
تحميل المذكرة
تقدمت مسار اليوم بمذكرة دفع بعدم دستورية نص المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 المعروف بقانون “الجريمة الإلكترونية” إلى محكمة جنح مستأنف القاهرة الاقتصادية وذلك في الدعوى المنظورة أمامها برقم 246 لسنة 2020 والتي تتضمن اتهامات بالاعتداء على مبادئ وقيم الأسرة المصرية عن طريق نشر محتوًى رقميًّا ترفيهيًّا عبر منصة “تيك توك”.
وقد تقدمت “مسار” بهذا الدفع نظرًا إلى الاستخدامات المتكررة لنص المادة 25 من جهات التحقيق وجهات إنفاذ القانون لقمع حرية التعبير عبر المنصات الترفيهية المختلفة ولتضييق الخناق على حرية استخدام الإنترنت، حيث ألقت السلطات القبض على ما يقرب من تسع سيدات منذ إبريل 2020، وأحالتهن إلى المحاكمة الجنائية، لتصدر ضدهن أحكامًا بالحبس فضلًا على الغرامات المالية الباهظة بسبب قيامهن بنشر محتويات ترفيهية على بعض منصات التواصل الاجتماعي. وقد بررت السلطات القبض على هؤلاء السيدات والفتيات بمخالفة المحتويات التي قمن بنشرها لـ”مبادئ وقيم الأسرة المصرية”.
وقالت “مسار” في مذكرة دفاعها أن نص المادة 25 من القانون المذكور، والتي تعاقب بالحبس بمدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مئة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من اعتدى على أيٍّ من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، تخالف العديد من النصوص الدستورية. ومن بين النصوص الدستورية التي تنتهكها المادة 25 من قانون الجريمة الإلكترونية نص المادة 95 من الدستور الصادر في عام 2014، والتي تقضي بأن تحترم النصوص العقابية مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، بأن تكون النصوص القانونية واضحة ومحددة بطريقة لا يكتنفها أي غموض، وأن يستدل على أركان الجريمة من المضمون الظاهر للنص وليس من خلال التأويلات والتفسيرات المختلفة لأحكامه، وهو ما تفتقر إليه عبارة: “الاعتداء على مبادئ وقيم الأسرة المصرية”. أيضًا يخالف نصُّ المادة 25 من قانون الجريمة الإلكترونية نصَّ المادة 96 من الدستور التي تحمي افتراض البراءة في المتهمين حتى تثبت إدانتهم في محاكمة عادلة ومنصفة، وهي الضمانة التي يعصف بها نص المادة 25، فضلًا عن إخلال هذه المادة بحرية التعبير عن الرأي التي يكفلها الدستور المصري.
وكانت مسار قد أصدرت ملخصًا تحليليًّا حول خلفيات القبض على العديد من الفتيات والسيدات منذ شهر إبريل 2020 بالتزامن مع إصدار “وحدة الرصد والتحليل” بمكتب النائب العام عددًا من البيانات الإعلامية التي توضح توجه النيابة العامة بالتضييق على المحتويات الترفيهية التي تنشرها النساء بوجه خاص، بدعوى إخلالها بالحياء العام وقيم وتقاليد الأسرة. وهو ما اعتبرته “مسار” انتهاكًاجسيمًا لحرية التعبير. وقد دعت “مسار” وقتها السلطات المصرية إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن كل الأفراد المحتجزين بسبب التعبير عن آرائهم عبر الإنترنت وتعديل كافة النصوص القانونية التي تقيِّد حرية استخدام الإنترنت، وحرية التعبير والحق في الخصوصية.
