الضبط القضائي في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات

 

تجدون في هذه الورقة:

مقدمة

بصدور قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات ولائحته التنفيذية، أصبح هناك تنظيمًا إجرائيًا خاصًا للجرائم المنصوص عليها بقانون جرائم تقنية المعلومات. يمكن القول أن هناك مسارًا إجرائيًا مستقًلا يتم استدعائه عند تطبيق القانون، هذا المسار يسير متوازيًا مع المسارات الإجرائية المشابهة المنصوص عليها بقانون الإجراءات الجنائية المصرية، مع وجود عدد من الفوارق والاختلافات، لذلك تسعى هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على أحد أهم الضوابط الإجرائية المتعلقة بسلطة وصلاحيات مأموري الضبط القضائي الذين يتولون العمل على قضايا جرائم تقنية المعلومات، بوصفهم الجهة المعنية بإنفاذ أغلب الضوابط الإجرائية المنصوص عليها بقانون جرائم تقنية المعلومات ولائحته التنفيذية. كما تتعرض الورقة إلى بعض النقاط الإجرائية الهشّة التي يمكن أن تمثل ثقب في جدار الحماية المتمثل في وجود قواعد إجرائية منضبطة تمنع مأموري الضبط القضائي من تخطي صلاحياتهم، وتزداد أهمية الضوابط الإجرائية بسبب الإشكاليات المتعلقة بصياغة القواعد الموضوعية المتعلقة بالجرائم وصورها المختلفة المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. تستكمل هذه الورقة الجهود السابقة المتعلقة بعرض وتحليل بعض القواعد الإجرائية المنصوص عليها بقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، حيث أصدرت مسار – مجتمع التقنية والقانون في هذا السياق ورقة بعنوان  مدخل إلى مفهوم الدليل الجنائي الرقمي وحجيته في الإثبات، وورقة أخرى بعنوان أعمال الخبرة الفنية في ضوء قانون الجريمة الإلكترونية.

مفهوم الضبط القضائي وفئات مأموري الضبط واختصاصهم

عرّف قانون الإجراءات الجنائية1 مأمور الضبط القضائي بأنه الشخص المنوط به البحث عن الجرائم ومرتكبيها، وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق والدعوى2، وهو تابع للنائب العام وخاضع لإشرافه فيما يتعلق بأعمال وظيفته3. وينقسم مأموري الضبط القضائي إلى ثلاثة فئات كالتالي4:

  • الفئة الأولى: مأمور الضبط القضائي صاحب الاختصاص العام بالبحث عن كافة الجرائم في دائرة اختصاصه فقط، ومنهم على سبيل المثال: أعضاء النيابة العامة، ومعاونوها، وضباط الشرطة، وأمناؤها.
  • الفئة الثانية: مأمور الضبط القضائي صاحب الاختصاص العام بالبحث عن كافة الجرائم في جميع أنحاء الجمهورية، ومنهم على سبيل المثال: ضباط إدارة المباحث العامة، وضباط مصلحة السجون.
  • الفئة الثالثة: مأمور الضبط القضائي صاحب الاختصاص النوعي المقتصر على البحث عن بعض الجرائم دون غيرها في دائرة اختصاصه فقط، وتكون متعلقة بأعمال وظائفهم، ومنهم على سبيل المثال: بعض العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات.

الضبط القضائي في  قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات

يتبين من الاطلاع على نصوص قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رغبة المشرِّع في تمييز هذا القانون ببعض القواعد الإجرائية الخاصة5؛ فينقسم القانون إلى ثلاثة أبواب، الباب الأول تحت عنوان الأحكام العامة، والباب الثاني تحت عنوان الأحكام والقواعد الإجرائية، والباب الثالث تحت عنوان الجرائم والعقوبات. ما يعنينا في هذا الشأن هو الباب الثاني من القانون، وعلى وجه خاص ما يتضمنه من  تحديد لمأموري الضبط القضائي، والأوامر القضائية المؤقتة؛ ذلك حسبما جاء في نص المادتين الخامسة والسادسة من هذا القانون.

انتهج المشرِّع في صياغته ذات النهج المتبع في بعض القوانين الجنائية الخاصة – التي منها على سبيل المثال لا الحصر قانون تنظيم الاتصالات6 وقانون حماية البيانات الشخصية7 – وهو تخويل بعض الموظفين صفة مأمور الضبط القضائي بالنسبة إلى الجرائم التي تقع في دوائر اختصاصهم، وتكون متعلقة بأعمال وظائفهم. يتضح ذلك في نص المادة الخامسة من القانون والتي تنص على أن “يجوز بقرار من وزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص منح صفة الضبطية القضائية للعاملين بالجهاز أو غيرهم ممن تحددهم جهات الأمن القومي بالنسبة للجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون والمتعلقة بأعمال وظائفهم“.

جاء هذا النص متفقًا مع قواعد قانون الإجراءات الجنائية في تحديد مأمور الضبط القضائي من ذوي الاختصاص المكاني المحدود والنوعي المحدود؛ فقد حددت الفقرتين الأخيرتين من المادة 23 من القانون الأخير آلية منح صفة الضبطية القضائية لغيرهم من الموظفين العموميين، والتي جاء نصها كالآتي: “ويجوز بقرار من وزير العدل بالاتفاق مع  الوزير المختص تخويل بعض الموظفين صفة مأموري الضبط القضائي بالنسبة إلى الجرائم التي تقع في دوائر اختصاصهم وتكون متعلقة بأعمال وظائفهم. وتعتبر النصوص الواردة في القوانين والمراسيم والقرارات الأخرى بشأن تخويل بعض الموظفين اختصاص مأموري الضبط القضائي بمثابة قرارات صادرة من وزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص“.

