تميل إلى نهج مرن قائم على السوق المفتوحة، بينما تتبنّى أوروبا نهجًا وقائيًا صارمًا يستند إلى مبدأ الحذر الاستباقي، أما الصين فتسلك طريقًا قائمًا على السيطرة المركزية والرقابة الشديدة. هذا التباين لا يقتصر على القوى الكبرى فحسب، بل يتسع ليشمل العديد من الدول النامية التي تفتقر أصلًا إلى القدرات التقنية والمؤسسية لممارسة أي ضبط فعّال في الفضاء الرقمي.
ووصف المنتدى الاقتصادي العالمي هذا الوضع بأنه “مهدد بالتشرذم” (Fragmentation)، نتيجة تصاعد التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى وسعي كل منها إلى فرض معاييرها الخاصة، في وقت تتطلب فيه المخاطر العالمية – مثل استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجالات العسكرية أو الأمنية أو الاستخباراتية – تنسيقًا عالميًا غير مسبوق يتجاوز الانقسامات السياسية القائمة.
نقص الخبرة التقنية لدى الهيئات التشريعية والتنظيمية
يُعد قصور المعرفة التقنية داخل المؤسسات التشريعية والتنظيمية أحد أبرز التحديات التي تُعقّد مهمة تقنين التقنيات الناشئة. فالتطور التكنولوجي يجري بوتيرة تفوق كثيرًا قدرة البرلمانات والهيئات الإدارية على مواكبته، ما يخلق فجوة معرفية تجعل المشرّعين عرضة للاعتماد على معلومات سطحية أو على روايات الشركات الكبرى التي تمتلك بدورها مصلحة في توجيه السياسات وفقًا لأولوياتها.
كما توجد فجوة أيضًا في إدراك التداعيات الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية للتقنيات الناشئة، مثل أثر الخوارزميات في تكريس التمييز أو استخدام تقنيات المراقبة في تقويض الحريات العامة. وبغياب الكفاءة التقنية الكافية، قد تصدر تشريعات إما فضفاضة يصعب إنفاذها أو متأخرة تأتي بعد أن تكون التقنية قد ترسخت بالفعل في السوق والمجتمع.
وقد دفعت هذه التحديات العديد من الدول والمؤسسات الدولية إلى التفكير في آليات مبتكرة لسد هذه الفجوة، مثل إنشاء لجان أو هيئات استشارية تضم خبراء من مجالات متعددة، أو تطوير وحدات متخصصة داخل الأجهزة التشريعية تجمع بين الكفاءات القانونية والفنية. ظهرت كذلك مقترحات لتعزيز الشفافية في العلاقة بين المشرّعين وشركات التكنولوجيا، للحد من مخاطر “الاستيلاء التنظيمي” (Regulatory Capture) الذي قد ينجم عن اعتماد المشرّعين بشكل مفرط على خبرة القطاع الخاص.
نماذج من تقنيات ناشئة وكيف تعامل معها القانون
لفهم كيفية موازنة الاعتبارات السابقة عمليًا، من المفيد استعراض أمثلة واقعية لتقنيات ناشئة بارزة شهدت نقاشات أو تدخلات تشريعية في السنوات الأخيرة. فيما يلي خمس دراسات حالة تلقي الضوء على أساليب تنظيم مختلفة:
1. الذكاء الاصطناعي (AI)
يُعد الذكاء الاصطناعي أبرز التقنيات الناشئة التي استحوذت على اهتمام المشرّعين وصانعي القرار حول العالم في السنوات الأخيرة. ورغم أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي ليست جديدة تمامًا، فإن التطورات المتسارعة في مجالات مثل التعلّم العميق وتوليد المحتوى الذكي أثارت نقاشات واسعة تتعلق بالشفافية، والتحيز، والسلامة، وتأثير هذه الأنظمة في الحقوق الأساسية.
كان الاتحاد الأوروبي سبّاقًا في محاولة صياغة إطار قانوني شامل عبر مشروع قانون الذكاء الاصطناعي (AI Act) الذي طرحته المفوضية الأوروبية عام 2021. يعتمد هذا القانون على نهج قائم على تقييم المخاطر، حيث يقسّم تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى فئات وفق مستوى خطورتها:
المخاطر غير المقبولة (محظورة)
- مثل التلاعب والخداع أو استغلال الثغرات.
- التصنيف الاجتماعي أو التنبؤ بالجرائم الفردية.
- جمع بيانات عشوائية للوجوه أو قواعد بيانات التعرف على الوجه.
- التعرف البيومتري عن بُعد وفي الوقت الحقيقي في الأماكن العامة.
المخاطر العالية (مسموح مع قيود صارمة)
- مكونات السلامة في البنى التحتية والمنتجات الطبية/الحرجة.
- التعليم (تصحيح الامتحانات، تحديد المسار المهني).
- التوظيف وإدارة العمال (مثل فرز السير الذاتية).
- الخدمات الأساسية (مثل التقييم الائتماني).
- إنفاذ القانون (تحليل الأدلة).
