شبكات الجيل الخامس في مصر: بين المخاطر الحقوقية والفرص التنموية

مقدمة

تشهد مصر خطوات متسارعة نحو إدخال تكنولوجيا الاتصالات من الجيل الخامس (5G) ضمن استراتيجيتها للتحول الرقمي. فمع إطلاق الخدمات التجارية لهذه الشبكات في البلاد في عام 2025، يثار جدل واسع حول كيفية تحقيق التوازن بين الفوائد التنموية المتوقعة من 5G والمخاطر الحقوقية المحتملة على خصوصية المواطنين وحرياتهم.

وفي الوقت الذي تروج فيه الحكومة المصرية لتقنية الجيل الخامس كقاطرة للنمو الاقتصادي وركيزة أساسية لبناء “مصر الرقمية”، تبرز عدة إشكاليات تتعلق بغياب الضمانات التشريعية والشفافية، والتي قد تجعل من هذه الشبكات أداة لتقييد الحقوق والحريات. 

تناقش هذه الورقة بصورة تحليلية مشهد إدخال شبكات 5G في مصر وتبعاتها على حياة المواطنين اليومية وحقوقهم الأساسية، وتستعرض خلفية تقنية مبسطة للجيل الخامس ووظائفه. كما تتناول الورقة خارطة إطلاق 5G في مصر وأطرافها الفاعلة (الحكومية والخاصة والدولية) قبل أن تحلّل أبرز المخاطر الحقوقية المرتبطة بتطبيقات 5G.

بالإضافة إلى ذلك، تناقش الورقة مسألة غياب الاستقلال المؤسسي – تشريعيًا وتقنيًا – في المشهد المصري، وتبعات ذلك على سيادة المستخدم وتحكمه في بياناته ومصيره الرقمي. أخيرًا، تعرض الورقة الفرص التنموية الكامنة في شبكات الجيل الخامس إذا توافرت بيئة تُحترم فيها الحقوق، وتقدم توصيات عملية وتشريعية لحوكمة هذه التقنية في مصر على نحو يصون الحريات ويعظم الفائدة العامة.


خلفية تقنية: ما هي شبكات الجيل الخامس؟

شبكات الجيل الخامس (5G) هي أحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا الاتصالات الخلوية اللاسلكية، وتمثل نقلة نوعية مقارنة بالجيل الرابع (4G) من حيث السرعة والقدرة وكفاءة الاتصال. تهدف هذه الشبكات إلى توفير سرعات غير مسبوقة في نقل البيانات تصل نظريًا إلى مستوى جيجابت/ثانية، أي أعلى بعشرات المرات من شبكات 4G. 

فعلى سبيل المثال، يمكن لـ5G تحقيق سرعة تحميل تبلغ 20 جيجابت/ثانية في ذروتها، بينما السرعات العملية المتوقعة مع بدء التشغيل تبدأ من حوالي 50 ميجابت وتصل إلى بضعة جيجابت/ث. في المقابل، شبكات 4G الحالية غالبًا لا تتجاوز سرعتها الفعلية 45 ميجابت/ث. 

إلى جانب السرعة العالية، تتميز شبكة 5G بعدة خصائص تقنية مهمة. أولًا، زمن الاستجابة (الوقت الذي تستغرقه الشبكة للاستجابة للأوامر) يكون منخفضًا جدًا، وقد يصل إلى جزء من الألف من الثانية، مما يعني أنه يمكن التفاعل مع الشبكة بشكل فوري تقريبًا.

ثانيًا، 5G يمكنها دعم عدد هائل من الأجهزة في نفس الوقت، حيث يمكن أن تتصل ملايين الأجهزة في نفس المساحة الجغرافية، وهو ما يفوق قدرة 4G بحوالي عشرة أضعاف. هذه الميزات تجعل 5G قادرة على ربط جميع الأجهزة، مثل الهواتف الذكية والحواسيب، بالإضافة إلى الآلات والأنظمة الذكية وأجهزة إنترنت الأشياء، في شبكة واحدة سريعة وفعّالة.

تعتمد تكنولوجيا الجيل الخامس على مجموعة من التقنيات المتطورة لتحقيق سرعات عالية. أحد هذه التقنيات هو استخدام ترددات لاسلكية أعلى بكثير من الأجيال السابقة، مثل 28 جيجاهرتز أو أكثر، مقارنة بترددات 4G التي تكون أقل من 2.5 جيجاهرتز. تسمح الترددات الأعلى بمرور المزيد من البيانات في وقت أقصر، ولكنها أيضًا تغطي مسافة أقل، مما يستدعي استخدام عدد أكبر من الهوائيات والمحطات لضمان التغطية الجيدة. لذلك، ستعتمد 5G على خلايا صغيرة جدًا ومنتشرة بكثافة في الأماكن المأهولة.

كما تستخدم 5G تقنيات هوائيات ذكية توجه الإشارة مباشرة نحو الجهاز بدلًا من بثها في كل الاتجاهات. بالإضافة ذلك، تعتمد الشبكات على إلى تقنية تسمى “MIMO الضخم” التي تستخدم العديد من الهوائيات في نفس الوقت لتحسين الأداء وتقليل التداخل. يسمح ذلك بربط عدد كبير من الأجهزة في نفس الوقت وبجودة عالية.

مشهد إدخال شبكات 5G في مصر: الجهات الفاعلة وغياب الشفافية

بدأت مصر في إدخال شبكات الجيل الخامس خلال العامين الماضيين، عبر سلسلة من الخطوات الرسمية والتجارية التي رسمت خارطة أولية لانتشار التقنية في البلاد. على الصعيد الحكومي، تقود وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات (MCIT) هذه الجهود ضمن رؤية “مصر الرقمية 2030”. وقد أكد الوزير عمرو طلعت على أن التحول نحو 5G جزء أساسي من استراتيجية الدولة لبناء اقتصاد رقمي شامل وتعزيز التنمية المستدامة. وعلى جانب الجهات الحكومية التنظيمية، يبرز الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات (NTRA) كطرف أساسي مخوّل بإدارة عملية الترخيص والترددات. 