وفي هذا السياق، قسم المشرِّع من يجوز لوزير العدل – بموجب قرار منه بالاتفاق مع وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات – منحهم صفة الضبطية القضائية بالنسبة للجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات إلى فئتين:

  • الفئة الأولى: العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات

أصدر وزير العدل قرارًا واحدًا حتى الآن بتخويل عدد (19) عامل من العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات بأسمائهم، وبصفتهم الوظيفية، وكل منهم في دائرة اختصاصه صفة مأموري الضبط القضائي بالنسبة للجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون.8

وهو ما يعني أن العاملين بالجهاز الواردة أسمائهم في هذا القرار، هم وحدهم حتى الآن، دون غيرهم، من يجوز أن تصدر لهم – من جهة التحقيق المختصة – أي من الأوامر القضائية المؤقتة المنصوص عليها في المادة السادسة من هذا القانون، وهم وحدهم أيضًا المنوط بهم تنفيذها دون غيرهم، ويترتب البطلان الإجرائي على أي أوامر قضائية تصدر لغيرهم، باعتبارها إجراءات ماسة بالحرية الشخصية، والحق في الخصوصية، وحرمة الحياة الخاصة.

  • الفئة الثانية: غير العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات

ويقصّد بغير العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات الأشخاص المحددين بمعرفة جهات الأمن القومي لمنحهم صفة الضبط القضائي بالنسبة للجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون والمتعلقة بأعمال وظائفهم؛ فقد عرّف القانون جهات الأمن القومي بأنها خمس جهات على سبيل الحصر وهم: رئاسة الجمهورية، ووزارة الدفاع، ووزارة الداخلية، والمخابرات العامة، وهيئة الرقابة الإدارية.9

أما عن منح كل هذه الجهات أو بعضها سلطة تحديد بعض الِأشخاص لمنحهم صفة مأمور الضبط القضائي، فهو نهج  سبق للمشرع أن انتهجه في إقرار قانون تنظيم الاتصالات، بالأحرى في مادته التاسعة والستين10، فأجاز لوزير العدل، بالاتفاق مع وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، منح العاملين الذين يحددهم الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وجهات الأمن القومي صفة مأموري الضبط القضائي. وحتى الآن لم ينشّر أي قرار بشأن تخويل آخرين من غير العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات – تحددهم هذه الجهات – صفة مأموري الضبط القضائي بالنسبة لجرائم هذا القانون المتعلقة بأعمال وظائفهم.

التوسع غير المبرر في منح صفة الضبطية القضائية لغير العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات

تضمن القانون توسعًا غير مبررًا في منح صفة الضبط القضائي لغير العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات على وجه التحديد، على الرغم من أن منح صفة الضبط القضائي للشخص تخوله بالقيام بإجراءات ماسة بالحقوق والحريات الدستورية للأفراد كالحرية الشخصية، والحق في الخصوصية، وحرمة الحياة الخاصة للآخرين؛ ففي كلتا الفئتين من مأموري الضبط القضائي نجد أن المشرِّع قد اكتفى بشرطين فقط، دون غيرهما، كمعيار لتحديد من يمنحهم وزير العدل صفة الضبط القضائي، وهذين الشرطين هما:

الشرط الأول: اقتصار الضبطية القضائية على الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون.

الشرط الثاني: تعلق الجرائم – المرتكّبة  بالمخالفة لأحكام هذا القانون – بأعمال وظائفهم.

فالعبرة هنا بطبيعة أعمال وظيفة الشخص المخول له صفة الضبطية القضائية، سواء كان من العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات أو من غيرهم، دون أي معيار أو ضابط آخر، ويمكننا تفهم ذلك في شأن الفئة الأولى، فهم بطبيعة الحال موظفون عموميون من العاملين بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وخاضعين لإدارته وإشرافه في أداء عملهم.

أما في الفئة الثانية نجد أن المشرِّع توسع في منح جهات الأمن القومي صفة الضبطية القضائية توسعًا مطلقًا دون ضوابط يمكن الرقابة عليها، وغير مشروط، وغير مقيد بأي قيد قانوني على سلطتها في من تحددهم بمعرفتها لإضفاء صفة مأموري الضبط القضائي عليهم؛ فقد أطلق يدها في تحديد من تراه مناسبًا وفقًا لسلطتها التقديرية في هذا الشأن، دون أن يقيدها بأي قيد، فلم يقيد سلطتها بأن يكون من تحددهم من بين العاملين بها والخاضعين لسلطتها دون غيرهم، ومن دون أن يشترط في من تحددهم أي شروط خاصة. وهو ما يبيح لأي من هذه الجهات أن تحدد من تراه سواء من العاملين لديها والخاضعين لسلطتها، أو من غيرهم ممن تتعلق جرائم هذا القانون بأعمال وظائفهم، وقد يكون منهم – على سبيل المثال لا الحصر – العاملين بالمجال المصرفي والبنوك، وشركات البرمجيات، والمواقع والتطبيقات الإلكترونية، والأكاديميين، والفنيين العاملين بالمجال التقني، وغيرهم.

يمكن القول أن المشرِّع لم يحسن التقدير في تلك السياسة التشريعية التي انتهجها في هذا القانون وخلص منها إلى نصوصه على نحو عام، وعلى نحو خاص نص المادة الخامسة منه. وإن كان ذلك ثقة من المشرِّع في تلك الجهات، أو استنادًا على ما قد يفترضه في القائمين عليها من نوايا حسنة، فإننا نرى أن القوانين لا تُشرًّع استنادًا إلى الثقة في شخص طبيعي أو اعتباري، وسلطة الضبط القضائي أهم وأخطر بكثير من أن يخوّل لشخص طبيعي أم اعتباري تحديد من يستحقها استنادًا إلى الثقة فيه دون معيار أو ضابط قانوني يضمن التطبيق الأمثل لها دون أي عدوان على الحريات، أو انحراف، أو تعسف، أو إساءة استعمال للسلطة ممن خول لهم استعمالها بموجب تلك القوانين.

حدود سلطة مأمور الضبط المختص نوعيًا بموجب قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات

يُصنّف مأمور الضبط القضائي المنصوص عليه في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات باعتباره من الفئة الثالثة من فئات مأموري الضبط القضائي التي سبق الإشارة إليها؛ فهو صاحب اختصاص نوعي يقتصر على البحث عن الجرائم التي تُرتكّب بالمخالفة لأحكام هذا القانون المتعلقة بأعمال وظيفته، دون غيرها، والبحث عن مرتكبيها، وجمع الاستدلالات والأدلة الرقمية ذات الصلة بالواقعة دون غيرها، التي تلزم للتحقيق والدعوى، وذلك حدود في دائرة اختصاصه فقط.

