مذكرة دفع بعدم دستورية جريمة نشر أخبار كاذبة في الخارج (المادة 80د من قانون العقوبات)

مقدمة

تُعاقب المادة (80د) من قانون العقوبات على جريمة ”إذاعة أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية للبلاد في الخارج.” تتمثل أهمية هذه المادة في خطورة العقوبة المقررة لمرتكبها في حال توافر ظروفها المشددة. نصت المادة على أربعة ظروف مشددة تختلف فيهم العقوبة حسب توافر أي منهم، وتتراوح مابين السجن والإعدام.

توسعت مؤخرًا جهات التحقيق في تفسير نص المادة (80د) فاعتبرت أن النشر عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الصحفية وغيرها من منصات النشر الرقمية هو صورة من صور النشر في الخارج. يجعل ذلك من أي شخص ينشر محتوى على هذه المنصات عرضة للمساءلة القانونية بموجب هذه المادة، حتى وإن كان النشر من داخل البلاد، وهو ما يشكل تهديدًا لحرية الرأي والتعبير.

تتناول هذه المذكرة شبهة عدم دستورية المادة (80د) من قانون العقوبات، حيث يوجد وجهين رئيسين لشبهة عدم الدستورية وهم كالتالي:

  • مخالفة دستور 1956: صدرت المادة بناءً على قرار بقانون صدر بالمخالفة للإجراءات الدستورية، ولم يتم عرضه على مجلس الأمة للموافقة عليه كما يقتضي الدستور. يعني هذا أن المادة فقدت قوتها القانونية بأثر رجعي.
  • مخالفة دستور 2014: لم يتم تعديل المادة لتلتزم مع دستور 2014، الذي يمنع توقيع عقوبات سالبة للحرية في جرائم النشر. تُعتبر المادة غير دستورية لأنها تنص على عقوبة الحبس في جريمة ترتكب بطريق النشر.

في ذات السياق، نشرت مسار ورقة بعنوان “التطور التاريخي والتشريعي لنصوص تجريم نشر الأخبار الكاذبة في الخارج.” ترصد الورقة التطور التاريخي للجريمة في محاولة لفهم التوسع في تفسيرها دون داعي وغياب تعريف دقيق لها. كما توضح الورقة المبررات التي دفعت المشرع إلى إصدار المادة بالإضافة إلى خطورة عقوبتها في ظروفها المشددة.


محكمة ………

الدائرة ………

مذكرة في شأن

الدفع بعدم دستورية نص المادة رقم (80د)

من قانون العقوبات

مقدمة من:

السيد/ ……………… (متهم)

ضد

النيابة العامة (سلطة اتهام)

في الدعوى رقم …………… لسنة ………، المحدد لنظرها جلسة ………… الموافق …………


وقائع الدعوى

أحالت النيابة العامة المتهم للمحاكمة في الدعوى الماثلة، بعد أن وجهت إليه الاتهام – على حد زعمها – بارتكاب جريمة ……………، وطلبت معاقبته بالمادة (80د) من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937، وتحدد لنظر الدعوى جلسة اليوم أمام المحكمة الموقرة.

الدفاع

مع تمسك الدفاع الحاضر بأصل البراءة المفترض في المتهم الماثل، ومع تمسكه بكافة دفوعه وأوجه دفاعه الشكلية والإجرائية والموضوعية، فإنه يلتمس من المحكمة الموقرة؛ وقف الدعوى تعليقياً، وإحالة أوراقها إلى المحكمة الدستورية العليا، أو التصريح للدفاع بإقامة دعوى أمام المحكمة الدستورية للفصل في مسألة مدى دستورية نص المادة رقم (80د) من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937 لمخالفته نص المادة (135) من دستور 1956، ونصوص المواد رقم (4 و51 و54 و59 و62 و65 و67 و71 و92 و94 و95 و96) من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية، وذلك على النحو الآتي:

من الناحية الشكلية:

أولاً: السند القانوني للدفع بعدم دستورية النص القانوني

تنص المادة ١٩٢ من دستور جمهورية مصر العربية الساري على أن “تتولى المحكمة الدستورية العليا دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين، واللوائح، وتفسير النصوص التشريعية، والفصل فى المنازعات المتعلقة بشئون أعضائها، وفى تنازع الاختصاص بين جهات القضاء، والهيئات ذات الاختصاص القضائي، والفصل فى النزاع الذى يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين صادر أحدهما من أية جهة من جهات القضاء، أو هيئة ذات اختصاص قضائي، والآخر من جهة أخرى منها، والمنازعات المتعلقة بتنفيذ أحكامها، والقرارات الصادرة منها. ويعين القانون الاختصاصات الأخرى للمحكمة، وينظم الإجراءات التى تتبع أمامها”

وتنص المادة الثامنة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “لكلِّ شخص حقُّ اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصَّة لإنصافه الفعلي من أيَّة أعمال تَنتهك الحقوقَ الأساسيةَ التي يمنحها إيَّاه الدستورُ أو القانونُ”.

وكذلك المادة الرابعة عشر من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في فقرتها الأولى على أن “الناس جميعا سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون…”

وتطبيقاً لذلك؛ نصت المادة 29 من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٧٩ بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا – وفقاً لآخر تعديل صادر في ١٥ أغسطس عام ٢٠٢١ – على أن “تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح على الوجه التالى: (أ) إذا تراءى لإحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائى أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص فى قانون أو لائحة لازم للفصل فى النزاع، أوقفت الدعوى وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى المسألة الدستورية. (ب) إذا دفع احد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائى بعدم دستورية نص فى قانون أو لائحة ورأت المحكمة أو الهيئة أن الدفع جدى أجلت نظر الدعوى وحددت لمن أثار الدفع ميعادا لا يجاوز ثلاثة أشهر لرفع الدعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية العليا، فإذا لم ترفع الدعوى فى الميعاد اعتبر الدفع كأن لم يكن” كما تنص المادة ٣٠ – من ذات القانون – على أنه “يجب أن يتضمن القرار الصادر بالاحالة إلى المحكمة الدستورية العليا أو صحيفة الدعوى المرفوعة اليها وفقا لحكم المادة السابقة بيان النص التشريعي المطعون بعدم دستوريته والنص الدستوري المدعى بمخالفته وأوجه المخالفة”.

وحيث أن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الرقابة على دستورية القوانين واللوائح من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلًا صون هذا الدستور وحمايته من الخروج على أحكامه، لكون نصوصه تمثل القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها، ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة.(1) ومن المقرر أيضاً – في قضاءها – أن المصلحة الشخصية المباشرة، وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية، مناطها أن يكون الحكم فى المسألة الدستورية لازمًا للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع.(2)

ثانياً: النص القانوني محل الطعن بعدم الدستورية

يطعن الدفاع الحاضر مع المتهم بعدم دستورية نص المادة رقم (80د) من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937؛ والتي تنص على الآتي:

ثالثاً: النصوص الدستورية موضوع المخالفة

قد خالف النص القانوني المطعون بعدم دستوريته كل من نص المادة (135) من دستور 1956، المنشور في 16 يناير 1956، الوقائع المصرية، العدد 5 مكرر غير اعتيادي، بدأ سريانه من تاريخ موافقة الشعب عليه في الاستفتاء الشعبي المؤرخ 23 يونيه 1956، والتي تنص على:

وخالف أيضاً نصوص المواد رقم (4 و51 و54 و59 و62 و65 و67 و71 و92 و94 و95 و96) من دستور جمهورية مصر العربية الساري – المنشور بالجريدة الرسمية – العدد ٣ مكرر (أ) في ١٨ يناير سنة ٢٠١٤، والمعدل بموجب قرار الهيئة العليا للانتخابات رقم 38 لسنة 2019 – المنشور بالجريدة الرسمية – العدد 16 مكرر (و) في 23 إبريل 2019، الآتي بيانهم:

  • المادة (4): “السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التى تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وذلك على الوجه المبين فى الدستور”.
  • المادة (51): “الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها”.
  • المادة (54): “الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق…”
  • المادة (59): “الحياة الآمنة حق لكل إنسان ، وتلتزم الدولة بتوفير الأمن، والطمأنينة لمواطنيها، ولكل مقيم على أراضيها”.
  • المادة (62): حرية التنقل، والإقامة، والهجرة مكفولة. ولا يجوز إبعاد أى مواطن عن إقليم الدولة، ولا منعه من العودة إليه. ولا يكون منعه من مغادرة إقليم الدولة، أو فرض الإقامة الجبرية عليه، أو حظر الإقامة فى جهة معينة عليه، إلا بأمر قضائى مسبب ولمدة محددة، وفى الأحوال المبينة في القانون”.
  • المادة (65): “حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر”.
  • المادة (67): “حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها…”
  • المادة (71): “يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز إستثناء فرض رقابة محددة عليها في زَمن الحرب أو التعبئة العامة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فيحدد عقوبتها القانون”.
  • المادة (92): “الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا إنتقاصًا. ولا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها”.
  • المادة (94): “سيادة القانون أساس الحكم في الدولة. وتخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء وحصانته وحيدته – ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات”.
  • المادة (95): “العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون”.
  • المادة (96): “المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه…”.

