مقدمة
في عام 1996 كتب جون بيري بارلو John Perry Barlow إعلان استقلال الفضاء السيبراني A Declaration of the Independence of Cyberspace. كان بارلو يستلهم بوضوح إعلان الاستقلال الذي وضعه الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية. الفكرة المحورية في كلا الإعلانين هي حق جماعة بشرية في أن تحكم نفسها بنفسها وأن تتحرر من سلطة كيان سياسي منفصل وبعيد عنها.
في حالة الولايات المتحدة كان ذلك الكيان هو بريطانيا العظمي، ولكنه في حالة الفضاء السيبراني كان جميع دول العالم وفي مقدمتهم الدول الصناعية. الرؤية التي قدمها بارلو في إعلانه عكست في حينها الآمال التي تعلقت بشبكة الإنترنت في سنوات انتشارها الأولى.
رأى كثيرون حينها أن الإنترنت هي أداة تنشئ عالمًا افتراضيًا موازيًا لعالمنا الواقعي. هذا العالم الجديد بدا وكأنه خارج قدرة الدول التقليدية على السيطرة وعلى فرض قوانينها. وحلم كثيرون بأن يتيح هذا العالم الافتراضي للبشر مساحة حرة يمارسون فيها سيادتهم على مصائرهم بالتعبير الحر عن آرائهم والتبادل الحر للمعلومات فيما بينهم.
تعتبر الرؤية التي عبر عنها بارلو في إعلان استقلال الفضاء السيبراني اليوم غير واقعية في نظر الكثيرين. ولكن بارلو على الأقل لم يبالغ في تصوره لحجم الأثر الذي ستحدثه الإنترنت في حياة البشر، بل ربما على العكس من ذلك. ما حدث خلال العقود الثلاثة التي تفصلنا عن إعلان بارلو تخطى في حجمه واتساع نطاقه وفي عمقه كل تصوراته وتصورات معاصريه.
في حين أن شبكة الإنترنت هي بالتأكيد التكنولوجيا الأبرز والأهم والأكثر تأثيرًا بين التكنولوجيات الرقمية، إلا أنها ليست الوحيدة بينها التي غزت حياتنا وتغلغلت في جميع مفاصلها. تتخذ الإنترنت موقعًا مركزيًا في قلب منظومة رقمية تتمدد إلى كل جانب من جوانب الحياة في عالمنا اليوم. وإن كان يمكن أن نختار وصفًا واحدًا يعبر بأكبر دقة ممكنة عن العالم الجديد الذي يتشكل بسرعة حولنا فلن ينازع أحد في أن ندعوه بالعالم الرقمي.
اعتماد حياة كل فرد منا بشكل متزايد على التكنولوجيا الرقمية يجعل من حرية الوصول إلى مظاهر هذه التكنولوجيا ضرورة حياتية. ينشأ عن هذه الحقيقة في حد ذاتها الحاجة إلى حماية حق كل فرد في الوصول الحر إلى هذه التكنولوجيا. كذلك فإن وجود كل منا بشكل افتراضي في ذلك الفضاء العام الذي تخلقه شبكة الإنترنت ينشئ تحديات جديدة للحماية المطلوبة لعديد من حقوقنا الأساسية.
تتعرض خصوصيتنا لتحديات جديدة لم يجل أي منها بخاطر أحد قبل ثلاثة عقود. يمارس مليارات البشر حقهم في حرية التعبير بدرجات متفاوتة من خلال مئات المواقع والتطبيقات الأكثر شيوعًا على شبكة الإنترنت. يمارس مليارات البشر أنشطة اجتماعية واقتصادية مختلفة من خلال الشبكة، وملايين منهم يؤدون عملهم من خلالها. البعض يؤدون أعمال وظائفهم التقليدية عن بعد من خلال الإنترنت. البعض الآخر يؤدون أعمالًا لم تكن متاحة قبل وجود الشبكة.
تدافع هذه الورقة عن موقف يرى أن تطور التكنولوجيا الرقمية يعيد صياغة عالمنا وينشئ عالمًا رقميًا تصبح فيه هوياتنا الرقمية أكثر كثيرًا من مجرد مسميات لحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي وخدمات البريد الإلكتروني والمراسلة اللحظية. بيانتنا المحفوظة رقميًا تنتشر على عدد لا حصر له من الخوادم في عهدة عدد ضخم من المؤسسات الحكومية والخاصة.
هذه البيانات تشكل وجودًا افتراضيًا لكل منا. لا ينفصل هذا الوجود بأي شكل عن وجودنا الواقعي، ومن ثم فهو يمثلنا بقدر ما تمثلنا أجسادنا. يعني هذا أننا بشكل مادي وواقعي عرضة لانتهاك العديد من حقوقنا من خلال وجودنا الرقمي. تدعي هذه الورقة أنه في إطار هذه الرؤية وحدها يمكننا أن نفهم ما تعنيه الحقوق الرقمية وأن ندرك قدر أهميتها.
تطرح هذه الورقة تصور نظري حول الحقوق الرقمية. يتناول القسم الأول مقاربة لفهم الحقوق الرقمية يبدأ بعرض مختصر لبعض المحطات المهمة في مسيرة نشأة وتطور المفهوم حتى اليوم، ثم ينتقل إلى استعراض القيم والمبادئ التي تقوم عليها الحقوق الرقمية.
في القسم الثاني تناقش الورقة الحقوق ذات الصلة بدخول الفرد إلى العالم الرقمي، وهي كل من الحق في الوصول إلى شبكة الإنترنت والحق في الوصول إلى وسائل التكنولوجيا الرقمية. في القسم الثالث تتوسع الورقة في نقاش كيفية إعادة صياغة حقوق الإنسان في سياق عالم رقمي وتتناول كل من الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
كيف نفهم الحقوق الرقمية؟
مفهوم الحقوق الرقمية لا يزال ناشئًا ولا يُتوقع له أن يتبلور بصفة نهائية في المستقبل القريب. ومن ثم فإن كل محاولة لتصور هذا المفهوم تعد في حد ذاتها محاولة لتعريفه، أي أنها ليست مجرد عرض لتعريف قائم ومتفق عليه، بل تسهم بنفسها في تشكيل المفهوم نفسه.
