من ممر البيانات العالمي إلى بوابات التحكم: قراءة في البنية التحتية الرقمية بمصر

مقدمة
في ظل تنامي الاعتماد العالمي على الشبكات الرقمية كمحرك رئيسي للاقتصاد والتواصل والخدمات، أصبحت البنية التحتية للاتصالات في أي بلد مقياسًا لقدراته التقنية وموقعه ضمن خارطة الاتصال الدولي. ولم تعد هذه البنية مجرد مكونات مادية كالكوابل والمقاسم، بل باتت تعكس توجهات الدولة في التنظيم، والتوزيع، والتطوير، ومدى التزامها بتكافؤ الفرص في النفاذ إلى الموارد الرقمية.
في مصر، يتجلى هذا الواقع بصورة مركبة؛ فبينما تتمتع البلاد بموقع جغرافي يجعلها ممرًا أساسيًا لحركة البيانات بين القارات، إلا أن هذا الامتياز الجغرافي لا ينعكس بالضرورة على جودة الخدمة أو عدالة التوزيع الداخلي. تظهر فجوات واضحة بين ما هو متاح تقنيًا وبين ما يصل فعليًا إلى المستخدمين من حيث السرعة، والاستمرارية، والتكلفة، وحماية البيانات الشخصية.
يرتبط هذا التباين بالبنية التحتية ولكنه يمتد أيضًا إلى أنماط الإدارة والسياسات العامة المنظِّمة لهذا القطاع. فطريقة التعامل مع الموارد الرقمية، ومدى إتاحة المعلومات، وآليات المحاسبة، جميعها تحدد ملامح البيئة الرقمية التي يعيش فيها المواطن يوميًا. من هذا المنطلق، يصبح تحليل هذه البنية ضروريًا، ليس فقط بوصفها نظامًا للنقل الرقمي، بل كبنية حاكمة تؤثر في الفرص، والحقوق، والمشاركة، والتمكين.
تتناول هذه الورقة الجوانب المختلفة لهذه البنية الرقمية في مصر، بدءًا من موقعها في منظومة الإنترنت العالمي، مرورًا بأنماط الملكية والإدارة، ووصولًا إلى مستوى النفاذ وجودة الخدمة والضمانات القانونية المتاحة لحماية الحقوق الرقمية. وبدلًا من التوقف عند توصيف التحديات، تسعى الورقة إلى تقديم تصور نقدي ومتوازن لمسارات الإصلاح الممكنة التي تضع مصلحة المستخدم في صلب الحوكمة الرقمية، وتدفع نحو نموذج أكثر عدلًا وشفافية واستدامة.
دور الكابلات البحرية في الإنترنت العالمي وموقع مصر الاستراتيجي
تلعب الكابلات البحرية دورًا أساسيًا ومحوريًا في منظومة الإنترنت العالمية، إذ تُعد الوسيلة الرئيسية لنقل أكثر من 95% من حركة البيانات الدولية بين القارات. تمثل هذه الكابلات الأعمدة الفعلية غير المرئية للبنية التحتية الرقمية، وتربط الشبكات الوطنية حول العالم بشبكة الإنترنت العالمية.
ضمن هذه المنظومة، تتمتع مصر بموقع جيواستراتيجي استثنائي، يجعلها حلقة وصل مركزية بين آسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس. ووفقًا لتصريحات رسمية نُشرت في يونيو 2025، يمر عبر مصر 20 كابلًا بحريًا دوليًا، من بينها كابلات قيد التشغيل وأخرى قيد الإنشاء. يُعزز هذا التركز من أهمية مصر كممر رقمي عالمي، ويعكس تصاعد الاستثمارات في هذا القطاع الاستراتيجي.
تُظهر خريطة الكابلات البحرية بوضوح تركّز عدد كبير منها في مصر. تمر هذه الكابلات من البحر الأحمر عبر مدينة السويس، ثم تقطع نحو 160 كيلومترًا برًّا لتخرج إلى البحر المتوسط عند الساحل الشمالي. عمليًا، تُعد مصر ممرًا حيويًا تمر عبره نسبة ضخمة من حركة الإنترنت العالمية بين قارتي آسيا وأوروبا، تُقدّرها بعض التقديرات بأكثر من 90%. يجعل ذلك من مصر نقطة اختناق رقمية، أي نقطة تعتمد عليها حركة البيانات بين قارات بأكملها.