ولما كان ما تقدم؛ وحيث أن المحكمة الدستورية هي المختصة بالفصل في الطعن بعدم دستورية النص القانوني – محل الطعن – وقد تحققت المصلحة الشخصية المباشرة للمتهم في هذه الدعوى، وحيث أن الفصل في عدم دستورية هذا النص القانوني، له أثر مباشر على موقفه من الاتهام المسند إليه في الدعوى، وعلى طبيعة العقوبة الجنائية التي عسى أن يحكم عليه بها، وعلى حديها الأدنى والأقصى، إن ثبت للمحكمة الموقرة صحة ما أسند إليه من اتهامات، ورأت أن تقضي بإدانته؛ من ثم يكون الدفع بعدم دستورية نص المادة رقم (80د) من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937 من قانون العقوبات مقبول من ناحية الشكل.

ومن الناحية الموضوعية:

نوجز أوجه الدفع بعدم دستورية النص المطعون عليه في الآتي:

الوجه الأول: عدم دستورية نص المادة لمخالفة قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 112 لسنة 1957 للإجراءات والضوابط الشكلية والإجرائية الدستورية، لعدم توافر حالة الضرورة التي تجيز لرئيس الجمهورية إصدار هذا القرار بقانون، ولعدم عرضه على مجلس الأمة في أول انعقاد له لإقراره، ذلك بالمخالفة لأحكام المادة 135 من دستور 1956 (الدستور الساري آنذاك)

  • أولاً: سياق إصدار رئيس الجمهورية للقرار بقانون رقم 112 لسنة 1957.
  • ثانياً: القواعد الدستورية الحاكمة لسلطة إصدار رئيس الجمهورية قرارات لها قوة القانون.
  • ثالثاً: أثر مخالفة الضوابط الشكلية والإجرائية الدستورية على النص المطعون فيه.

الوجه الثاني: عدم دستورية نص المادة فيما تضمنته فقرتها الأولى من توقيع عقوبة الحبس كإحدى العقوبات السالبة للحرية لمخالفتها مبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية على الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية.

  • أولاً: طبيعة العقوبة المقررة قانوناً للجريمة.
  • ثانياً: أثر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جريمة إذاعة أخبار كاذبة في الخارج.
  • ثالثاً: الأساس الدستوري والقانوني لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية.
  • رابعاً: تطبيقات تشريعية تؤكد صحة الدفع بعدم دستورية النص المطعون فيه، وتعكس التزام المشرع مؤخراً بمبدأ حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية.
  • خامساً أثر مخالفة النص المطعون عليه لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية.

الوجه الأول: عدم دستورية نص المادة لمخالفة قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 112 لسنة 1957 للإجراءات والضوابط الشكلية والإجرائية الدستورية، لعدم توافر حالة الضرورة التي تجيز لرئيس الجمهورية إصدار هذا القرار بقانون، ولعدم عرضه على مجلس الأمة في أول انعقاد له لإقراره، ذلك بالمخالفة لأحكام المادة 135 من دستور 1956 (الدستور الساري آنذاك)

جاء النص المطعون في بعدم دستوريته مشوباً بعدم الدستورية ومخالفاً لأحكام المادة 135 من دستور 1956، لكون القرار بقانون الذي صدر بموجبه هذا النص قد صدر بالمخالفة للإجراءات والضوابط الشكلية والإجرائية الدستورية اللازمة لإصداره، وذلك على النحو الآتي:

أولاً: سياق إصدار قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 112 لسنة 1957

بعد إقرار دستور 1956 وإعلان الجمهورية المصرية،3 مُنح رئيس الجمهورية سلطة استثنائية، ليحل محل السلطة التشريعية ويجمع بينها وبين سلطته التنفيذية، فأُجيز له – في حالة الضرورة – إصدار قرارات لها قوة القانون في حالتين نص عليهما هذا الدستور؛ الأولى في حالة عدم انعقاد مجلس الأمة، سواء كان ذلك بين أدوار انعقاده أو في فترة حله، وهي التي نظمتها وحددت ضوابطها المادة 135 من هذا الدستور التي نصت على أنه “إذا حدث فيما بين أدوار انعقاد مجلس الامة أو في فترة حله ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، جاز لرئيس الجمهورية أن يصدر في شأنها قرارات تكون لها قوة القانون. ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الأمة خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ صدورها، إذا كان المجلس قائماً، وفي أول اجتماع له في حالة الحل. فإذا لم تعرض، زال، بأثر رجعي، ما كان لها من قوة القانون بغير حاجة إلى إصدار قرار بذلك. أما إذا عرضت ولم يقرها المجلس زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون، إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها في الفترة السابقة أو تسوية ما ترتب على آثارها بوجه آخر” والحالة الثانية في حاجة انعقاد مجلس الأمة، وهي بموجب تفويض تشريعي يصدره المجلس لرئيس الجمهورية ليتسنى للأخير الجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، والتي نظمتها وحددت ضوابطها المادة 136 من هذا الدستور التي نصت على أن “لرئيس الجمهورية في الأحوال الاستثنائية، بناء على تفويض من مجلس الأمة، أن يصدر قرارات لها قوة القانون. ويجب أن يكون التفويض لمدة محدودة وأن يعين موضوعات هذه القرارات والأسس التي تقوم عليها”.

وحيث قرر رئيس الجمهورية استعمال تلك السلطات الاستثنائية التي خولها إليه هذا الدستور وفقاً للحالة الأولى المشار إليها، في غير حالة الضرورة، التي – متى توافرت – توجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير فتجيز له إصدار قرارات بقانون تكون لها قوة القانون باعتبارها أحد مظاهر تلك التدابير العاجلة واللازمة التي لا تحتمل تأخير لمواجهة حالة الضرورة؛ فقبل دعوة مجلس الأمة للانعقاد – بدء من 22 يوليو 1957 – بحوالي شهرين فقط،4 أصدر رئيس الجمهورية قراراً بقانون لتعديل قانون العقوبات في 19 مايو 1957،5 والذي تضمن استبدال جميع نصوص الباب الأول من الكتاب الثاني الخاص بالجرائم المضرة بأمن الحكومة من جهة الخارج، وتعديل بعض نصوص بابه الثاني الخاص بالجرائم المضرة بأمن الحكومة من جهة الداخل.

وقد نتج عن ذلك استحداث المادة (80د) – المطعون في نصها – من قانون العقوبات، كإحدى الجرائم المضرة بأمن الحكومة من جهة الخارج، فجاء نصها “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن 100 جنيه ولا تجاوز 500 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل مصري أذاع عمداً في الخارج أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة حول الأوضاع الداخلية للبلاد وكان من شأن ذلك إضعاف الثقة المالية بالدولة أو هيبتها واعتبارها أو باشر بأية طريقة كانت نشاطاً من شأنه الإضرار بالمصالح القومية للبلاد. وتكون العقوبة السجن إذا وقعت الجريمة فى زمن حرب”.

وأشارت المذكرة الإيضاحية لهذا القرار بقانون إلى أن هذه “مادة جديدة تعاقب كل مصري يذيع عمدا في الخارج أخبارا أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة حول الأوضاع الداخلية في البلاد إذا كان من شأن ذلك إضعاف الثقة المالية بالدولة أو هيبتها واعتبارها أو باشر أي نشاط يترتب عليه الإضرار بالمصالح القومية وقد رؤى العقاب على هذا الفعل لما قد ينشأ عنه من نتائج سيئة تصيب سمعة الدولة في المحيط الخارجي فضلا عن دلالته على مروق المواطن من واجبات الولاء للوطن وقد اقتبس هذا النص من المادة 269 من قانون العقوبات الإيطالي وهي تعاقب على الجريمة في جميع الأحوال بالسجن وإنما رؤى في النص المقترح النزول بالعقوبة إلى حد يتناسب مع العقوبات المقررة للجرائم الشبيهة بها في القانون المصري”

ثانياً: القواعد الدستورية الحاكمة لسلطة إصدار رئيس الجمهورية قرارات لها قوة القانون

استناداً لاستعمال رئيس الجمهورية لسلطته الاستثنائية في إصدار القرار بالقانون رقم 112 لسنة 1957 قبل دعوة مجلس الأمة للانعقاد، فيقتصر الأمر – في هذا الشأن – على الحالة الأولى المنصوص عليها في المادة 135 من دستور 1956، التي تنظم ضوابط وإجراءات سلطة رئيس الجمهورية في إصدار قرارات لها قوة القانون، كاستثناء من الأصل العام، وذلك متى توافر شرطين، اعتبرهما ضابطاً شكليا وإجرائيا لمنح هذه القرارت الإدارية الاستثنائية قوة القانون، ذلك على النحو الآتي:

الشرط الأول: توافر حالة الضرورة

تعد حالة الضرورة شرط لازم توافره لمباشرة رئيس الجمهورية لهذا الاختصاص الاستثنائي، وهي تلك الحالة التي توجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، ويستوى أن تكون هذه المخاطر من طبيعة مادية أو أن يكون قيامها مستنداً إلى ضرورة تدخل الدولة بتنظيم تشريعي يكون لازماً لمواجهة التزاماتها الدولية التي حل ميعاد إيفائها قبل انعقاد السلطة التشريعية؛ فتجيز له تلك الحالة إصدار قرارات تكون لها قوة القانون، باعتبارها أحد مظاهر تلك التدابير العاجلة واللازمة التي لا تحتمل تأخير لمواجهة حالة الضرورة، وباعتبار أن توافر هذه الحالة هو مناط هذه الرخصة الاستثنائية التي يتطلبها الدستور لتمكينه من ممارسة ذلك الاختصاص التشريعى الاستثنائى، بالقدر الذي يكون متناسباً مع متطلبات حالة الضرورة، وبوصف ما يقوم به من إجراءات وما يصدره من قرارات لها قوة القانون هي محض تدابير من طبيعة إستثنائية.

