من الوصول إلى التمكين: الحق في الوصول إلى الإنترنت كحق أساسي

مقدمة

أهمية الإنترنت في حياة كل منا كأفراد وفي حياة مجتمعاتنا ليست أمرًا يحتاج إلى مزيد من التدليل عليه. لذلك، لا يزال معدل انتشار الوصول إلى شبكة الإنترنت حول العالم يتزايد باستمرار وفقًا للإحصائيات السنوية.

تتفاوت التقديرات المتاحة لعدد مستخدمي اﻹنترنت حول العالم. حسب تقديرات موقع ستاتيستا (Statista) المتخصص في اﻹحصاءات، كان ثمة 5.3 مليار مستخدم للإنترنت في العالم، في أكتوبر 2023. هذا الرقم يكافئ 65.7% من إجمالي سكان العالم. من بين هؤلاء كان 4.95 مليار، أو 61.4% من سكان العالم، من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.

في المقابل، حسب تقديرات شركة أطلس-في-بي-إن (Atlas VPN)، ثمة حوالي 5.16 مليار مستخدم لشبكة اﻹنترنت، يمثلون 64.4% من سكان العالم. ومن المتوقع لهذا الرقم أن يزداد بحوالي الخمس (19%) ليصل إلى 6.13 مليار شخص في عام 2028.

إجمالي عدد ونسبة مستخدمي اﻹنترنت في العالم ككل ليس وحده مؤشر كاف للتعبير عن مدى تمتع سكانه بإمكانية الوصول إلى الشبكة. تشير الأرقام السابقة إلى أن احتمال تمكن أي شخص في العالم من الوصول إلى اﻹنترنت يتراوح بين 64.4% إلى 65.7%. إلا أن الوصول إلى شبكة الإنترنت في الواقع يتوقف أيضًا على في أي بلد من بلدان العالم يعيش الفرد. حسب الإحصائيات، احتمال أن يكون شخص مستخدمًا للإنترنت يرتفع لأكثر من 80% إذا كان يعيش في دولة متقدمة، بينما يكون أقل من 50% إذا كان يعيش في بلد فقير أو نام.

على سبيل المثال، تحتل الهند المرتبة الثانية عالميًا في عدد مستخدمي الإنترنت، حيث يوجد بها حوالي 692 مليون مستخدم. لكن هذا العدد يمثل فقط 48.7% من إجمالي سكان الهند. بالمقارنة، تحتل الصين المرتبة الأولى عالميًا في عدد مستخدمي الإنترنت، حيث يوجد بها 1.05 مليار مستخدم، يمثلون 73.7% من إجمالي سكانها. بينما الولايات المتحدة تحتل المرتبة الثالثة، حيث يوجد بها 311.3 مليون مستخدم للإنترنت، يمثلون 91.8% من سكانها. إلى جانب ذلك التفاوت الواضح في إمكانية الوصول إلى اﻹنترنت بين مواطني الدول المختلفة ثمة تفاوت كبير في جودة وفعالية هذا الوصول.

يوضح ما سبق أن ضمان وصول عادل وذو معنى إلى شبكة الإنترنت لا يمكن أن يتم فقط عبر انتشارها بشكل طبيعي، بل يتطلب تدخلًا نشطًا، نظرًا للانحيازات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. لذلك، أصبح من الضروري العمل على تحقيق وصول عادل ومتكافئ للإنترنت من خلال إلزام قانوني للأطراف المعنية، وفي مقدمتها الدول. يتطلب هذا الإلزام اتفاقيات ومعاهدات دولية، والتي تحتاج بدورها إلى اعتراف دولي بأن الوصول إلى الإنترنت هو حق أساسي للإنسان.

ثمة بالفعل دعوة نشطة تقودها عديد من منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق اﻹنسان في مختلف أنحاء العالم لإقرار الحق في الوصول إلى اﻹنترنت كأحد حقوق اﻹنسان. بدأت هذه الدعوة قبل أكثر من عقد إلا أنه حتى يومنا هذا لا يبدو أن ثمة تقدم كبير على مسار تحول هذه الدعوات إلى حقيقة واقعة.