هذا التمركز الجغرافي ليست له بدائل سهلة، ويرجع إلى عدة عوامل مترابطة، تشمل:
- العامل الجغرافي: يوفر الطريق عبر مصر أقصر مسار بحري-بري بين آسيا وأوروبا مقارنة بالطرق البديلة مثل رأس الرجاء الصالح جنوبًا أو الممرات القطبية شمالًا.
- العوامل الجيوسياسية: تمر الطرق البرية البديلة عبر مناطق مضطربة أو خاضعة لعقوبات، مثل سوريا والعراق وإيران، مما يجعلها غير مفضلة لشركات الاتصالات الدولية.
- فشل المحاولات البديلة: مشاريع بديلة مثل كابل JADI (عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا) أو مشروع EPEG (عبر إيران وروسيا) لم تنجح في تقديم بديل فعّال بسبب التوترات السياسية والتكلفة العالية.
- ديناميكيات السوق: مع مرور الوقت ترسّخ المسار المصري كخيار افتراضي لمعظم الشركات العالمية، مما خلق اقتصاديات أدت إلى خفض التكاليف النسبية وزيادة الاعتماد عليه.
غير أن هذا التركّز يحمل مخاطر جمّة. فمن ناحية تقنية، أي عطل أو قطع في الكابلات المصرية قد يُسبّب اضطرابًا واسع النطاق في الاتصال بين الشرق والغرب. البحر الأحمر نفسه ضحل نسبيًا مما جعله عرضة لحوادث قطع الكابلات؛ وقد وقعت حوادث فعلية مثل انقطاع كابلات قرب الإسكندرية نتيجة محاولة سرقة أو تخريب في عام 2013. كما قبضت البحرية المصرية آنذاك على أشخاص حاولوا قطع كابل بحري. مثل هذه الحوادث أبرزت هشاشة الاعتماد على مسار وحيد. وقد حذّر تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي من أن ممر الكابلات عبر مصر يمثل “أبرز عنق زجاجة” لاتصال أوروبا الرقمي مع آسيا، ويشكل نقطة ضعف ينبغي تأمينه.
من ناحية أخرى تجارية، وجدت شركات الاتصالات الدولية نفسها مضطرة للتعامل مع احتكار فعلي تمتلكه الشركة المصرية للاتصالات لمسار العبور – بما يرافق ذلك من رسوم مرتفعة تفرضها مصر. وقد اشتكى بعض مشغلي الشبكات من هذه الرسوم واصفين إياها بأنها “باهظة”، لكنهم ظلوا مضطرين للدفع لغياب البدائل.
مع ذلك، بدأت القوى الكبرى في مجال التكنولوجيا بالبحث عن حلول لتقليل الاعتماد على المسار المصري رغم صعوبته. على سبيل المثال، أعلنت شركة جوجل عن مشروع كابل “بلو-رامان” (Blue-Raman) الذي يربط الهند بأوروبا عبر البحر الأحمر ولكن يتجنب المرور في مصر، ليخرج بدلًا من ذلك عبر إسرائيل إلى البحر المتوسط.
يُمثّل هذا المشروع سابقة قد تشجع على تمرير مزيد من الكابلات عبر مسارات بديلة عن الأراضي المصرية إذا ثبت نجاحه. هذه التطورات تعني أن دور مصر كممر رقمي بالغ الأهمية قد يواجه منافسة في المستقبل إن لم تُسارع إلى تعزيز تنافسيتها. وتُشير التقديرات إلى تصاعد المنافسة بالفعل من مسارات في دول مثل المغرب (غربًا نحو أوروبا) وإسرائيل (شرق المتوسط).