النشأة والتطور
تعود النشأة الأولى لمفهوم الحقوق الرقمية إلى البدايات المبكرة لانتشار الإنترنت في منتصف تسعينات القرن الماضي. إعلان استقلال الفضاء السيبراني لجون بيري بارلو الذي سبقت الإشارة إليه هو نموذج لمبادرات فردية عدة طرحها رواد الإنترنت الأوائل سعيًا لتوجيه مسار هذه التكنولوجيا بحيث تنشئ مساحة حرة مستقلة عن سيطرة السلطات التقليدية. مع الوقت نشأت منظمات أكثر تخصصًا في إطار المجتمع المدني، كما أدت مبادرات دولية إلى إصدار مقترحات لمواثيق تحمي حقوق مستخدمي الإنترنت وكذلك الحقوق الرقمية بمعناها الواسع.
أنشأت رابطة الاتصالات التقدمية Association for Progressive Communications (APC) في عام 2001، وثيقة بعنوان “ميثاق حقوق الإنترنت” APC Internet Rights Charter. تعلن الوثيقة في مقدمتها أن “الإنترنت هي فضاء عام عالمي ينبغي أن يظل مفتوحًا، وفي مقدور الجميع، ويمكن للجميع الوصول إليه.”
خرجت هذه الوثيقة من ورشة عمل عقدتها الرابطة في براج. هذا الميثاق في الحقيقة يمثل نموذجًا مبكرًا لحركة تسعى لإقامة شرعة لحقوق الإنترنت Internet Bill of Rights. هذه الحركة هي بدورها أحد العناصر الهامة من مفهوم أوسع هو الدستورية الرقمية Digital Constitutionalism.
تبنت القمة العالمية لمجتمع المعلومات World Summit on the Information Society في عام 2004 إعلانًا للمبادئ تضمن تأكيدًا على “كونية وعدم تجزئة وتكامل وترابط جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية بما فيها الحق في التنمية.” كذلك أشار الإعلان بصفة خاصة إلى أهمية الحق في حرية التعبير في مجتمع المعلومات،
في ذات السياق، أكد البيان على أن “التواصل هو عملية اجتماعية أساسية، وحاجة إنسانية أساسية وهو أساس كل تنظيم اجتماعي.” ومن ثم “كل شخص في كل مكان ينبغي أن يحصل على فرصة المشاركة ولا ينبغي إقصاء أحد من المنافع التي يقدمها مجتمع المعلومات.”
في عام 2007، عقد التحالف الديناميكي لأجل شرعة لحقوق الإنترنت Dynamic Coalition for an Internet Bill of Rights منتدى تحضيري واسع حول حقوق الإنترنت في روما. قدم التحالف أفكاره في منتدى حوكمة الإنترنت الذي انعقد في ريو دي جانيرو بالبرازيل في نوفمبر من نفس العام. أدى ذلك إلى صدور إعلان مشترك للتحالف والمنتدى حول حقوق الإنترنت. ونتج عن إندماج التحالف مع منظمة مشابهة العمل على ميثاق حقوق الإنسان والمبادئ للإنترنت والذي تم تقديمه في منتدى حوكمة الإنترنت المنعقد في فيلنيوس في عام 2010.
في عام 2008، أُنشئت المبادرة العالمية للشبكة Global Network Initiative. ضمت المبادرة عددًا من منظمات المجتمع المدني مثل مؤسسة الجبهة الإلكترونية Electronic Frontier Foundation وهيومان رايتس ووتش إلى جانب عديد من شركات التكنولوجيا الكبرى مثل جوجل ومايكروسوفت.
كذلك شارك في المبادرة عدد من المستثمرين والأكاديميين المعنيين. وأطلقت المبادرة في الذكرى السنوية الستين لإصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أسست المبادرة على القوانين والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وخاصة الحق في حرية التعبير والحق في الخصوصية.
في عام 2012، أعلن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن حرية الإنترنت هي حق إنساني. أتى ذلك في أعقاب جهود متواصلة للمقرر الخاص لدعم وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، والذي قدم في العام السابق تقريرًا للمجلس دعم فيه المناداة بأن يكون الوصول إلى الإنترنت في حد ذاته حقًا معترفًا به بين الحقوق الأساسية للإنسان.
القيم والمبادئ
تستمد الحقوق الرقمية قيمها ومبادئها الأساسية من ذات القيم والمبادئ التي نشأت حركة حقوق الإنسان على أساسها منذ أكثر من قرنين. في واقع الأمر، تستعيد الحقوق الرقمية لحقوق الإنسان طابعها الكوني الذي تضاءل بشدة نتيجة للصياغات القانونية لهذه الحقوق التي تخاطب الدول ككيانات ممثلة لمواطنيها وتترك لكل دولة قدرا واسعا من الحرية في إقرار وتحقيق وحماية كل حق من خلال تشريعاتها.
الحقوق الرقمية هي بطبيعتها كونية وعابرة للحدود السياسية نتيجة لطبيعة التكنولوجيات الرقمية وفي مقدمتها الإنترنت. بالتالي، فالقيمة الرئيسية التي تنبني عليها الحقوق الرقمية هي قيمة الكونية والشمول. لتحقق الحقوق الرقمية هذه القيمة ينبغي أن تتضمن الاعتراف بالحق في الهوية الرقمية والحق في المواطنة الشبكية، والذان تناقشهما الورقة لاحقًا.