تسعى هذه الورقة إلى مناقشة الدعوة إلى إقرار الحق في الوصول إلى اﻹنترنت كأحد الحقوق اﻷساسية للإنسان في عالمنا اليوم. تحاول الورقة اﻹجابة على سؤالين أساسيين اﻷول هو: لماذا نحتاج إلى إقرار حق أساسي في الوصول إلى اﻹنترنت؟ والثاني هو: كيف نتوصل إلى تعريف شامل لهذا الحق لضمان أن يكون الوصول إلى اﻹنترنت شاملًا دون تمييز؟

لماذا نحتاج إلى إقرار حق أساسي في الوصول إلى اﻹنترنت؟

أهمية الوصول إلى اﻹنترنت في حياة اﻷفراد والمجتمعات والدول

ثمة عدد لا حصر له من المصادر التي تناقش مدى اﻷهمية التي اكتسبتها شبكة اﻹنترنت في حياة اﻷفراد والمجتمعات والدول. تركز هذه الورقة على التفرقة بين اﻹنترنت كبوابة لفرص جديدة لحياة أفضل، واﻹنترنت كضرورة للحياة اليومية الطبيعية في عالم اليوم.

يدور الحديث عن أهمية الوصول إلى اﻹنترنت في حياة اﻷفراد والمجتمعات والدول حول إتاحة فرص جديدة لم تكن متاحة من قبل. إشكالية هذه المقاربة أنها تنطوي ضمنًا على غياب الضرورة. بمعنى أن اﻹنترنت هي طارئ جديد على حياة الناس، عاشوا قبل أن يكون لها وجود، ومن ثم يمكنهم العيش بدونها كما فعلوا طوال آلاف السنين.

تتجاهل هذه المقاربة الوجه الآخر لوجود الإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة، وهو خلق ظروف جديدة للعيش في العالم. غيرت هذه التكنولوجيات بالفعل ومازالت تغير عالمنا، بما في ذلك ضرورات الحياة والعمل والطموحات الخاصة بشكل ومستوى المعيشة. 

يختلف اليوم ما هو ضروري لحياة كريمة عن ما كان عليه قبل ظهور هذه التكنولوجيات وقبل كل التغيرات المصاحبة لها. لذلك، ترتبط هذه التكنولوجيات ارتباطًا وثيقًا بشروط الحياة الكريمة للأفراد وشروط التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات والدول.

أتاح الإنترنت خيارات جديدة للوصول إلى الخدمات، إلا أنه الكثير منها لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال الإنترنت. فعلى الرغم من أن الإنترنت قد جعل الوصول إلى الخدمات أسهل، إلا أن توفير العديد من هذه الخدمات عبر الطرق التقليدية يكلف أكثر من توفيرها عبر الإنترنت، بالنسبة للموارد المادية والبشرية المطلوبة. لذلك، أصبح الوصول إلى الإنترنت ضروريًا للحصول على العديد من الخدمات، وليس مجرد فرصة للوصول إلى المزيد منها بسهولة أكبر.

بعض الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والحصول على الوثائق الحكومية، والتوظيف والسفر تعتمد الآن على توفر تكنولوجيا الاتصال الحديثة، مما يعني أن الوصول إلى الإنترنت أصبح ضروريًا للاستفادة منها. وبالتالي، عدم القدرة على الوصول إلى الإنترنت لا يعني فقدان فرص إضافية في الحياة، بل يعني إعاقة القدرة على العيش بصورة طبيعي.

اﻷمر أكثر وضوحًا بالنسبة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات والدول. ظهور تكنولوجيات الاتصالات قد غير من توجهات النمو الاقتصادي. صناعات تكنولوجيا الاتصالات وفي مقدمتها ذات الصلة بالبيانات الضخمة والحوسبة السحابية وغيرها، هي اليوم اﻷكثر نموًا.

من ثم، فمجال الاستثمار في هذه الصناعات بمتطلباته المختلفة يمثل نسبة كبيرة من إمكانيات التنمية المتاحة في حد ذاته. ولكن هذا فقط جزء من الصورة الأشمل. اعتماد الصناعات التقليدية في نموها وتطورها على تكنولوجيات الاتصالات قد تزايد حتى أصبحت ضرورية لأي تنمية اقتصادية.

لذلك، تؤكد هيئة اﻷمم المتحدة في “تقرير أهداف التنمية المستدامة 2021” أن:

“الوصول الواسع الانتشار إلى اﻹنترنت السريع (ذو النطاقات الواسعة) هو محرك مفتاحي للتنمية البشرية. تحسين الوصول إلى اﻹنترنت هو أداة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في كل من الهدف الرابع (التعليم الجيد)، الهدف التاسع (الصناعة، الابتكار، والبنية التحتية)، والهدف 17 (الشراكة من أجل تحقيق اﻷهداف). يسمح اﻹنترنت للناس بالتواصل، العمل، التسوق، والدراسة خاصة أثناء ظروف اﻹغلاق التي واكبت جائحة الكوفيد-19.”