ملكية الكابلات البحرية المارة عبر مصر ومستوى الشفافية
تمتد الكابلات البحرية عبر الأراضي والمياه المصرية، لكن من يملك هذه الكابلات فعليًا ومن يتحكم فيها؟
على الصعيد الدولي، معظم الكابلات البحرية الكبرى مملوكة لتحالفات من شركات اتصالات عالمية تتقاسم السعات فيما بينها. غير أن المرور عبر مصر يستلزم ترتيبات خاصة بحكم السيادة؛ فلا يمكن لكابل دولي أن يعبر البر المصري دون شراكة محلية. هنا برزت الشركة المصرية للاتصالات (WE) كلاعب مهيمن: فهي ليست فقط شركة الاتصالات الوطنية المالكة لمعظم البنية التحتية الأرضية، بل هي أيضًا الشريك المحلي الإلزامي لأي كابل يربط بين البحر الأحمر والمتوسط عبر مصر.
تاريخيًا، تمتعت الشركة المصرية للاتصالات بوضع احتكاري في قطاع البنية التحتية. فبموجب قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لعام 2003، حصلت الشركة على حقوق حصرية لبناء وتشغيل البنية التحتية للاتصالات في البلاد. نتيجة لذلك، اضطرت باقي الشركات (مثل فودافون، وأورانج، واتصالات) إلى استئجار السعات من المصرية للاتصالات بدلًا من بناء شبكات دولية موازية. ويعني هذا أن المسؤولية الفعلية لتحسين وصلات الإنترنت الدولية تقع على عاتق المصرية للاتصالات وحدها.
على صعيد التحكم والإدارة، لا تزال مفاتيح بوابات الإنترنت الدولية مركّزة بيد الدولة المصرية، التي تمارس هيمنة شبه كاملة على البنية التحتية الرقمية عبر الشركة المصرية للاتصالات. فرغم تقليص حصة الدولة في الشركة من 80% إلى نحو 67.5% بعد طرح جزء من الأسهم في البورصة عام 2023، إلا أن الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة المالية، لا تزال تمتلك الحصة الأكبر، وتتمتع بسيطرة فعالة على سياسات الشركة واتجاهاتها الاستراتيجية.
مجالس إدارة الشركة تُدار في الغالب بتنسيق وثيق مع الأجهزة السيادية، ما يجعلها أداة تنفيذية في سياسات الدولة الرقمية، لا مجرد شركة تجارية. وقد عززت الدولة قبضتها المؤسسية في السنوات الأخيرة من خلال إجراءات رسمية، أبرزها قرار مجلس الوزراء رقم 242 لسنة 2019، الذي نقل أصول البنية التحتية للاتصالات – بما فيها كابلات الألياف الضوئية – إلى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية.
هذا التمركز الحاد في ملكية وإدارة البنية التحتية يجعلها صندوقًا أسود مغلقًا أمام الرقابة المدنية والمجتمعية. كما أنه يُقيّد إمكانية التدقيق والمساءلة، ويطرح تساؤلات جوهرية حول شفافية الحوكمة الرقمية، وحيادية البنية التحتية في ظل تضخم أدوار الدولة الأمنية في قطاع الاتصالات.
فعليًا، تنعدم الشفافية تقريبًا في إدارة قطاع الكابلات الدولية. فلا معلومات علنية متاحة حول العقود المبرمة لعبور الكابلات ورسومها، كما تُصنّف الكثير من تفاصيل تشغيل الشبكات ضمن أسرار الأمن القومي. حتى النقاش العلني في الإعلام حول هذا الموضوع يُواجه بالتضييق: فمثلاً في عام 2019 انتقد مذيع تلفزيوني ما اعتبره فسادًا في رسوم عبور الكابلات البحرية وتربّحًا مبالغًا فيه يهدد مكانة مصر كممر رقمي، فجاء الرد فوريًا بإيقاف برنامجه وتغريم القناة.