قيمة الحرية في معناها العام والشامل هي بالطبع قيمة أساسية تنبني عليها الحقوق الرقمية. تسعى الحقوق الرقمية إلى تعظيم قيمة الحرية في عالم رقمي لتتخطى الحدود والقيود التي لم يكن بالإمكان حتى اليوم تجاوزها.
تنظر فلسفة الحقوق الرقمية إلى التكنولوجيا كعامل محرر للإنسان. وفي سبيل أن تؤدي التكنولوجيا دورها المأمول في منح البشر مزيدًا من الحرية ينبغي الاعتراف بحقوق رقمية واضحة تواجه التحديات التي تنشئها الممارسات المختلفة في العالم الرقمي. بعبارة أخرى، أحد مساعي الحقوق الرقمية هو استعادة الجانب الداعم للحرية في التكنولجيا الرقمية من خلال مواجهة استخدامات هذه التكنولوجيا المقيدة للحريات. يستلزم هذا المسعى أن تعيد الحقوق الرقمية صياغة عدد من الحقوق الأساسية مثل الحق في الخصوصية والحق في حرية التعبير والحق في حرية الوصول إلى المعلومات.
أكدت مختلف المبادرات الساعية إلى إقرار الحقوق الرقمية على طيف واسع من المبادئ، والتي شملت:
- حماية الحقوق والحريات الأساسية في سياق عالم رقمي. تشمل هذه الحقوق كل من الحق في حرية التعبير، حرية الوصول إلى المعلومات، حرية الاعتقاد، حرية التجمع والاحتجاج، الحق في الأمن الشخصي وفي الكرامة الإنسانية، حماية الأطفال، عدم التمييز، التنوع الثقافي واللغوي.
- وضع حدود لسلطة الدولة. وفي مقدمة هذه الحدود الديموقراطية وسيادة القانون، الحق في سلامة الإجراءات القانونية، الحق في التعويض القانوني.
- حوكمة الإنترنت والمشاركة المجتمعية. يشمل ذلك الحوكمة التشاركية ومتعددة الأطراف صاحبة المصلحة، الشفافية والانفتاح، البيانات المفتوحة، الحق في المشاركة، الشمولية الرقمية.
- حقوق الخصوصية. وتشمل الحق في الخصوصية، حماية البيانات، السيطرة الذاتية والحق في تقرير المصير، الحق في المجهولية، الحماية من المراقبة، الحق في استخدام التشفير، الحق في المحو أو النسيان.
- الوصول والتعليم. ويشمل الحق في الوصول إلى الإنترنت، السرعة والقدرة المالية، الوصول والمهارات في مواقع العمل، وعي وتعليم المستخدم، الوسائط المتعددة ومحو الأمية الرقمية.
- انفتاح واستقرار الشبكات. ويشمل أمن الشبكة، حيادية الشبكة، المعايير المفتوحة، التوافق وعدم التشظي، استقرار وموثوقية الشبطة، البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر، الحقوق المتصلة بالأجهزة والمعدات.
- الحقوق والمسؤوليات الاقتصادية. وتشمل الابتكار، المنافسة، التنمية الاقتصادية، مسؤولية الوسطاء، مسؤولية الشركات، حماية المستهلك.
مقاربات تعريف الحقوق الرقمية
يمكن تمييز اتجاهين رئيسيين في المقاربات المختلفة لتعريف الحقوق الرقمية. يشمل الاتجاه الأول المقاربات التي تحصر الحقوق الرقمية في ضمان الحق في حرية الوصول إلى الإمكانيات التي تتيحها التكنولوجيا الرقمية. النموذج الأبرز لهذه المقاربات هو مساعي الاعتراف بالحق في الوصول إلى شبكة الإنترنت Right to Internet Access.
تؤدي هذه المقاربات إلى الخروج بتعريف للحقوق الرقمية بأنها “حقوق الإنسان والحقوق القانونية التي تسمح للأفراد بالوصول إلى، واستخدام، وخلق، ونشر المحتوى الرقمي، أو الوصول إلى، واستخدام الحواسيب، والمعدات الإلكترونية الأخرى، وشبكات الاتصالات.”
لا تتجاهل هذه المقاربات وجود علاقة وثيقة بين الحقوق الرقمية بهذا التعريف وبين حماية وتحقيق الحقوق الأساسية المعترف بها، وفي مقدمتها الحق في الخصوصية والحق في حرية التعبير في سياق استخدام التكنولوجيات الرقمية.
ترى هذه المقاربات أن التكنولوجيا الرقمية تخلق فضاءً عامًا موازيًا للفضاء العام في العالم الواقعي. وهي معنية أولًا بضمان حق الفرد في الوصول بحرية إلى هذا الفضاء دون معوقات. ثم هي معنية ثانيًا بأن يتمتع الفرد أثناء وجوده الافتراضي في هذا الفضاء العام بحماية كافية لحقوقه الأساسية المعترف بها.
الاتجاه الثاني والذي تسعى هذه الورقة إلى الدفاع عنه ينطلق من الاعتقاد بأن تطور التكنولوجيا الرقمية قد أدى إلى بدء تغيير جذري وشامل لحياة البشر. هذا التغيير الذي لا يزال مستمرًا ولم يصل بنا إلى حالة نهائية بعد قد طال عديدًا من المفاهيم الأساسية التي انبنى عليها فهمنا لحقوق الإنسان.
يعني هذا أن حقوق الإنسان (الكلاسيكية) والتي عبرت عنها وثائق تأسيسية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قد طرأ عليها التغيير. يشمل التغيير الطرق التي يمكن من خلالها ممارسة وتحقيق هذه الحقوق، والتحديات التي تواجه حمايتها، والوسائل المطلوبة لمواجهة هذه التحديات. ولكن الأهم هو أن هذا التغيير يشمل أيضًا الطريقة التي نفهم بها هذه الحقوق.