وحسب تقديرات البنك الدولي فإن:

“رفع نسبة تغلغل اﻹنترنت إلى 75% من إجمالي السكان في الدول النامية (من المستوى الحالي وهو حوالي 35%) من شأنه أن يضيف ما قدره 2 تريليون دولار إلى إجمالي الناتج المحلي لهذه الدول، ويخلق أكثر من 140 مليون وظيفة حول العالم.” هذه التقديرات وغيرها تقود البنك الدولي إلى القول أن “الوصول إلى اﻹنترنت السريع (واسع النطاقات)، ليس رفاهية، ولكنه ضرورة أساسية للتنمية الاقتصادية والبشرية في كل من الدول المتقدمة والنامية.”

الحجج الداعمة للحاجة إلى إقرار الحق في الوصول إلى اﻹنترنت

تعتمد معظم الحجج الداعمة لإقرار حق أساسي في الوصول إلى الإنترنت بين حقوق الإنسان على أن هذا الوصول يدعم ممارسة الناس لحقوقهم وحرياتهم الأساسية. يأتي في مقدمة هذه الحقوق الحق في حرية التعبير، والحق في الوصول إلى المعلومات، والحق في التعليم والرعاية الصحية. في مايو 2011، استخدم المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في حرية التعبير في ذلك الحين فرانك لارو (Frank La Rue) هذه المقاربة في التقرير الذي قدمه لمجلس حقوق الإنسان.

بخلاف ما تصوره كثير من المعلقين في ذلك الحين، وخاصة من المشتغلين بالإعلام، لا يدعو التقرير إلى اعتبار الوصول إلى الإنترنت حقًا من الحقوق الأساسية للإنسان. يناقش التقرير حصرًا أهمية الإنترنت لممارسة الحقوق الأساسية وضرورة حمايته من ممارسات الرقابة والمراقبة. كما ركز التقرير بصفة خاصة على تعمد قطع الاتصال بشبكة الإنترنت من قبل مؤسسات وأجهزة الدولة. جاء هذا التركيز على خلفية لجوء السلطات المصرية في 28 يناير 2011 إلى قطع خدمات الإنترنت والهاتف المحمول بشكل شبه كامل في محاولة لعرقلة التظاهرات المقررة في ذلك اليوم.

التركيز على دور الإنترنت في تمكين الناس من ممارسة حقوقهم الأساسية يشكل نقطة ضعف في المطالبة بإقراره كحق إنساني مستقل. بالمقابل، تُعَد الضرورة العملية، التي يجب الاعتراف بتطورها مع تطوُّر طرق ممارسة الأفراد والمجتمعات للحياة اليومية، الركيزة الحقيقية التي ينبغي تأسيس المطالبة بإقرار الحق في الوصول إلى الإنترنت عليها.

مقاربات تعريف الحق في اﻹنترنت

ثمة مقاربات عدة لتعريف الحق في الوصول إلى الإنترنت. تصدر تلك المقاربات عن رؤية لما ينبغي أن يركز هذا الحق عليه لتحقيق أكبر قدر من العدالة وتكافؤ الفرص. تناقش الورقة في القسم التالي تلك المقاربات.

الوصول الشامل

الوصول الشامل يعني توافر خدمة الاتصال بشبكة الإنترنت لجميع الأفراد والجماعات في كل مكان. تركز هذه المقاربة على توفير البنية التحتية اللازمة ليكون بإمكان أي شخص أن يتصل بالإنترنت بغض النظر عن موقعه الجغرافي. 

تعتمد المقاربة على حقيقة أنه حتى في أكثر دول العالم ثراءً أو تقدمًا لا تزال مناطق بعينها محرومة من خدمات الاتصال الإنترنت. قد يكون هذا الحرمان كليًا أو جزئيًا، تحديدًا فيما يتعلق بسرعة الاتصال والنطاق العريض اللازم لتمكين تبادل البيانات المكثفة مثل الفيديو والبث المباشر.

تركز المقاربة أيضًا على تفاوت تغطية الإنترنت بين الدول المختلفة وكذلك بين المناطق العمرانية والمناطق والريفية والنائية داخل كل دولة. تسعى المقاربة لاستخدام تقنيات مثل الأقمار الصناعية للاتصالات لتجاوز عوائق بعد المسافات والتضاريس الوعرة وغيرها.