شهد مطلع عام 2024 منح أول رخصة لتشغيل خدمات الجيل الخامس في مصر. فحصلت الشركة المصرية للاتصالات (WE)، المملوكة للدولة، على رخصة مدتها 15 عامًا مقابل 150 مليون دولار. في أواخر ذات العام، باعت الحكومة تراخيص مماثلة لشركات المحمول الثلاث الأخرى العاملة في السوق المصري، مقابل 675 مليون دولار إجمالًا، وهي:

  • فودافون مصر (تابعة لفودافون العالمية/Vodacom الجنوب إفريقية).
  • أورنج مصر (تابعة لأورنج الفرنسية).
  • اتصالات مصر،إي آند (التابعة لمجموعة &e الإماراتية).

تزامن ذلك مع توقيع عقود التراخيص في أكتوبر 2024 بحضور وزير الاتصالات. بذلك، ومع نهاية 2024، باتت جميع شركات الاتصالات المحمولة في مصر حائزةً على التراخيص اللازمة لإطلاق خدمات الجيل الخامس تجاريًا، تمهيدًا للإطلاق الرسمي في يونيو 2025.

وعلى صعيد البنية التحتية، بدأت الشركات فعليًا الاستعداد للنشر. أعلنت المصرية للاتصالات أنها تعتزم إطلاق أول شبكة 5G تجريبية في بعض المدن خلال عام 2024 نفسه. كما كشفت عن اختيارها شركة نوكيا الفنلندية (Nokia) كمورد أساسي لمعدات الشبكة الراديوية (RAN)، بما في ذلك وحدات البث القاعدية وهوائيات MIMO الحديثة.

في المقابل، لم تغب الشركات الصينية، وعلى رأسها هواوي (Huawei)، عن المشهد. فعلى الرغم من السعي المصري المعلن نحو ما يسمى “الموردين الموثوقين” بالتعاون مع دول أوروبية وأمريكية، تؤكد التقارير استمرار الشراكة بين المصرية للاتصالات وهواوي في مجال 5G. فقد أعلنت المصرية للاتصالات، في مارس 2025، عن توقيع اتفاقية تعاون مع هواوي لتعزيز حلول تقنية لإطلاق خدمات الجيل الخامس.

وتجدر الإشارة إلى أن هواوي كانت قد أعلنت عن خطة لتجربة شبكات 5G خلال بطولة الأمم الأفريقية في القاهرة عام 2019. ورغم أن تلك التجربة لم تتحقق فعليًا على الأرض حينها، إلا أنها عكست توجّه مصر المبكر نحو التعاون مع الصين في هذا السياق التقني. يأتي ذلك في ظل سعي العديد من الدول، مثل ألمانيا، إلى استبعاد مكونات هواوي بشكل تدريجي من شبكاتها لدواع أمنية. 

مع ذلك، لا يوجد إفصاح شفاف في مصر إن كانت معدات الشركات الصينية ستشكل العمود الفقري للشبكة أم سيتم التنويع بموردين آخرين. كل ما هو معلوم أن كبرى الشركات (فودافون، أورنج، اتصالات) لديها بالفعل بنى تحتية لشبكات الجيل الرابع تعتمد جزئيًا على تجهيزات صينية، ومن المرجح استمرار ذلك ما لم يصدر توجيه رسمي بخلافه. يضع هذا الغموض المستخدم النهائي أمام مجهول فيما يتعلق بأمن بياناته، إذ أن اختيار الموردين والتقنيات يتم خلف الكواليس بين الحكومة والشركات دون مشاركة مجتمعية أو شفافية برلمانية.


المخاطر الحقوقية المرتبطة بشبكات 5G

على الرغم من الإمكانات الواعدة التي تحملها شبكات الجيل الخامس، إلا أنها تطرح أيضًا طيفًا واسعًا من المخاطر والتحديات الحقوقية. فالتطورات التقنية الكبيرة يمكن أن تعود بالنفع إذا أحسن استخدامها في إطار قانوني يحمي الحقوق، أو تنقلب إلى أدواتٍ لتعميق انتهاكات قائمة إن استُغلّت في غياب الضوابط.

المراقبة اللحظية وتآكل الخصوصية

يمنح انتشار شبكات 5G قدرات غير مسبوقة للمراقبة الحكومية وجمع البيانات الشخصية على نطاق واسع. فبنية هذه الشبكات – التي تربط مليارات الأجهزة ببعضها – تعني تدفقات هائلة من البيانات. تشمل هذه البيانات كل جوانب الحياة الرقمية للمواطن، بدءًا من موقعه الجغرافي الدقيق في الزمن الحقيقي، مرورًا بأنشطته الإلكترونية وتفاعلاته عبر إنترنت الأشياء، وصولاً إلى صوته وصورته في زمن “المدن الذكية” المغرقة بأجهزة الاستشعار.

في ظل غياب ضوابط صارمة، يمكن لهذه القدرات أن تتحول إلى تهديد بالمراقبة الشاملة. فتشير دراسات إلى أن تقنيات 5G ستجعل تتبع الأفراد أكثر سهولة، إذ توفر للحكومات تحديد مواقع المواطنين بدقة عالية في الوقت الفعلي عبر هوائياتها المتعددة.

وقد حذرت مسار سابقًا من أن 5G قد تجعل “أمان الناس شيئًا من الماضي حيث يمكن تتبعهم بسهولة عبر هذه التكنولوجيا”. فعلى سبيل المثال، كل هاتف متصل بشبكة 5G سيبث موقعه باستمرار للشبكة بسبب كثافة نقاط الاتصال، مما يعني إمكانية رسم تحركات أي شخص لحظيًا على الخريطة إذا ما أرادت السلطات ذلك. هذا المستوى من المراقبة اللحظية يقوّض بشدة الحق في الخصوصية المكفول دستوريًا وقانونيًا.