وما تقدم هو ذات ما استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا في تعريفها لحالة الضرورة، فقررت في قضاءها أن “سن القوانين هو مما تختص به السلطة التشريعية تباشره وفقاً للدستور فى إطار وظيفتها الأصلية، وكان الأصل هى أن تتولى السلطة التشريعية بنفسها مباشرة هذه الوظيفة التى أسندها الدستور لها و أقامها عليها، إلا أن الدساتير المصرية جميعها، و من بينها دستور سنة 1923، كان عليها أن توازن ما يقتضيه الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من تولى كل منها لوظائفها فى المجال المحدد لها أصلاً، بضرورة المحافظة على كيان الدولة وإقرار النظام في ربوعها إزاء ما قد تواجهه – فيما بين أدوار انعقاد السلطة التشريعية أو حال غيابها – من مخاطر تلوح نذرها أو تشخص الأضرار التى تواكبها، يستوى فى ذلك أن تكون هذه المخاطر من طبيعة مادية أو أن يكون قيامها مستنداً إلى ضرورة تدخل الدولة بتنظيم تشريعي يكون لازماً لمواجهة التزاماتها الدولية التي حل ميعاد إيفائها قبل انعقاد السلطة التشريعية، ولقد كان النهج الذي التزمته هذه الدساتير على اختلافها – وعلى ضوء موجبات هذه الموازنة – هو تخويلها السلطة التنفيذية الاختصاص باتخاذ التدابير العاجلة اللازمة لمواجهة أوضاع استثنائية سواء بالنظر إلى طبيعتها أو مداها”.6

وقد قررت أيضاً في هذا السياق أن “الدساتير المصرية المتعاقبة بدءاً بدستور سنة 1923 وانتهاء بالدستور القائم، تفصح جميعها عن اعتناقها لنظرية الضرورة و تضمينها لأحكامها فى صلبها ، تمكيناً للسلطة التنفيذية – فيما بين أدوار انعقاد السلطة التشريعية أو حال غيبتها – من مواجهة أوضاع قاهرة أو ملحة تطرأ خلال هذه الفترة الزمنية وتلجئها إلى الإسراع فى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير فى شأنها، ومن ثم يكون تدخلها بهذه التدابير، وتطبيقها لها، مبرراً بحالة الضرورة، ومستنداً إليها، وبالقدر الذي يكون متناسباً مع متطلباتها، وبوصفها تدابير من طبيعة إستثنائية وإذ كان الدستور قد حدد لكل سلطة عامة وظائفها الأصلية وما تباشره من أعمال أخرى لا تدخل فى نطاقها بل تعد إستثناء يرد على أصل إنحسار نشاطها فى المجال الذى يتفق مع طبيعة وظائفها، وكان الدستور قد حصر هذه الأعمال الإستثنائية، وبين بصورة تفصيلية قواعد ممارستها، تعين على كل سلطة فى مباشرتها لها أن تلتزم حدودها الضيقة وأن تردها إلى ضوابطها الدقيقة التى عينها الدستور ، و إلا وقع عملها مخالفا لأحكامه”.7

وفي شأن الاختصاص الأصيل بتقدير مدى توافر حالة الضرورة – باعتبارها الرخصة التي تجيز لرئيس الجمهورية سلطة استثنائية مناطها منحه سلطة إصداره لقرارات لها قوة القانون لمواجهة تلك الحالة – قررت المحكمة الدستورية العليا واستقر قضاءها على أنها تستأثر دون غيرها بالرقابة على مدى توافر تلك الرخصة الاستثنائية منه عدمه، فقد قررت في قضاءها أن “حالة الضرورة التي اعتبر الدستور قيامها من الشرائط التى تطلبها لمزاولة هذا الاختصاص الاستثنائي، ذلك أن الاختصاص المخول للسلطة التنفيذية فى هذا النطاق لا يعدو أن يكون استثناء من أصل قيام السلطة التشريعية على مهمتها الأصلية فى المجال التشريعى. إذا كان ذلك، وكانت التدابير العاجلة التي تتخذها السلطة التنفيذية لمواجهة حالة الضرورة نابعة من متطلباتها، فإن انفكاكها عنها يوقعها فى حومة المخالفة الدستورية، ذلك أن توافر حالة الضرورة – بضوابطها الموضوعية التى لا تستقل السلطة التنفيذية بتقديرها – هى علة اختصاصها بمواجهة الأوضاع الطارئة والضاغطة بتلك التدابير العاجلة، بل هى مناط مباشرتها لهذا الإختصاص، و إليها تمتد الرقابة الدستورية التى تباشرها هذه المحكمة للتحقق من قيامها فى الحدود التى رسمها الدستور لها، ولضمان ألا تتحول هذه الرخصة التشريعية – وهى من طبيعة استثنائية – إلى سلطة تشريعية كاملة و مطلقة لا قيد عليها ولا عاصم من جموحها أو انحرافها”.8

وقد قررت أيضاً في هذا الصدد أن “الدستور وأن جعل لرئيس الجمهورية اختصاصا في إصدار قرارات تكون لها قوة القانون في غيبة مجلس الشعب، إلا أنه رسم لهذا الاختصاص الاستثنائي حدودا ضيقة تفرضها طبيعته الاستثنائية، منها ما يتعلق بشروط ممارسته ومنها ما يتصل بمآل ما قد يصدر من قرارات استنادا إليه. فأوجب لإعمال رخصة التشريع الاستثنائية أن يكون مجلس الشعب غائبا وأن تتهيأ خلال هذه الغيبة ظروف تتوافر بها حالة تسوغ لرئيس الجمهورية سرعة مواجهتها بتدابير لا تحتمل التأخير إلى حين انعقاد مجلس الشعب باعتبار أن تلك الظروف هي مناط هذه الرخصة وعلة تقريرها. وإذ كان الدستور يتطلب هذين الشرطين لممارسة ذلك الاختصاص التشريعى الاستثنائى، فان رقابة المحكمة الدستورية العليا تمتد إليهما للتحقق من قيامهما، باعتبارهما من الضوابط المقررة في الدستور لممارسة ما نص عليه من سلطات، شأنهما في ذلك شأن الشروط الأخرى التي حددتها المادة 147 ومن بينها ضرورة عرض القرارات الصادرة استنادا إليها على مجلس الشعب للنظر في اقرارها أو علاج آثارها”.9

الشرط الثاني: عرض القرارات التي لها قوة القانون على مجلس الأمة

أوجب الدستور عرض القرارات التي لها القوة القانون التي يصدرها رئيس الجمهورية – بصورة استثنائية استناداً لتوافر حالة الضرورة – على مجلس الأمة خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ صدورها، إذا كان المجلس قائماً، وإذا كان المجلس منحلاً فتعرض عليه في أول اجتماع له، وفي سياق هذا الوجوب افترض الدستور ثلاثة احتمالات، على النحو الآتي:

  • الاحتمال الأول: عدم عرضها على المجلس في أي من الحالتين؛ فرتب جزاءً على ذلك، وهو زوال ما لتلك القرارات من قوة القانون بأثر رجعي، فتصير والعدم سواء بقوة الدستور ذاته في مواجهة الجميع، دون حاجة إلى إصدار قرار بذلك من أي سلطة أو جهة في الدولة.
  • الاحتمال ثاني: عرضها على المجلس وإقرارها؛ ومن ثم تصبح لها قوة القانون من تاريخ سريانها.
  • الاحتمال الثالث: عرضها على مجلس الأمة دون أي يقرها المجلس، فيزول ما لها من قوة القانون بأثر رجعي، إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها في الفترة السابقة أو تسوية ما ترتب على آثارها بوجه آخر.

وحيث أن هذا الدستور قد نُشر في الوقائع المصرية (العدد 5 مكرر غير اعتيادي) بتاريخ 16 يناير سنة 1956، وقد نصت المادة 193 منه على أن “يجرى الاستفتاء على هذا الدستور يوم السبت الثالث والعشرين من شهر يونيه سنة 1956” كما نصت المادة 196 منه على أن “يُعمل بهذا الدستور من تاريخ موافقة الشعب عليه في الاستفتاء”.

ولما كان الثابت أن مجلس الأمة لم يكن قد انعقد منذ موافقة الشعب على هذا الدستور في الاستفتاء الشعبي المؤرخ 23 يونيه 1956، وسريانه، وأن دعوته للانعقاد لأول مرة لافتتاح الدور الأول للفصل التشريعي الأول، وفقاً لأحكام هذا الدستور، كانت ابتداءاً من 22 يوليو سنة 1957 الساعة التاسعة صباحاً، بموجب قرار رئيس الجمهورية بدعوى الانعقاد الصادر في 15 يوليو 1957، والمنشور في الوقائع المصرية(العدد 54 مكرر ب) بتاريخ 16 يوليو 1957.