حدد القانون مجموعة من الإجراءات التي اختص بها هذه الفئة من مأموري الضبط القضائي، وحدهم دون غيرهم، وقد نص عليها المشرِّع في المادتين السادسة والسابعة من هذا القانون، والمادة التاسعة من لائحته التنفيذية11 وهي:

  • تنفيذ الأوامر القضائية المسببة الصادرة من جهة التحقيق المختصة بضبط أو سحب أو جمع أو التحفظ على البيانات والمعلومات أو أنظمة المعلومات، وتتبعها في أي مكان أو نظام أو برنامج أو دعامة إلكترونية أو حاسب تكون موجودة فيه، وتسليم أدلتها الرقمية لجهة التحقيق بعد استخراجها وحفظها وتحريزها.
  • تنفيذ الأوامر القضائية المسببة الصادرة من جهة التحقيق المختصة بالبحث والتفتيش والدخول والنفاذ إلى برامج الحاسب وقواعد البيانات وغيرها من الأجهزة والنظم المعلوماتية تحقيقًا لغرض الضبط.
  • تنفيذ الأوامر القضائية المسببة الصادرة من جهة التحقيق المختصة بتسليم مقدم الخدمة ما لديه من بيانات أو معلومات تتعلق بنظام معلوماتي أو جهاز تقني، موجودة تحت سيطرته أو مخزنة لديه، وكذا بيانات مستخدمي خدمته وحركة الاتصالات التي تمت على ذلك النظام أو الجهاز التقني.
  • تنفيذ الأوامر القضائية الصادرة من جهة التحقيق المختصة بحجب المواقع الإلكترونية.
  • إبلاغ الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات – في حالة الاستعجال لوجود خطر حال – بوجود أدلة على قيام موقع يبّث من داخل الدولة أو خارجها بوضع محتوى يعد جريمة من جرائم هذا القانون، ليخطر مقدم الخدمة على الفور بالحجب المؤقت للموقع أو المحتوى أو الرابط، وكذلك تحرير محضر بما تم من إجراءات لعرضه على جهة التحقيق خلال 48 ساعة.

حدود سلطة مأمور الضبط صاحب الاختصاص العام في جرائم تقنية المعلومات

فرق المشرِّع في هذا القانون بصورة واضحة وقاطعة بين مأمور الضبط القضائي المختص وفقًأ لأحكام المادة الخامسة منه، ومأمور الضبط صاحب الاختصاص العام من الفئتين الأولى والثانية. فقد اختص المشرِّع مأمور الضبط القضائي المختص، وفقًا لهذا القانون دون غيره، بكافة اختصاصات مأمور الضبط المنصوص عليها في المادتين السادسة والسابعة من هذا القانون فيما يتعلق بالأوامر القضائية المؤقتة، سواء البحث والتفتيش والنفاذ وضبط وسحب البيانات والأدلة الرقمية أو إجراءات الحجب. جاءت صياغة عبارات القانون واضحة وقاطعة في هذا الشأن، ونجد ذلك في أكثر من موضع، ومنهم:

  1. في المادة السادسة “لجهة التحقيق المختصة، بحسب الأحوال، أن تصدر أمرًا مسببًا، لمأموري الضبط القضائي المختصين، لمدة…”
  2. في الفقرة الثالثة من المادة السابعة “ويجوز فى حالة الاستعجال لوجود خطر حال أو ضرر وشيك الوقوع, أن تقوم جهات التحري والضبط المختصة بإبلاغ الجهاز…”
  3. في الفقرة الرابعة من المادة السابعة”وعلى جهة التحري والضبط التي قامت بالإبلاغ أن تحرر محضرًا تثبت فيه ما تم من إجراءات وفقًا لأحكام الفقرة السابقة

ولذلك فإننا نرى أن سلطة مأمور الضبط القضائي صاحب الاختصاص العام – سواء كان من الفئة الأولى أو الثانية – مقيدة وفقًا لهذا القانون، فيجوز له القيام بأي عمل في نطاق اختصاصه، باستثناء الأعمال المنصوص عليها في المادتين السادسة والسابعة من هذا القانون، والتي اختص بها المشرِّع مأمور الضبط القضائي المختص وفقًا لأحكام المادة الخامسة من هذا القانون، والتي لا يجيز القانون لغيرهم القيام بها، كما يترتب البطلان على أي إجراء يجرى بالمخالفة لهذه الاختصاصات.

فعلى سبيل المثال، يجوز لسلطة التحقيق المختصة إصدار أمر لأي من مأموري الضبط القضائي أصحاب الاختصاص العام بضبط وإحضار أحد المتهمين بارتكاب جريمة بالمخالفة لأحكام هذا القانون، وكذلك بتفتيشه وتفتيش مسكنه، بينما لا يجوز أن يمتد الإذن إلى البحث أو التفتيش أو الدخول أو النفاذ إلى برامج الحاسب الآلي وقواعد البيانات وغيرها من الأجهزة والنظم المعلوماتية، ولا يمتد لضبط أو سحب أو جمع أو التحفظ على البيانات أو المعلومات أو أنظمة المعلومات، ولا يجوز لسلطة التحقيق أن تأذن له بأي مما تقدم، ويترتب البطلان على أي إجراء يجرى بالمخالفة لذلك. وإن نتج عن ذلك أدلة مادية أو رقمية تكون أدلة غير مشروعة، منعدمة القيمة في الإثبات الجنائي، ولا يجوز الاستناد إلى أي منها في إسناد الاتهام أثناء مرحلة التحقيق أو في القضاء بالإدانة في مرحلة المحاكمة، ويقتصر الإذن بالقيام بأي من هذه الأعمال على مأمور الضبط القضائي المختص وفقًا لأحكام المادة الخامسة من القانون دون غيره.