كما أضفت التعديلات التشريعية الحديثة، تحديدًا تلك المتعلقة بمشروع قانون الإجراءات الجنائية، طابعًا قانونيًا على مراقبة الاتصالات الشخصية في مصر. يسمح القانون بمراقبة الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي بإذن قضائي في حال تعلق الأمر بجرائم عقوبتها تزيد عن ثلاثة أشهر. نتيجة لذلك، يصبح المجال الرقمي الخاص للأفراد عرضة لانتهاك الخصوصية بموجب القانون ذاته.

مع دخول 5G تزداد حساسية الموقف لأن الكم الهائل من البيانات المتدفقة عبر الشبكة سيشمل معلومات أكثر تفصيلًا للأفراد. يشمل ذلك بيانات أجهزة الاستشعار المنزلية (كاميرات المراقبة المنزلية، وأجهزة تنظيم الحرارة الذكية، إلخ) وبيانات اللياقة والصحة من الأجهزة القابلة للارتداء، وغيرها من جوانب الحياة اليومية الرقمية. كل هذه المعطيات إذا تم اعتراضها أو جمعها بواسطة الأجهزة الأمنية بدون رقابة قضائية مستقلة، فإنها تؤسس لبنية رقمية تراقب أدق تفاصيل حياة المواطن.

تهديد حرية التعبير والرأي

ترتبط الخصوصية بحرية التعبير بعلاقة وثيقة، فحين يعلم الفرد أنه مرصود طوال الوقت، سيتردد قبل أن يعبر عن آرائه أو ينتقد السلطات خشية الملاحقة. لقد شهدت مصر في العقد الأخير تضييقًا خانقًا على حرية التعبير عبر الإنترنت، حيث تم حجب مئات المواقع المستقلة وتوقيف عشرات النشطاء بسبب منشوراتهم. وساهمت المراقبة الأمنية المكثفة في خلق حالة من الرقابة الذاتية الواسعة بين الصحفيين والمدونين. 

في هذا السياق، قد تصبح تقنيات 5G عامل تمكين إضافي للأجهزة الأمنية في رصد كل ما يُكتب أو يُتداول إلكترونيًا في الزمن الفعلي. فمع السرعات الفائقة لـ5G وقدرتها على نقل البيانات الضخمة بسرعة، سيكون بمقدور السلطات – تقنيًا – مراقبة بث الفيديو والتدفقات المباشرة والتفاعل على منصات التواصل دون تأخير. أي أن مراقبة محتوى البث المباشر للاحتجاجات أو حتى غرف الدردشة الصوتية الجماعية ستصبح آنية، في حالة كونها غير مشفرة. 

بالإضافة إلى ذلك، السعة الهائلة للشبكة قد تزيد من قدرة السلطات على فرض أنظمة فلترة ومراقبة تلقائية واسعة النطاق تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد كلمات مفتاحية “ممنوعة” بين المواطنين. مثل هذه السيناريوهات تمثل تهديدًا صريحًا لحرية التعبير وتزيد من خنق الفضاء المدني الرقمي.

يُخشى أيضًا أن تُستغل شبكات 5G لقطع الاتصال أو الإغلاق الانتقائي للإنترنت في أوقات الاضطرابات. فقد سبق وأغلقت السلطات المصرية خدمات الاتصالات والإنترنت كليًا أثناء ثورة 2011، وتلا ذلك اعتمادها إستراتيجية أكثر دقة عبر حجب مواقع وتخفيض سرعة الإنترنت في أحداث لاحقة.

مع 5G، قد يصبح من الممكن إجراء إغلاقات موضعية أو انتقائية لشبكات معينة بسهولة أكبر عبر الأنظمة البرمجية للشبكة (Softwarization). كما يمكن استخدام إمكانيات الشطرنة (Network Slicing) لحرمان فئات معينة من الخدمة مع الإبقاء على غيرهم متصلين. تُعد هذه التقنيات حيادية في ذاتها، إلا أنها في بيئة تفتقر للضوابط قد تتحول لأدوات قمع رقمي تعيق وصول المعارضين للمعلومات أو تمنع تواصلهم في اللحظات الحرجة.

المراقبة البيومترية وتوسّع تقنيات التعرف على الهوية

تشكل التقنيات البيومترية أحد أخطر أدوات المراقبة الحديثة، وتشمل التعرف على الوجه وقزحية العين وبصمة الصوت وغيرها. ومع شيوع كاميرات المراقبة وظهور مفهوم المدن الذكية، برز التخوف من استخدام 5G لربط شبكة هائلة من كاميرات عالية الدقة وأنظمة تحليل آنية تمكِّن من التعرف اللحظي على وجوه المارة وتتبع تحركاتهم.

بدأت بوادر هذا الاتجاه تظهر في مصر بالفعل. فالحكومة تبني حاليًا العاصمة الإدارية الجديدة لتكون مدينة ذكية مزوّدة بأكثر من 6,000 كاميرا مراقبة ترصد الشوارع على مدار الساعة. وأكدت مصادر إعلامية أن المركز الرئيسي لتحكم هذه الكاميرات قادر على تحليل الفيديو آنيًا لرصد التجمعات وتتبّع “الأشخاص المشتبه بهم” آليًا وإطلاق إنذارات عند الضرورة. في هذا السياق، يجدر الإشارة إلى أنه لا توجد في مصر حتى الآن أي قوانين تنظم استخدام تقنيات التعرف البيومتري أو تحدد ضوابطها، ما يعني أن استعمالها يتم دون رقابة قضائية أو تشريعية.

هذه المخاوف ليست نظرية فحسب، فالمثال الأبرز على ذلك هو  إقليم شينجيانج في الصين. تنشر السلطات في هذا الإقليم ملايين الكاميرات وتقنيات التعرف البيومتري لمراقبة أقلية الإيجور المسلمة ضمن ما يوصف بأنه أوسع برنامج مراقبة رقمية على وجه الأرض. وقد رافق ذلك توسع هائل في بنية 5G بالمنطقة، ما دفع خبراء للتحذير من أن الصين تستغل انتشار محطات الجيل الخامس لتعزيز منظومة الرقابة والقمع بدلًا من التنمية الاقتصادية. 