وأن قرار رئيس الجمهورية بالقرار بقانون رقم 112 لسنة 1957 “بتعديل أحكام الباب الأول من الكتاب الثاني وبعض أحكام في الأبواب الثاني والثالث والخامس والرابع عشر والسادس عشر من الكتاب الثاني وفي البابين السادس والسابع من الكتاب الثالث من قانون العقوبات” – المتضمن نص المادة (80د) المطعون فيه – قد صدر في في 19 مايو 1957، ونشر في الجريدة الرسمية في ذات التاريخ، أي قبل الدعوة الأولى لمجلس الأمة للانعقاد بما يزيد عن شهرين.10

وأن المذكرة الإيضاحية لهذا القرار بقانون جاءت تبرر الحالة إلى إصداره بأنه “يحوي البابان الأول والثاني من الكتاب الثاني من قانون العقوبات الجرائم المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج ومن جهة الداخل، وتتميز هذه الجرائم بأنها بطبعها لا تقع على فرد أو أفراد بعينهم وإنما تصيب الجرائم جميع من يقيم على أرضها، ولذلك انصرفت عناية الشرائع المختلفة إلى فرض عقوبات خاصة بها لتكفل كيان الدولة وسلامتها ولتقي الأمن في ربوعها وتحمي أنظمتها وسلطانها. ولما كان هذا شأن الجرائم المذكورة فإن الضرورة تعمل على تطور التشريع فيها تبعا لما يعرض للدولة في نواحي النشاط المختلفة أو يتناول علاقاتها بغيرها من الدول أو يختلف عليها من نظم الحكم. وهذا فضلا عن أن الحروب في العصر الحديث قد اتخذت صورا وأساليب لا عهد للماضي بها وكشف ذلك التطور عن أنواع من الأفعال الإجرامية لم تكن معروفة من ذي قبل مما يوجب على الدولة أن تعمل على توقيها ودفعها عن نفسها. وقد اضطر كثير من دول أوروبا إلى تعديل تشريعاتها الجنائية في الجرائم المشار إليها لتواجه الأخطار التي أحدقت بها في الحرب العالمية الأخيرة ولتلائم الآثار التي تخلفت عنها، وفي مصر صدر القانون رقم 40 لسنة 1940 باستبدال أحكام جديدة بالباب الأول كما صدرت بضعة تعديلات في الباب الثاني لمعالجة وجوه النقص التي أسفر عنها تطبيق أحكامها في ظروف مختلفة. ومع ذلك فقد ظل الشعور قويا بأن أحكام قانون العقوبات المصري عامة يشوبها التخلف عن مسايرة التطور في أحوال البلاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فشكلت لجنة لوضع مشروع كامل لذلك القانون يلائم ما أصابته البلاد من تطور وانطوى القسم الذي أنجزته اللجنة على مشروع حديث للجرائم المنصوص عليها في البابين الأول والثاني من القانون المذكور. ولما كانت البلاد في وثبتها الأخيرة قد حققت استقلالها كاملا ودعمت شخصيتها في المجال الدولي وأرست نظامها الدستوري كدولة جمهورية ديمقراطية بذلك وضحت الضرورة للحفاظ على هذه الأوضاع التي بلغتها الدولة ضد أي خطر قد يأتيها من ناحية الخارج أو يتألب عليها من ناحية الداخل. كما اقتضى الحال مراجعة الأحكام الأخرى المسنونة لحماية النظام الدستوري السابق وتكييفها تكييفا يصون الوضع الدستوري الجديد على أن إعادة النظر في الباب الأول الخاص بالجرائم المضرة بأمن الدولة من ناحية الخارج قد أوحى باستبدال جميع أحكامه بغيرها أما الباب الثاني الخاص بالجرائم المضرة بأمن الدولة من ناحية الداخل فلم توجد حاجة إلا لتعديل بعض الأحكام فيه”.

ولما كان الثابت أن الأسباب سالفة البيان حاصلها مجرد الرغبة في تعديل بعض أحكام قانون العقوبات بعد أن طال الأمد على العمل بها رغم ما استجد من تغييرات في نواحي المجتمع، وهي في حقيقتها دعوى لسلطة التشريع الأصلية – مجلس الأمة – إلى سن قواعد قانونية جديدة أو استكمال ما يشوب قانون العقوبات القائم من قصور تحقيقاً لإصلاح مرتجى، إلا أنها خلت من توافر حالة الضرورة، ولم تطرح ما يفيد أنه قد طرأ وتحقق يقيناً قبل دعوة مجلس الأمة للانعقاد ظرف معين يمكن أن تتوافر معه تلك الحالة، التي تحل بها رخصة التشريع الاستثنائية التي خولها الدستور لرئيس الجمهورية. من ثم يترتب على مخالفة هذا الإجراء الدستوري الشكلي الوجوبي، المتمثل في إصدار رئيس الجمهورية لقرار له قوة القانون دون توافر حالة الضرورة، صيرورة هذا القرار مشوباً بمخالفة الدستور، وخاضعاً لرقابة المحكمة الدستورية في بحث مدى توافر حالة الضرورة من عدمه باعتبارها المختصة دون غيرها بالتحقق من استيفاء النصوص القانونية للضوابط والقواعد التي أقرها الدستور.

وهذا يصادف ويتفق مع ما أقرته المحكمة الدستورية واستقر عليه قضاءها في حالة مماثلة، حينما قضت بعدم دستورية القرار بقانون رقم 44 لسنة 1979 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية، وجاء في حيثيات قضاءها أن “حيث إنه يبين من الأعمال التحضيرية للقرار بقانون رقم 44 لسنة 1979 المطعون عليه أن الأسباب التي استندت إليها الحكومة في التعجيل باصداره في غيبة مجلس الشعب، تتمثل فيما أوردته مذكرته الايضاحية من ‘أن القانونين رقم 25 لسنة 1920 ورقم 25 لسنة 1929 الخاصين ببعض أحكام الأحوال الشخصية قد مضى على صدورهما قرابة خمسين عاما طرأ فيها على المجتمع كثير من التغيير المادي والأدبي التي انعكست آثارها على العلاقات الاجتماعية الأمر الذي حمل القضاء عبئاً كبيرا في تخريج أحكام الحوادث التي تعرض عليهم، وقد كشف ذلك عن قصور في بعض أحكام القوانين القائمة مما دعا إلى البحث عن أحكام الأحوال التي استجدت في حياة المجتمع المصري وذلك في نطاق نصوص الشريعة دون مصادرة أى حق مقرر بدليل قطعى لاى فرد من أفراد الاسرة بل الهدف من المشروع هو تنظيم استعمال بعض هذه الحقوق،’

كما أنه عند عرض القرار بقانون (محل الطعن) على مجلس الشعب للنظر في إقراره، أفصح وزير الدولة لشئون مجلس الشعب عن ماهية الضرورة التي دعت إلى إصداره بقوله “ولا شك أن الضرورة تحتم استصدار قانون لتعديل الأحوال الشخصية (…) وقد طال الأمد على استصدار هذه القوانين، وطول الأمد واستطالة المدة هي حالة الضرورة، بل هي حالة الخطورة فالاسرة المصرية تنتظر هذا الاصلاح منذ عام 1905، واللجان تنعقد وتتعثر أعمالها ولكن دون جدوى ولائحة ترتيب المحاكم الشرعية، والقانونان اللذان يحكمان مجال الأسرة رقم (25) لسنة 1920، ورقم (25) لسنة 1929 كلاهما يحتاج إلى تعديل منذ صدورهما، أي منذ عامى 1920 و1929. أليس في هذا كله مدعاة لضرورة يقدرها ولى الأمر ليصدر قرارا ثوريا بإصلاح الأسرة؛ لو ترك الأمر لاقتراح قرار بقانون أو لمشروع بقانون وثارت حوله المناقشات وظل شهورا وسنين فأين هي الحاجة التي تدعو إلى تحقيق إصلاح الأسرة بقرار ثورى مثل القرار بقانون المعروض.

لما كان ذلك، وكانت الأسباب سالفة البيان، وحاصلها مجرد الرغبة في تعديل قوانين الأحوال الشخصية بعد أن طال الأمد على العمل بها رغم ما استجد من تغييرات في نواحي المجتمع وإن جاز أن تندرج في مجال البواعث والأهداف التي تدعو سلطة التشريع الاصلية إلى سن قواعد قانونية جديدة أو استكمال ما يشوب التشريعات القائمة من قصور تحقيقا لاصلاح مرتجى إلا انه لا تتحقق بها الضوابط المقررة في الفقرة الأولى من المادة 147 من الدستور، ذلك أن تلك الأسباب- تفيد أنه لم يطرأ- خلال غيبة مجلس الشعب- ظرف معين يمكن أن تتوافر معه تلك الحالة التي تحل بها رخصة التشريع الاستثنائية التي خولها الدستور لرئيس الجمهورية بمقتضى المادة 147 المشار إليها ومن ثم فإن القرار بقانون رقم 44 لسنة 1979- إذ صدر استنادا إلى هذه المادة، وعلى خلاف الأوضاع المقررة فيها، يكون مشوبا بمخالفة الدستور.