- الهجرة واللجوء وإدارة الحدود.
المخاطر المحدودة (تتطلب شفافية)
- الإفصاح عند التعامل مع روبوتات المحادثة.
- تمييز المحتوى المُنشأ بالذكاء الاصطناعي بوضوح (خاصة: مقاطع الزيف العميق، والنصوص العامة).
المخاطر الضئيلة أو المنعدمة (حرّة الاستخدام)
- مثل ألعاب الفيديو، ومرشحات البريد المزعج.
في المقابل، تبنّت الولايات المتحدة نهجًا مختلفًا وأكثر مرونة؛ إذ لم تسنّ حتى الآن قانونًا فيدراليًا شاملًا للذكاء الاصطناعي، بل اعتمدت على إرشادات طوعية ومدونات سلوك، إلى جانب تطبيق القوانين القائمة، مثل قوانين منع التمييز على الحالات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. كما أصدر البيت الأبيض أوامر تنفيذية لتعزيز تطوير الذكاء الاصطناعي الآمن دون فرض إطار قانوني صارم.
يعكس هذا التباين بين النموذج الأوروبي والأمريكي معادلة معقّدة بين الحذر المسبق وتشجيع الابتكار؛ ففي حين يرى الأوروبيون أن حماية المجتمع تستلزم تنظيمًا استباقيًا صارمًا، يراهن الأمريكيون على التنظيم الذاتي للصناعة وتفادي خنق الابتكار.
أما على الصعيد الدولي، فقد تزايدت الدعوات إلى وضع مدونات سلوك ومعايير مشتركة للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك جهود اليونسكو لإقرار توصيات أخلاقية، ومناقشات داخل الأمم المتحدة حول إطار عالمي لحوكمة الذكاء الاصطناعي. يؤكد ذلك على أن المسألة أضحت أولوية عالمية تستدعي تنسيقًا دوليًا يتجاوز الفوارق بين الأنظمة القانونية المختلفة.
2. البلوك تشين والعملات المشفّرة
تمثل تقنية سلسلة الكتل (Blockchain) والعملات المشفّرة مثل البتكوين أحد أوضح الأمثلة على التحديات التنظيمية التي تفرضها التقنيات اللامركزية العابرة للحدود. فمنذ نشأتها، ارتبطت هذه العملات برؤية تقوم على التحرر من الهيئات التنظيمية التقليدية، مثل البنوك المركزية والحكومات، وهو ما جعلها بطبيعتها في مواجهة مباشرة مع السلطات المالية حول العالم. وقد جاءت الاستجابات التنظيمية متباينة بشكل واضح بين النظم القانونية المختلفة.
مثّلت الصين النموذج الأكثر تشددًا؛ ففي سبتمبر 2021 أعلن البنك المركزي الصيني، بالتنسيق مع عشر جهات تنظيمية أخرى، الحظر الكامل لجميع معاملات العملات المشفّرة وأنشطة التعدين. وقد برّرت السلطات هذا الموقف باعتبارات تتعلق بحماية النظام المالي من المخاطر النظامية والجريمة المنظمة، ورغبة الدولة في الحفاظ على سيطرتها المطلقة على السياسة النقدية.
كما أُثيرت مخاوف مرتبطة بغسل الأموال والاحتيال المالي، إلى جانب التأثير السلبي للتعدين على أهداف الصين البيئية نظرًا لاستهلاكه الهائل للطاقة. وأكد البنك المركزي أنه سيتعامل “بحزم” مع أي محاولة لاستخدام العملات الافتراضية، معتبرًا أن ذلك ضروري لحماية المواطنين والنظام الاقتصادي والاجتماعي.
على الجانب الآخر، سلك الاتحاد الأوروبي مسارًا أكثر انفتاحًا، قائمًا على التنظيم والدمج بدل الحظر. ففي عام 2023، تم اعتماد إطار قانوني موحّد للعملات المشفّرة يُعرف باسم MiCA (اللوائح التنظيمية للأسواق في الأصول المشفّرة). ويهدف هذا الإطار إلى دمج الأصول الرقمية داخل النظام المالي الرسمي بدلًا من استبعادها، من خلال فرض تسجيل إلزامي لمنصات التداول، ووضع قواعد صارمة لمكافحة غسل الأموال، وضمانات لحماية المستثمرين.
بالإضافة إلى ذلك، ألزمت اللائحة مُصدري العملات المستقرة بالاحتفاظ باحتياطيات مالية محددة، وفرضت متطلبات شفافية وإفصاح عالية على مقدمي الخدمات. وبهذا اختار الاتحاد الأوروبي تحويل العملات المشفّرة من “مخاطر مجهولة” إلى قطاع منظم، في محاولة لتحقيق التوازن بين تشجيع الابتكار المالي وتقليل المخاطر المرتبطة به، على غرار مقاربته السابقة مع قطاع التكنولوجيا المالية.