يمثل هذا النموذج سيناريو تحذيري لما يمكن أن يؤدي إليه مزج تقنية 5G مع غياب الضوابط: مراقبة جماعية وقمع ممنهج للأقليات بأدوات عالية التقنية. ورغم الفوارق بين السياق الصيني والمصري، إلا أن التشابه يكمن في غياب الشفافية وضعف المحاسبة. قد يمهّد ذلك لاستخدام مماثل لتقنيات المراقبة المتقدمة ضد أي مجموعة مستهدفة في المجتمع المصري، مثل النشطاء السياسيين، والمعارضين، والأقليات، دون رقابة أو محاسبة.

من زاوية أخرى، يطرح التوسع في المراقبة البيومترية إشكاليات دستورية وحقوقية جسيمة. فهي أولاً تعتبر تعديًا مباشرًا على الحق في الخصوصية وكرامة الفرد، إذ تجعل بيانات بصماته الحيوية مشاعًا دون موافقته. وثانيًا، لها أثر سلبي على حرية التجمع السلمي، حيث قد يشعر المواطنون بالخوف من المشاركة في أي تظاهرة أو تجمع مشروع إذا علموا أن وجوههم ستُرصد وتُحفظ في قواعد بيانات أمنية ربما يتم استعمالها لاحقًا لتوجيه اتهامات فضفاضة. وثالثًا، غالبًا ما ترافق هذه التقنيات مشكلات دقة وتحيز في الخوارزميات، مثل انحياز أنظمة التعرف على الوجة ضد أصحاب البشرة الداكنة، ما قد يؤدي لأخطاء واتهامات باطلة ضد الأبرياء.

لكل ذلك، طالبت أكثر من 170 منظمة حقوقية دولية بينها العفو الدولية بفرض حظر تام على نظم المراقبة البيومترية الجماعية باعتبارها تقنية لا يمكن التوفيق بينها وبين معايير حقوق الإنسان. لكن مصر لم تستجب لأي من هذه الدعوات عالميًا، بل تمضي قدمًا في اعتماد هذه النظم دون حوار مجتمعي أو إطار قانوني.

تعميق الفجوة الرقمية وعدم المساواة

رغم الوعود بأن شبكات الجيل الخامس ستوفر اتصالاً أسرع “للجميع”، إلا أن الواقع قد يكون أكثر تعقيدًا، خاصة في بلد كمصر يعاني فجوات تنموية رقمية بين طبقاته ومناطقه. فتقنية 5G تتطلب استثمارات مالية وبنيوية هائلة – من مد آلاف الكابلات الليفية إلى نصب مئات آلاف الهوائيات الصغيرة – وهي بطبيعتها ستبدأ بالتركز في المدن الرئيسية والمناطق الاقتصادية حيث العائد الاستثماري أكبر. 

صرّح مسؤولون مصريون أن خطة نشر 5G المبدئية ستعطي أولوية “للمدن الكبرى والطرق الرئيسية والمناطق الاقتصادية الخاصة”. يعني ذلك ضمنيًا أن المناطق الريفية والنائية، حيث يعيش ملايين المصريين، قد تتأخر كثيرًا في الاستفادة من هذه التقنية. وفي حالة عدم وضع سياسات تعويضية، قد يؤدي ذلك إلى اتساع الفجوة الرقمية بين من يملك الوصول لشبكات 5G ومن لا يملك. فالمتصل ب5G سيتمتع بخدمات متطورة، مثل اتصال سريع، وتعليم عن بعد أفضل، ورعاية صحية رقمية، وفرص اقتصادية عبر الإنترنت. في المقابل، من لا يملك الوصول سيبقى يعاني من بطء الإنترنت أو انقطاعه، مما يزيد من عدم المساواة في الفرص.

أسعار خدمات الجيل الخامس والأجهزة اللازمة لها هي عامل آخر قد يحد من انتشارها العادل. إذ تشير التقديرات إلى أن تكلفة أجهزة 5G (كالهواتف الداعمة لها) ستظل مرتفعة على المدى القريب مقارنة بالأجهزة التقليدية. كذلك قد تسعى شركات الاتصالات لتعويض استثماراتها الضخمة عبر فرض تعريفات استخدام عالية على خدمات 5G المميزة. وبالفعل، طالبت شركات المحمول في مصر مطلع 2023 بزيادة أسعار الخدمات بنحو 20-30% بحجة تآكل هوامش أرباحها، وقد يكون انتشار 5G ذريعة جديدة لرفع الأسعار على المستهلكين. 

يهدد هذا الوضع بإقصاء الشرائح الأقل دخلاً من الاستفادة من خدمات الجيل الخامس، وتحويلها إلى تقنية نخبوية في البداية. وقد حذرت مسار من أن تكلفة اعتماد تقنيات 5G تتجاوز بكثير مستوى معيشة معظم المواطنين في الدول النامية، وهو ما يخلق “عزلًا اقتصاديًا وفصلًا ماليًا” بين من يستطيع تحمل التكلفة ومن لا يستطيع.

التأثير على العمالة وحقوق العمال 

غالبًا ما يصاحب إدخال التقنيات الحديثة مخاوف حول فقدان الوظائف نتيجة الأتمتة والرقمنة. تحضر هذه المخاوف بقوة في حالة 5G. فيُتوقع أن تمكّن السرعات الفائقة والكمونات المنخفضة من نشر تطبيقات الذكاء الاصطناعي والروبوتات في قطاعات شتى، ما قد يؤدي لإزاحة العنصر البشري في عدد من المهن.

تحدث هذه العملية تدريجيًا عبر ما يسمى البطالة التكنولوجية. وقد أشارت ورقة مسار السابقة عن الجيل الخامس إلى القلق من أن هذه التقنيات والذكاء الاصطناعي “ستستحوذ على المزيد من الوظائف عبر القيام بمهام البشر بكفاءة أكبر”. فعلى سبيل المثال، إذا نجحت الشركات الصناعية في مصر في تبني حلول المصانع الذكية المدعومة بـ5G، مثل روبوتات الصيانة الآنية، والمركبات ذاتية الحركة في المخازن، قد يقل اعتمادها على بعض فئات العمالة البشرية. وكذلك قطاع الخدمات قد يشهد اعتماد أنظمة مؤتمتة، كأنظمة الرد الآلي المطورة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مما قد يقلل الحاجة إلى موظفي خدمة العملاء مثلاً.