مذكرة في الدفع بعدم دستورية
والمقدمة إلى محكمة جنح مستأنف القاهرة الاقتصادية
بشأن جريمة “الاعتداء على المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري“
المنصوص عليها في المادة رقم 25 من قانون “مكافحة جرائم تقنية المعلومات ” رقم 175 لسنة 2018
بدفـــــــــــــــاع
السيد/ متهم
ضد
النيابة العامة سلطة اتهام
في الدعوى رقم 264 والمنظورة أمام محكمة جنح مستأنف القاهرة الاقتصادية والمُحدد لنظرها جلسة
17 /8 / 2020
الوقـائــــــــع و الاتهامات
نحيل بشأنهما لأوراق القضية والقيد والوصف المُحال به المتهمون، حرصاً على وقت العدالة و المحكمة ونخصص تلك المذكرة للدفع بعدم دستورية جريمة “الاعتداء على المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري” و المنصوص عليها في المادة رقم 25 من قانون “مكافحة جرائم تقنية المعلومات ” رقم 175 لسنة 2018.
الدفــــــــــــــــاع
حيث قامت النيابة العامة بإحالة المتهمين للمحاكمة لارتكابهما الجرم المنصوص عليه فى المادة رقم 25 من قانون “مكافحة جرائم تقنية المعلومات ” رقم 175 لسنة 2018
وحيث أن المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 تنص على:
أ– إذا تراءى لأحد المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائى أثناء إحدى الدعاوى عدم دستورية نص قانون أو لائحة لازمة للفصل فى النزاع أو قضت الدعوى وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى المسألة الدستورية.
ب– إذا دفع أحد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائى بعدم دستورية نص من قانون أو لائحة رأت المحكمة أو الهيئة أن الدفع جدى أجلت نظر الدعوى وحددت لمن أثار الدفع ميعاد لا يتجاوز ثلاثة أشهر لرفع الدعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية فإذا لم ترفع الدعوى فى الميعاد أعتبر الدفع كأن لم يمكن.
النص محل الدفع:
المادة 25 “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من اعتدى على أيٍّ من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري أو انتهك حرمة الحياه الخاصة، أو أرسل بكثافةٍ العديدَ من الرسائل الإلكترونية لشخص معين دون موافقته، أو منح بيانات شخصية إلى نظام أو موقع إلكتروني لترويج السلع أو الخدمات دون موافقته، أو نشر عن طريق الشبكة المعلوماتية أو بإحدى وسائل تقنية المعلومات معلومات أو أخبارًا أو صورًا وما في حكمها، تنتهك خصوصية أي شخص دون رضاه، سواء كانت المعلومات المنشورة صحيحة أو غير صحيحة”.
ولمَّا كان نص المادة سالفة الذكر، يحمل أوجهًا عدة لشبهات عدم الدستورية، أستنادًا إلى مخالفته النصوص أرقام: 95، 96 من الدستور المصري الصادر في عام 2014.
حيث نصت المادة 95 من الدستور على :
” العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون “
كما نصت المادة 96 على :
“ المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.وينظم القانون استئناف الأحكام الصادرة فى الجنايات.
وتوفر الدولة الحماية للمجنى عليهم والشهود والمتهمين والمبلغين عند الاقتضاء، وفقاً للقانون“
مقدمة:
بصدور قانون مُكافحة جرائم تقنية المعلومات في شهر أغسطس 2018، انتهت المحاولات التشريعية، التي استمرت قرابة ثلاثة أعوام، حاولت خلالها السلطة التنفيذية الوصول إلى مُقترح لقانون الجرائم الإلكترونية، حيث صدرت ثلاث مسودات عن وزارات مختلفة، من بينها وزارة العدل ووزارة الاتصالات، وقد واجهت هذه المسودات أزمات عديدة، يُمكن إجمالها في محورين أساسين:
الأول: يتعلق بعدم وضوح الفلسفة التشريعية التي بُني عليها مشروع القانون، وهو ما يتضح من خلال محاولة التوسع في صور التجريم دون مُبرر أو حاجة، وذلك للخلط الدائم بين وجود جرائم استحدثها التطور التكنولوجي، وبين الأبعاد الجديدة للجرائم التقليدية المنصوص عليها في القوانين العقابية المختلفة والوسائل التي تتم بها.