أما الولايات المتحدة فما تزال في موقع وسط؛ فهي لم تُقِدم على حظر العملات المشفّرة، لكنها أيضًا لم تعتمد إطارًا فيدراليًا شاملًا بعد. وبدلًا من ذلك، تم اللجوء إلى تطبيق القوانين القائمة، وعلى رأسها قوانين الأوراق المالية، لاعتبار بعض العملات المشفّرة أوراقًا مالية غير مسجّلة.
وقد شهد الكونجرس مؤخرًا جهودًا لوضع تشريعات أوضح، خاصة بعد انهيار منصات كبرى مثل FTX، والذي أبرز مخاطر غياب الضوابط الصارمة. وبصورة عامة، يمكن القول إن الولايات المتحدة تميل تدريجيًا نحو تنظيم انتقائي يركز على حماية المستثمرين ومنع الجرائم المالية، مع الحرص في الوقت نفسه على عدم كبح جماح الابتكار الذي يُنظر إليه كرافعة مهمة للاقتصاد الرقمي في وادي السيليكون.
3. الطائرات بدون طيار (المسيّرات المدنية)
شهد العقد الماضي تحول الطائرات بدون طيار من معدات عسكرية بحتة إلى أدوات مدنية واسعة الاستخدام، سواء في مجالات التصوير والإنتاج الإعلامي، أو الخدمات اللوجستية والتوصيل، أو حتى في الزراعة والرصد البيئي.
هذا الانتشار السريع وضع قضايا سلامة الأجواء وخصوصية الأفراد في قلب النقاشات التنظيمية. فالدرونز طائرات حقيقية يمكن قيادتها من قبل أفراد غير مختصين، ما يفتح الباب أمام حوادث اصطدام محتملة أو انتهاكات للخصوصية من خلال التصوير الجوي غير المرخص. ومن ثمّ انصبت أغلب جهود التشريع في مختلف الدول على محورين رئيسيين: السلامة الجوية وحماية الخصوصية.
في الولايات المتحدة، اضطلعت إدارة الطيران الفيدرالية (FAA) منذ عام 2015 بمسؤولية تنظيم نشاط الطائرات بدون طيار. وقد ألزمت القواعد أي طائرة يزيد وزنها عن 250 جرامًا بالتسجيل في قاعدة بيانات وطنية، وفرضت قيودًا تشغيلية. تشمل هذه القيود ألا يتجاوز التحليق ارتفاع معين، وألا يتم الطيران خارج نطاق الرؤية المباشرة للمشغّل، فضلًا عن حظر التحليق فوق التجمعات البشرية أو قرب المطارات والمجالات الجوية الحساسة إلا بتصريح خاص.
كما اعتمدت إدارة الطيران الفيدرالية مؤخرًا نظام الهوية الإلكترونية الإلزامية (Remote ID) الذي يتيح للسلطات تعقّب الطائرات وتحديد المسؤولية عند وقوع المخالفات أو الحوادث. أما فيما يتعلق بالخصوصية، فقد تركت الحكومة الفيدرالية معظم التفاصيل للتشريعات المحلية على مستوى الولايات، حيث أقرّت العديد منها قوانين تجرّم استخدام الدرون في التصوير أو المراقبة غير المصرّح بها داخل الممتلكات الخاصة.
وفي أوروبا، دخلت لائحة موحدة على مستوى الاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ عام 2020 تحت إشراف وكالة سلامة الطيران الأوروبية (EASA). وتتسم هذه اللائحة بتبني نهج قائم على تصنيف المخاطر، حيث تنقسم العمليات إلى ثلاث فئات:
- الفئة المفتوحة (منخفضة الخطورة): يُسمح فيها بالطيران وفق شروط مبسطة (مثل قيود على الوزن والمسافة عن الأفراد).
- الفئة المحددة (متوسطة الخطورة): تتطلب إخطارًا مسبقًا أو تصريحًا بناءً على تقييم مخاطر لكل عملية.
- الفئة المعتمدة (عالية الخطورة): تعامل معاملة الطائرات المأهولة، وتستلزم شهادات صلاحية جوية ومشغلين معتمدين، وهي مخصصة للعمليات المتقدمة مثل التوصيل في المدن أو نقل الركاب مستقبلًا.
كما تفرض اللائحة الأوروبية تسجيل معظم الطائرات إذا تجاوزت وزنًا معينًا أو كانت مجهّزة بكاميرا، وتشترط حصول المشغلين على تدريب وشهادات متدرجة بحسب فئة التشغيل. ويمتاز الإطار الأوروبي أيضًا بإيلاء أهمية خاصة لاعتبارات حماية البيانات الشخصية، إذ يُلزم بتوافق أي استخدام للكاميرات أو جمع بيانات مع تشريعات الخصوصية مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR).
ومن الأمثلة اللافتة في هذا السياق مبادرة “صناديق الرمل التنظيمية” (Regulatory Sandboxes). طُبّقت هذه المبادرة في بريطانيا ودول أخرى، حيث أُتيح للشركات اختبار ابتكارات جديدة مثل خدمات التوصيل بالدرونز ضمن نطاقات محددة وتحت رقابة الجهات التنظيمية مع تخفيف مؤقت لبعض القيود. وقد وفّرت هذه التجربة أرضية وسطية تسمح بالتجريب والابتكار مع الحفاظ على الحد الأدنى من الضوابط.