وحيث إنه لا ينال مما تقدم ما أثارته الحكومة من أن تقدير الضرورة الداعية لإصدار القرارات بقوانين عملاً بالمادة 147 من الدستور متروك لرئيس الجمهورية تحت رقابة مجلس الشعب باعتبار ذلك من عناصر السياسة التشريعية التي لا تمتد إليها الرقابة الدستورية، ذلك أنه كان لرئيس الجمهورية سلطة التشريع الاستثنائية طبقا للمادة المشار إليها وفق ما تمليه المخاطر المترتبة على قيام ظروف طارئة تستوجب سرعة المواجهة وذلك تحت رقابة مجلس الشعب، إلا أن ذلك لا يعني إطلاق هذه السلطة في إصدار قرارات بقوانين دون التقيد بالحدود والضوابط التي نص عليها الدستور والتي سبق أن استظهرتها المحكمة ومن بينها اشتراط أن يطرأ- في غيبة مجلس الشعب – ظرف من شأنه توفر الحالة الداعية لاستعمال رخصة التشريع الاستثنائية وهو ما لم يكن له قائمة بالنسبة للقرار بقانون المطعون عليه الأمر الذي يحتم إخضاعه لما تتولاه هذه المحكمة من رقابة دستورية. وحيث إنه- من ناحية أخرى- فان اقرار مجلس الشعب للقرار بقانون المطعون عليه لا يترتب عليه سوى مجرد استمرار نفاذه بوصفه الذي نشأ عليه كقرار بقانون دون تطهيره من العوار الدستوري الذي لازم صدوره. كما أنه ليس من شأن هذا القرار في ذاته أن ينقلب به القرار بقانون المذكور إلى عمل تشريعى جديد يدخل في زمرة القوانين التي يتعين أن يتبع في كيفية اقتراحها والموافقة عليها وإصدارها القواعد والإجراءات التي حددها الدستور في هذا الصدد وإلا ترتب على مخالفتها عدم دستورية القانون. وحيث إنه لما كان ما تقدم، وكان القرار بقانون رقم 44 لسنة 1979 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية المطعون عليه قد استهدف بتنظيمه التشريعى المترابط موضوعا واحدا قصد به معالجة بعض مسائل الأحوال الشخصية المتعلقة بالاسرة على ما سلف بيانه، وكان العيب الدستوري الذي شابه قد عمه بتمامه لتخلف سند إصداره، فإنه يتعين الحكم بعدم دستوريته برمته. لهذه الأسباب حكمت المحكمة بعدم دستورية القرار بقانون رقم 44 لسنة 1979 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية”.11

ولما كان الثابت أيضاً – بالإضافة لانتفاء حالة الضرورة على النحو سالف البيان – أن هذا القرار بقانون لم يعرض على مجلس الأمة في جلسته الأولى المؤرخة 22 يوليو 1957، كما لم يقره المجلس أيضاً؛ من ثم يترتب على مخالفة هذا الإجراء الدستوري الشكلي الوجوبي، المتمثل في عدم عرض هذا القرار على مجلس الأمة في تلك الجلسة للنظر في إقراره من عدمه زوال ما لهذا القرار من قوة القانون بأثر رجعي، وتجريده من أي قيمة أو أثر قانوني في الماضي والحاضر والمستقبل، فيصبح هو والعدم سواء بقوة الدستور ذاته، وفي مواجهة جميع سلطات الدولة وشعبها، دون حاجة إلى إصدار أي قرار بذلك من أي سلطة أو جهة في الدولة.

على الرغم مما تقدم، فإن نص المادة (80د) – المطعون فيه – ما زال تطبيقه سارياً حتى الآن، وما زالت شبهة عدم الدستورية تلاحقه متى أُسند اتهام لأحد الأفراد بارتكاب الجريمة المنصوص عليها فيه، ذلك دون أن يستبدل المشرع نصاً به بموجب قانون وفقاً لأحكام أي دستور لاحق على دستور 1956. وعلى الرغم أيضاً من صدور القانون رقم 147 لسنة 2006 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات، فلم يصدر عن المشرع نصاً جديداً يستبدل هذا النص المشوب بعدم الدستورية، كما فعل في المادة الثالثة من هذا القانون، التي استبدل فيها المواد 176 و178 و178 مكرر و181 و302 من قانون العقوبات، إنما في المادة الخامسة من هذا القانون نص على أن “تحذف كل من العبارات الواردة في مواد قانون العقوبات المبينة قرينها: – عبارة “أو مغرضة” الواردة في المادة 80 (د)،”12

ومن ثم فلا مجال هنا للقول أن القانون 147 لسنة 2006 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات نسخ أحكام النص الصادر بالقانون 112 لسنة 1957؛ فإن المشرع لم يقر نصاً جديداً يستبدل به النص المطعون فيه، المشوب بعدم دستوريته على نحو يتفق مع قواعد دستور 1971 – الساري آنذاك – إنما اقتصر ما أقره وما أصدره فقط على حذف بعض العبارات – التي شابهها الغموض والإبهام في إدراك معانيها – من بعض مواد قانون العقوبات. ومن بين تلك العبارات عبارة ” أو مغرضة” الواردة في النص المطعون فيه وفي مواد أخرى كالمادة 102 مكرر من قانون العقوبات، وهو ما يجعل النص المطعون فيه – باستثناء تلك العبارة المحذوفة – قائماً بذاته منذ إصداره بالقانون 112 لسنة 1957، يخضع للفصل في مدى دستوريته للدستور الذي صدر وفقاً لأحكامه وهو دستور 1956، وتستمر شبه عدم الدستورية قائمة، تلاحقه دون أي انقطاع أو توقف أو انقضاء أو تقادم.

ثالثاً: أثر مخالفة الضوابط الشكلية والإجرائية الدستورية على النص المطعون فيه

إن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الأصل في الرقابة التي تباشرها هذه المحكمة على دستورية النصوص التشريعية أنها رقابة شاملة تتناول كافة المطاعن الموجهة إليها أيا كانت طبيعتها، وأنها بالتالي لا تقتصر على العيوب الموضوعية التي تقوم على مخالفة نص تشريعي للمضمون الموضوعي لقاعدة واردة في الدستور، وإنما تمتد هذه الرقابة إلى المطاعن الشكلية التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي للأوضاع الإجرائية التي تطلبها الدستور، سواء في ذلك ما كان منها متصلاً باقتراح النصوص التشريعية، أو إقرارها، أو إصدارها.13

ومن المقرر أيضاً أن التحقق من استيفاء النصوص القانونية لأوضاعها الشكلية يعد أمراً سابقا بالضرورة على الخوض في عيوبها الموضوعية، ذلك أن الأوضاع الشكلية للنصوص القانونية هي من مقوماتها، لا تقوم إلا بها ولا يكتمل بنيانها أصلاً في غيابها، وبالتالي تفقد بتخلفها وجودها كقاعدة قانونية تتوافر لها خاصية الإلزام، ولا كذلك عيوبها الموضوعية، إذ يفترض بحثها أن تكون هذه النصوص مستوفية لأوضاعها الشكلية، ذلك أن المطاعن الشكلية، وبالنظر إلى طبيعتها، لا يتصور أن يكون تحريها وقوفاً على حقيقتها تالياً للنظر في المطاعن الموضوعية، ولكنها تتقدمها، ويتعين على المحكمة الدستورية العليا أن تتقصاها من تلقاء نفسها بلوغاً لغاية الأمر فيها، ولو كان نطاق الطعن المعروض عليها مختصراً في المطاعن الموضوعية دون سواها، منصرفاً إليها وحدها.14 كما أن من المستقر عليه في قضاءها أيضاً أن “الأوضاع الشكلية للنصوص التشريعية المتصلة باقتراحها أو إقرارها أو إصدارها، إنما تتحدد على ضوء ما قررته في شأنها أحكام الدستور المعمول به حين صدورها.”15

ولما كان المتفق عليه فقهاً أن الشكلية في كل صورها وتطبيقاتها شرط لوجود النصوص القانونية. فإن لم تستوفيها هذه النصوص زال كيانها القانوني، ولم يعد لها بالتالي خصائص القواعد القانونية المجردة التي يجوز تطبيقها، وإنما تعامل كأوراق جفت منها دماء الحياة، فلا قيمة لها. ولا يجوز بعدئذ تنفيذها، ولو كان مضمونها يوافق الدستور من كل الوجوه. ذلك أن افتقار النصوص القانونية للأوضاع الشكلية التي يتطلبها الدستور فيها يعدمها منذ إقرارها، والعدم لا تدرج فيه، فهو نقيض الوجود.16 كما أن وجود النصوص القانونية ينهار بتخلف الشكلية التي يتطلبها الدستور فيها، ولا يجوز بالتالي في مجال تطبيق كافة الأشكال التي فرضها الدستور التمييز بين شكلية ثانوية يجوز إهمالها، وبين شكلية حتمية يكون طلبها لازماً لا مندوباً، ذلك أن الشكلية في الدستور واحدة في أهميتها وفي درجتها. ومن شأنها بطلان كل قانون يتجاهلها بأثر يلحقها منذ اللحظة التي أقرها البرلمان فيها.17

وقد استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن كل قاعدة قانونية لا تكتمل في شأنها الأوضاع الشكلية التي تطلبها الدستور فيها، كتلك المتعلقة باقتراحها وإقرارها وإصدارها وشروط نفاذها، إنما تفقد مقوماتها باعتبارها كذلك، فلا يستقيم بنيانها، وكان تطبيقها في شأن المشمولين بحكمها – مع افتقارها لقوالبها الشكلية – لا يلتئم ومفهوم الدولة القانونية التي لا يتصور وجودها ولا مشروعية مباشرتها لسلطاتها، بعيداً عن خضوعها للقانون وسموه عليها باعتباره قيداً على كل تصرفاتها وأعمالها.18

واستناداً لما تقدم يكون نص المادة (80د) المطعون فيه محل الاتهام المسند إلى المتهم، قد صدر وسرى بالمخالفة لأحكام المادة 135 من دستور 1956، دون استيفاء الإجراءات والضوابط الشكلية اللازمة لإصداره وفقاً لأحكام هذا الدستور، وما زال قائماً بذاته حتى أسندت النيابة العامة استناداً إليه الاتهام للمتهم على سند زعمها ارتكابه للجريمة المنصوص عليها في هذا النص، وهو ما يشكل مخالفة صريحة لمبدأ سيادة القانون، والفصل بين السلطات، ومبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، وكذلك أصل البراءة المفترض في المتهم، وجميعها مبادئ رسختها وأٌقرتها الدساتير المصرية المتعاقبة حتى الدستور الحالي، الذي أكد عليها في مواده 4 و 5 و94 و95 و96 و97، وهو ما يجعل النص المطعون عليه مشوباً بعدم الدستورية، بما يوجب عرضه على المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستوريته إعمالاً للسلطة المخولة لها وفقاً للدستور والقانون.