اتجاه محكمة النقض بشأن مد اختصاص مأمور الضبط صاحب الاختصاص العام لجميع الجرائم دون قيد

استقرت أحكام محكمة النقض منذ سنوات بعيدة – في تفسيرها لنص المادة (23) من قانون الإجراءات الجنائية المنظمة لاختصاص مأموري الضبط القضائي – على عدة مبادئ، ومنها:

أولًا: المادة ٢٣ من قانون الإجراءات الجنائية – بعد تعديلها بالقانون رقم ٧ لسنة ١٩٦٣ والقانون اللاحق عليه رقم 26 لسنة 1971 – قد منحت الضباط العاملين بإدارة المباحث العامة بوزارة الداخلية وفروعها بمديريات الأمن سلطة عامة وشاملة في ضبط جميع الجرائم، وخولتهم هذه السلطة في كافة أنحاء الجمهورية.

ثانيًا: إضفاء صفة الضبط القضائي على موظف ما في صدد جرائم معينة لا يعني مطلقًا سلب تلك الصفة في شأن هذه الجرائم من مأموري الضبط القضائي ذوي الاختصاص العام.

ثالثًا: مأموري الضبط القضائي الذين منحتهم المادة ۲۳ من قانون الإجراءات الجنائية سلطة الضبط بصفة عامة وشاملة تنبسط ولايتهم على جميع أنواع الجرائم، ولا يغير من ذلك تخويل صفة الضبطية القضائية الخاصة بموجب قوانين أو قرارات أخرى لبعض الموظفين بالنسبة إلى الجرائم التي تقع في دوائر اختصاصهم وتكون متعلقة بأعمال وظائفهم.

وعلى سبيل المثال يمكننا استخلاص هذه المبادئ القضائية من بعض أحكامها المنشورة والصادرة حديثًا؛ فقضت أنه “من المقرر أنه لا ينال من سلامة إجراءات القبض على الطاعن وتفتيشه – وهي من قبيل إجراءات الاستدلال – أن من قام بها ليس من موظفي الجمارك، ذلك بأن الضابط ….. معاون مباحث بميناء أسيوط الجوي الذي تولى القبض على الطاعن وتفتيشه من مأموري الضبط القضائي الذين منحتهم المادة ۲۳ من قانون الإجراءات الجنائية – في حدود اختصاصهم – سلطة الضبط بصفة عامة وشاملة مما مؤداه أن تنبسط ولايته على جميع أنواع الجرائم بما فيها الجريمة المسندة إلى الطاعن، ولا يغير من ذلك تخويل صفة الضبطية القضائية الخاصة – بمكان وضبط الطاعن – لبعض موظفي الجمارك وفـقـًا لحكم المادة ٢٥ من قانون الجمارك الصادر به القانون رقم ٦٦ لسنة ١٩٦٣ المعدل، لما هو مقرر من أن إضفاء صفة الضبط القضائي على موظف ما في صدد جرائم معينة لا يعني مطلقًا سلب تلك الصفة في شأن هذه الجرائم عليها من مأموري الضبط القضائي ذوي الاختصاص العام“.12

وكذلك قضت أن “المقرر وفقًا للمادة ٢٣ من قانون الإجراءات الجنائية بعد تعديلها بالقانون رقم ٧ لسنة ١٩٦٣ المعدل، قد منحت الضباط العاملين بإدارة المباحث العامة بوزارة الداخلية وفروعها بمديريات الأمن المسماة الآن بالأمن الوطني – سلطة عامة وشاملة في ضبط جميع الجرائم، فأنها كذلك قد خولتهم هذه السلطة في كافة أنحاء الجمهورية، فإنه يكون من غير المجدي ما يثيره الطاعنون في شأن عدم اختصاص ضابط الأمن الوطني مكانيًا بإجراء التحريات، ويكون الحكم قد أصاب صحيح القانون.13

عدم صلاحية اتجاه محكمة النقض للتطبيق على جرائم قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات

الاتجاه السابق الذي تبنته محكمة النقض قد أيده أغلب الفقه القانوني حتى صدور وسريان قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ولكن هذا الاتجاه، وإن كان متسقًا مع أحكام قانون الإجراءات الجنائية وبعض القوانين الجنائية الخاصة، إلا أنه قد صار غير متسق مع أحكام هذا القانون نظرًا لما تضمنه الأخير من أحكام وقواعد إجرائية خاصة تسري على الجرائم المؤثمة بموجبه.

أما إذا افترضنا جدلًا امتداد هذا الاتجاه على قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وأن المشرِّع أباح لمأمور الضبط صاحب الاختصاص العام القيام بكافة الإجراءات في هذا القانون، وعلى نحو خاص المنصوص عليها في المادتين السادسة والسابعة فيما يتعلق بالبحث والتفتيش والنفاذ وضبط وسحب البيانات والأدلة الرقمية أو إجراءات الحجب، سنكون بصدد عبث ولغو، وهو ما يتنزه عنه المشرِّع ويخرج عن مقصده – وهذا هو التعبير الذي اعتادت محكمة النقض المصرية وتواترت أحكامها على أن تصف به محاولة تأويل وتفسير  إدارة المشرِّع على نحو غير منطقي14، وسنكون أيضًأ بصدد خطأ في تأويل هذا النص وفهمه على غير معناه الحقيقي، وتطبيق غير صحيح لأحكامه، إضافة إلى كون ذلك يمثل خوضًا في بواعث التشريع ومدى ملائمته ومناقشة لدوافعه، وتدخلًا في السياسة التشريعية التي ينتهجها المشرِّع لتنظيم أوضاع بعينها15، وذلك استنادًا للأسباب الآتية:

أولًا:  ذاتية القواعد الإجرائية المنصوص عليها بقانون جرائم تقنية المعلومات

جاءت ديباجة قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات خالية من الإشارة إلى ما يفيد الاطلاع على قانون الإجراءات الجنائية، كما أنه لا يقترن بقانون إصدار يحيل من خلاله تنظيم بعض المسائل لقوانين أخرى سارية تضع لها أحكامًا مغايرة، واقتصرت أحكامه الانتقالية والختامية على مهلة تقنين الأوضاع للمخاطبين بأحكامه ومدة إصدار اللائحة التنفيذية وتاريخي إصداره وسريانه.