ما يميز هذا الاتجاه هو أنه لا يرى أن التكنولوجيا الرقمية تنشئ فضاءً عامًا موازيًا للفضاء العام على أرض الواقع. ولكنه يرى أن هذه التكنولوجيا قد غزت بالفعل العالم الواقعي وتغلغلت في جميع مفاصله بحيث لم يعد ثمة حد فاصل بين عالم افتراضي وآخر واقعي.
بعبارة أخرى، نحن نعيش في عالم واحد هو افتراضي وواقعي في نفس الوقت، وهو ببساطة عالم رقمي. هذا العالم الرقمي الذي لم يتم تشكله بصورة نهائية يمضي نحو وضع يكون لكل كيان فيه وجود رقمي لا ينفصل عن وجوده في الواقع. ما يعنيه ذلك هو أن البشر أنفسهم لن يكتمل وجودهم الواقعي إلا بوجودهم الافتراضي الرقمي. وينطبق ذلك بدوره على مختلف الكيانات الأخرى مثل المنظمات والمؤسسات بأنواعها وصولًا إلى الدول ذاتها.
كيف تنعكس هذه الرؤية على فهمنا للحقوق الرقمية وتعريفنا لها؟ إنها تعني أولًا أن الحقوق الرقمية هي حقوق إنسان أصبح له وجود رقمي لا ينفصل عن وجوده الواقعي. هذا الإنسان يعيش في عالم لكل شيء فيه وجود رقمي أيضًا.
ذلك العالم الجديد في وجوده الرقمي يختلف بشكل جذري عن العالم التقليدي الذي خاطبته مواثيق حقوق الإنسان حتى اليوم؛ فهو عالم يتجاوز الحدود السياسية بين الدول. التجاوز هنا لا يعني اختفاء هذه الحدود، ولكنه يعني أن وجودها لم يعد حاسمًا وواضحًا كما كان من قبل. بعبارة أخرى، الحدود السياسية في عالم رقمي هي أقل صرامة وهي أيضًا أكثر تعقيدًا من حيث أثرها على حياة البشر والمؤسسات.
الصفة المميزة الثانية لهذا العالم هي الدول التي لم تعد هي حصرًا الكيانات التي تسعى مواثيق حقوق الإنسان إلى إلزامها بحماية وتحقيق حقوق مواطنيها وضمان عدم انتهاكها. في العالم الرقمي ثمة كيانات أخرى تمتلك سلطات تمكنها من تقييد وانتهاك الحقوق الرقمية للأفراد، مثل شركات التقنية الكبرى. لذلك، ينبغي إلزام هذه الكيانات بحماية وتحقيق هذه الحقوق والامتناع عن انتهاكها.
الحقوق الرقمية والمشاركة في العالم الرقمي
الحق في الوصول إلى شبكة الإنترنت
الوصول إلى شبكة الإنترنت هو مفتاح تمكين أي فرد من المشاركة الفاعلة في العالم الرقمي. لذلك، فالحق في هذا الوصول هو الأكثر بديهية وبروزًا بين الحقوق الرقمية. يبرر كثيرون الحاجة إلى حق إنساني في الوصول إلى الإنترنت إما بتعظيم المنفعة أو بتطور الاحتياجات الضرورية للبشر في عالمنا اليوم.
يمكن النظر إلى هذه التصورات على أنها تعكس تطور عمق تغلغل تطبيقات الإنترنت في الأنشطة اليومية للبشر. ويدعونا مسار هذا التطور أيضًا في الواقع الحالي وفي المستقبل القريب إلى اتخاذ موقف أكثر شمولية من الحق في الوصول إلى شبكة الإنترنت.
لا تعد مبالغة أن نقيس هذا الحق في عالم رقمي على الحق في الحياة. فالحق في الحياة هو شرط ضروري لإمكان حصول أي فرد على سائر حقوقه ولا يمكن تصور أن يتمتع بأي حق دونه. وفي عالم رقمي تعاد فيه صياغة الحقوق المختلفة للإنسان على أساس أن له وجود رقمي لا ينفصل عن وجوده الفعلي يصبح الوصول إلى الإنترنت شرطًا ضروريًا لحصوله على أي من حقوقه.
تقر عديد من الدول اليوم الحق في الوصول إلى الإنترنت بصور وشروط مختلفة. القاسم المشترك بين هذه الصور هو الاهتمام بأن يكون الوصول إلى الإنترنت في مقدور كل شخص. يعني ذلك أن يكون المقابل المادي لخدمات الوصول إلى الإنترنت المقدمة سواء من جهات مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص في حدود مقدرة الشخص المنتمي إلى شرائح الدخل الأدنى في المجتمع.
تتجه كثير من التشريعات أيضًا إلى وضع شروط تقنية لخدمة الوصول إلى الإنترنت في حدها الأدنى حتى يكون هذا الوصول ذو معنى. تتعلق هذه الشروط بحد أدنى للسرعة والسعة والحد الأقصى للبيانات.
الحق في الوصول إلى الإنترنت هو أيضًا مظلة لعدد من الحقوق التي تحكم مدى فعالية الفرد من خلال وجوده الرقمي. فالحق في الوصول إلى الإنترنت ينطوي على حقوق في ضمان استقرار واستدامة وموثوقية وأمن الشبكة. وهو كذلك ينطوي على عدالة وانفتاح وحيادية الإنترنت.
الحق في الوصول إلى وسائل التكنولوجيا الرقمية
يمكن اعتبار الحق في الوصول إلى وسائل التكنولوجيا الرقمية مظلة أوسع من الحق في الوصول إلى الإنترنت باعتبارها إحدى وسائل التكنولوجيا الرقمية. من ثم، فإن ما سبق مناقشته في القسم السابق كمدخل لفهم الحق في الوصول إلى الإنترنت ينطبق بدوره على بقية وسائل التكنولوجيا الرقمية الضرورية لأن يتمكن الفرد من السيطرة على وجوده الرقمي.