يتضح مما سبق أن الدولة، عبر شركاتها، تحتكر فعليًا إدارة الكابلات البحرية والبنية التحتية الرقمية. هذا الاحتكار منحها قدرة تحكمية هائلة في تدفق المعلومات، وفي الوقت نفسه وفر مصدر دخل كبير للخزينة عبر رسوم العبور. لكنه أيضًا أفرز غياب الشفافية وضعف المنافسة والابتكار. فطالما لا يوجد منافس حقيقي في بناء وتشغيل البنية الأساسية، تبقى عملية اتخاذ القرار حكرًا على دائرة ضيقة، مما قد يؤدي إلى تغليب اعتبارات الربح السريع أو المصالح الأمنية الضيقة على حساب المصلحة الأوسع لمستخدمي الإنترنت والتنمية الرقمية الشاملة.
النفاذ العادل
على الرغم من وفرة الكابلات الدولية التي تمر في مصر والسعات الهائلة التي توفرها، يعاني المستخدم المصري من مشاكل تتعلق بجودة الخدمة وتكلفتها وتفاوت إتاحتها بين منطقة وأخرى. أي أن الثروة الرقمية المنقولة عبر البلاد لا تنعكس تلقائيًا في واقع خدمة الإنترنت للمواطنين. بل تكشف المؤشرات عن فجوات رقمية واضحة ذات أبعاد جغرافية واجتماعية.
من الناحية الجغرافية، لا يزال الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة في مصر يتميّز بتركيز حضري واضح، حيث تستأثر المدن الكبرى بالنصيب الأكبر من البنية التحتية للاتصالات وخدمات الإنترنت الثابت. فبحسب بيانات وزارة الاتصالات، بلغ عدد اشتراكات الإنترنت الثابت (النطاق العريض) في مصر نحو 11.67 مليون اشتراك بنهاية يناير 2025، مقارنة بـ11.63 مليون اشتراك في ديسمبر 2024، مما يعكس زيادة شهرية تقدر بـ40 ألف اشتراك تقريبًا.
وتُظهر البيانات أن مناطق القاهرة الكبرى ودلتا النيل الحضرية تتصدران المشهد بنسبة 35% لكل منهما. في المقابل، توزعت باقي الاشتراكات على المناطق القبلية بنسبة 15%، تلتها الإسكندرية ومطروح بنسبة 9%، وأخيرًا مدن القناة وسيناء والبحر الأحمر بنسبة 6%. يتضح من هذا التوزيع غير المتكافئ أن سكان المراكز الحضرية يتمتعون بالحصة الأوسع من خدمات الإنترنت، فيما تعاني المناطق الريفية والصحراوية من تأخر الوصول وضعف البنية التحتية.
جودة الخدمة
أما من ناحية جودة الخدمة والتكلفة، فرغم التحسن النسبي في سرعات الإنترنت بمصر خلال السنوات الأخيرة، لا تزال السرعات متدنية مقارنة بالمعدلات العالمية والإقليمية. ارتفع المتوسط من 5.4 ميجابت/ثانية في ديسمبر 2017 إلى 80.3 ميجابت/ثانية في يناير 2025، بفضل استثمارات تجاوزت 3.5 مليار دولار في تطوير البنية التحتية الرقمية .
وفي أبريل 2025، بلغت السرعة المتوسطة 85.64 ميجابت/ثانية، وهو ما رفع ترتيب مصر إلى المركز 71 عالميًا في سرعة الإنترنت الثابت، مع احتفاظها بالمركز الأول في إفريقيا للعام الثالث على التوالي. رغم هذا التقدم، لا تزال مصر متأخرة عن بعض الدول الإقليمية، حيث تتجاوز السرعات المتوسطة في الإمارات والأردن والسعودية 200 ميجابت/ثانية، مما يشير إلى الحاجة لمزيد من الاستثمارات والتوسعات في البنية التحتية.
من حيث القدرة على الوصول إلى شبكة الإنترنت العالمية، تُظهر الأرقام أن حصة المستخدم المصري من سرعة الاتصال الدولي تحسّنت على مدار السنوات الأخيرة. فبينما كانت هذه الحصة لا تتجاوز 9 كيلوبِت في الثانية عام 2016، ارتفعت الآن إلى حوالي 17 كيلوبِت في الثانية لكل مستخدم.