هذه المخاوف يجب وضعها في إطارها. فالتاريخ يثبت أن كل ثورة صناعية ألغت وظائف وخلقت غيرها. والمتوقع مع 5G أن تنشأ أيضًا وظائف جديدة تتطلب مهارات مختلفة، مثل إدارة شبكات معقدة، وتحليل البيانات الضخمة، وصيانة الروبوتات والأنظمة الذكية. وبالتالي فإن التحدي هو في إعادة تأهيل القوى العاملة لاكتساب المهارات اللازمة للمهن المستقبلية، بحيث يستطيع العمال الانتقال إلى أدوار جديدة بدل من أن يفقدوا وظائفهم.

في مصر، يتطلب هذا رؤية تعليمية وتدريبية استباقية من الحكومة. يتضمن ذلك إدخال مفاهيم الاقتصاد الرقمي في التعليم التقني، وتوفير برامج تدريب مجانية أو مدعومة للموظفين المتوقع تأثر وظائفهم بالأتمتة. بدون ذلك، قد تخرج شرائح عمالية واسعة من سوق العمل، خاصة من الشباب محدودي التعليم، وهو ما سيؤدي بدوره إلى ارتفاع البطالة وعدم الاستقرار الاجتماعي.

جانب آخر يمس حقوق العمال وسلسلة التوريد هو ظروف تصنيع مكونات تكنولوجيا 5G نفسها. فهذه التكنولوجيا تعتمد على أجهزة ومعدات تحتاج معادن نادرة وعناصر تُستخرج في دول نامية تحت ظروف عمل صعبة. تشير تقارير دولية إلى أن زيادة الطلب على معدات 5G سيؤدي إلى زيادة الطلب على معادن معينة (مثل الكوبالت والليثيوم وغيرها) التي تأتي بغالبيتها من دول ذات سجل ضعيف في حقوق العمال وتشهد صراعات. 

تقتضي المسؤولية الأخلاقية من مصر، كمستهلك للتكنولوجيا، أن تراعي هذه العوامل ضمن سياساتها. يشمل ذلك أن تُفضِل الحكومة الموردين ذوي السجل النظيف، وأن تدعم الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق العمال في سلاسل توريد الإلكترونيات.

الأثر البيئي لشبكات 5G

لا يمكن إغفال الاعتبارات البيئية مع الانتشار المتوقع لملايين الأجهزة الداعمة لـ5G وبناء آلاف الأبراج الجديدة. تثير شبكات الجيل الخامس قلقًا بشأن ارتفاع استهلاك الطاقة وزيادة الانبعاثات الكربونية. تتميز تقنيات 5G بفعالية أكبر في نقل البيانات مقارنة بتقنيات 4G، كما أنها تتطلب طاقة أقل لكل جيجابايت من المعلومات المرسلة. ومع ذلك، يُتوقع زيادة إجمالي استهلاك الكهرباء نتيجة الاستخدام المكثف للجيل الخامس بسبب العدد المتزايد للهوائيات والأجهزة المتصلة.

بالإضافة إلى ذلك، يتطلب بناء بنية 5G نشر عدد هائل من المحطات، ما يعني أيضًا المزيد من أبراج الاتصالات وربما إزالة أشجار أو استهلاك مساحات جديدة لذلك. كما أن التحديث السريع للأجهزة لدى المستخدمين، مثل الهواتف وأجهزة المودم، مع الانتقال إلى 5G سيؤدي إلى موجة من النفايات الإلكترونية عند التخلص من الأجهزة القديمة غير المتوافقة. هذه النفايات تحوي مواد سامة وتسبب تلوثًا إذا لم تعالج بشكل سليم.

هناك وعيًا عالميًا متزايدًا بضرورة جعل انتشار 5G أخضر ومستدام قدر الإمكان. بعض الحلول المطروحة تشمل: اعتماد مشغلي الاتصالات على الطاقة المتجددة (شمسية أو رياح) لتشغيل محطات الشبكة للحد من الانبعاثات؛ وتحسين كفاءة المعدات مثل استعمال تكنولوجيات توفير الطاقة في أبراج الاتصالات (كمفاتيح الإطفاء التلقائي للهوائيات أثناء فترات الخمول)؛ واستخدام خلايا صغيرة مدمجة في البنية القائمة (مثل تركيب هوائيات على أعمدة إنارة الشوارع) بدل بناء أبراج مستقلة لكل منها، وذلك لتقليل البصمة البيئية. 

كذلك ينبغي وضع خطط لإعادة تدوير واستعادة المعادن من الأجهزة القديمة على نطاق وطني للحد من المخلفات الإلكترونية. في مصر، هذه السياسات غائبة حاليًا عن خطاب الجهات الرسمية المتعلقة بـ5G، إذ يتركز الحديث فقط عن المنافع الاقتصادية والتحول الرقمي. لذا من المهم دمج البعد البيئي في خطط التحول إلى الجيل الخامس منذ البداية، لتجنب تحقيق تقدم رقمي يكون ثمنه تدهور البيئة وصحة الأفراد.


فرص الاستخدام الإيجابي لشبكات 5G في بيئة حقوقية شفافة

رغم كل المخاطر والتحفظات المذكورة، لا بد من التأكيد على الفرص والإمكانات التنموية الكبيرة التي تتيحها تقنية 5G، خاصة إذا ما تم تبنيها ضمن بيئة شفافة تحترم الحقوق. فشبكات الجيل الخامس يمكن أن تكون قوة دفع إيجابية للمجتمع والاقتصاد المصري في مجالات عديدة، شريطة وضع الضمانات اللازمة التي تمنع سوء الاستغلال وتكسب ثقة المستخدمين. فيما يلي بعض أبرز الاستخدامات الإيجابية الممكنة لـ5G وكيفية تعظيم فائدتها في سياق مصري ملتزم بالحقوق:

تضييق الفجوة الرقمية وتعزيز الشمولية:

يمكن لشبكات 5G، إذا نُشرت بحكمة، أن توسع نطاق وصول الإنترنت عالي السرعة ليشمل مناطق وشرائح سكانية كانت محرومة من قبل. فقد عانى سكان الأرياف والأماكن النائية في عصر ال4G من ضعف البنية التحتية للخطوط الثابتة، ما جعلهم معتمدين على الشبكات الخلوية للوصول للإنترنت. 