لذلك ينبغى إقرار حق لكل فرد في تمكينه من الوصول إلى حد أدنى من الإمكانيات الضرورية للوصول إلى تطبيقات التكنولوجيا الرقمية. وقد يشمل ذلك توفير خدمات عامة منخفضة التكلفة لاستخدام الأجهزة والمعدات الرقمية التي قد لا يكون بإمكان بعض الأفراد في المجتمع الحصول عليها.
الحق في الوصول إلى وسائل التكنولوجيا الرقمية ينطوي أيضًا على حقوق شبيهة بتلك التي أشير إليها في القسم السابق. فينبغي إقرار حق لكل فرد في أن يكون وصوله واستخدامه لأي وسيلة من وسائل التكنولوجيا الرقمية مستقرًا وآمنًا وموثوقًا.
وفي ذلك الإطار ينبغي أن تتوافر ضمانات حتى لا تتضمن أية وسيلة من وسائل التكنولوجيا الرقمية من حيث التصميم أو عمليات التشغيل وغيرها على أي تهديد بخرق الحقوق الأساسية للمستخدم، وبصفة خاصة حقوقه تجاه بياناته الشخصية والتعرض للمراقبة وغيرها من الانتهاكات.
الحقوق الرقمية كإعادة صياغة لحقوق الإنسان في عالم رقمي
الحقوق المدنية والسياسية في عالم رقمي
الهوية الرقمية ومفهوم المواطنة الشبكية
صك مايكل هوبن Michael Hauben مصطلح “مواطن الشبكة” Netizen في عام 1996. في تصور هوبن لم يكن مواطن الشبكة هو فقط أي شخص يستخدم الإنترنت. المواطن الشبكي حسب هوبن هو ذلك الذي يساهم بشكل نشط على الإنترنت في سبيل تطويرها وهو ينخرط في النقاش حول طبيعة ودور الشبكة. وبطريقة ما اشترك عديد من رواد الإنترنت الأوائل مع هوبن في تصور ما يشبه الجماعة السياسية المعنية بإنشاء مجتمع مستقل وله قواعده التي يقررها بنفسه لتنظيم تفاعلات أفراده على شبكة الإنترنت.
يعكس تصور هوبن لمفهوم مواطن الشبكة الأفكار ذاتها التي عبر عنها جون بيري بارلو في إعلان استقلال الفضاء السيبراني. على مستويات عدة يمكننا القول بأن واقعنا اليوم قد تجاوز البساطة التي كانت لهذا المفهوم. لكن هذا لا يعني أن واقعنا قد تجاوز الفكرة الأساسية وراء مفهوم المواطن الشبكي.
هذه الفكرة الأساسية تستمد معناها من مفهوم المواطنة في الواقع الفعلي. وبشكل مبسط تقوم حقوق المواطنة على أن كل إنسان يستمد مقومات حياته، بما في ذلك جميع حقوقه كإنسان، من المجتمع الذي ينتمي إليه. هذا المجتمع في إطار عالمنا الواقعي تمثله دولة ما، ومن ثم فإن السبيل الوحيد لأن تتوفر مقومات الحياة الأساسية لأي فرد هو أن يحمل جنسية دولة بصفته مواطنا فيها.
كذلك يعكس مفهوم هوبن لمواطن الشبكة أحد أهم حقوق المواطنة، وهو الحق في المشاركة السياسية. يعني ذلك أن لكل مواطن الحق في أن يكون له صوت في تقرير مصيره من خلال المشاركة النشطة في إدارة وتوجيه مسار الدولة والمجتمع. على أرض الواقع تتحقق المشاركة السياسية من خلال الحق في اختيار ممثلين في مواقع السلطة وإدارة الدولة، والحق في الترشح لهذه المواقع، والحق في الانتماء إلى تشكيلات حزبية وجماعات ضغط تعمل على توجيه مسار الدولة وتعبر عن مصالح الفئات المختلفة فيها.
في عالمنا الرقمي اليومي ترتبط الحاجة إلى مفهوم جديد للمواطنة الشبكية Net Citizenship بمفهوم الهوية الرقمية. يعكس مفهوم الهوية الرقمية الحقيقة التي أشارت الورقة إليها سابقًا؛ وهي أن لكل منا اليوم وجود رقمي لا ينفصل عن وجوده الفعلي.
هذا يعني أن هوية كل منا الرقمية في العالم الرقمي تعكس وجودنا الفعلي والرقمي معًا. وفي مجال التطبيق العملي فإن سيطرة كل منا على وجوده الرقمي تتطلب أولًا هوية رقمية مثبتة ومعترف بها تشبه الأوراق الثبوتية التي تصدرها الدول لمواطنيها. كذلك يتطلب الاعتراف بحقوقنا الرقمية الاعتراف بنا كمواطنين في كيان واسع هو الشبكة الرقمية.
ما ينتج عن المناقشة السابقة هو الحاجة إلى الاعتراف بالحق في هوية رقمية تتصل به حقوق مواطنة شبكية.
- الحق الأول يعتمد على توفير وسائل لتوثيق وجودنا الرقمي بشكل يحميه من محاولات انتحال الشخصية ويضمن لنا حقوقنا تجاه بياناتنا الشخصية المخزنة في صورة رقمية في أي مكان على الإنترنت.
- الحق الثاني يتعلق بحقوق مواطنة شبكية وتشمل بالضرورة الحق في المشاركة من خلال أطر ديموقراطية في اتخاذ القرارات المتعلقة بحوكمة الإنترنت، وكذلك حوكمة تطوير واستخدام التكنولوجيا الرقمية بمعناها الأوسع.