لكن رغم هذا التحسّن، فإن مصر لا تزال متأخرة كثيرًا عن المعدل العالمي، الذي يزيد عن 150 كيلوبِت في الثانية للفرد. وهذا يعني أن كل مستخدم في مصر يحصل على “نصيب” أقل بكثير من سرعة الإنترنت الدولي مقارنة بمستخدمي الدول الأخرى. يؤثر ذلك على جودة الاتصال، خاصة في تحميل المحتوى أو مشاهدة الفيديو أو إجراء المكالمات عبر الإنترنت. كما أنه يؤكد على الحاجة إلى زيادة السعة الدولية لمصر حتى تتمكن من مواكبة الطلب المتزايد على الإنترنت.
المقابل المادي للخدمة
شهدت أسعار باقات الإنترنت المنزلي في مصر زيادات متتالية خلال عامي 2024 و2025. وبررت الشركات هذه الزيادات بعوامل مثل التضخم وتحديث الشبكات وارتفاع تكاليف التشغيل. إلا أن هذه الزيادات أثقلت كاهل المستخدمين، خاصةً في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال باقات الإنترنت في مصر محدودة السعة، وعند انتهاء الجيجابايتس المخصصة، تنخفض السرعة بشكل كبير أو ينقطع الاتصال، وهو ما يزيد من معاناة المستخدمين. ورغم المطالبات المستمرة بتوفير إنترنت غير محدود، لم تستجب الشركات لهذه الدعوات.
كل ذلك يحدث في وقت تتجه فيه الدولة نحو التحول الرقمي، حيث أصبحت العديد من الخدمات الحكومية تعتمد على الإنترنت. يثير ذلك تساؤلات حول مدى قدرة المواطنين، خاصةً من ذوي الدخل المحدود، على مواكبة هذا التحول. فلا يقتصر الأمر على زيادة الأسعار، بل يمتد إلى تقليص حقوق المواطنين في الوصول إلى خدمة أصبحت من ضروريات الحياة اليومية.
ويتجلى الأثر السلبي لعدم عدالة التوزيع في أن شرائح وفئات معينة من المجتمع تبقى متأخرة رقميًا. على سبيل المثال، لا تتوفر للمواطن في القرى النائية بصعيد مصر نفس فرص الوصول للمعلومات أو الخدمات التعليمية والوظيفية عبر الإنترنت، مقارنةً بالمواطن في القاهرة. هذا التمييز الرقمي يعمّق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، حيث تُحرم مناطق بعينها من ثمار التنمية الرقمية. كما أن ضعف جودة الاتصال أو غلاء الأسعار نسبيًا بالنسبة لذوي الدخل المحدود يعني عمليًا تقييد قدرتهم على الاستفادة من الإنترنت كمنصة للتعبير والتواصل والمعرفة.
البنية التحتية بين الرقابة والتجسس
تمثل الهيمنة المركزية للدولة على بوابات الإنترنت أداة يمكن توظيفها لحماية الأمن السيبراني القومي، لكنها في الوقت نفسه تفتح المجال لممارسات رقابية واسعة قد تنتهك الحقوق الرقمية للمواطنين وتهدد خصوصيتهم. في مضر، تشير المعطيات إلى أن البنية التحتية للاتصالات استُخدمت بالفعل كأداة رئيسية للرقابة والسيطرة على الفضاء الإلكتروني، بشكل يتعارض مع الحق في الخصوصية وحرية التعبير.
منذ عهد مبارك، لجأت الأجهزة الأمنية المصرية إلى مراقبة الاتصالات والإنترنت بشكل ممنهج. تصاعدت هذه الممارسات بعد ثورة يناير 2011. ويُجمع خبراء حقوق الإنسان على أن الأجهزة الأمنية المصرية تمارس بالفعل مراقبة جماعية لكل أشكال الاتصالات، وتستهدف النشطاء والمعارضين بشكل مكثف.
ورغم أن الدستور المصري ينص في مادته 57 على ضمان سرية الاتصالات وعدم جواز التنصت عليها إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محددة، فإن الواقع شهد اختراقات واسعة لهذا المبدأ الدستوري، سواء عبر القوانين أو الممارسة الفعلية.