الوجه الثاني: عدم دستورية نص المادة فيما تضمنته فقرتها الأولى من توقيع عقوبة الحبس كإحدى العقوبات السالبة للحرية لمخالفتها مبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية على الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية

خالف النص القانوني المطعون عليه حظراً دستورياً يتمثل في عدم توقيع أي عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية، باعتبار السلوك الإجرامي المنصوص عليه في هذا النص من السلوك الذي لا يتصور ارتكابه إلا بطريق النشر أو العلانية، وهو في ذاته أحد طرق النشر والعلانية، وهذا الموقع الذي شابه الحظر هو العقوبة المقررة للجريمة المنصوص عليها في النص المطعون عليه، وذلك على النحو الآتي:

أولاً: طبيعة العقوبة المقررة قانوناً للجريمة

قرر المشرع في الفقرة الأولى من النص المطعون عليه عقوبتي الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على خمس سنوات، والغرامة التي لا تقل عن 100 جنيه ولا تجاوز 500 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كجزاء جنائي على ارتكاب جريمة إذاعة أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة فى الخارج حول الأوضاع الداخلية للبلاد. وقد سبق أن عرف المشرع عقوبة الحبس في المادة (18) من قانون العقوبات بأنها “وضع المحكوم عليه فى أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه ولا يجوز أن تنقص هذه المدة عن أربع وعشرين ساعة ولا أن تزيد على ثلاث سنين إلا فى الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً.19

وقد نظمت المواد من التاسعة عشر حتى الحادية والعشرون من ذات القانون تطبيق عقوبة الحبس باعتبارها أحد العقوبات السالبة لحرية المحكوم عليه، ومن ثم تكون عقوبة الحبس المنصوص عليها في النص المطعون عليه هي عقوبة شديدة في قسوتها، لدرجة تجعل قسوتها لا تختلف كثيراً عن عقوبة السجن، لكون حدها الأقصى استثناءً يتجاوز القاعدة العامة؛ فقد تصل مدتها إلى خمس سنوات، سواء كان حبساً بسيطاً أو مع الشغل، وذلك وفقاً للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع إذا قضت بالإدانة.

وإضافة إلى ذلك، أن المشرع قد نص في فقرتها الأخيرة على عقوبة السجن حال توافر الظرف المشدد للجريمة – المشار إليه في هذه الفقرة – وهي بالطبع عقوبة سالبة للحرية أشد قسوة من عقوبة الحبس؛ فحدها الأدنى لا يقل عن ثلاث سنوات، وحدها الأقصى قد يصل لخمسة عشر عاماً.20

ثانياً: أثر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جريمة إذاعة أخبار كاذبة في الخارج

لا يقتصر أثر توقيع النص المطعون عليه على مجرد عقوبة سالبة للحرية حال إدانة المتهم بحكم قضائي، بل يمتد إلى ما يجاوز احتمال ذلك؛ فيترتب عليه توافر أحد مبررات الحبس الاحتياطي لحبس المتهم بهذه الجريمة احتياطياً لحين الفصل في موضوع الدعوى، نظراً لكون العقوبة السالبة للحرية المقررة بموجب هذا النص قد تصل إلى الحبس مدة خمس سنوات، أو السجن خمسة عشر عاماً إن توافر ظرفها المشدد. حيث تنص المادة (134) من قانون الإجراءات الجنائية على أن “يجوز لقاضي التحقيق، بعد استجواب المتهم أو في حالة هربه، إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة معاقبًا عليها بالحبس لمدة لا تقل عن سنة، والدلائل عليها كافية، أن يصدر أمرًا بحبس المتهم احتياطيًا، وذلك إذا توافرت إحدى الحالات أو الدواعى الآتية:،”21

مما يترتب عليه إمكانية المساس بحرية المتهم الشخصية – كأحد حقوقه الدستورية – تعسفاً وتقييدها، وكذلك أيضاً المساس التعسفي بحقوقه الدستورية في التنقل، والإقامة، وذلك من خلال سلطة الحبس الاحتياطي المخولة قانوناً لجهة لسلطة التحقيق الابتدائي، ولمحكمة الموضوع، واحتمال تعرضه لسلب حريته الشخصية، وحريته في التنقل والإقامة، لمدة ربما تصل إلى خمسة عشر عاماً، إن قضي بإدانته بحكم نهائي.

ثالثاً: الأساس الدستوري والقانوني لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية

نص الدستور الساري لجمهورية مصر العربية الصادر في 2014 وتعديلاته، في المادة (65) على أن “حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر.”

كما نص أيضاً في المادة (67) على أن “حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها،”

ونص في المادة (70) على أن “حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعى والمرئى والصحف الإلكترونية”.

ونص في المادة (71) من ذات الدستور على أن “يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز إستثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فيحدد عقوبتها القانون.”

ونص أيضاً في المادة (92) على أن “الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا إنتقاصًا. ولا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها.”

كما نص في المادة (227) على أن “يشكل الدستور بديباجته وجميع نصوصه نسيجاً مترابطاً، وكلاً لا يتجزأ، وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة.”

وحيث أنه من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن نصوص الدستور لا تنفصل عن بعضها وتكمل بعضها بعض، فلا تتعارض أو تتهادم أو تتنافر فيما بينها، ولكنها تتكامل في إطار الوحدة العضوية التي تنظمها من خلال التوفيق بين مجموع أحكامها وربطها بالقيم العليا التي تؤمن بها الجماعة في مراحل تطورها المختلفة، ويتعين دوماً أن يعتد بهذه النصوص بوصفها متآلفة فيما بينها لا تتماحى أو تتآكل بل تتجانس معانيها وتتضافر توجهاتها ولا محل بالتالي لقالة إلغاء بعضها البعض بقدر تصادمها، ذلك أن إنفاذ الوثيقة الدستورية وفرض أحكامها على المخاطبين بها يفترض العمل بها في مجموعها، وشروط ذلك اتساقها وترابطها والنظر إليها باعتبار أن لكل نص منها مضموناً ذاتياً لا ينعزل به عن غيره من النصوص وينافيها أو يسقطها، بل يقوم إلى جوارها متسانداً معها مقيداً بالأغراض النهائية والمقاصد الكلية التي تجمعها.22

يتبين من النصوص الدستورية سالفة البيان أن المشرع الدستوري قد أكد أن الأصل الدستوري العام هو حق الأفراد في في التعبير عن آراءهم بأي وسيلة من وسائل التعبير والنشر العلني أو غير العلني، وهو القاعدة العامة المنظمة للتعبير والنشر بجميع صورهم، والتي أضفى عليها الحماية الدستورية، وأن ما يرد خلاف ذلك من قواعد دستورية أخرى في ذات الدستور، يكون محض استثناء في حدود ضيقة، لا يجوز التوسع فيها.

كما أكد على ذلك مرة أخرى من خلال تأكيده على كفالة وضمان الحريات المتفرعة من ذلك الحق، ومنها حرية الإبداع الفنى والأدبى، وحرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني، وحظر التعدي عليهم بأي صورة من الصور، وامتد ذلك الحظر لحصر حق التقاضي لطلب وقف أو مصادرة الأعمال الفنية أو الفكرية أو الأدبية في النيابة العامة دون غيرها.

وإضافة لما تقدم ولإضفاء المزيد من الحماية الدستورية على تلك الحريات، فقد وضع المشرع الدستوري قيداً على مبدأ التجريم والعقاب؛ فحظر على المشرع العادي توقيع أي عقوبة جنائية تنال من الحرية الشخصية للأفراد، نتيجة ممارستهم لحرياتهم في التعبير عن آراءهم أو أفكارهم بأي من الصور سالفة البيان؛ وحظر توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، وذلك كأًصل عام، واستثنى من ذلك فقط ثلاثة صور من الجرائم على سبيل الحصر، هم: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن في الأفراد. كما أضفى أيضاً الحماية الدستورية على الحق في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، وحظر التعسف في حرمان المواطنين من استخدامها.

وقد جاء هذا الحظر مطلقاً ومحرراً من أي قيد؛ فاستند المشرع الدستوري في هذا الحظر إلى عينية الجريمة وطريقة ارتكاب السلوك الإجرامي، معتبراً أن النشر أو العلانية هما المعيارين الوحيدين اللازم توافر أي منهما في أي سلوك إجرامي. ومتى توافر أحد المعيارين وجب على المشرع العادي التزام بأن تكون العقوبة التي يقررها كجزاء جنائي لهذا السلوك غير سالبة للحرية، دون أن يتوقف ذلك على صفة أو وظيفة أو مهنة مرتكب هذا السلوك؛ فالمشرع الدستوري قد استند إلى معيار طريقة ارتكاب الجريمة، وليس شخص أو صفة مرتكبها، فلم يشترط فيه صفة معينة -كالصحفي أو الكاتب أو الأديب أو الفنان أو المخرج أو المنتج أو الناشر أو الطابع أو الموزع أو غيرهم – إنما جاء مطلقاً يسري على جميع الأفراد، كما جاء مطلقاً أيضاً من أي قيد على مكان ارتكاب الجريمة، سواء كان ارتكابها في داخل أو خارج البلاد، واستثنى من ذلك فقط ثلاثة صور من الجرائم على سبيل الحصر، هم: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن في الأفراد.