إجمالًا، يمكن القول إن التجربة التنظيمية للطائرات بدون طيار تكشف عن نهج تدريجي وتكيفي، بدأ بفرض قواعد أساسية للسلامة، ثم أضيفت متطلبات تقنية مثل الهوية الإلكترونية، وأخيرًا ابتُكرت حلول مرنة لتشجيع الاستخدام الآمن والمبتكر. ورغم أن النقاش ما زال مفتوحًا بشأن مسائل مثل الدرونز ذاتية القيادة بالكامل وتبعات قراراتها، فإن التجربة حتى الآن تمثل مثالًا ناجحًا نسبيًا على قدرة القانون على مجاراة وتيرة التكنولوجيا وحماية المصلحة العامة دون حظر التقنية ذاتها.
القوانين المصرية المؤثرة في التقنيات الناشئة
عند دراسة البيئة القانونية للتقنيات الناشئة في مصر، يبرز نمط متكرر في الفلسفة التشريعية المتبناة؛ نمط تغلب عليه النزعة الأمنية والتحكم المركزي على حساب اعتبارات التطوير والابتكار. فالمشرّع المصري، في كثير من النصوص المرتبطة بالبحث العلمي وبالفضاء الرقمي وتنظيم التكنولوجيا، ينطلق من فرضية ترى في التقنية مصدرًا محتملًا للخطر قبل أن تراها فرصة للتنمية.
وتتجسد هذه الفلسفة في توسّع ملحوظ في تجريم الأفعال المرتبطة باستخدام التقنيات الحديثة؛ إما عبر الاعتماد على نصوص ذات صياغات فضفاضة تسمح بتأويل واسع، أو عبر منح السلطات التنظيمية والأمنية صلاحيات تقديرية غير مقيدة بحدود دقيقة.
وبدلًا من تبنّي أدوات تشريعية مرنة ومتدرجة، كما في التجارب الدولية الحديثة كالتنظيم التجريبي أو صناديق الاختبار التنظيمية، يميل المشرّع إلى خيار التقييد المسبق الذي يضع حواجز قانونية قبل ممارسة الأنشطة التقنية أصلًا؛ ما يفضي عمليًا إلى إحباط كثير من محاولات الابتكار في مهدها. ويتكامل هذا التوجه مع طبيعة التنظيم الإداري في مصر، حيث تسود المركزية الحاكمة والتدرج الهرمي في التراخيص والموافقات، وتتحوّل البيروقراطية إلى قيد مباشر على الباحثين والمطورين ورواد الأعمال.
أولاً: الإطار الدستوري المصري والتقنيات الناشئة
يشكّل الدستور المصري نقطة الانطلاق الأساسية لأي نقاش حول تنظيم التقنيات الناشئة، إذ يضع مجموعة من المبادئ والالتزامات ذات الصلة المباشرة وغير المباشرة ببيئة الابتكار والبحث العلمي. ومن خلال استقراء مواده، يتضح أن المشرّع الدستوري قد أقرّ منظومة متكاملة تؤكد على مركزية التعليم والبحث والابتكار في بنية الدولة الحديثة، بما يجعل هذه النصوص مرجعية دستورية عليا تقيد المشرّع العادي ومؤسسات الدولة بعدم سنّ قوانين أو تبنّي سياسات تُقوّض بيئة التطوير التقني أو تخنق البحث العلمي، إلا بقدر ما تقتضيه الضرورة المشروعة ووفق ضوابط محددة.
وعليه، فإن أي إطار تشريعي للتقنيات الناشئة في مصر ينبغي أن يتسم بالتوازن: من جهة، حماية الحقوق والمصالح العامة، ومن جهة أخرى، احترام الضمانات الدستورية المقررة لحرية البحث والابتكار. فالدستور لا يكتفي بتقرير الحقوق، بل ينص صراحة على التزامات إيجابية تُلزم الدولة بتفعيلها وتوفير مقوماتها، وهو ما يجب أن ينعكس على كافة التشريعات المرتبطة بالابتكار والتكنولوجيا.
في صدارة هذه النصوص، تبرز المادة 23 التي كرّست مبدأ حرية البحث العلمي باعتباره “وسيلة لتحقيق السيادة الوطنية وبناء اقتصاد المعرفة”
. ولم يقتصر النص على إقرار الحرية، بل ألزم الدولة بتشجيع مؤسسات البحث العلمي ورعاية الباحثين والمخترعين، مع تخصيص نسبة لا تقل عن 1% من الناتج القومي الإجمالي لدعم البحث العلمي. هذا الالتزام الدستوري يُنشئ مسؤولية قانونية مباشرة على الدولة لتهيئة بيئة حاضنة للابتكار، ويضع حدودًا أمام أي محاولة لسنّ تشريعات تقييدية لا تستند إلى ضرورات مشروعة.