تستفيد الدولة من سيطرتها على مفاصل البنية التحتية للإنترنت في تنفيذ أنشطة مراقبة تقنية متقدمة. ففي عام 2018، كشفت تحقيقات أجرتها منظمة Citizen Lab عن استخدام السلطات المصرية لتقنية فحص حزم البيانات العميق (Deep Packet Inspection) لاعتراض اتصالات المستخدمين وتغيير مساراتها لأغراض خبيثة.
وقد عُثر على هذه الأجهزة في نقطة تحكّم تابعة لشركة المصرية للاتصالات، حيث استُخدمت لاعتراض حركة تصفح الويب غير المشفّرة للمستخدمين على نطاق واسع. وبيّن التحقيق أن هذه التقنية كانت تُستخدم لإعادة توجيه المستخدمين إلى محتوى إعلاني يُدر أرباحًا أو إلى برمجيات تعدين للعملات الرقمية، في عملية سرية أطلق عليها الباحثون اسم “AdHose”.
يعمل هذا النظام بوضعين: وضع “الرش” الذي يقوم بفرض الإعلانات على عدد كبير من المستخدمين لفترات وجيزة، ووضع “التنقيط” الذي يستهدف موارد محددة (مثل مكتبات جافاسكريبت ومواقع متوقفة) لحقن إعلانات بشكل خفي. تشير الأدلة التقنية إلى أن هذه الممارسات تمت باستخدام أجهزة شركة Sandvine التي تم توريدها لمقدمي الخدمة وتحمل اسم (PacketLogic). إن استخدام معدات الشبكات على هذا النحو للتربح ولتنزيل برمجيات في أجهزة المستخدمين دون علمهم يعد انتهاكًا صارخًا لخصوصيتهم وحقوقهم الرقمية.
إلى جانب أسلوب الاعتراض والإعلانات، استُخدمت البنية التحتية أيضًا في حجب المواقع الإلكترونية ومراقبة المحتوى. فمنذ عام 2017 شنت السلطات حملة واسعة لحجب مئات المواقع الإلكترونية الإخبارية والحقوقية والمدونات التي تُصنّف بأنها معارضة.
وصل عدد المواقع المحجوبة في مصر إلى ما لا يقل عن 600 موقعًا. وجرى تنفيذ الحجب تقنيًا عبر تعليمات من الجهات الأمنية إلى شركات الإنترنت لتعطيل الوصول إلى نطاقات وعناوين IP معينة على مستوى بوابات الشبكة. في معظم الأحيان، كان الحجب يتم دون أي سند قضائي أو إعلان رسمي، مما جعل متضرري الحجب عاجزين عن الطعن القانوني عليه.
وقد شملت المواقع المحجوبة منصات إخبارية مستقلة (مثل مدى مصر والمنصة)، ومواقع منظمات دولية (مثل هيومن رايتس ووتش ومراسلون بلا حدود)، وحتى أدوات تجاوز الحجب (مثل مواقع الـVPN وشبكة تور وغيرها). ويُذكر أيضًا قيام السلطات بحجب تطبيقات تواصل آمنة؛ ففي أواخر 2016 مثلاً حُجب تطبيق Signal المشفر بشكل كامل لفترة من الوقت في أول واقعة معروفة لحجب تطبيق تواصل في مصر.
وعلى صعيد المراقبة واستهداف الأفراد، استفادت الأجهزة الأمنية من مركزية البنية التحتية لإجراء اعتراضات مباشرة. فكل مزودي الخدمة ملتزمون قانونًا بتوفير كافة الإمكانيات الفنية التي تتيح لأجهزة الأمن الوصول إلى الاتصالات. وقد كشفت تقارير عن استخدام السلطات المصرية برامج تجسس متطورة استهدفت بها هواتف نشطاء سياسيين (مثل برمجيات FinFisher و Predator) خلال السنوات الأخيرة.