الثاني: فيتعلق بعدم وضوح ودقة تعريفات المُصطلحات التقنية التي تم النص عليها بالمسودات المختلفة للقانون، بالإضافة إلى عدم وضوح المقاصد التشريعية لعدد من نصوص القانون.
ورغم وضوح الأغراض والأهداف التي رمى إليها المُشرع من خلال مشروع القانون الأخير “مشروع قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات” المُقدم إلى البرلمان، فإن القانون في صورته الأخيرة قد صدر معيبًا، ومحمَّلًا بعيوب موضوعية وإجرائية، تنتقص بشكل مُباشر من الضمانات التي نص عليها الدستور المصري، حيث جاءت صياغة نص المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات ليغيب عنها الوضوح ويصعب فهم الأركان والعناصر المكونة لجريمة “الاعتداء على المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري“، لذلك فسوف نستعرض أوجه المخالفة الدستورية التي شابت نص المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، في ضوء القواعد التي استقرت عليها المحكمة الدستورية العليا.
أوجه المخالفة الدستورية:
ساهمت الصياغة المُلتبسة لنص المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، خاصة فيما يتعلق بتهمة “الاعتداء على القيم الأسرية” في الخطأ المُتعلق بتكييف الأفعال المؤثَّمة والواردة بالقيد والوصف المُحال به المُتهمون، والصعوبة في تعريف الجريمة وبيان أركانها.
حيث أن الأمر قد وصل إلى حد الخلط بين جريمة الاعتداء على القيم الأسرية وبين جريمة خدش الحياء العام وجريمة الفعل الفاضح العلني، وغيرها من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات، لذلك نجد أن هناك ضرورة لمحاولة فهم النص في أكثر من موضع، وفي هذه الحالة يجب قراءة النص الطعين في ضوء المُلابسات المُتعلقة بإقرار النص التشريعي، وذلك بفهم السياق العام للنص، الذي يتم تحديده من خلال المذكرة الإيضاحية والتقارير التشريعية الخاصة بعمل لجان البرلمان خلال إقرار النص، أو من خلال التفسير المُباشر للعبارات التي نظمت الفعل المُجرَّم وخاصة إذا كان النص الذي يُجرِّم الفعل المؤثَّم قد عدَّدَ صورًا وأشكالًا أخرى لجرائم مُرتبطة، أو صورًا مُختلفة للاعتداء على حق من الحقوق المحمية، حيث تكون في هذه الحالة العبارة التي تُجرِّم الفعل هي جزء من كلٍّ غير قابل للتجزئة أو التأويل بمعزل عن النص القانوني في مُجمله.
لذلك وقبل الولوج إلى الملامح الأساسية التي تنتهي بنا إلى شبهة عدم دستورية النص، فسوف نستعرض تفسيرًا آخر لجريمة الاعتداء على القيم الأسرية في ضوء النقاط السابق ذكرها.
بصدور المسودة الأخيرة من مشروع القانون، حاول المُشرع أن يتفادى الإشكاليات التي وقعت فيها المسودات السابقة، حيث جاء بتقرير اللجنة المُشتركة من لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ومكتبي لجنة الشئون الدستورية والتشريعية، والدفاع والأمن القومي،1 أن الفلسفة والهدف من مشروع القانون:
1 – مكافحة الاستخدام غير المشروع للحاسبات وشبكات المعلومات وتقنيات المعلومات، وما يرتبط بها من جرائم، مع التزام الدقة في تحديد الأفعال المعاقب عليها، وتجنب التعبيرات الغامضة بوضع تعاريف دقيقة لها، وتحديد عناصر الأفعال المجرَّمة بكثير من العناية، ومع مراعاة الاعتبارات الشخصية للمجنى عليهم.