كما جاءت المادة (21) لتؤكد التزام الدولة بضمان جودة التعليم العالي وتطويره وفق معايير الجودة العالمية، مع تعزيز استقلال الجامعات والمجامع العلمية. ورغم أن النص يركّز على الجانب التعليمي، فإن استقلال المؤسسات الأكاديمية يُعدّ شرطًا جوهريًا لازدهار البحث العلمي في المجالات التقنية الجديدة. ومن ثمّ، فإن أي قيود تحدّ من حرية القرار الأكاديمي أو البحثي تمثل تعارضًا صريحًا مع هذا الإطار الدستوري.
وفيما يتعلق بالموارد الطبيعية والطاقة، نصّت المادة (32) على التزام الدولة بالحفاظ على الموارد وحسن استغلالها، وتشجيع الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، ودعم البحث العلمي المتعلق بها. هذا الربط المباشر بين البحث العلمي والتقنيات الاستراتيجية يوسّع نطاق الإطار الدستوري ليشمل الابتكار التقني كجزء من السيادة الوطنية وإدارة الموارد.
وأخيرًا، جاءت المادة( 238) لتضع التزامًا زمنيًا على الدولة بزيادة مخصصات التعليم والبحث العلمي تدريجيًا حتى بلوغ النسب الدستورية، وهو ما يوفّر أداة لمساءلة الدولة حال تقاعسها عن تمويل بيئة البحث والتطوير، بما يهدد استدامة منظومة الابتكار التقني.
ثانيًا: قانون تنظيم الجامعات والبحث العلمي
يتسم الإطار القانوني المنظّم للتعليم الجامعي والبحث العلمي في مصر بطابع مركزي صارم؛ إذ يضع قانون تنظيم الجامعات – ولا سيما في مادته (19) – السلطة الكاملة في رسم السياسات العامة للتعليم العالي والبحث العلمي بيد المجلس الأعلى للجامعات. وقد أدى ذلك إلى تكريس بيئة تنظيمية موحّدة ذات طبيعة فوقية، تتولى فيها جهة مركزية تحديد التوجهات والخطط البحثية لجميع الجامعات المصرية.
ورغم أن هذا النمط قد يحقق اتساقًا مؤسسيًا، إلا أنه في المقابل يضعف قدرة الجامعات على التفاعل السريع مع التحولات التقنية المتسارعة. فعلى سبيل المثال، قد يواجه الباحثون صعوبة في توجيه جهودهم نحو مجالات جديدة كالذكاء الاصطناعي أو التكنولوجيا الحيوية، بسبب افتقار الجامعات – وفق هذا القانون – إلى الاستقلالية الكافية التي تسمح بالحركة خارج الإطار البيروقراطي البطيء.
تكشف اللائحة التنفيذية للقانون عن نزعة شديدة إلى التحكم في المسار الأكاديمي والبحثي، من خلال اشتراطات إجرائية معقدة تمتد من تسجيل موضوع البحث إلى الإشراف العلمي وتشكيل لجان المناقشة وحتى إجراءات النشر. فمثلًا، تنص المواد (98، 103–105) على نظام متدرج لاعتماد الموضوعات البحثية، حيث يشترط المرور بموافقات متتابعة: مجلس القسم، ثم مجلس الكلية، ثم لجنة الدراسات العليا. هذه السلسلة الإلزامية من الإجراءات تُطيل زمن إنجاز الأبحاث وتُدخلها في متاهات بيروقراطية، وهو ما يتناقض مع طبيعة التقنيات الناشئة التي تتطلب مرونة عالية وقدرة على التكيّف السريع مع مستجدات البحث والتطوير، بل وتحتاج أحيانًا إلى تقبّل مستوى من المخاطرة غير المستوعب في الأطر الجامعية التقليدية الجامدة.
ولا يقتصر أثر القانون على الجانب الإداري، بل يمتد إلى تشكيل الثقافة المؤسسية الحاكمة للعمل الأكاديمي. إذ تُظهر المواد (123 وما بعدها) من اللائحة التنفيذية تركيزًا مبالغًا فيه على الضوابط التأديبية مثل “المخالفة الأكاديمية” و”النشاط غير المصرّح به”، مقرونة بعقوبات صارمة على الباحثين والطلاب. وبدلًا من توفير الحوافز وتوسيع الحرية الأكاديمية، تُنتج هذه البيئة مناخًا من الحذر والامتثال يحدّ من إقدام الباحثين على تجريب أفكار جديدة أو خوض مجالات حساسة كالتقنيات الرقمية أو التعاون الدولي في مشروعات بحثية.