الإطار القانوني المنظّم للبنية التحتية الرقمية وضمانات الحقوق الرقمية
يُعتبر الإطار التشريعي والتنظيمي بمثابة الأساس الذي يحدد كيفية إدارة البنية التحتية الرقمية وحدود دور الدولة فيها. وفي مصر، تكشف مراجعة التشريعات ذات الصلة عن نزعة نحو تمكين السلطات التنفيذية والأمنية من السيطرة شبه المطلقة على قطاع الاتصالات، مع منح غطاء قانوني على الكثير من الإجراءات التقييدية. ورغم وجود مواد دستورية تكرّس الحقوق الرقمية، إلا أن القوانين اللاحقة تحوي بنودًا فضفاضة تسمح بانتهاك هذه الحقوق تحت ذرائع الأمن والنظام العام.
يتضمن الدستور المصري الصادر عام 2014 نصوصًا صريحة لحماية الحق في الخصوصية وحرية الاتصال. فالمادة 57 منه تنص بوضوح على أن: “لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون، وسرية المراسلات البريدية والإلكترونية والمحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال مصونة، ولا يجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مُسبّب ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون”.
كما تضيف المادة نفسها: “تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين في استخدام وسائل الاتصال العامة وعدم تعطيلها أو وقفها تعسفيًا”. إضافة لذلك، تقر المادة 99 بأن أي اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة جريمة لا تسقط بالتقادم. تضع هذه النصوص إطارًا نظريًا لضمانات الحقوق الرقمية، غير أن القيمة العملية لها تبقى رهينة بمدى التزام الدولة بالتشريعات والإجراءات التنفيذية التي تُفعّل هذه الضمانات على أرض الواقع.
يُعد قانون تنظيم الاتصالات الإطار التشريعي الأساسي الذي يحكم قطاع الاتصالات في مصر. وقد صدر هذا القانون في سياق زمني سابق لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، الأمر الذي انعكس على طبيعته ومضمونه، إذ منح السلطات صلاحيات واسعة في تنظيم ومراقبة هذا القطاع.
على سبيل المثال، تنص المادة 64 من القانون على إلزام مقدمي خدمات الاتصالات بـ“توفير كافة الإمكانات الفنية من معدات ونظم وبرامج والتي تُمكّن الجهات الأمنية ذات الاختصاص من القيام بمهامها وفق القانون”. تفرض هذه المادة على شركات الاتصالات التعاون الكامل مع أجهزة القوات المسلحة والأمن الوطني في إتاحة مراقبة الشبكات، وتحظر استخدام وسائل تشفير دون موافقة الجهات المختصة (الأمر الذي يُجرّم فعليًا محاولة الأفراد حماية اتصالاتهم بتقنيات التشفير الحديث).
كما تعطي المادة 67 الحق للسلطات في أن تُخضع لإدارتها شبكات وخدمات أي مشغل اتصالات ووضعها تحت تصرف الدولة بالكامل في حالات الطوارئ والأمن القومي. ويتضح من المادتين أن القانون أعطى الدولة “مفتاح التشغيل والإيقاف” للشبكة بيد، ومفتاح “الدخول على المحتوى” باليد الأخرى. ومن هذا المنطلق، يصبح مفهومًا كيف تمكنت السلطات من قطع خدمة الإنترنت بشكل كامل خلال ثورة 2011، أو من تنفيذ عمليات مراقبة موسعة للاتصالات الرقمية في ظل هذا الإطار القانوني.
وبدلًا من تقييد هذه الصلاحيات الواسعة، اتجهت الدولة في في الأعوام الأخيرة إلى تعزيز القبضة على الفضاء الرقمي من خلال قوانين جديدة. يُعد قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 من أبرز هذه القوانين.
يسمح هذا القانون – الذي صيغ بلغة فضفاضة – بحجب مواقع الويب بقرار إداري دون حكم قضائي بات في حالات “تهديد الأمن القومي أو الاقتصاد”. كما يُلزم مزودي الخدمة بتنفيذ قرارات الحجب فورًا تحت طائلة العقوبة بالحبس والغرامة.
كذلك تضمّن القانون مواد تفرض على مزودي الخدمة الاحتفاظ ببيانات نشاط المستخدمين لفترات محددة وتقديمها للجهات الأمنية عند الطلب. ما يعني فتح المجال قانونيًا للمراقبة الحكومية الشاملة تحت ذريعة “مكافحة الجرائم الإلكترونية”. وبالتالي شرعن القانون كثيرًا من الممارسات التي كانت قائمة فعلاً (مثل حجب مواقع المعارضة) ومنحها غطاء قانونيًا.