وحيث أنه من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الجزاء الجنائي كان عبر أطوار قاتمة في التاريخ أداة طيعة للقهر والطغيان، محققاً للسلطة المستبدة أطماعها، ومبتعداً بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية، وكان منطقياً وضرورياً أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة في جوانبها الموضوعية والإجرائية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الجماعة في تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها، وكان لازماً – في مجال دعم هذا الاتجاه وتثبيته – أن تقرر الدساتير المعاصرة القيود التي ارتدتها على سلطان المشرع في مجال التجريم تعبيراً عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافاً منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها تفرض نظاماً متكاملاً يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون في إطار أهدافه حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون اساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها.23

ولما كانت تلك الطوائف الثلاث من الجرائم هي المستثناة – على سبيل الحصر – من حظر توقيع العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية، فأجاز الدستور للمشرع العادي، في هذه الجرائم دون غيرها من جرائم النشر أو العلانية، أن يقرر العقاب الجنائي الملائم، كجزاء على ارتكاب أي من هذه الجرائم المنصوص عليها في الطوائف الثلاث، دون التقيد بالحظر المشار إليه على النحو سالف البيان.

وقد بات من المسلم به أن وسائل الاتصال العامة التقليدية والمستحدثة بكافة أشكالها وصورها، هي أدوات للتعبير عن الرأي بالإذاعة أو النشر أو بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، وكانت غاية المشرع الدستوري من حظر توقيع العقوبات السالبة للحرية على جرائم النشر والعلانية كأصل عام هي حماية للأفراد المخاطبين بأحكام الدستور من أي استبداد أو طغيان أو ترهيب أو تهديد لحرياتهم الشخصية قد يتعرضوا له من جانب السلطة التنفيذية، أو التشريعية، نتيجة للتعبير عن آرائهم أو نتيجة لاستعمال حقهم الدستوري في استخدام وسائل الاتصالات بجميع صورها.

رابعاً: تطبيقات تشريعية تؤكد صحة الدفع بعدم دستورية النص المطعون فيه وتعكس التزام المشرع بمبدأ حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية

يمكن التدليل على الالتزام بالسياسة التشريعية التي انتهجها المشرع الدستوري لإضفاء المزيد من الحماية لحرية التعبير بجميع صورها، التي من بينها النشر والعلانية، من خلال مبدأ حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية، وذلك عبر عدة أمثلة لتطبيقات تشريعة أقرتها السلطة التشريعية، والتزمت فيها بهذا المبدأ في السنوات العشر الأخيرة، وهي على النحو الآتي:

  1. أثناء مناقشات لجنة الخمسين، التي أنيط بها تعديل الدستور عام 2014، تزامنت مناقشاتها لإعداد المشروع النهائي للدستور مع مبادرة من رئيس الجمهورية آنذاك، عدلي منصور، باستعمال الصلاحيات التشريعية المخولة إليه في إصدار قرار بقانون رقم 77 لسنة 2013 فى شأن تعديل بعض أحكام قانون العقوبات، الذي بموجبه عدل نص المادة (179) من قانون العقوبات، باعتبارها أحد الجرائم التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من وسائل النشر أو العلانية في الباب الرابع عشر من قانون العقوبات، التي يكون المجني عليه فيها هو من يشغل منصب رئيس الجمهورية، وألغى العقوبة السالبة للحرية – عقوبة الحبس – التي كانت مقررة لجريمة إهانة رئيس الجمهورية بإحدى طرق النشر أو العلانية المنصوص عليها في المادة 171 من قانون العقوبات، وجعل العقوبة المقررة للجريمة هي الغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على ثلاثين ألف جنيه.24
  2. التزم المشرع بمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية بعد إقرار وسريان الدستور الحالي. ولعل أحد أهم الأمثلة على هذا الالتزام يتمثل في قانون مكافحة الإرهاب الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 94 لسنة 2015، والذي تضمن بعض جرائم النشر والعلانية، ومن بينها المادة (35) من هذا القانون، التي جاء نصها يجرم نشر أو إذاعة أو عرض أو ترويج أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أعمال إرهابية وقعت داخل البلاد، أو عن العمليات المرتبطة بمكافحتها بما يخالف البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع، بأية وسيلة كانت، وعاقب المشرع من تعمد ارتكابها، بعقوبة غير سالبة للحرية، وهي الغرامة التي لا تقل عن مائتى ألف جنيه ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه.25
  3. التزم المشرع أيضاً بمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية، في القانون سالف البيان، في جريمة أخرى من جرائم النشر أو العلانية، المنصوص عليها في المادة (36) من هذا القانون، التي جاء نصها يجرم تصوير أو تسجيل أو بث أو عرض أية وقائع من جلسات المحاكمة فى الجرائم الإرهابية إلا بإذن من رئيس المحكمة المختصة، وعاقب المشرع مرتكبها، بعقوبة غير سالبة للحرية، وهي الغرامة التي لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه كل من خالف هذا الحظر.
  4. التزم المشرع بمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية أيضاً في إصدار القانون رقم 149 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون مكافحة الإرهاب الصادر بالقانون رقم 94 لسنة 2015، والذي تضمن تشديد العقوبة المقررة للمادة (36) من القانون المشار إليها بالفقرة السابقة، إلا أن هذا التشديد جاء ملتزماً بهذا الحظر الدستوري المشار إليه، فزاد من مقدار العقوبة المالية لتصبح الغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة ألف جنيه.26
  5. التزم المشرع أيضًا بمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية في إصدار القانون رقم 71 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات، والذي تضمن استحداث مادة جديدة تضاف للباب الرابع عشر من الكتاب الثاني لقانون العقوبات، وهو الباب الخاص بالجرائم التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من وسائل النشر أو العلانية، وهي المادة (186 مكرر)، والتي جاء نصها يجرم تصوير أو تسجيل كلمات أو مقاطع أو بث أو نشر أو عرض بأى طريق من طرق العلانية لوقائع جلسة محاكمة مخصصة لنظر دعوى جنائية دون تصريح من رئيس المحكمة المختصة بعد أخذ رأى النيابة العامة، وعاقب المشرع مرتكبها بعقوبة غير سالبة للحرية، وهي الغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه، حتى في حالة العود كظرف مشدد، التزم المشرع بهذا الحظر وقرر مضاعفة عقوبة الغرامة دون أي عقوبة سالبة للحرية.27
  6. أفصح المشرع عن التزامه بهذا المبدأ الدستوري بصورة أكثر وضوحاً في تنظيمه القانوني لحرية الصحافة والطبع والنشر، باعتبارها أحد الحريات الدستورية، حينما أقر أحد القوانين المكملة للدستور وهو قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الصادر بالقانون رقم 180 لسنة 2018، بعد إقرار وسريان الدستور الحالي.28 التزم المشرع في صياغة القانون بمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية. تنص المادة 29 من هذا القانون بصورة واضحة وقاطعة على أن “لا يجوز توقيع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية ، فيما عدا الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن فى أعراض الأفراد.” ومن ثم، لن يعاقب أي من الخاضعين لأحكام هذا القانون بعقوبة سالبة للحرية حال إدانته بارتكاب أي من جرائم النشر أو العلانية كقاعدة قانونية عامة، يستثنى منها فقط الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن فى أعراض الأفراد.

خامساً: أثر مخالفة النص المطعون عليه لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية

لما كان من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الدستور ليس مجرد تنظيم إجرائي يحدد لكل سلطة تخوم ولايتها وقواعد الفصل بينها وبين غيرها من السلطات، وإنما يبلور الدستور أصلاً قيماً وحقوقاً لها مضامين موضوعية كفل حمايتها وحرص على أن يرد عنها كل عدوان حتى لاتفقد قيمتها أو تنحدر أهميتها، ولا تنفصل هذه القيم وتلك الحقوق عن الديمقراطية في أشكالها الأكثر تطوراً، ولكنها تقارنها وتقيم أسسها وتكفل إنفاذ مفاهيمها.29 ولا يجوز في إطار هذه المفاهيم مصادرة الحقوق أو تهميشها أو انتقاصها من أطرافها أو الهبوط بمستوياتها إلى حدود لا تقبلها الدول الديمقراطية.30

وإنطلاقاً من ذلك؛ وجب الحرص في إعداد التشريعات على أن تراعي أحكامها الحقوق الأساسية للإنسان دون الاقتصار في شأن هذه الحقوق ورصدها على ما هو منصوص عليه في الدستوري منها، بل يتجاوزها إلى ما استقر منها في المواثيق الدولية وفي مفاهيم الدول الديمقراطية، وهي الحقوق التي عبرت عنها المحكمة الدستورية العليا في مصر بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها، وخاصة تلك التي تنطلق من إيمان الدول المتحضرة بحرمة الحياة الحياة ووطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية. ومن ثم، يجب أن تكون هذه الحقوق بالمعنى الواسع المشار إليه الذي يستوعب ما كان وراداً منها في الدستور وما استقر في المواثيق الدولية وفي مفاهيم الدول الديمقراطية بمنأى عن أي انتهاك تشريعي.31

وحيث أن سلوك إذاعة أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية للبلاد المشار إليه في الجريمة المنصوص عليها في النص المطعون عليه هو في ذاته طريق من طرق النشر أو العلانية، وهو بطبيعة الحال، لا يتصور فيه أن يكون صورة من صور التحريض على العنف، ولا صورة من صور التمييز بين المواطنين، كذلك أيضاً لا يتصور أن يشكل هذا السلوك أي صورة من صور الطعن في أعراض الأفراد، إنما هو محض إخبار بمحتوى كاذب، وهذا هو مناط تجريم هذا السلوك.