الوصول بكلفة مناسبة

تركز هذه المقاربة على أن العائق الرئيسي أمام كثير من الناس، خاصة في الدول النامية، هو عدم قدرتهم على تحمل تكلفة خدمات الاتصال بالإنترنت. كما تركز المقاربة على حقيقة أن كثير من الدول الأكثر فقرًا لا تتحمل تكلفة إنشاء البنية التحتية اللازمة لتوفير خدمة الاتصال بالإنترنت لمواطنيها على نطاق واسع.

تضع هذه المقاربة تعريفها للحق في الوصول إلى الإنترنت في إطار فك الارتباط بين الوصول إلى الإنترنت كحق، وبين التكلفة المادية لإتاحة هذا الوصول. بموجب هذا التعريف، يُعامَل حق الوصول إلى الإنترنت كحق من حقوق الإنسان الأساسية مثل الحق في التعليم والحق في الرعاية الصحية. من ثم، يجب على الدول العمل على توفير خدمة الاتصال بالإنترنت كخدمة مجانية لجميع المواطنين، أو على الأقل لأولئك الذين لا يمكنهم تحمل تكلفته التجارية.

جودة الخدمة

تركز هذه المقاربة على حقيقة أن مجرد إمكانية الاتصال بالإنترنت لا يحقق بذاته الأهداف التنموية الاجتماعية والاقتصادية المرجوة منه. في ظل تنوع صور المحتوى المتبادل عبر الإنترنت واعتماد الخدمات الأساسية على محتوى يتطلب استهلاكًا كبيراً للبيانات، فإن الاتصال بالإنترنت بجودة مناسبة يصبح أمرًا ضروريًا لضمان فعالية هذا الاتصال. لذلك، تدعو هذه المقاربة إلى تعريف حق الوصول إلى الإنترنت بما يشمل بوضوح ضرورة توفير حد أدنى مقبول من جودة الاتصال لجميع مستخدمي الإنترنت في كل مكان.

محو اﻷمية الرقمية وتنمية المهارات

ترى هذه المقاربة أن العائق الذي يحول دون استفادة الناس من الاتصال بالإنترنت هو افتقادهم إلى حد أدنى ضروري من المعرفة والمهارات المطلوبة لاستغلال خدمات الإنترنت بشكل كفؤ. تركز المقاربة على ضرورة توفير المعرفة الرقمية والتدريب على المهارات الأساسية لاستخدام تكنولوجيا وخدمات الإنترنت للجميع.

تسعى المقاربة لأن يتضمن أي تعريف للحق في الوصول إلى الإنترنت الالتزام بتوفير سبل التعليم والتدريب المطلوبة لذلك. يمكن تحقيق ذلك من خلال المسارات التقليدية، أي التعليم النظامي، أو فرص محو الأمية الرقمية لمن تخطو سن التعليم النظامي.

الوصول المفتوح وغير التمييزي

تتجاوز هذه المقاربة العوامل التقنية التي تؤدي إلى التمييز ضد سكان بعض الدول والمناطق على أساس تكلفة توفير البنية التحتية اللازمة للاتصال بالإنترنت. تركز المقاربة بدلاً من ذلك على العوامل الاجتماعية والثقافية التي تؤدي إلى حرمان بعض فئات المجتمع من الوصول إلى الإنترنت أو تفرض عليهم حدودًا وقيودًا على هذا الوصول وجودته. 

تستهدف هذه المقاربة مواجهة التحديات الاجتماعية التي تُعرِّض هذه الفئات للتمييز. كما تطالب بتعريف للحق في الوصول إلى الإنترنت يتضمن صراحة سبل التعامل مع هذه التحديات على جانبين:

  • التمكين من االاتصال بالإنترنت خاصة بالنسبة للنساء والفتيات في بعض المجتمعات.
  • التمكين من ممارسة الحق في حرية التعبير على الإنترنت لفئات مثل الأقليات الدينية والجنسية والعرقية وغيرها.

نحو تعريف شامل للحق في الوصول إلى اﻹنترنت

المقاربات المختلفة التي تناولتها الورقة لتعريف الحق في الوصول إلى الإنترنت تركز بشكل جزئي على أحد جوانب خبرة التعامل مع الإنترنت أكثر من غيرها. لذلك، يُعَدّ تحديد تعريف عملي وذو أثر فعلي لحق الوصول إلى الإنترنت هدفًا رئيسيًا.