كما جاء الباب الثاني منه تحت عنوان “الأحكام والقواعد الإجرائية”. يتضمن الباب المواد من الخامسة حتى الحادية عشر، دون أن يشير المشرِّع في أي منهم من قريب أو بعيد إلى الإحالة لقانون الإجراءات الجنائية أو أي قانون إجرائي آخر، وذلك على عكس ما جاء في الباب الثالث الذي حمل عنوان “الجرائم والعقوبات”. فنصت المادة الثانية عشر من القانون – المدرجة كأول مواد هذا الباب – على أنه “مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد منصوص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر، ومراعاة أحكام قانون الطفل الصادر بالقانون رقم ١٢ لسنة ١٩٩٦، يعاقب على الجرائم التالية بالعقوبات المبينة قرين كل جريمة“.

ويفهّم مما تقدم أن إرادة المشرِّع في هذا القانون قد اتجهت بوضوح إلى الاقتصار على مواده فيما تضمنته من أحكام وقواعد إجرائية، دون أن يحيل تنظيم كل أو بعض منها إلى أي قانون آخر، وعلى نحو خاص فيما استحدثه من أحكام وقواعد تتعلق بالضبط القضائي للجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكامه، وإجراءات إصدار الأوامر القضائية المؤقتة وتنفيذها، وإجراءات وقرارات حجب المواقع الإلكترونية، والتظلم منها، والمنع من السفر والخبراء المختصين والأدلة الرقمية، والقول بغير ذلك يعد تدخلًا في السياسة التشريعية التي ينتهجها المشرِّع لتنظيم أوضاع بعينها، وهو ما يمكن فهمه بشكل جلّي عند قراءة المذكرة الإيضاحية للقانون، وكذلك التقارير البرلمانية المتعلقة بإقرار القانون، حيث جاء بتقرير اللجنة المشتركة من لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ومكتبيّ لجنة الشئون الدستورية والتشريعية، والدفاع والأمن القومي16، أن الفلسفة والهدف من مشروع القانون:

1- مكافحة الاستخدام غير المشروع للحاسبات وشبكات المعلومات وتقنيات المعلومات، وما يرتبط بها من جرائم، مع التزام الدقة في تحديد الأفعال المعاقب عليها، وتجنب التعبيرات الغامضة بوضع تعاريف دقيقة لها، وتحديد عناصر الأفعال المجرَّمة بكثير من العناية، ومع مراعاة الاعتبارات الشخصية للمجنى عليهم.

2- ضبط الأحكام الخاصة بجمع الأدلة الإلكترونية وتحديد حجيتها في الإثبات.

3- وضع القواعد والأحكام والتدابير اللازم اتباعها من قبل مقدمي الخدمة لتأمين خدمة تزويد المستخدمين بخدمات التواصل بواسطة تقنية المعلومات، وتحديد التزاماتهم في هذا الشأن.

4- حماية البيانات والمعلومات الحكومية، والأنظمة والشبكات المعلوماتية الخاصة بالدولة أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة، من الاعتراض أو الاختراق أو العبث بها، أو إتلافها، أو تعطيلها بأي صورة كانت.

5- حماية البيانات والمعلومات الشخصية، من استغلالها استغلالًا يسيء إلى أصحابها، وخاصة في ظل عدم كفاية النصوص التجريمية التقليدية المتعلقة بحماية خصوصيات الأفراد وحرمة حياتهم الخاصة في مواجهة التهديدات والمخاطر المستحدثة باستخدام تقنية المعلومات.

6وضع تنظيم إجرائي دقيق ينظم إجراءات الضبط والتحقيق والمحاكمة، بالإضافة إلى تحديد حالات التصالح وإجراءاته وتنظيم عمل الخبراء المتخصصين العاملين في مجال جرائم مكافحة تقنية المعلومات، والقرارات والأوامر الجنائية المتعلقة بتنفيذ أحكام القانون.

ثانيًا: قاعدة الخاص يقيد العام

تعني هذه القاعدة القانونية أنه إذا أورد المشرِّع تنظيمًا خاصًا بمسألة قانونية محددة وردت الإشارة إليها بصفة عامة في قانون آخر، فإنه يتعين إطراح الإشارة العامة وتطبيق التنظيم الخاص17. فالقانون العام هو الذي يسري على عموم الأفراد أو الجرائم، أما القانون الخاص فهو الذي يسري على طائفة خاصة من الأفراد أو الجرائم، وحال وجود تعارض بين مسألة أو إجراء ورد في القانونين العام والخاص، فتكون أولوية التطبيق للقانون الخاص دون العام باعتباره القاعدة القانونية الحاكمة لهذه المسألة أو هذا الإجراء.

استقر قضاء محكمة النقض وتواترت أحكامها على أنه لا يرجع في تفسير القانون إلى قواعد القانون العام مادام أنه توجد نصوص خاصة لتنظيم الإجراءات في القانون الخاص، باعتبار أن القانون الخاص يقيد القانون العام ويعتبر استثناءًا عليه وقيدًا وإطارًا في تفسيره وتأويله18.