مع القدرات اللاسلكية المتطورة للجيل الخامس، تستطيع مصر توفير اتصال عريض النطاق للمناطق الريفية والنائية عبر تكنولوجيا ال(Fixed Wireless Access)، دون الحاجة لتمديد كابلات لكل منزل. يتطلب هذا إرادة سياسية لتوجيه جزء من استثمارات 5G نحو تلك المناطق الأقل ربحية تجاريًا، ربما عبر حوافز للشركات أو شراكات مع الحكومة.

لضمان نجاح هذه الجهود، ينبغي ضمان تسعير عادل لخدمات 5G الأساسية بحيث تكون في متناول الشرائح الأفقر، وابتكار حزم مدعومة أو مخفضة التكلفة للطلبة والمزارعين وغيرهم. ويمكن أن تلعب الحكومة دورًا مباشرًا – عبر الشركة المصرية للاتصالات المملوكة لها – في تقديم باقات ميسورة التكلفة، لتحقيق المنافسة الإيجابية وخدمة الصالح العام.

تمكين الاقتصاد الرقمي وخلق فرص عمل مبتكرة

يهدد انتشار شبكات الجيل الخامس استمرار بعض الوظائف الحالية، ولكنه في ذات الوقت يحمل وعدًا بخلق وظائف جديدة وتنشيط ريادة الأعمال. على سبيل المثال، قد يشهد اقتصاد التطبيقات نموًا ملحوظًا بفضل الإمكانيات التي توفرها البنية التحتية المتطورة.

سيصبح بإمكان المطورين المصريين ابتكار تطبيقات وخدمات تعتمد على السرعة الفائقة، مثل بث الألعاب الإلكترونية عبر السحاب، أو تطبيقات تدريب رياضي باستخدام الواقع الافتراضي، أو منصات فيديو تفاعلية. لم تكن هذه التطبيقات لتعمل بكفاءة في شبكة أبطأ. هذا المجال سيفتح آفاقًا لرواد الأعمال الشباب لتأسيس شركات ناشئة في مجالات مثل الواقع الافتراضي، وإنترنت الأشياء.

على الدولة أن تدعم هذا التوجه عبر توفير بيئة تنظيمية مرنة، كتسهيل التصاريح، وتشجيع الاستثمار وتوفير مناخ من الحرية يسمح بتداول الأفكار وتطويرها دون قيود سياسية أو أمنية. في هذا السياق، أشار وزير الاتصالات إلى أن قياس نجاح قطاع الاتصالات لا يقتصر فقط على الأرقام المحققه، بل بانعكاسه على حياة المواطنين وتمكين الشباب من الابتكار والوصول لفرص عمل مستقلة عالميًا. هذه الرؤية، وإن كانت صحيحة من الناحية النظرية، تتطلب تطبيقًا عمليًا من خلال ضمان بيئة حقوقية آمنة تدعم هؤلاء الشباب.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساعد شبكات الجيل الخامس في تحسين كفاءة القطاعات التقليدية كالصناعة والزراعة. على سبيل المثال، أدى استخدام ال5G في أحد المناجم بالسويد إلى خفض التكاليف بمقدار 2.5 مليون يورو سنويًا عبر أتمتة عمليات الحفر. لدى مصر منطقة صناعية مثل محور قناة السويس، يمكن بجلب تقنية مشابهة مضاعفة الإنتاجية وخلق وظائف تقنية للإشراف على هذه العمليات.

في قطاع الزراعة، يمكن لتقنيات الجيل الخامس أن تحدث نقلة نوعية عبر استخدام مجسات التربة وأنظمة الري الذكية. سيساهم ذلك في زيادة الإنتاج الزراعي وترشيد استهلاك المياه، وهو أمر بالغ الأهمية لمصر في ظل تحدياتها المائية.

يتطلب إنجاح هذه المشاريع استثمارات حكومية وتعاونًا مع شركات تكنولوجية حتى تتمكن من تحقيق فوائد اقتصادية واجتماعية ملموسة. ولضمان قبول هذه الأنظمة وتحسين مستوى معيشة المستفيدين، يجب تنفيذها بشفافية تامة، مع توعية العمال والمزارعين بآلية عملها وإشراكهم في تصميمها لتبديد أي مخاوف من حلول مفروضة قد تهدد مصادر رزقهم.

تحسين نوعية الحياة في المدن مع احترام الخصوصية

تَعِدُ المدن الذكية المبنية على 5G بتحسين الحياة الحضرية، من إدارة النفايات الذكية إلى تأمين الشوارع بالطاقة الذكية وتقليل التلوث. لا تمس مثل هذه الأمور الحقوق الشخصية بشكل مباشر، وبالتالي فهي غير مثيرة للجدل ويمكن تنفيذها بسهولة نسبية. في المقابل، توجد تطبيقات أخرى تحتاج إلى ضبط دقيق في حالة استخدامها، كأنظمة المراقبة الأمنية.

بالإمكان استخدام تقنيات الجيل الخامس في تعزيز أمن الفعاليات العامة كالمباريات والحفلات والمؤتمرات، وذلك من خلال نشر كاميرات وطائرات مسيرة تنقل بثاً مباشراً لوحدات الإنقاذ. يتيح ذلك استجابة فورية للحوادث، ويعتبر هذا الاستخدام إيجابياً بشرط التقيد بالقانون وعدم التعدي على المحتجين السلميين أو انتهاك خصوصية الحضور.