يساعد ذلك في تجاوز هذه التجزئة وضمان شمولية هذا الحق بجميع الجوانب التي تسهم في تحقيق الأهداف المتوقعة منه. فهذا الحق يعتبر عاملًا مهمًا في تحقيق التنمية الفردية والاجتماعية، ويمكن أن يكون له تأثير على مستوى المجتمع والبشرية بشكل عام. تناقش الورقة في الأقسام التالية الركائز الأساسية التي يجب أن ينبني عليها تعريف الحق في الوصول إلى الإنترنت.

الإنترنت كمنفعة عامة (ملكية الشعوب للبنية التحتية وموارد تشغيل الشبكة)

النظر إلى الإنترنت كمورد أساسي يقتضي النظر إليه كمنفعة عامة، حيث تعتمد حياة البشر عليه بشكل متزايد وستستمر في الاعتماد عليه في المستقبل. وذلك في مقابل اعتبارها منتجًا اقتصاديًا يتم تسويقه للمستهلكين الراغبين في الحصول عليه. مبدأ اعتبار أي مورد منفعة عامة يعتمد على جانبين. الأول هو التبرير الموضوعي، ويتعلق بمدى إسهام الاستثمارات والموارد العامة أي المملوكة للشعوب في مجملها في توفير هذه المنفعة. الثاني هو التبرير الأخلاقي، ويتعلق بمدى ضرورة المورد لحياة الأفراد بحيث يمثل حرمانهم منه تعديًا على حقوقهم الأساسية.

يعتمد وجود شبكة الإنترنت على عدد كبير من الموارد المادية والافتراضية أيضًا. فهي تعتمد في وجودها على البنية التحتية لشبكات الاتصالات العالمية والمحلية. تنشئ الدول تلك البينة في معظمها وتقوم على صيانتها وتشغيلها باستخدام مواردها المملوكة لشعوبها، ومنها أموال دافعي الضرائب في كل دولة.

لكن الإنترنت تعتمد في وجودها أيضًا على المحتوى المتاح من خلالها، والذي لا قيمة لها بدونه. هذا المحتوى في غالبيته الساحقة أنتجه أفراد عاديون من كل مكان في العالم، ومعظمهم أتاحه دون تقاضي مقابل مادي لذلك. 

يشكل هذين الجانبين الأساس الذي يمكن به تصور الإنترنت كمنفعة عامة بشكل موضوعي. مع عدم أغفال استثمارات شركات التكنولوجيا في عناصر عدة ضرورية لوجود الإنترنت أيضًا. لكن هذه الاستثمارات تحقق عوائدها بصفة أساسية من خلال اتصال أكبر عدد ممكن من الناس بالشبكة. يعني ذلك أن اعتبارها منفعة عامة وتمكين الجميع من الاتصال بها دون تكلفة إضافية يصب بالضرورة في صالح تعظيم العائد على استثمارات أغلب شركات التكنولوجيا المعنية.

يقدم اعتبار الإنترنت منفعة عامة أساسًا أكثر صلابة لكل من الوصول الشامل والوصول بكلفة مناسبة. يمكن الدفاع عن كون الوصول إلى الإنترنت حق أساسي من حقوق الإنسان بشكل أكثر فعالية باعتبارها منفعة عامة. ذلك لأن حق كل فرد من أفراد المجتمع في الوصول المتساوي إلى المنافع العامة يتعلق بملكيته التشاركية لهذه المنفعة. تنشأ تلك الملكية بميلاد كل شخص وتكون لصيقة به. تعتمد هذه الورقة على اعتبار شبكة الإنترنت منفعة عامة كركيزة أساسية لتعريف الحق في الوصول إلى الإنترنت.

التكامل بين الحق في الوصول إلى اﻹنترنت وبين بقية الحقوق والحريات اﻷساسية

الدور الذي تلعبه شبكة الإنترنت في تمكين الأفراد من ممارسة حقوقهم وحرياتهم الأساسية هو ركيزة بالغة الأهمية لتعريف لهذا الحق. ولكن فيم يختلف ذلك عن ضرورة الاتصال بالإنترنت لحياة الفرد والمجتمع كركيزة أخلاقية للحق في الوصول إلى الإنترنت؟ الإجابة هي أن الضرورة العملية تخلق الحاجة إلى الحق، في حين أن الحاجة إلى الحق لممارسة بقية الحقوق تتعلق بتكامل حقوق الإنسان واعتمادها المتبادل على بعضها البعض. لذلك، فهذه الحاجة الأخيرة تظل ركيزة مكملة ولكنها ليست المصدر الأصلي للحق نفسه.