يمكننا التدليل على ذلك أيضًا بأحد الأحكام الحديثة التي صدرت عن محكمة النقض – على سبيل المثال لا الحصر – في واقعة مشابهة تتعلق بسريان القانون رقم ١٨٢ لسنة ١٩٦٠ في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها، باعتباره قانونًا خاصًا مقيدًا للقانون العام وهو قانون الإجراءات الجنائية في شأن تنظيم مواعيد انقضاء الدعوى الجنائية. وقد جاء في حكمها:

لما كان قانون الإجراءات الجنائية في الفصل الثالث من الباب الثاني من الكتاب الثاني الذي عنوانه في الإجراءات التي تتبع في مواد الجنايات في حق المتهمين الغائبين في نص المادة ٣٩٤ على أنه “لا يسقط الحكم الصادر غيابيًا من محكمة الجنايات في جناية بمضي المدة وإنما تسقط العقوبة المحكوم بها ويصبح الحكم نهائيًا بسقوطها”، ونص في المادة ٣٩٥ منه “إذا حضر المحكوم عليه في غيبته، أو قبض عليه، أو حضر وكيله الخاص وطلب إعادة المحاكمة قبل سقوط العقوبة بمضي المدة، يحدد رئيس محكمة الاستئناف أقرب جلسة لإعادة نظر الدعوى، ويُعرّض المقبوض عليه محبوسًا بهذه الجلسة”، ونصت المادة ٥٢٨ من هذا القانون على أن “تسقط العقوبة المحكوم بها في جناية بمضي عشرون سنة ميلادية إلا عقوبة الإعدام فإنها تسقط مضى ثلاثين سنة”، ونصت الفقرة الأولى من المادة ٤٦ مكرر “أ” من القانون رقم ١٨٢ لسنة ١٩٦٠ في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها على أنه “لا تنقضي بمضي المدة الدعوى الجنائية في الجنايات المنصوص عليها في هذا القانون والتي تقع بعد العمل به عدا الجناية المنصوص عليها في المادة ٣٧ من هذا القانون، ونصت الفقرة الثالثة منها على أنه “ولا تسقط بمضي المدة العقوبة المحكوم بها بعد العمل بهذا القانون في الجنايات المنصوص عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة “. لما كان ذلك، وكان من المقرر أن القانون الخاص يقيد القانون العام، ولما كانت الدعوى الجنائية قد أقيمت قبل المطعون ضده لارتكابه جناية حيازة نبات الحشيش المخدر بقصد الاتجار، وقضي عليه من محكمة الجنايات غيابيًا بموجب المادة ٣٣/ج من القانون سالف الذكر بتاريخ ٢٥/١٠/١٩٩٩ بالأشغال الشاقة المؤبدة وغرامة مائة ألف جنيه ومصادرة المخدر المضبوط وألزمته المصروفات الجنائية، وإذ تمت إعادة إجراءات محاكمته وقضت المحكمة بجلسة ٦/٤/٢٠١٩ بحكمها المطعون فيه بانقضاء الدعوى الجنائية بمضي المدة وبمصادرة المخدر المضبوط مخالفة بذلك ما نصت عليه الفقرة الأولى والثالثة من المادة ٤٦ مكرر “أ” سالف الإشارة إليها، فإنها تكون قد أخطأت في تطبيق القانون مما كان يؤذن بنقض الحكم المطعون فيه وتحديد جلسة لنظر موضوع الطعن.19

من ثم فقد بات من المؤكد خضوع الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم المعلومات كافة وما يتعلق بها من إجراءات إلى أحكام ونصوص هذا القانون، باعتبارها النصوص الخاصة والحاكمة لهذه الإجراءات دون غيرها من نصوص أخرى عامة تنظم ذات الإجراءات، سواء وردت بقانون الإجراءات الجنائية أو غيره من القوانين.

ثالثًا: قاعدة التشريع اللاحق ينسخ السابق

تنص المادة الثانية من القانون المدني باعتباره الشريعة العامة على أنه “لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحة على هذا الإلغاء، أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم، أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع“.

والمقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الأصل المقرر بنص المادة الثانية من القانون المدني هو أن كل تشريع لاحق يعتبر مُلغيًا للتشريع السابق بالقدر الذي يتحقق فيه التعارض بينهما، وكان نص هذه المادة يفترض تشريعين تعاقبا في الزمان، واختلفا في المضمون. إذ أن القول بالتعارض بين تشريعين يفترض أن يكون الحقهما قد أتى بقواعد قانونية جديدة تُعدِّل القواعد القانونية القديمة أو تلغيها.20

وحسبما ورد في الأعمال التحضيرية في مذكرة المشروع التمهيدي لهذا القانون أن للنسخ الضمني صورتان:

الصورة الأولى: صدور تشريع جديد يشتمل على نص يتعارض تعارضًا تامًا مع التشريع القديم، وفي هذه الحالة يقتصر النسخ على الحدود التي يتحقق فيها التعارض.

الصورة الثانية: صدور تشريع جديد ينظم تنظيمًا كاملًا وضعًا من الأوضاع أفرد له تشريع سابق، وفي هذه الحالة يعتبر التشريع السابق منسوخًا جملة وتفصيلًا، ولو انتفى التعارض بين بعض نصوص هذا التشريع ونصوص التشريع الذي تلاه.21

والإلغاء الضمني لا يتحقق إلا إذا ورد كل من النص القديم والنص الجديد على محل واحد، مما يستحيل  تطبيقهما معًا عليه، وفي هذه الحالة يفهم ضمنًا أن التشريع الجديد ألغى التشريع القديم، على أن يقتصر هذا الإلغاء على ما يقوم فيه التعارض بين التشريعين بصورة يستحيل معها الجمع بينهما؛ فإذا كان التعارض بينهما تامًا كاملًا اعُتبِّر التشريع الجديد ناسخًا للتشريع القديم كله، أما إذا كان التعارض جزئيًا فوقع بين بعض أحكام التشريعين فقط تحدد الإلغاء بالأحكام المتعارضة فقط، وذلك كله مرهون بأن تكون قواعد كلا التشريعين القديم والجديد قواعد عامة، أو أن تكون قواعد كلا التشريعين قواعد خاصة، أما إذا كان التشريع الجديد تشريعًا خاصًا والقديم عامًا فلا يستخلص من ذلك أن التشريع الجديد نسخ القديم، بل بقي التشريع القديم ساريًا ويعتبر التشريع الجديد استثناءًا من حكمه، وناسخًا لما خصصه فقط.22

وقد أيدت ذلك محكمة النقض في قضاءها – سواء كانت أحكام صادرة عن الدوائر المدنية أو الدوائر الجنائية – الذي استقر على أنه لا يجوز إلغاء نص تشريع إلا بتشريع لاحق له أعلى منه أو مساوٍ له في مدارج التشريع ينص صراحة على هذا الإلغاء أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع23. وجاء في قضاءها أيضًا أن النص التشريعي الذي يتضمن قاعدة عامة يجوز إلغاؤه بتشريع لاحق ينص صراحة على هذا الإلغاء أو يشتمل على نص يتعارض مع التشريع القديم أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق وأن قرر قواعد ذلك التشريع ، ويقصد بالتعارض في هذا الخصوص أن يكون النصين واردين على محل واحد ويستحيل إعمالهما فيه معًا.24