السعي إلى الاعتراف بحق في الهوية الرقمية وحق في المواطنة الشبكية ربما يكون الأبعد منالًا في ظل المشهد الحالي لحوكمة الإنترنت. في هذا المشهد يتصارع طرفان على فرض نفوذهما على المؤسسات التي تقرر مصير شبكة الإنترنت، وهما الدول القومية من جانب وشركات التكنولوجيا الكبرى من جانب آخر. كما تقوم أطراف أخرى مثل المنظمات الدولية والمجتمع المدني بأدوار ثانوية إلى حد كبير، ويغيب بشكل كامل أي دور للأفراد العاديين.
يتطلب أن ينال كل فرد حقه في هوية رقمية معترف بها، وفي مواطنة ذات حقوق كاملة على الإنترنت، أن ينقلب المشهد الحالي رأسًا على عقب. ولا يمكن تصور تحقيق ذلك دون نضال حقيقي يخوضه الأفراد العاديون، وهو ما يتطلب بدوره انتشار الوعي بين هؤلاء الأفراد بمدى أهمية وجودهم الرقمي وارتباط حياتهم ومصائرهم به.
الحق في الخصوصية
يمكن القول بأن تطور وجودنا الرقمي في العقود الأخيرة قد أسهم بشكل واضح في إعادة صياغة الحق في الخصوصية. في حين كان هذا الحق أحد أكثر حقوق الإنسان غموضًا في عالم ما قبل الإنترنت فإن الممارسات المختلفة التي أحدثتها الإنترنت وبقية التكنولوجيات الرقمية قد أسهمت في جعل هذا الحق أكثر وضوحًا وفي تمكين الجميع من استشعار مدى أهميته.
نشأ ذلك في الواقع نتيجة لأن التجربة العملية قد أثبتت أن وجود كل منا الرقمي يجعل خصوصيته أكثر عرضة للانتهاك. أنشطتنا اليومية على مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال تجعل الحدود الفاصلة بين العام والخاص غير واضحة إلى حد كبير. كذلك تعتمد خصوصية بياناتنا الشخصية على ممارسات عدد ضخم من الأطراف التي قد لا نعلم بها أصلًا.
سنت عديد من الدول بالفعل تشريعات تسعى لحماية خصوصية مواطنيها وبياناتهم الشخصية. لكن هذه التشريعات ستظل دائمًا قاصرة وغير كافية. التعارض بين التشريعات في الدول المختلفة يؤدي في أحيان كثيرة إلى تضييع حقوق مواطني هذه الدولة أو تلك.
كذلك لا تتساوى الدول في قدرتها على إلزام شركات التكنولوجيا الكبرى بتشريعاتها أو على توقيع عقوبات مؤثرة عليها في حال انتهكت هذه التشريعات. والحقيقة أن ثمة حاجة ماسة إلى إعادة صياغة الحق في الخصوصية حتى يكون حقًا شاملًا عابرًا للحدود السياسية، وأن يكون أكثر ملاءمة لعالم رقمي، وأن ينطوي على إلزام دولي للأطراف ذات الصلة، مما يعني شركات التكنولوجيا والدول أيضًا.
يرتبط الحق في الخصوصية الرقمية بالحق في هوية رقمية بشكل وثيق. انتشار البيانات الشخصية في أرجاء الإنترنت وتعرضها للوصول غير المصرح به من قبل أطراف مجهولة هو السبب الرئيسي لأكثر صور انتهاك الخصوصية الرقمية انتشارًا وخطورة.
في أغلب الحالات يحتاج التأكد من شخصية فرد ما أن يقدم قدرًا كبيرًا من البيانات الشخصية التي لا حاجة إليها عمليًا. يمكن الاستغناء عن هذه الحاجة بوجود هوية رقمية موثقة ومعترف بها للشخص ويمكنه إثبات شخصيته بها دون الحاجة إلى تقديم مزيد من بياناته الشخصية لكل موقع أو تطبيق يحتاج إلى التعامل معه.
الحق في حرية التعبير
في تصورات رواد شبكة الإنترنت الأوائل بدت الشبكة كساحة جديدة تتيح قدرًا غير مسبوق من حرية التعبير. ربما يكون هذا التصور قد أثبت صحته إلى حد ما ولكنه بالتأكيد لم يصل في الواقع العملي إلى الصورة المثالية الأولى عند هؤلاء الرواد.
مع اتساع وتعدد مساحات التعبير على الإنترنت تعددت أيضًا الأطراف التي لها سلطة قمع حرية هذا التعبير. في وقتنا الحالي أصبح التعرض لحجب المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي تجربة يومية يتعرض لها أغلب مستخدمي هذه المواقع.
استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي بديلًا عن التدخل البشري لما يسمى بإدارة المحتوى يخلق عددًا لا حصر له من المواقف العبثية التي يُحجب فيها المحتوى ويتعرض فيها الأشخاص لوقف نشاطهم أو إلغاء حساباتهم لأسباب وهمية لا أساس لها. في المشهد الحالي يبدو أن الحق في حرية التعبير قد انتقل من مواجهة سلطة الدولة والسلطات المحلية والمجتمع إلى مواجهة عشرات الجهات التي تضع كل منها قواعد مختلفة.
يفرض هذا الواقع الحاجة إلى إعادة صياغة للحق في حرية التعبير تشبه ما أشير إليه سابقًا فيما يتعلق بالحق في الخصوصية. يعني ذلك أننا في حاجة إلى الاعتراف بحق في حرية التعبير يكون شاملًا وعابرًا للحدود السياسية، وينطوي على إلزامات واضحة لجميع الأطراف ذات السلطة على تمرير المحتوى بصوره المختلفة رقمية كانت أو غير رقمية، وكذلك لحماية من يمارس حقه في حرية التعبير من أية عواقب أو عقوبات ظالمة.
أحد الجوانب الهامة التي يتميز فيها الحق في حرية التعبير الرقمي عن سلفه الكلاسيكي يتعلق بالقيود المسموح فرضها على هذا الحق. فالشروط التي تسوغ فرض مثل هذه القيود ينبغي أن تمثل بشكل واضح رؤية عالمية موحدة في عالم له فضاء عام واحد عابر للحدود. وفي حين أن هذا المبدأ قد أوضحته سابقًا تفسيرات لجنة حقوق الإنسان للمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية إلا أن هذه التفسيرات تحتاج اليوم إلى تضمينها في النص الأصلي الذي يعرف الحق نفسه وبوضوح كامل.