وعلى صعيد العلاقة بين الجامعة والمجتمع، نصّت المادة (35 مكرر “أ”) من القانون على إنشاء مجلس لخدمة المجتمع وتنمية البيئة داخل كل جامعة. إلا أن غياب الآليات التنفيذية والإلزام التشريعي جعل هذا النص أقرب إلى صياغة إنشائية دون أثر فعلي. فلا توجد في القانون حوافز أو التزامات تدفع الجامعات إلى بناء شراكات تكنولوجية مع الصناعة، أو إلى احتضان حاضنات أعمال ومنصات لتجريب التقنيات الناشئة. وبدلًا من أن تتحول الجامعات إلى محركات للابتكار والإبداع كما هو الحال في التجارب العالمية الرائدة، تظل رهينة سلطة مركزية قد لا تواكب إيقاع التطور العالمي، وهو ما يُفقد الأكاديميين والباحثين في مصر مساحة التأثير في السوق والقدرة على الاستفادة من فرص التمويل والاستثمار التقني.
ثالثًا: قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات
صدر قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 باعتباره أول إطار تشريعي شامل لضبط الفضاء الرقمي في مصر ومواجهة الجرائم الإلكترونية. ورغم أهميته في تعزيز الأمن السيبراني، تكشف القراءة النقدية لأحكامه عن مساحات تماس حساسة بين متطلبات الأمن من جهة وحرية الابتكار والبحث من جهة أخرى. تخلق هذه المساحات بيئة قانونية مثقلة بالقيود، وتُضعف الاستثمار في التقنيات الناشئة وتثبط التجريب التقني.
يتبنى القانون لغة فضفاضة عبر مصطلحات مثل “الدخول غير المشروع” و“الاعتراض غير المصرح به” و“تجاوز حدود الحق” (المواد 14–17)، دون تعريف تقني دقيق أو معيار واضح يحدد القصد الجنائي. هذا الغموض يسمح بتأويل واسع قد يشمل أنشطة بحثية أو تعليمية بحتة مثل محاكاة الهجمات أو اختبار الاختراق. إن غياب التفريق بين الاستخدام المشروع للتقنيات لأغراض تعليمية أو بحثية وبين الاستخدام الخبيث يخلق مناخًا من الارتباك القانوني والقلق المستمر، وهو ما يقوّض جوهر الابتكار القائم على التجربة والاختبار.
ويفرض القانون التزامات ثقيلة على مقدمي الخدمة، إذ تُلزم المادة (2) مزوّدي الإنترنت والشركات الرقمية بالاحتفاظ ببيانات المستخدمين لمدة لا تقل عن 180 يومًا وتمكين جهات الأمن من الاطلاع عليها عند الطلب. ولا يشترط القانون صراحة إذنًا قضائيًا مسبقًا، ما يثير مخاوف حول الخصوصية. هذا الالتزام يشكل عبئًا تشغيليًا وماليًا جسيمًا على الشركات الناشئة، التي غالبًا ما تفتقر إلى البنية التحتية لحماية بيانات بهذا الحجم. كما أن الغرامات المنصوص عليها في المواد (31 و33) قد تصل إلى ملايين الجنيهات، وهو ما يهدد استدامة هذه الشركات ويُثني المستثمرين عن تمويل مشاريع قائمة على البيانات أو الخدمات السحابية.
كما تمنح المادة (7) جهة التحقيق سلطة حجب أي موقع أو منصة رقمية بدعوى تهديد “الأمن القومي” أو “الاقتصاد الوطني”، من دون وضع تعريف محدد لهذه المصطلحات أو معايير شفافة للتنفيذ. غياب التعريفات المحددة قد يسمح لهذه السلطة أن تمتد لتشمل منصات ناشئة أو تطبيقات تعتمد على تكنولوجيا البلوك تشين أو الذكاء الاصطناعي التوليدي. هذا المناخ الضبابي يزرع الرقابة الذاتية لدى المطورين، الذين قد يحجمون عن خوض تجارب ابتكارية خوفًا من الحجب أو الملاحقة، ما يؤدي إلى تآكل الحيوية الرقمية في مصر.
على جانب آخر، تتطلب أبحاث الأمن السيبراني استخدام أدوات قد تبدو “خطرة” خارج السياق الأكاديمي، مثل برمجيات توليد الأكواد الخبيثة أو محاكاة الفيروسات. غير أن المادة (22) تجرّم حيازة أو تداول هذه الأدوات بغرض استخدامها في الجريمة من دون استثناء صريح للبحث العلمي. قد يؤدي ذلك إلى تعرض الباحثين والطلاب للمساءلة القانونية، حتى إن كان هدفهم تطوير تقنيات حماية. فغياب التمييز بين السياق البحثي والسياق الإجرامي يُقوّض قدرة الجامعات والمراكز البحثية على الإسهام في تطوير حلول سيبرانية محلية.
كما تغلب على فلسفة القانون نزعة ردعية عقابية، كما يتضح من العقوبات المشددة في المواد (30 و34)، التي قد تصل إلى السجن المشدد وغرامات بملايين الجنيهات. يفتقر القانون إلى آليات توازن بين الردع والتمكين، فلا يقدم حوافز للابتكار الرقمي، ولا يفرّق بين النوايا الإبداعية والإجرامية عند استخدام التقنية. وهكذا، يتحول إلى أداة ضبط وتخويف أكثر من كونه إطارًا مرنًا قادرًا على مواكبة التحولات.