ولما كان المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن تقدير العقوبة وتقرير أحوال فرضها هو مما يدخل في نطاق السلطة التقديرية التي يمارسها المشرع في مجال تنظيم الحقوق وفق الأسس الموضوعية التي يراها أصون لمصالح الجماعة وأحفظ لقيمها، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور، ويندرج تحتها ألا يكون آمر التجريم فرطاً 32

ومن ثم، فإن توقيع عقوبة الحبس الذي لا يقل عن ستة أشهر ولا يزيد على خمس سنوات كأحد العقوبات السالبة للحرية على مرتكب هذه الجريمة، أو السجن من ثلاثة سنوات حتى خمسة عشر عاماً، حال توافر الظرف المشدد للعقوبة، يشكل مخالفة صريحة لنصوص الدستور، وعدوان على حريات الأفراد، على وجه خاص الحرية الشخصية المنصوص عليها في المادة (54) من الدستور، وحرية التنقل والإقامة المنصوص عليها في المادة (62) من الدستور. كما أنه تعطيلاً وانتقاصاً وتقيداً يمس أصل وجوهر الحقوق اللصيقة بشخص المواطن المنصوص عليها في المادة (92) من الدستور، وهو ما يجعل النص المطعون عليه مشوباً بعدم الدستورية، بما يوجب عرضه على المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستوريته إعمالاً للسلطة المخولة لها وفقاً للدستور والقانون.


بناءً عليه

مع تمسك الدفاع الحاضر بأصل البراءة المفترض في المتهم، وتمسكه بجميع دفوعه وأوجه دفاعه الشكلية والإجرائية والموضوعية، فإنه يلتمس من المحكمة الموقرة في شأن ما تقدم بيانه في هذه المذكرة الآتي:

  • إحالة أوراق الدعوى إلى المحكمة الدستورية العليا، أو التصريح للدفاع بإقامة دعوى أمام المحكمة الدستورية للفصل في مسألة مدى دستورية نص المادة رقم (80د) من العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937، لمخالفته نص المادة (135) من دستور 1956، ونصوص المواد رقم (4 و51 و54 و59 و62 و65 و67 و71 و92 و94 و95 و96) من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية.

وكيل المتهم

………………….

المحامي


الهوامش

1 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 6 يونيو 2020، الدعوى رقم 248 لسنة 30 قضائية “دستورية”.

2 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 6 يونيو 2020، الدعوى رقم 248 لسنة 30 قضائية “دستورية”.

3 دستور الجمهورية المصرية، المنشور في 16-1-1956، الوقائع المصرية، العدد 5 مكرر غير اعتيادي.

4 قرار رئيس الجمهورية بدعوة مجلس الأمة للانعقاد ابتداء من 22 يوليو سنة 1957 الساعة التاسعة صباحاً موعد افتتاح الدور الأول للفصل التشريعي الأول – الوقائع المصرية – العدد 54 مكرر ب – في 16 يوليو 1957.

5 قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 112 لسنة 1957 الصادر بتاريخ 1957-05-19 نشر بتاريخ 1957-05-19 فى الجريدة الرسمية بشأن تعديل أحكام الباب الأول من الكتاب الثاني وبعض أحكام في الأبواب الثاني والثالث والخامس والرابع عشر والسادس عشر من الكتاب الثاني وفي البابين السادس والسابع من الكتاب الثالث من قانون العقوبات.

6 حكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم 15 لسنة 8 قضائية دستورية – جلسة 7 ديسمبر 1991.

7 حكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم 15 لسنة 8 قضائية دستورية – جلسة 7 ديسمبر 1991.

8 حكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم 15 لسنة 8 قضائية دستورية – جلسة 7 ديسمبر 1991.

9 حكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم 28 لسنة 2 قضائية دستورية – جلسة 4 مايو 1985.

10 قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 112 لسنة 1957 الصادر بتاريخ 1957-05-19 نشر بتاريخ 1957-05-19 فى الجريدة الرسمية بشأن تعديل أحكام الباب الأول من الكتاب الثاني وبعض أحكام في الأبواب الثاني والثالث والخامس والرابع عشر والسادس عشر من الكتاب الثاني وفي البابين السادس والسابع من الكتاب الثالث من قانون العقوبات.

11 حكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم 28 لسنة 2 قضائية دستورية – جلسة 4 مايو 1985.

12 الجريدة الرسمية – العدد 28 مكرر – في 15 يوليو 2006.

13 حكم المحكمة الدستورية العليا – الدعوى رقم 17 لسنة 28 قضائية دستورية – جلسة 22 أكتوبر 2018.

14 حكم المحكمة الدستورية العليا – الدعوى رقم 17 لسنة 28 قضائية دستورية – جلسة 22 أكتوبر 2018.

15 حكم المحكمة الدستورية العليا – الدعوى رقم 17 لسنة 28 قضائية دستورية – جلسة 22 أكتوبر 2018.

16 القاضي د. عوض المر، الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية، مركز رينيه جان دبوي للقانون والتنمية، فقرة 516، ص 841

17 القاضي د. عوض المر، الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية، مركز رينيه جان دبوي للقانون والتنمية، فقرة 519، ص 844

18 حكم المحكمة الدستورية العليا – الدعوى رقم 17 لسنة 28 قضائية دستورية – جلسة 22 أكتوبر 2018.

19 تنص المادة (18) من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937 وتعديلاته على أن “عقوبة الحبس هى وضع المحكوم عليه فى أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه ولا يجوز أن تنقص هذه المدة عن أربع وعشرين ساعة ولا أن تزيد على ثلاث سنين إلا فى الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانونا .لكل محكوم عليه بالحبس البسيط لمدة لا تتجاوز ستة أشهر أن يطلب بدلا من تنفيذ عقوبة الحبس عليه تشغيله خارج السجن طبقا للقيود المقررة بقانون الإجراءات الجنائية إلا إذا نص الحكم علي حرمانه من هذا الخيار .

20 تنص المادة (16) من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937 وتعديلاته على أن .عقوبته السجن هى وضع المحكوم عليه فى أحد السجون العمومية,وتشغيله داخل السجن أو خارجه فى الأعمال التى تعينها الحكومة المدة المحكوم بها عليه, ولا يجوز أن تنقص تلك المدة عن ثلاث سنين ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا فى الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً.

21 تنص المادة رقم (134) من قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950 على أنه “يجوز لقاضي التحقيق، بعد استجواب المتهم أو في حالة هربه، إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة معاقبًا عليها بالحبس لمدة لا تقل عن سنة، والدلائل عليها كافية، أن يصدر أمرًا بحبس المتهم احتياطيًا، وذلك إذا توافرت إحدى الحالات أو الدواعى الآتية: ١- إذا كانت الجريمة في حالة تلبس، ويجب تنفيذ الحكم فيها فور صدوره. ٢- الخشية من هروب المتهم. ٣- خشية الإضرار بمصلحة التحقيق سواء بالتأثير على المجني عليه أو الشهود، أو بالعبث في الأدلة أو القرائن المادية، أو بإجراء اتفاقات مع باقي الجناة لتغيير الحقيقة أو طمس معالمها. ٤- توقى الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذي قد يترتب على جسامة الجريمة. ومع ذلك يجوز حبس المتهم احتياطيًا إذا لم يكن له محل إقامة ثابت معروف في مصر، وكانت الجريمة جناية أو جنحة معاقبًا عليها بالحبس.

22 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 5 فبراير 1994، الدعوى رقم 23 لسنة 15 قضائية “دستورية” – حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 2 يناير 1999 الدعوى رقم 15 لسنة 18 قضائية “دستورية” – حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 8 يوليو 2000، الدعوى رقم 11 لسنة 13 قضائية “دستورية”.

23 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 12 فبراير 1994، الدعوى رقم 105 لسنة 12 قضائية “دستورية”

24 قرار قرار رئيس جمهورية مصر العربية بالقانون رقم 77 لسنة 2013 فى شأن تعديل بعض أحكام قانون العقوبات – الجريدة الرسمية – العدد 31 مكرر – في 5 أغسطس 2013.

25 قرار قرار رئيس جمهورية مصر العربية بالقانون رقم 94 لسنة 2015 بإصدار قانون مكافحة الإرهاب – الجريدة الرسمية 33 مكرر – في 15 أغسطس 2015.

26 قانون رقم 149 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون قانون مكافحة الإرهاب – الجريدة الرسمية – العدد 45 تابع – في 11 نوفمبر 2021.

27 قانون رقم 71 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات – الجريدة الرسمية – العدد 23 مكرر – في 13 يونية 2021.

28 الجريدة الرسمية – العدد 34 مكرر هـ في 27 أغسطس 2018.

29 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 15 نوفمبر 1997، الدعوى رقم 56 لسنة 18 قضائية “دستورية”

30 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 3 يناير 1998، الدعوى رقم 132 لسنة 18 قضائية “دستورية”

31 القاضي د. سري محمود صيام، صناعة التشريع، الكتاب الأول، الهيئة العامة المصرية للكتاب، ط 2018، ص 151.

32 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 12 فبراير 1994، الدعوى رقم 105 لسنة 12 قضائية “دستورية”