2 – ضبط الأحكام الخاصة بجمع الأدلة الإلكترونية وتحديد حجيتها في الإثبات.
3 – وضع القواعد والأحكام والتدابير اللازم اتباعها من قبل مقدمي الخدمة لتأمين خدمة تزويد المستخدمين بخدمات التواصل بواسطة تقنية المعلومات، وتحديد التزاماتهم في هذا الشأن.
4 – حماية البيانات والمعلومات الحكومية، والأنظمة والشبكات المعلوماتية الخاصة بالدولة أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة، من الاعتراض أو الاختراق أو العبث بها، أو إتلافها، أو تعطيلها بأي صورة كانت.
5 – حماية البيانات والمعلومات الشخصية، من استغلالها استغلالًا يسيء إلى أصحابها، وخاصة في ظل عدم كفاية النصوص التجريمية التقليدية المتعلقة بحماية خصوصيات الأفراد وحرمة حياتهم الخاصة في مواجهة التهديدات والمخاطر المستحدثة باستخدام تقنية المعلومات.
6 – وضع تنظيم إجرائي دقيق ينظم إجراءات الضبط والتحقيق والمحاكمة المتعلقة، بالإضافة إلى تحديد حالات التصالح وإجراءاته وتنظيم عمل الخبراء المتخصصين العاملين في مجال جرائم مكافحة تقنية المعلومات، والقرارات والأوامر الجنائية المتعلقة بتنفيذ أحكام القانون.
يتضح من المذكرة الإيضاحية والتقرير المُشترك، أن كلًّا منهما أكد على أن الهدف الأساسي من القانون هو “حماية خصوصيات الأفراد وحرمة حياتهم الخاصة“ لذلك أفرد المُشرع فصلًا مُستقلًّا لتجريم أفعال مختلفة يُشكل كل منها اعتداءً على الحياة الخاصة، تحت مُسمى“الفصل الثالث: الجرائم المتعلقة بالاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والمحتوى المعلوماتي غير المشروع” وتناولت المواد 25، 26 من القانون بالتفصيل صور وأشكال الاعتداء على الحياة الخاصة، حيث أفرد نص المادة 25 عقوبة الحبس بمدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مئة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، على كلِّ مَن:
– اعتدى على أيٍّ من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري.
– أو انتهك حرمة الحياة الخاصة أو أرسل بكثافة العديد من الرسائل الإلكترونية لشخص معين دون موافقته.
– أو منح بيانات شخصية إلى نظام أو موقع إلكتروني لترويج السلع أو الخدمات دون موافقته.
– أو نشر عن طريق الشبكة المعلوماتية أو بإحدى وسائل تقنية المعلومات معلومات أو أخبارًا أو صورًا وما في حكمها، تنتهك خصوصية أي شخص دون رضاه، سواء كانت المعلومات المنشورة صحيحة أو غير صحيحة.
ويتضح من النص المُعنوَن بحماية حرمة الحياة الخاصة أن المُشرع قد حدد أربع صور لأشكال الجريمة التي من الممكن أن تُمثل انتهاكًا لحرمة الحياة الخاصة، وهو ما يعني أن النص الطعين “جريمة الاعتداء على المبادئ والقيم الأسرية” لا يُمكن تفسيره بأي حال خارج سياق حماية الحياة الخاصة والحق في الخصوصية، التي هي الهدف الرئيسي من إقرار القانون كما أشارت المذكرة الإيضاحية والتقرير البرلماني المُشترك، وللسياق الخاص الذي تم تناول الجريمة من خلاله، فالفصل الثالث من القانون رقم 175 لسنة 2018 ونص المادة 25 من ذات القانون مُخصصين بالأساس لحماية الحياة الخاصة، وهو ما يعني أن المُشرع أراد التوسع في صور الحماية المُتعلقة بالحياة الخاصة، خشية التطور التكنولوجي وظهور صور مختلفة للجرائم التي يصعب حصرها، لذلك جاء نص المادة يحتوي على صورة عامة للاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والتي استخدم المُشرع خلالها لفظ “الاعتداء على القيم والمبادئ الأسرية”، ثم تحدث تفصيلًا عن صور أخرى لهذا الاعتداء، من بينها نشر بيانات شخصية أو صورًا خاصة وغيرها من أشكال الاعتداء. ومن ثم فإن إقحام عبارة “الاعتداء على المبادئ والقيم الأسرية” على النص المخصص لحماية الحق في الخصوصية والحياة الخاصة قد جعل النص عرضة للاجتهاد وللتأويل والاضطراب الشديد حال تطبيقه.