استنادًا لذلك، يكون قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، فور سريانه كقانون، خاص بهذه الطائفة من الجرائم25، متضمنًا أحكامها العامة، والإجرائية، والختامية، والانتقالية، والجرائم التي يؤثمها وعقوباتها، والأحكام قد أصبح استثناءًا من أحكام قانون الإجراءات الجنائية، ونسخ كل نص خصصه ونظمه على النحو الوارد فيه، وعلى وجه خاص ما ورد في الباب الثاني في المواد من الخامسة حتى الحادية عشر، ومن بينهم الأحكام التي حدد بموجبها مأموري  الضبط القضائي المختصين بتنفيذ أحكامه الإجرائية، واختصاصاتهم، على نحو يستحيل معه سريان كل نص يتعارض مع ذلك بقانون الإجراءات الجنائية باعتباره التشريع العام السابق.

رابعًا: البطلان كأثر لمخالفة القواعد والأحكام الإجرائية

إذا كان البطلان يمتد لكل إجراء متعلق بالنظام العام، وكانت الحقوق والحريات التي كفلها الدستور وكل ما يتعلق بالتنظيم الدستوري لسلطات الدولة في قمة النظام العام، من ثم يعد البطلان المترتب على مخالفة أي منها متعلقاً بالنظام العام، وتعتبر ضمانات الأصل في المتهم البراءة، والحق في التقاضي، والمحاكمة المنصفة من النظام العام باعتبارها مستقاة من الدستور ذاته.26

كما أن كل إجراء يترتب عليه المساس بأي من هذه الحقوق والحريات هو إجراء جوهري، وليس مجرد إجراء تنظيمي أو إرشادي، لذلك فعلى المحكمة أن تستخلص كل بطلان متعلق بالنظام العام سواء نص عليه المشرِّع أو لم ينص عليه، ما دامت الحقوق والحريات التي انتهكها الإجراء الباطل تستمد حمايتها من الدستور ذاته، وإذا سمح المشرِّع بعكس ذلك يكون النص التشريعي مخالفًا للدستور27. ونتيجة لما تقدم، صار البطلان هو الأثر الحتمي لمخالفة أي من القواعد والأحكام الإجرائية المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات؛ من ثم يكون قيام مأمور الضبط صاحب الاختصاص العام بالقيام بأي من الإجراءات المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وعلى نحو خاص المنصوص عليها في المادتين السادسة والسابعة هو عمل غير مشروع، وإجراء باطل، ومساس بحقوق وحريات الأفراد، بالمخالفة لنصوص هذا القانون.

خامسًا: عدم جواز القياس فيما يتعلق بالقواعد والأحكام الإجرائية لهذا القانون على غيرها من القواعد

يعد القياس بمثابة وسيلة يستكمل بها ما يشوب القانون من نقص أو مسائل لم ينظمها، عن طريق استعارة الحل الذي قرره القانون لمسألة مماثلة، وإذا كان الأصل العام في كل سلوك هو الحرية والإباحة فأن حماية الحرية الفردية اقتضت منح المشرِّع وحده سلطة التجريم والعقاب، والتي تمثل قيدًا على الحقوق والحريات، ونظرًا لكون هذا القيد هو استثناء على الأصل العام، فبطبيعة الحال لا يجوز التوسع فيه، ولا يجوز القياس على الاستثناء، كما لا يقتصر عدم جواز القياس في القوانين الجنائية على التجريم والعقاب فقط، بل يمتد لكل القواعد والأحكام الإجرائية التي يترتب عليها المساس بحريات الأفراد وحقوقهم.28

كما أن المستقر عليه في قضاء محكمة النقض هو أن يلتزم القاضي في تفسير النصوص التشريعية الاستثنائية على عبارة النص، ولا يجاوزها، فلا يجوز له القياس لمد حكم النص إلى أمور سكت عنها أو يضيف إلى عباراته أمرًا لم يرد فيه من شأنه أن يؤدي إلى التوسع فى تطبيق النص.

ولذلك فتعد أي محاولة لتبرير امتداد اختصاص مأمور الضبط صاحب الاختصاص العام للقيام بأي من  الإجراءات المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وعلى نحو خاص المنصوص عليها في المادتين السادسة والسابعة، هو قياس على استثناء غير جائز قانونًا، ويترتب عليه البطلان لمساسه بحقوق وحريات الأفراد  بالمخالفة لنصوص هذا القانون.