وفي عام 2020، صدر قانون حماية البيانات الشخصية بهدف تنظيم معالجات البيانات في القطاع الخاص وحماية خصوصية بيانات المواطنين لدى الشركات. ورغم أن صدور هذا القانون يُعتبر خطوة إيجابية نحو مواءمة التشريعات مع المعايير الدولية، إلا أنه تضمن استثناءات واسعة تُعفي الجهات الأمنية والسيادية من الالتزام بالقيود المفروضة على جمع البيانات ومعالجتها.
واتسعت صلاحيات المراقبة أكثر في مطلع عام 2025، حين أصدر البرلمان قانون الإجراءات الجنائية الجديد. إذا أن المادة 79 من القانون تتيح للنيابة العامة سلطة المراقبة والتنصت على الاتصالات “لمدة غير محددة” دون اشتراط صدور إذن قضائي مستقل.
قُوبلت هذه المادة بانتقادات حادة من القانونيين والمدافعين عن الخصوصية، لأنه حوّل الاستثناء (وهو المراقبة بأمر قاضي ولوقت محدود) إلى أصل عام بإعطاء النيابة سلطة مفتوحة. واعتبر حقوقيون أن السلطات بدل أن تُنهي الانتهاكات، تقوم بترسيخها وتقنينها ومنح الغطاء القانوني لأجهزتها الأمنية لمواصلة ما تفعله.
في المقابل، لا تتضمن التشريعات المصرية ما يكفي من الضوابط والقيود لحماية الحقوق الرقمية. فمثلاً لا يوجد قانون لحرية تداول المعلومات يضمن الشفافية، ولا توجد هيئة مستقلة تراقب شرعية عمليات المراقبة والتصنت. كما أن العقوبات على الانتهاكات (إن وُجدت) لا يتم تفعيلها.
على المستوى الدولي، مصر طرف في معاهدات ملزمة مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تكفل الحق في الخصوصية وحرية التعبير. كما أنها صوتت لصالح قرارات أممية تُدين انتهاكات الحقوق الرقمية. لكن على الصعيد المحلي، غالبًا ما يتم تغليب القوانين الداخلية الاستثنائية على تلك الالتزامات. فعلى سبيل المثال، أعلنت الأمم المتحدة صراحةً أن قطع الإنترنت لا يمكن تبريره بأي حال تحت القانون الدولي لحقوق الإنسان، وأن على الدول الإبقاء على الوصول للشبكة حتى في أوقات لاضطرابات.
في المحصلة، يمكن القول إن الإطار القانوني المصري الحالي منح السلطات أدوات قانونية شبه مطلقة للسيطرة على البنية التحتية الرقمية بحجة اعتبارات الأمن والنظام، دون إقرار ضمانات مماثلة لحماية حقوق المواطنين الرقمية.
الخاتمة
تُعد البنية التحتية الرقمية من المرتكزات الأساسية لضمان ممارسة حقوق الإنسان في العصر الحديث، حيث يتقاطع استخدامها مع الحق في التعليم، والصحة، والتعبير، والخصوصية، والمشاركة في الشأن العام. وفي مصر، لا يمكن الحديث عن تحول رقمي حقيقي دون معالجة التفاوتات والفجوات التي تحول دون تمتع الجميع، بلا تمييز، بالحقوق الرقمية على قدم المساواة.
إن ضمان العدالة الرقمية ليس ترفًا تنمويًا، بل هو التزام حقوقي أساسي. فالاتصال بالإنترنت، وحماية البيانات الشخصية، وحرية التعبير عبر الوسائط الرقمية، كلها امتدادات طبيعية للحقوق والحريات الأساسية التي كفلتها المواثيق الدولية والدستور المصري ذاته. من هذا المنطلق، فإن إصلاح السياسات والبنى الحاكمة للفضاء الرقمي يجب أن ينطلق من منطق الحقوق لا منطق السيطرة.