في المحصلة، يمكن القول إن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات – بصيغته الحالية – يرسّخ أولوية الاعتبارات الأمنية على حساب الابتكار. وإذا لم تُجرَ تعديلات على لائحته التنفيذية تراعي خصوصية البحث العلمي وريادة الأعمال الرقمية، فإن بيئة الابتكار في مصر ستظل محاطة بمخاطر التجريم والحجب، بدلًا من أن تتطور إلى فضاء داعم للتطوير والإبداع.
رابعًا: قانون تنظيم استخدام الطائرات المُسَيَّرة
أصدرت مصر في عام 2017 قانون بشأن تنظيم استخدام الطائرات المحركة آليًا أو لاسلكيًا وتداولها، وهو قانون ينطلق من افتراض أساسي مفاده أن الدرونز تشكل تهديدًا محتملًا للأمن القومي. ومن ثم تبنّى مقاربة الحظر العام والإباحة المشروطة: أي تجريم استيراد أو تصنيع أو حيازة أو تشغيل الطائرات المُسَيَّرة دون الحصول على تصريح مسبق من وزارة الدفاع. هذه التصاريح لا تُمنح إلا بشروط وإجراءات صارمة، وتظل رهينة تقدير الجهات العسكرية المختصة.
تُحوِّل هذه الفلسفة التنظيمية الأصل في استخدام الدرونز إلى المنع، وتجعل الإباحة استثناءً محدودًا. بالإضافة إلى ذلك، يفرض القانون عقوبات مشددة تتراوح بين السجن لسنوات طويلة، وتصل في بعض الحالات إلى السجن المؤبد أو حتى الإعدام إذا ارتبط الاستخدام بأفعال تهدد أمن الدولة. كما يتيح للأجهزة الأمنية والعسكرية صلاحيات واسعة في الضبط والتفتيش والمصادرة.
تضع هذه البيئة القانونية الصارمة رواد الأعمال والمبتكرين أمام معضلة حقيقية: فبدلًا من أن يُنظر إلى الدرونز كأداة للتنمية الاقتصادية وتحسين الخدمات، يُعامَل استخدامها كخطر كامن يستوجب التضييق. وقد أدى هذا الوضع إلى تجميد شبه كامل للاستخدامات التجارية والابتكارية للطائرات المسيّرة في مصر، إذ يخشى أصحاب المشاريع الدخول في هذا المجال خشية الملاحقة الجنائية.
وبذلك، تصبح الكلفة الابتكارية للقانون مرتفعة للغاية، حيث يُفقد المجتمع فرصًا اقتصادية وتقنية كان من الممكن أن تساهم في مجالات النقل الذكي، والزراعة الدقيقة، والخدمات الطبية الطارئة. إن هذه المقاربة الوقائية، وإن بدت متسقة مع اعتبارات الأمن القومي، إلا أنها في جوهرها تُقوِّض قدرة مصر على اللحاق بركب التطورات العالمية في واحدة من أكثر تقنيات العقد الحالي وعدًا.
خامسًا: قانون تنظيم الاتصالات
مع الطفرة التقنية العالمية، سعت مصر إلى تحديث إطارها القانوني لقطاع الاتصالات عبر تعديلات متتالية على قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003، كان أبرزها القانون رقم 172 لسنة 2022. ورغم أن الهدف المعلن لهذه التعديلات هو ضبط السوق ومكافحة الاستخدامات غير المشروعة، إلا أن نتائجها العملية تكشف عن توسع مفرط في التجريم وفرض قيود بيروقراطية صارمة، ما ألقى بظلال ثقيلة على بيئة الابتكار التقني.
لقد وسّع القانون المعدِّل نطاق التجريم المتعلق بمعدات وأجهزة الاتصالات، بحيث لم يعد مقتصرًا على الشركات المصنّعة أو المستوردة غير المرخّصة، بل شمل كذلك الحيازة والاستخدام والتشغيل والتسويق والتركيب دون ترخيص. وبهذا أصبح المستخدمون النهائيون والمطوّرون في قلب دائرة المسؤولية الجنائية.
قد يكون الهدف من هذا التوسع هو مواجهة “الفوضى التقنية” وضبط الأجهزة غير المطابقة للمواصفات، غير أن أثره الفعلي يتمثل في خلق بيئة محفوفة بالمخاطر القانونية؛ فحتى تجربة نموذج أولي أو اختبار جهاز اتصال مبتكر قد يعرّض صاحبه للمساءلة. يفضي ذلك في المحصلة إلى تقويض روح المبادرة وتقييد إمكانات التطوير المستقل.
كما تتسم الصياغات الحالية بغياب المرونة في التعامل مع التقنيات الناشئة. فهي لا تميّز بين الاستخدام التجاري واسع النطاق وبين الاستخدام البحثي أو التجريبي المحدود. هذا الجمود يضع الطلاب والمخترعين والباحثين في مرمى العقوبات إذا استخدموا معدات غير مدرجة في القوائم الرسمية. وبدلًا من تشجيع تطوير حلول محلية تواكب الاحتياجات الوطنية، أصبح القانون عائقًا يقوّض فرص اللحاق بركب التطور العالمي ويقصر المجال الابتكاري في نطاق ضيق خالٍ من المجازفة.