الأمر الآخر، في ظل السياق العام للقانون والسياق الخاص لنص المادة 25 والفصل المُخصص لصور وأشكال الاعتداء على الحياة الخاصة، فإن المُشرع أستخدم لفظ “محتوى منافٍ للآداب العامة ” في نص المادة 26 من ذات القانون بشكل واضح وصريح ولا يحتمل الاجتهاد أو التأويل، وذلك على خلاف ما جاء بصياغة نص المادة 25 على هذا النحو الغامض والمتناقض وعلى نحو يُمكن من خلاله تجريم أفعالًا لم يستهدفها أو يقصدها المُشرع في النص من الأساس.
كافة هذه الإشكاليات وضعتنا أمام نص مُبهم وغير واضح، لذلك فسوف نستعرض تأثير غموض النص العقابي وأثره، من خلال الأحكام والمبادئ التي استقرت عليها المحكمة الدستورية العليا.
1- مخالفة النص الطعين مبدأي شرعية الجرائم والعقوبات وافتراض البراءة
أولًا: غموض وعدم وضوح النص العقابي
إن المقرر أن المشرع يملك بما له من سلطة تقديرية في مجال تنظيم الحقوق والواجبات _وبما لا إخلال فيه بالمصلحة العامة_ أن يحدد وفق أسس موضوعية ومن خلال النظم العقابية التي يقرها، أركان كل جريمة دون أن يفرض عليه الدستور طرائق بذاتها لضبطها تعريفًا بها، ودون إخلال بضرورة أن تكون الأفعال التي جرمتها هذه النظم قاطعة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها، فلا يشوبها الغموض أو تتداخل معها أفعال مشروعة يحميها الدستور.
فالمقصود بغموض النص العقابي أن يُجهِّل المشرع الأفعال التي أَثَّمها فلا يكون بيانها واضحًا جليًّا ولا تحديدها قاطعًا أو فهمها مستقيمًا بل مبهمًا خافيًا على أوساط الناس، باختلافهم حول فحوى النص العقابي المؤثِّم لها ودلالته ونطاق تطبيقه وحقيقة ما يرمي إليه، ليصير إنفاذ هذا النص مرتبطًا بمعايير شخصية مرجعها إلى تقدير القائمين على تطبيقه حقيقةَ محتواه، وإحلال فهمهم الخاص لمقاصده محل مراميه الحقيقية وصحيح مضمونه.2
فالغموض الذي يحيط بمفهوم الاعتداء على القيم الأسرية، مرده الأساسي أمران:
الأول، أن النصوص الجنائية يُفترض فيها علم المُخاطبين بها بمجرد النشر، وهو ما يعني عدم جواز الاحتجاج بعدم العلم أو الجهل بها.
الأمر الثاني، يتعلق بأنه يجب أن يتوافر قصد جنائي لدى أي مُتهم بارتكاب أي جريمة، و التي يُفترض العلم بها وبأركانها ، وهو ما يحتاج إلى أدلة وقرائن جازمة لا يُمكن التشكيك في صحتها أو في مشروعية إجراءات الحصول عليها، فالدليل القضائي يجب أن يكون مشروعاً.