الهوامش

1 القانون رقم 150 لسنة 1950، الوقائع المصرية، العدد 90 غير اعتيادي، في 15 أكتوبر 1951.
2 تنص المادة 21 من قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950، وتعديلاته على أن “يقوم مأمور الضبط القضائي بالبحث عن الجرائم ومرتكبيها، وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق والدعوي”
3 تنص المادة 22 من قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950، وتعديلاته على أن “يكون مأمورو الضبط القضائي تابعين للنائب العام وخاضعين لإشرافه فيما يتعلق بأعمال وظيفتهم. وللنائب العام أن يطلب إلى الجهة المختصة النظر في أمر كل من تقع منه مخالفة لواجباته، أو تقصير في عمله، وله أن يطلب رفع الدعوى التأديبية عليه، وهذا كله لا يمنع من رفع الدعوى الجنائية”.
4 تنص المادة 23 من قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950، وتعديلاته على أن “(‌أ) يكون من مأموري الضبط القضائي في دوائر اختصاصهم: 1- أعضاء النيابة العامة ومعاونوها. 2- ضباط الشرطة وأمناؤها والكونستابلات والمساعدون. 3- رؤساء نقط الشرطة. 4- العمد ومشايخ البلاد ومشايخ الخفراء. 5- نظار ووكلاء محطات السكك الحديدية الحكومية. ولمديري أمن المحافظات ومفتشي مصلحة التفتيش العام بوزارة الداخلية أن يؤدوا الأعمال التي يقوم بها مأمورو الضبط القضائي في دوائر اختصاصهم. (‌ب) ويكون من مأموري الضبط القضائي في جميع أنحاء الجمهورية: 1- مديرو وضباط إدارة المباحث العامة بوزارة الداخلية وفروعها بمديريات الأمن. 2- مديرو الإدارات والأقسام ورؤساء المكاتب والمفتشون والضباط وأمناء الشرطة والكونستابلات والمساعدون وباحثات الشرطة العاملون بمصلحة الأمن العام وفى شعب البحث الجنائي بمديريات الأمن. 3- ضباط مصلحة السجون. 4- مديرو الإدارة العامة لشرطة السكة الحديد والنقل والمواصلات وضباط هذه الإدارة. 5- قائد وضباط أساس هجانة الشرطة. 6- مفتشو وزارة السياحة. ويجوز بقرار من وزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص تخويل بعض الموظفين صفة مأموري الضبط القضائي بالنسبة إلى الجرائم التي تقع في دائرة اختصاصهم وتكون متعلقة بأعمال وظائفهم. وتعتبر النصوص الواردة في القوانين والمراسيم والقرارات الأخرى بشأن تخويل بعض الموظفين اختصاص مأموري الضبط القضائي بمثابة قرارات صادرة من وزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص.
5 القانون رقم 175 لسنة 2018، الجريدة الرسمية، العدد 32 مكرر (ج)، في 14 أغسطس 2018.
6 القانون رقم 10 لسنة 2003 – الجريدة الرسمية – العدد 5 مكرر (أ) في 4 فبراير 2003.
7 القانون رقم 151 لسنة 2020 – الجريدة الرسمية – العدد 28 مكرر (هـ) في 15 يوليو 2020.
8 قرار وزير العدل رقم 861 لسنة 2021، الوقائع المصرية، العدد 130، في 12 يونيه 2021.
9تنص المادة الأولي من القانون رقم 175 لسنة 2018 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات على أن “في تطبيق أحكام هذا القانون، يقصد بالكلمات والعبارات التالية المعنى المبين قرين كل منهما: … جهات الأمن القومي: رئاسة الجمهورية،ووزارة الدفاع، ووزارة الداخلية، والمخابرات العامة، وهيئة الرقابة الإدارية”.
10 تنص المادة 69 من قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003 على الآتي: “يجوز بقرار من وزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص تخويل العاملين الذين يحددهم الجهاز والقوات المسلحة وجهات الأمن القومي صفة مأموري الضبط القضائي بالنسبة للجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون وتكون متعلقة بأعمال وظائفهم”
11 قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1699 لسنة 2020، بإصدار اللائحة التنفيذية للقانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، الجريدة الرسمية، العدد 35 تابع (ج) في 27 أغسطس سنة 2020.
12 الطعن بالنقض رقم ١٣٥٣١ لسنة ٨٨ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ٢٠٢١/٠٣/١٤.
13 الطعن بالنقض رقم ٢٣٧٧٤ لسنة ٨٨ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ٢٠٢١/٠٧/١٣.
14 الطعن بالنقض رقم ٨٥٢٨ لسنة ٨٨ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ٢٠١٩/٠٥/١٢، والطعن بالنقض رقم ٧٥٧٩ لسنة ٨٩ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ٢٠٢٠/١١/٠٧.
15 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 11 نوفمبر 2021، الدعوى رقم ٣١ لسنة ٤٢ قضائية دستورية.
16 تقرير صادر عن اللجنة المُشتركة من لجنة الاتصالات ومكتبي الشئون الدستورية والتشريعية والدفاع والأمن القومي، بتاريخ مايو 2018.
17 الطعن بالنقض رقم ٩٧٥٥ لسنة ٨١ ق – الدوائر المدنية – جلسة ٢٠١٨/١٠/١٣.
18 الطعن بالنقض رقم ٤٣٦٥ لسنة ٧٠ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ٢٠٠٨/٠٧/١٩.
19 الطعن بالنقض رقم ١٦٣٢٩ لسنة ٨٩ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ٢٠٢٠/١١/١٤.
20 حكم المحكمة الدستورية العليا – الدعويين 114 و 115 لسنة 24 ق دستورية – جلسة 2/11/2003.
21 أ. محمد كمال عبد العزيز – التقنين المدني في ضوء القضاء والفقه – مصادر الالتزام، ط3، 2003، ص 193 وما بعدها.
22 المرجع السابق، ص 208.
23 الطعن بالنقض رقم ١١٥٠٥ لسنة ٨٨ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ٢٠١٩/١١/٠٢، والطعن رقم ١٠٠٠٤ لسنة ٨٥ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ٢٠١٦/٠٥/١٩، والطعن رقم ١٦٢٧ لسنة ٤١ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ١٩٧٢/٠٣/٠٦.
24 الطعن بالنقض رقم ١٠٦٢ لسنة ٥٨ ق – دوائر الإيجارات – جلسة ١٩٩٣/٠٦/٠٦.
25 تنص المادة (45) من القانون رقم 175 لسنة 2018 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات على أن “يُنشر هذا القانون فى الجريدة الرسمية، ويُعمل به من اليوم التالى لتاريخ نشره. يُبصم هذا القانون بخاتم الدولة، ويُنفذ كقانون من قوانينها. صدر برئاسة الجمهورية فى ٣ ذى الحجة سنة ١٤٣٩هـ (الموافق ١٤ أغسطس سنة ٢٠١٨م).
26 د. أحمد فتحي سرور – الحماية الدستورية للحقوق والحريات – دار الشروق – ط2 – 2000 – ص 789 ما بعدها.
27 د. أحمد فتحي سرور – الوسيط في الإجراءات الجنائية – الكتاب الأول – دار النهضة العربية – ط 10 مطورة – 2016 – ص 636.
28 د. أحمد فتحي سرور – الحماية الدستورية للحقوق والحريات – دار الشروق – ط2 – 2000 – ص 453 ما بعدها.