يجب أن يتسم استخدام مثل هذه الحلول بالشفافية وإمكانية المساءلة. فينبغي الإعلان بوضوح عندما يتم استخدام تقنيات مراقبة في مكان ما، وتحديد الغرض منها وكيفية تخزين البيانات ومن له حق الوصول إليها، ثم التخلص منها بعد انتهاء الغرض. إذا علم المواطن بذلك وشعر أنه المراقبة هدفها فقط الحماية العامة وليس التجسس سيكون أكثر تقبلاً وتعاونًا.

وفي هذا السياق، إنشاء مجالس إشراف مدنية محلية (على مستوى المدينة) لمتابعة مشاريع المدينة الذكية قد يكون فكرة رائدة. تضم هذه المجالس ممثلين عن الأهالي وخبراء،وتقوم بمراجعة أي تقنية جديدة قبل نشرها من زاوية تأثيرها على حياة الناس وخصوصيتهم.


توصيات لحوكمة شبكات 5G بما يحمي الحقوق والحريات

في ضوء ما عرضته الورقة من تحديات وفرص، تتضح الحاجة الملحة إلى مجموعة من الإجراءات لضمان حوكمة شبكات الجيل الخامس في مصر لتحمي حقوق المواطنين وتحقق الصالح العام. فيما يلي عدد من التوصيات الموجهة إلى الجهات الحكومية والتشريعية وشركات الاتصالات:

تحديث الإطار القانوني لحماية الحقوق الرقمية:

  • تعديل قانون حماية البيانات الشخصية لسد الثغرات الخطيرة فيه. يجب إلغاء أو تضييق الاستثناءات التي تسمح لأجهزة الأمن بمعالجة البيانات دون رقابة؛ بحيث لا يجوز لأي جهة الاطلاع على البيانات الشخصية إلا بإذن قضائي مسبب ولمدة محدودة في حالات الضرورة القصوى. كما ينبغي إصدار اللائحة التنفيذية للقانون وضمان استقلالية مركز حماية البيانات عند تشكيله.
  • إصدار قانون خاص لتنظيم تقنيات المراقبة البيومترية: نظرًا لخطورة تقنيات مثل كاميرات التعرف على الوجه، وأنظمة تحليل المشاعر، ينبغي للبرلمان سن قانون يمنع الاستخدام العشوائي لها. يمكن لهذا القانون أن يحظر صراحة المراقبة البيومترية الجماعية في الأماكن العامة إلا بضوابط صارمة جدًا، مثل البحث عن مفقودين أو مطلوبين خطرين، وبأمر قضائي لكل حالة على حدة. كما يجب أن يفرض هذا القانون اشتراطات مثل: عدم تخزين أي بيانات بيومترية يتم التقاطها لأشخاص غير مشتبه فيهم، وإتلافها فورًا؛ وضرورة إخطار الجمهور عندما يكونون تحت نطاق كاميرات ذكية وإعلامهم بحقوقهم. مثل هذه الأحكام تتماشى مع التوجه الدولي نحو كبح هذه التقنيات.
  • مراجعة قوانين الاتصالات والإجراءات الجنائية بحيث يتم اعتماد ضمانات أشد عند اعتراض الاتصالات. يتعين مراجعة مشروع قانون الإجراءات الجنائية الذي يجيز المراقبة الشاملة، وينبغي على الأقل اشتراط موافقة هيئة قضائية ثلاثية مستقلة على أي أمر مراقبة، وأن يقتصر ذلك على عدد معين من الأفراد وفي الجرائم الخطيرة فقط. ينبغي أيضًا تعديل قانون الاتصالات 10/2003 لحذف أي بنود فضفاضة تتيح للجهات التنفيذية قطع خدمات الاتصالات والإنترنت أو مراقبتها دون رقابة محايدة.
  • تعزيز ضمانات حرية التعبير على الإنترنت في قوانين الإعلام. كما ينبغي إلغاء المواد التي تسمح بحجب المواقع إلا بقرار قضائي وبعد إخطار وإجراءات تقاضي، مثل مواد قانون جرائم تقنية المعلومات، حتى لا يُستغل 5G لبناء منظومة حجب أكثر اتساعًا. كذلك يجب تعديل قانون الإعلام بشكل يمنع المجلس الأعلى للإعلام أو غيره من فرض قيود رقابية على المحتوى الإلكتروني خارج سلطة القضاء.

إنشاء هيئات وآليات رقابية مستقلة:

  • تأسيس مفوضية وطنية للتحول الرقمي وحقوق المواطنين: تكون هذه المفوضية متعددة التخصصات وتضم قانونيين وتقنيين ومدافعين عن الحقوق. تضطلع المفوضية بمهمة مراجعة أي مشروعات حكومية رقمية جديدة، مثل العاصمة الذكية أو أنظمة المراقبة)، وتقديم توصيات ملزمة بشأن تأثيرها على الخصوصية والحقوق. تصدر هذه المفوضية تقارير شفافة للرأي العام حول مدى مراعاة المشاريع للمعايير الحقوقية. يمكن إنشاؤها بقرار جمهوري أو قانون خاص، ويُشترط أن تكون مستقلة عن الوزارات التنفيذية.
  • تمكين الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات (NTRA) بأدوات الشفافية: يمكن للجهاز إلزام شركات الاتصالات بتقديم تقارير شفافية دورية تعلن فيها: عدد طلبات الجهات الحكومية للوصول للبيانات أو التنصت التي تلقّتها، ونوعها وكيف تعاملت معها. وعلى الجهاز نشر هذه البيانات للعامة. كذلك يجب أن يلزم الجهاز الشركات بوضع سياسات خصوصية واضحة لمشتركيها توضح ما يُجمع من بيانات وكيف تُستخدم، وأن يحصل المشترك على حق معرفة وتعديل بياناته المحفوظة لدى الشركة.
  • تعزيز دور القضاء الإداري في الرقابة من خلال تمكين الأفراد والمنظمات من الطعن أمام مجلس الدولة في قرارات متعلقة بالتقنية، مثلاً الطعن في قرار تركيب كاميرات ذكية في حي معين بدعوى عدم قانونيته. ينبغي أن تتجاوب المحاكم بسرعة مع هذه القضايا نظرًا لطابعها الفني السريع. إنشاء دائرة متخصصة داخل مجلس الدولة لنظر المنازعات الرقمية قد يكون مفيدًا لتطوير الخبرة القضائية في هذا المجال.