الحق في الوصول إلى المعلومات
ينظر عادة إلى الإنترنت وغيرها من التكنولوجيات الرقمية كأدوات تيسر وفاء الدول بالتزاماتها تجاه حق مواطنيها في الوصول إلى المعلومات. بصفة، أعم توفر الإنترنت منذ بدايتها فرصًا أكبر كثيرًا من أي وسيلة اتصالات سابقة لوصول الأفراد إلى المعلومات بقدر كبير من الحرية.
لكن في المقابل أدى التطور التجاري لخدمات وتطبيقات الإنترنت إلى وجود ممارسات عدة تحد من حرية الوصول إلى المعلومات. من بين هذه الممارسات استخدام محركات البحث على الوب لخوارزميات تعطي أوزانًا مختلفة لنتائج البحث حسب اعتبارات عدة. هذه الاعتبارات تكون عادة خفية عن المستخدم ولا يكون لديه فرصة تعديلها أو إلغائها.
يواجه الوصول إلى المعلومات من خلال الإنترنت أيضًا قيودًا مختلفة تتعلق بحقوق النشر والتي لا تزال في معظمها تخضع للتصورات القانونية التقليدية السابقة على التطورات التي أحدثتها التكنولوجيا الرقمية.
يحتاج الحق في الوصول إلى المعلومات في عالم رقمي إلى إعادة صياغة تأخذ الطبيعة الرقمية للبيانات والمعلومات والمحتوى في الاعتبار. وكذلك تأخذ في الاعتبار طبيعة الوسائل المستخدمة في الوصول إلى المعلومات ونشرها والمصالح الأولى بالرعاية عند الموازنة بين حقوق الناشرين وبين حقوق الأفراد الساعين إلى الحصول على المعلومات.
يتعلق الحق في الوصول إلى المعلومات أيضًا بممارسات حجب المواقع والمحتوى، سواء من قبل الدول أو الشركات التي تقدم الخدمات المختلفة بداية بخدمة الوصول إلى الإنترنت ووصولًا إلى خدمات محركات البحث أو مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها.
على جانب آخر، في حين يركز الحق في الوصول إلى المعلومات بحق المواطنين في أن تتيح مؤسسات الدولة المعلومات الخاصة بممارستها لأعمالها بشفافية، ينبغي للحق في الوصول إلى المعلومات الرقمي أن يمدد ذلك الالتزام إلى شركات التكنولوجيا.
ينبغي أن يشمل ذلك الحق في إمكانية الاطلاع على السياسات وقواعد التعامل والتفاصيل التقنية ذات الأهمية التي تستخدمها هذه الشركات. وبصفة عامة يحق لكل مستخدم للإنترنت أو للبرمجيات والخدمات أن يصل بحرية ودون عائق إلى المعلومات ذات الصلة بالجوانب التي يمكن أن تؤثر على حياته وسلامته وحقوقه ومصالحه في سياق استخدامه للمنتجات التكنولوجية بمختلف أنواعها.
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في عالم رقمي
الحق في التنمية
يتعلق الحق في التنمية عادة بالحق في تنمية اقتصادية مستدامة. بمعنى أنها تأخذ في اعتبارها العوامل البيئية والاجتماعية والثقافية، إلى جانب المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرارات الخاصة بها. عند تمديد هذا الحق وإعادة صياغته في سياق الحقوق الرقمية ينبغي أن تؤخذ عمليات تطوير التكنولوجيا الرقمية كأحد الجوانب الرئيسية للتنمية التي ينطبق عليها معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية والثقافية ومعيار المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرارات.
ينطوي تمديد وإعادة صياغة الحق في التنمية في سياق الحقوق الرقمية على ضرورة أن ينص الحق على إلزام كيانات ومؤسسات القطاع الخاص ذات الصلة بمسؤوليات واضحة تجاه حقوق الأفراد الذين تتأثر حقوقهم ومصالحهم بأعمالها.
ربما يكون التطور المتسارع لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة نموذجًا ممثلًا للآثار البيئية والاجتماعية والثقافية التي يمكن أن ترافق تطوير التكنولوجيا الرقمية. وفي الوقت الذي تحاول فيه الدول ملاحقة تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بتشريعات وأطر قانونية تنظيمية لها يغيب بُعد المشاركة المجتمعية بشكل واضح.
هذه المشاركة ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار جميع الأفراد الذين ستتأثر حقوقهم ومصالحهم نتيجة سياسات التطوير التي تنتهجها الشركات. وينبغي إعطاء الأولوية لمن يقع عليهم تأثير مباشر أكثر من غيرهم، مثل سكان المناطق التي تقام فيها مراكز البيانات الضخمة والتي لها تأثير كبير على بيئتها من حيث استهلاك موارد الطاقة والمياه وغير ذلك.
الحق في العمل وحقوق العمال
الحق في العمل وحقوق العمال بصفة عامة هي من الحقوق التي أدى تطور التكنولوجيا الرقمية في العقود الأخيرة إلى تغييرات بالغة الحدة في المفاهيم المؤسسة لها. تتعلق الحقوق الكلاسيكية للعمال بتصورات بعينها لعلاقة العمل، وطريقة إدارة هذه العلاقة في جوانبها المختلفة. يشمل ذلك آليات التوظيف وتحديد الأجر وساعات العمل والتعويضات والتأمينات الاجتماعية والصحية ومعاشات التقاعد.