حصر الحاجة إلى الحق في الوصول إلى الإنترنت في التمكين من ممارسة الحقوق الأخرى فقط، ودون ركيزة الضرورة العملية له بشكل مستقل عن هذه الحقوق، يجعل بالإمكان القول بأنه ليس من حقوق الإنسان الأساسية ولكنه من متطلبات بعضها. يعني ذلك أن حماية هذا الحق متضمنة بالفعل في الإلزام بحماية الحقوق الاخرى وبقدر ما تقتضيه.

على جانب آخر، التكامل بين حقوق الإنسان ودور كل منها في تمكين الأفراد من ممارسة الحقوق الأخرى هو ركيزة هامة لتعريف كل حق من هذه الحقوق بالشكل الصحيح. يضمن ذلك أولًا عدم التعارض بينه وبين أي حق آخر. ثانيًا، أن يؤدي دوره في دعم ممارسة الحقوق الأخرى بنجاح. 

لذلك، ينبغي أن تشمل عناصر تعريف الحق في الوصول إلى الإنترنت ضمان ألا يتناقض تطبيقه مع الحقوق الأخرى. بل على العكس، يجب أن تشمل شروطه ما يدعم حماية هذه الحقوق. بشكل مماثل، ينبغي أن يتضمن تعريف الحق في الوصول إلى الإنترنت شروطًا تكفل أن يدعم ممارسة الحق في حرية التعبير عبر الإنترنت.

تعريف مقترح للحق في الوصول إلى اﻹنترنت

تطرح الورقة فيما يلي نصًا مقترحًا لصياغة تعريف للحق في الوصول إلى الإنترنت. تظل هذه الصيغة عرضة للقصور والحاجة إلى التطوير ولكنها تمثل مقترحًا مبدئيًا يحاول تغطية العناصر الواجب توافرها في هذا التعريف.

تعريف شبكة الإنترنت: مجموع شبكات الاتصالات المتصلة ببعضها البعض، سواء سلكيًا أو لا سلكيًا، وتعتمد في نقل البيانات الرقمية فيما بينها على بروتوكول TCP/IP، أو أي بروتوكولات تستجد إضافة إليه أو بديلًا عنه.

تعريف الحق في الوصول إلى الإنترنت: شبكة الإنترنت هي منفعة عامة مملوكة لجميع أفراد الجنس البشري، ولكل إنسان حق أصيل في حرية الاتصال بها والتواصل من خلالها لتبادل المعلومات بكل صورة ممكنة، وتلتزم الدول فرادى أو في مجموعات وهيئات دولية بالعمل على حماية هذا الحق بتمكين جميع مواطنيها من ممارسته بشكل حر وذو معنى وبما يحقق أهداف تنمية الفرد والمجتمع ولصالح الجنس البشري في عمومه.

ينطوي الالتزام بحماية هذا الحق الاشتراطات التالية:

  • تلتزم الدول بتوفير إمكانية الاتصال بشبكة الإنترنت مجانًا لجميع مواطنيها والمقيمين على أراضيها دون تمييز بينهم على أساس الجنس، أو النوع الاجتماعي، أو العرق، أو الأصل، أو الموقع الجغرافي، أو الجنسية، أو التوجه الجنسي، أو أي أساس آخر.
  • يحظر على أي دولة أو مؤسسة حكومية تابعة لها أن تقدم على قطع أو حجب الاتصال بشبكة الإنترنت عمدًا عن جميع مواطنيها أو عن بعضهم تحت أي ظرف وبأي مسوغ.
  • تلتزم الدول بالعمل على أن يتوافر للاتصال بشبكة الإنترنت الحد الأدنى من الجودة، من حيث الاستقرار والاستمرارية والسرعة، ليسمح بتبادل البيانات بصورها المختلفة بما لا يعوق إمكانية الاستفادة منها وحسب المعايير القياسية التي تعتمدها هيئات دولية مستقلة متخصصة.
  • يُحظَر على أي دولة، أو مؤسسة عامة، أو ما في حكمها ممارسة الرقابة على محتوى البيانات المتداول من خلال شبكة الإنترنت إلا من خلال تشريع ينص صراحة على نوع بعينه من المحتوى يمكن تمييزه، وفي أضيق الحدود، ولأحكام الضرورة القصوى في غياب بديل أقل انتهاكًا للحق. يجري تطبيق التشريع المشار إليه من خلال أحكام أو قرارات قضائية مستقلة، ويحظر تطبيقها بقرارات إدارية.
  • تلتزم الدول فرادي وبالتعاون فيما بينها بالعمل على تأمين شبكة الإنترنت والنظم المعلوماتية المتصلة بها بكل أنواعها، وحمايتها من مخاطر الهجمات السيبرانية التي قد تحدث أضرارًا مادية بها أو بالبيانات المختزنة عليها من حيث خصوصيتها، وسريتها، واتساقها، واستدامتها، وتمكين أصحابها الشرعيين من الوصول إليها. 
  • يُحظَر على أي دولة، أو أو مؤسسة عامة، أو ما في حكمها ممارسة أي شكل من أشكال اختراق النظم المعلوماتية، أو مراقبة الاتصالات التي تتم من خلال الشبكة، إلا في حدود ما تنص عليه قوانين متسقة مع اشتراطات القانون الدولي لحقوق الإنسان، وفي حدود الضرورة التي تحتمها مكافحة الجريمة أو حماية حقوق الأفراد.
  • تلتزم الدول بسن التشريعات اللازمة والفعالة للعمل على مواجهة صور التمييز، وخطاب الكراهية، والتعديات المختلفة التي تعيق تمتع مستخدمي الإنترنت بحقوقهم الأساسية، وفي مقدمتها الحق في حرية التعبير والحق في الخصوصية.