بالإضافة إلى ذلك، تمنح التعديلات للجهاز القومي لتنظيم الاتصالات مهلة تصل إلى 90 يومًا لدراسة طلبات التصاريح الخاصة باستخدام أجهزة أو تقنيات جديدة. هذه المدة، وإن بدت مقبولة إداريًا، تعد زمنًا طويلًا جدًا في عالم التقنية سريع الإيقاع؛ ففي ثلاثة أشهر قد تفقد الفكرة ميزتها التنافسية أو تتجاوزها التطورات.
أيضًا جاءت التعديلات بصياغات فضفاضة تربط أي استخدام غير مصرح به بـ“الأمن القومي”، ما يمنح السلطات صلاحيات واسعة في المنع والمصادرة والعقاب، حتى دون تحقق ضرر فعلي. وبذلك يتحول القانون إلى أداة رقابية وقائية تُجرّم الفعل التقني مسبقًا، متجاوزًا مبدأ الإباحة الأصلية في القانون. وتزداد خطورة هذا النهج مع التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، مثل أنظمة التشفير والشبكات اللامركزية، التي يكاد استخدامها يصبح محظورًا بحكم الواقع.
يُذكر أن المادة (57) من الدستور المصري تنص على حماية حق المواطنين في استخدام وسائل الاتصال، وتمنع حرمانهم منها تعسفًا. غير أن تعديلات القانون جاءت بفرض قيود صارمة وعقوبات مغلظة من دون مبررات إحصائية أو تقييم لجدوى العقوبات السابقة. الأهم أن القانون لم يخصص أي مساحة للتجريب أو الابتكار تحت إشراف أكاديمي أو رسمي، بل تعامل مع جميع الاستخدامات بصرامة متساوية.
خاتمة
إن القراءة المتأنية للأطر التشريعية المصرية المنظمة للتقنيات الناشئة تكشف عن أزمة تتجاوز النصوص القانونية ذاتها لتصل إلى جوهر الفلسفة التشريعية التي تقف خلفها. فهذه الفلسفة، كما أظهرت الأمثلة في قانون تنظيم الجامعات، وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وقانون تنظيم استخدام الدرونز، وقانون تنظيم الاتصالات، تقوم على تغليب منطق السيطرة والتحوط الأمني على حساب منطق التمكين والابتكار.
وتترجم هذه الرؤية إلى نصوص قانونية تتسم إما بالصياغات الغامضة والفضفاضة، أو بالعقوبات المبالغ فيها، أو بالإجراءات البيروقراطية المطولة، بينما يغيب عنها أي تصور واضح يُعلي من شأن الابتكار كجزء من المصلحة العامة التي ينبغي حمايتها ورعايتها.
وتظهر خطورة هذا التوجه على عدة مستويات:
- على مستوى البحث العلمي: تنتج بيئة طاردة للعقول، حيث يجد الباحثون والمبتكرون أنفسهم بين ثلاثة خيارات؛ إما الالتزام الحرفي بإجراءات عقيمة وبطيئة تعرقل التجريب، أو العمل في الظل خارج الأطر الرسمية، أو الهجرة إلى دول أكثر دعمًا ومرونة.
- على مستوى الاستثمار وريادة الأعمال: يرسّخ هذا المناخ القانوني صورة سلبية لدى المستثمرين والشركات الناشئة، تقوم على غياب اليقين القانوني والخوف من الملاحقة الجنائية لأبسط التجارب التكنولوجية. وهو ما يجعل مصر بيئة طاردة للاستثمارات النوعية التي تقوم بطبيعتها على سرعة التجريب وانخفاض تكلفة الامتثال.
- على المستوى الدولي: يتناقض هذا النهج مع المبادئ الدولية في حوكمة التكنولوجيا، كما في توصيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أو معايير اليونسكو، التي تشدد على ضرورة الموازنة بين الابتكار والمسؤولية، وإشراك أصحاب المصلحة في صنع القرار، وعدم اللجوء إلى التشديد القانوني إلا بقدر الضرورة.
وإذا كانت مصر تعلن في استراتيجياتها الوطنية سعيها للتحول إلى مركز إقليمي للابتكار والتكنولوجيا، فإن استمرار الفجوة بين فلسفتها التشريعية والتوجهات العالمية سيكون عائقًا بنيويًا يقوّض هذا الهدف من أساسه. من ثمّ، ينبغي إعادة النظر في هذه المنظومة القانونية برمتها، والانتقال من فلسفة الضبط والرقابة إلى التمكين والتشجيع على التجريب والابتكار، باعتبار أن القدرة على مواكبة التطور التكنولوجي ليست ترفًا، بل شرطًا أساسيًا لأي مشروع تنموي جاد في القرن الحادي والعشرين.