سياسات تقنية لتحصين البنية التحتية وحماية سيادة الدولة:

  • تنويع مورّدي معدات 5G: على الحكومة المصرية أن توازن بين الشركات المتنافسة (نوكيا/إريكسون/هواوي/…) بحيث لا يقع اعتماد مطلق على شركة واحدة في المكونات الحساسة للشبكة. في عقود الشراء، يجب تضمين شروط أمان سيبراني كحق إجراء اختبارات أمنية على المعدات، واشتراط تخزين البيانات داخل مصر، وعدم السماح بأي مكونات برمجية مجهولة المصدر. إن اتباع منهج “المورّدين الموثوقين” عمليًا سيعني اختيار الشركات ذات السجل الجيد في الأمان والشفافية، بغض النظر عن جنسية الشركة، فالمعيار هو الثقة التقنية. كذلك، الإسراع في تجارب Open RAN باستقدامها في بعض المدن لمعرفة مدى نجاحها، لأن هذه التقنية تقلل الارتباط ببائع واحد.
  • بناء مراكز بيانات محلية وتأمينها: مع زيادة الاعتماد على الخدمات السحابية (Cloud) بدعم 5G، يجب على مصر أن تمتلك أو تستضيف إقليميًا معظم هذه الخدمات لضمان السيادة على البيانات. كلما كانت بيانات المصريين في أرض مصر وتحت قوانين مصرية، كلما تعزّزت سيادة المستخدم والدولة معًا. لكن بالتوازي، يجب طمأنة المستخدمين أن وجود البيانات محليًا لا يعني سهولة وصول الأمن لها؛ لذا تأتي أهمية إصلاح القوانين لضمان إشراف القضاء على الوصول للبيانات حتى إن كانت مخزنة محليًا.
  • وضع خطط طوارئ سيبرانية: تشمل الخطط آليات احتياطية في حال وقوع هجوم إلكتروني على شبكات 5G أو استغلالها بشكل ضار، كإطلاق موجات تشويش. هذا الجانب الأمني التقني ضروري لحماية المستخدمين، لكنه يجب أن ينفذ ضمن إطار احترام القانون وبدون إفراط. مثلاً، وضع إجراء قياسي لمواجهة سيناريو قرصنة محطة 5G بحيث يتم عزله فورًا دون إسقاط الشبكة ككل؛ أو خطط لاستمرار الخدمات الحيوية إذا تعطل جزء من شبكة 5G.

ضمانات لعدم التمييز والوصول الشامل:

  • إلزام الشركات بسياسات عدم تمييز: يُقصد بذلك عدم التمييز في جودة الخدمة بين المناطق أو الفئات. لذا، على الجهاز القومي لتتنظيم الاتصالات وضع معايير حد أدنى للتغطية يجب على الشركات تحقيقها في كل محافظة خلال جداول زمنية محددة، وربط هذا بتمديدات التراخيص.
  • مراعاة البعد البيئي والصحي ضمن سياسات النشر: يجب أن تتضمن أي رخصة جديدة تمنح لشركات الاتصالات بندًا يلزمها بتقديم خطة لجعل عملياتها أكثر صداقة للبيئة. يشمل ذلك استخدام نسبة من الطاقة المتجددة في أبراجها، أو إدارة تدوير المخلفات الإلكترونية بالتعاون مع شركات إعادة التدوير، أو زرع أشجار تعويضية عند إقامة أبراج في مناطق خضراء. كذلك ينبغي إنشاء لجنة إشراف صحي بين وزارتي الاتصالات والصحة لمراقبة أي شكاوى أو دراسات حول الآثار الصحية لشبكات 5G، مثل حدوث تداخل مع أجهزة طبية، أو ارتفاع حرارة في محيط  أحد الأبراج. تكون هذه اللجنة مخولة بإيقاف أو تعديل تشغيل أي محطة عند ثبوت خطر صحي.
  • إشراك المجتمع المدني في صناعة القرار: ينبغي دعوة منظمات المجتمع المدني المحلية للمشاركة في جلسات استماع حول سياسات 5G. هذه الجهات لديها دراسات ورؤى يمكن أن توازن نظرة المهندسين التقنية البحتة. كما يجب إشراك القطاع الخاص (شركات التكنولوجيا الناشئة) لإبداء رأيهم، فهم أيضًا أصحاب مصلحة قد يخشون أن تؤدي السياسات غير السليمة إلى بيئة طاردة للابتكار.

خاتمة

مع تبني مصر لتكنولوجيا الجيل الخامس، تكون على أعتاب مرحلة جديدة ستغيّر شكل الحياة الرقمية في البلاد لعقود قادمة. لقد حاولت هذه الورقة أن تقدم قراءة شاملة ومتوازنة لهذه اللحظة الفارقة. عرضت الورقة المنافع التنموية الكبيرة لـ5G من جهة، والمخاطر الحقوقية المقلقة من جهة أخرى. وأوضحت أن التحدي الجوهري لا يكمن في التقنية ذاتها بقدر ما يكمن في كيفية إدارتها وحوكمتها. 

نشر شبكات الجيل الخامس في مصر بشكل مسؤول يمكن أن يساهم في نمو الاقتصاد، وتطوير الخدمات العامة، وتوفير اتصالًا أسرع للجميع. في المقابل، غياب الشفافية والسيطرة الأمنية مع الرغبة في زيادة الأرباح على حساب الحقوق قد يحول الجيل الخامس إلى أداة لتعزيز المراقبة والقمع وتوسيع الفجوة الاجتماعية.

سلطت الورقة الضوء على عدد من النقاط الحرجة: مثل خطر المراقبة الشاملة وانتهاك الخصوصية في ظل بنية 5G، وتهديد حرية التعبير وتداعيات الرقابة الذاتية، ومشكلة ضعف الإطار القانوني، وكذلك تأثيرات 5G على الفجوة الرقمية والعمالة والبيئة.