أدوار اﻷطراف المختلفة في توفير وحماية الحق في الوصول إلى اﻹنترنت

المنظومة الدولية والدول كل على حدة

تتحمل المنظومة الدولية مسؤولية كبيرة فيما يتعلق بالحق في الوصول إلى اﻹنترنت، وذلك مقارنة بأدوارها التقليدية تجاه حقوق اﻹنسان اﻷخرى. ذلك نظرًا للطبيعة العابرة لحدود الدول السياسية لشبكة اﻹنترنت نفسها. لذلك، يتطلب تحقيق أهداف إقرار هذا الحق جهدًا جماعيًا يشمل عدة جوانب. يجب على الصعيد القانوني إقرار أطر قانونية مناسبة من خلال اتفاقيات ومعاهدات دولية ملزمة لجميع الأطراف. وعلى الصعيد التنفيذي، يتعين تنفيذ هذه الأطر القانونية من خلال هيئات دولية أو قنوات للتعاون الثنائي والجماعي بين الدول عند الضرورة للتعامل مع جوانب متعددة تتعلق بممارسة الحق وتتجاوز حدود السلطة القانونية لدولة بعنيها.

الدول، كل منها على حدة، تظل المسؤول الرئيسي عن حماية وضمان الحق في الوصول إلى اﻹنترنت لمواطنيها. تتحمل الدول أعباء هذه المسؤولية من خلال سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. تلتزم الدول بمراجعة تشريعاتها القائمة لضمان تنقيتها من أي نصوص تتعارض مع اشتراطات تطبيق الحق في الوصول إلى اﻹنترنت. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تستحدث تشريعات جديدة حسب الحاجة لضمان وحماية هذا الحق.

كما تلتزم الدول من خلال سلطاتها التنفيذية بإصدار التنظيمات والقرارات اﻹدارية المطلوبة والعمل على تطبيق اﻹجراءات اللازمة لضمان وحماية الحق. يشمل ذلك ما يتعلق بالاستثمار في البنية التحتية، وتطوير برامج التعليم النظامي، والتنظيم اﻹجرائي العملي. يضمن ذلك إلتزام شركات القطاع الخاص ذات الصلة العاملة على أراضيها بمسؤولياتها وتأهيل جهات إنفاذ القانون للتعامل مع انتهاكات الحق التي يجرمها القانون.

القطاع الخاص

بدأ الانتشار العالمي لشبكة اﻹنترنت وتحولها إلى جزء من الحياة اليومية لمليارات البشر مع تتجيرها. المقصود بذلك هو تحويل الوصول إليها إلى سلعة/خدمة بمقابل مادي تقدمها شركات متخصصة. منذ ذلك الحين كان نمو تطبيقات الأنترنت وخدماتها المختلفة معتمدًا باﻷساس على استثمارات شركات القطاع الخاص فيها. 

ترتب على ذلك حصول شركات التكنولوجيا الكبرى على قدر كبير من النفوذ فيما يتعلق بإدارة شؤون الشبكة، أو ما يسمى بحوكمة اﻹنترنت. في المقابل، فإن اﻷطر القانونية، الدولية والمحلية على السواء، في معاملتها لشركات التكنولوجيا المسيطرة عمليًا على اﻹنترنت لا تفرق بينها وبين أي عمل خاص ذو مسؤولية محدودة تجاه مصالح عملائه.