أتاحت التكنولوجيا الرقمية وتطبيقاتها صورًا جديدة من علاقات العمل وإنتاج القيمة المضافة التي لا ينطبق عليها الإطار التقليدي الذي تتطلبه القوانين حتى يمكن تطبيقها. في نفس الوقت لا ينطبق على هذه الصور الجديدة الإطار التقليدي لعلاقة التعاقد المؤقت لتقديم خدمات بعينها لفترة محددة، وهو الإطار الوحيد المتاح وفق القوانين الحالية كبديل لعلاقات العمل التقليدية الدائمة.
تتطلب حماية حقوق العمال في عالم رقمي وجود رؤية شمولية لعمليات الإنتاج على مستوى المجتمع البشري في مجمله. والمقصود بذلك هو تجاوز النمط التقليدي لعلاقة العمل الدائمة بوصفها الوحدة الأساسية لعمليات إنتاج القيمة المضافة.
بدلًا من ذلك ينبغي أن تنبني حقوق العمال على مبدأ أساسي هو حق كل إنسان في نصيب عادل من عائد أي قيمة مضافة يشارك في إنتاجها من خلال أي نشاط يؤديه. كذلك ينبغي أن تذهب نسبة من القيمة المضافة إلى تمويل صناديق للتأمين الصحي والضمان الاجتماعي يكون للأفراد حق المشاركة فيها. وينبغي ألا تكون هذه الصناديق مقيدة بالحدود السياسية للدول.
على نفس النهج، تحتاج الحقوق النقابية إلى إعادة صياغة يتم من خلالها تعميم هذه الحقوق وتحريرها من تقييدها بالصور النمطية التقليدية. ينبغي أن تتأسس الحقوق النقابية في عالم رقمي على الحق في حرية التجمع والانتماء فتتحول إلى حق عام لكل فرد في المشاركة في تكوين والانضمام إلى كيانات معنية بحماية حقوقه تجاه مشاركته في إنتاج القيمة المضافة. مثل هذه الكيانات ينبغي بدورها ألا تكون مقيدة بالحدود السياسية للدول وبالتالي فلابد أن ينظم القانون الدولي عمليات إنشائها وعملها وأن يلزم كل من الدول والكيانات الاقتصادية بتسهيل عملها.
الحق في التعليم
ينطوي الحق في التعليم على إقرار ضرورة أن يتوافر لجميع أفراد المجتمع حد أدنى من المعرفة والمهارات التي تؤهلهم لأن يكونوا فاعلين في المجتمع وواعين بحقوقهم ومسؤولياتهم. وعندما ننقل هذا المنظور إلى سياق الحقوق الرقمية فإن الحق في التعليم ينبغي أن يمتد ليقر صراحة حق الأفراد في الحصول على الحد الأدنى من المعرفة والمهارات اللازمة للتعامل مع وسائل التكنولوجيا الرقمية، وفي مقدمتها الإنترنت، من خلال خدمات تعليم إلزامي مجاني. هذا الحد الأدني ينبغي أن يضمن أن يكون الفرد قادرًا على إدارة وجوده الرقمي بفعالية وأن يكون واعيًا بحقوقه الرقمية وقادرًا على السعي إلى حمايتها بمفرده أو بمشاركة الآخرين.
ينبغي أيضًا أن تتسع تصورات الوفاء بالحق في التعليم لتشمل كافة الوسائل التي تتيحها التكنولوجيا الرقمية لتطوير إمكانية الوصول إلى الخدمات التعليمية ورفع مستوى وجودة هذه الخدمات. ومن ثم فإن الحق في التعليم ينبغي أن ينص على إلزام الدولة بتوفير الخدمات التعليمية الإلزامية مجانا بشتى السبل المتاحة بما في ذلك وسائل التعليم عن بعد وغيرها مما توفره التكنولوجيا الرقمية.
الحق في الصحة
يعتمد التزام الدول بحق مواطنيها في الصحة بتوفير حد أدنى من الخدمات الصحية ومن العمليات الضرورية لضمان الصحة العامة، مثل مكافحة الأوبئة والأمراض المتوطنة. ويتقيد إلزام الدول بالحق في الصحة بمدى توافر القدرات المادية الكافية لتحقيق الحد الأدنى المشار إليه.
يُعد هذا أحد الجوانب التي ينبغي إعادة النظر فيها في إطار حق رقمي في الصحة. فمع توافر إمكانية تقديم خدمات صحية بتكلفة أقل من خلال التكنولوجيا الرقمية، وتقديم الخدمات الصحية بشكل يتجاوز الحدود السياسية بين الدول يمكن إعادة صياغة الحق في الصحة بشكل أكثر عولمة وشمولًا.
خاتمة
سعت هذه الورقة إلى تقديم تصور متماسك للحقوق الرقمية في سياق العالم الرقمي الذي لا يزال في طور التشكل حولنا. انطلقت الورقة من فرضية هي أن تطور التكنولوجيا الرقمية وتغلغلها في جميع الأنشطة الإنسانية قد أدى إلى خلق وجود رقمي مندمج مع الوجود الفعلي في إطار عالم رقمي واحد. في هذا العالم تتعلق حقوق كل فرد بحقيقة أن له وجود رقمي لا ينفصل عن وجوده الفعلي وهو ما يتطلب أن تعاد صياغة أغلب حقوق الإنسان الكلاسيكية لتأخذ في الاعتبار هذا الوجود الرقمي.
ناقشت الورقة مفهوم الحقوق الرقمية ونشأتها وتطورها وأهم قيمها ومبادئها ثم مقاربات تعريفها مع التركيز على المقاربة التي تتبناها الورقة. كما تعرضت الورقة للحقوق ذات الصلة بدخول الفرد إلى العالم الرقمي وتمتعه بوجود رقمي فاعل مع حماية حقوقه في هذا العالم. وأخيرًا تعرضت الورقة لكيف ينبغي أن تعاد صياغة حقوق الإنسان في ظل عالم رقمي. وتناولت عددًا من الحقوق تحت عنواني الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.