في الوقت الذي أصبح فيه ممارسة اﻷفراد لعديد من حقوقهم اﻷساسية مشروطًا باتصال حر وذو معنى باﻹنترنت، تصبح الأطر القانونية التي لا تحمل شركات التكنولوجيا المسؤولية تجاه مستخدمي خدماتهم غير مقبولة. فهي لا تقوم بأداء الدور المتوقع منها، وهو حماية حقوق ومصالح المواطنين كما ينبغي.

العمل على تصحيح هذا الوضع ينبغي أن يكون بين أولويات تنظيم شؤون شبكة اﻹنترنت. لا يمكن تصور تحقيق حق الوصول إلى الإنترنت أهدافه في التطبيق العملي دون أن تفرض اﻷطر القانونية مسؤوليات محددة وملزمة لشركات التكنولوجيا تجاه تمتع مواطني جميع الدول بوصول حر إلى اﻹنترنت. تشمل تلك المسؤوليات توفير الخدمات بحد أدنى من الجودة تحدده معايير واضحة، ضمان حماية حقوق المستخدمين والالتزام بعدم انتهاكها.

من بين اﻷولويات في دور شركات التكنولوجيا التي تدير منصات للتواصل الاجتماعي:

  • الشفافية في سياسات إدارة المحتوى التي تنتهجها، بما في ذلك استخدام الخوارزميات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في تنفيذ هذه السياسات.
  • الالتزام بمعايير محددة وواضحة لهذه السياسات، وضمان أن تحقق العدالة وتكافؤ فرص الوصول إلى المحتوى.
  • ضمان حرية المستخدمين في اختيار المحتوى الذي يتلقونه من خلال الخدمة.

المجتمع المدني

يتجاوز دور المجتمع المدني مجرد الدعوة والضغط للتأثير على المجتمع الدولي والدول لإقرار الحق في الوصول إلى الإنترنت وضمان تنفيذ الالتزامات المترتبة عليه. فالمجتمع المدني يعتبر شريكًا ضروريًا في تنفيذ العديد من الإجراءات اللازمة لضمان وحماية هذا الحق. يزداد دور المجتمع المدني أهمية في جانب بناء قوة جماعية لمستخدمي الإنترنت حول العالم. تمكنهم هذه القوة من التحول إلى طرف ذو ثقل للتأثير في قواعد ومجريات إدارة الإنترنت بما يحقق مصالحهم المتعلقة بها.

للمجتمع المدني دور تعليمي يتخطى مجرد التوعية بأهمية تعرف المستخدمين على حقوقهم فيما يتعلق بالوصول إلى اﻹنترنت. يمتد دور المجتمع المدني إلى توفير المعلومات وإمكانيات التدريب واكتساب المهارات. يساعد ذلك مستخدمي الإنترنت في جميع أنحاء العالم على الاستفادة بشكل عادل ومتكافئ بكافة التطبيقات والخدمات التي تقدمها الشبكة.

بالإضافة إلى ذلك، للمجتمع المدني دور في سد جوانب القصور التي تعوق تحقيق أهداف إقرار الحق في الوصول إلى اﻹنترنت. على سبيل المثال، القصور في توافر المحتوى باللغات اﻷم لقطاعات واسعة من المستخدمين. يمكن لمنظمات المجتمع المدني المشاركة في العمل على تدارك ذلك القصور.

خاتمة

 اﻹنترنت هي اليوم، وبقدر أكبر ومتزايد في المستقبل، ضرورة أساسية من ضرورات الحياة. من ثم، فقد آن للمجتمع الدولي أن يقر الحق في الوصول إليها بين الحقوق اﻷساسية للإنسان. سعت هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على ضرورة وإلحاح الحاجة إلى إقرار حق في الوصول إلى اﻹنترنت. حاولت الورقة استخدام مقاربات مختلفة عن السائد في الجهود المبذولة عالميًا اليوم للمطالبة بإقرار هذا الحق. كما سعت الورقة إلى طرح تعريف للحق في الوصول إلى اﻹنترنت يضمن حمايته بما يحقق الأهداف التي تبرر الحاجة إليه. بالإضافة إلى ذلك، عرضت الورقة دوار اﻷطراف الرئيسية في العمل على ضمان وحماية الحق في الوصول إلى اﻹنترنت.