ولكن النص بهذه الصياغة يعصف بهذه الضمانة، حيث يُسأل أي مُتهمٌ عن علمه بارتكاب جريمة وأركانها، تلك الجريمة الغامضة، التي يغيب عنها وضوح الأركان، ووصف السلوك/ الفعل المُجرم، وهو ما يعني استحالة فعلية في توافر الأدلة والقرائن التي تؤيد ارتكاب الجُرم. كذلك فإن المفترض في النص العقابي، لما يترتب على تطبيقه من انتقاص حقوق وحريات الأفراد، أن يكون جازمًا في تحديد الفعل المؤثَّم، وفي هذا الصدد فإن عبارة الاعتداء يمكن تفسيرها تفسيرات عديدة، إذ لم يحدد المشرع كيفية وقوع الاعتداء. ولذلك فإن هذا التعليق ينطبق أيضًا على عبارة “مبادئ وقيم الأسرة المصرية”. وقد تعامل المشرع في الماضي بجدية مع العديد من النصوص التي انتابها ذلك الغموض، وهو ما دفع بالسلطة التشريعية إلى إجراء تعديلات جوهرية على قانون العقوبات ترتب عليها حذف عدد من الألفاظ والعبارات التي قد يترتب عليها الإيقاع بالأفراد في شباك التجريم والعقاب، ليس لإثمٍ ارتكبوه، وإنما لغموض النص العقابي ذاته. وفي هذا الصدد يمكن مراجعة القانون رقم 147 لسنة 2006 بشأن تعديل بعض أحكام قانون العقوبات والذي قام المشرع بموجبه بحذف عدد من العبارات الغامضة من تسعة نصوص عقابية مثل ألفاظ: “السلام الاجتماعي”، “التحبيذ”، “بث دعايات مثيرة”، “أو على كراهته أو الازدراء به” نظرًا إلى صعوبة ضبطها وميلها إلى التوسع في التجريم، ولمخالفتها مبادئ شرعية الجرائم والعقوبات، وقد نصت أحكام القانون رقم 147 لسنة 2006 على أن:
“تحذف كل من العبارات الآتية من مواد قانون العقوبات المبينة قرينها: عبارة “أو مغرضة” الواردة في المادة 80 (د). – عبارة “أو تحبيذًا” الواردة في الفقرة الثالثة من المادة 86 مكررًا. – عبارة “تحبيذًا أو” الواردة في المادة 98 (ب) مكررًا. – عبارة “أو التحبيذ” وعبارة “أو السلام الاجتماعي” الواردتين في المادة 98 (و). – عبارة “أو مغرضة أو بث دعايات مثيرة” الواردة في المادة 102 مكررًا. – عبارة “أو جنايات مخلة بأمن الحكومة” الواردة في المادة 172. – عبارة “أو على كراهته أو الازدراء به” الواردة في البند “أولًا” من المادة 174، وعبارتي “تحبيذ أو“، و“أو بأية وسيلة أخرى غير مشروعة” الواردتين في البند “ثانيًا” من المادة ذاتها. – عبارة “أو حسن أمرًا من الأمور التي تعد جناية أو جنحة بحسب القوانين” الواردة في المادة 177. – عبارة “في الدعاوى المتعلقة بالجرائم المنصوص عليها في هذا الباب أو في الباب السابع من الكتاب الثالث من هذا القانون” الواردة في الفقرة الأولى من المادة 189″.
وفي ذل استقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا :
“وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة الجنائية من مراعاة القواعد المنصفة الآنف بيانها عند فصلها في الاتهام الجنائي تحقيقًا لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة، إنما هو ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية _التي كفلها الدستور لكل فرد_ بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه، وكان افتراض براءة المتهم يمثل حقاً ثابتًا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد كان من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة، عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون منها جماعها عقيدتها. ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أية جهة أخرى مفهومًا محددًا لدليل بعينه، وأن يكون مرد الأمر دائمًا إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى، وحصلته من أوراقها غير مقيدة في ذلك بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها”.
قضية رقم 64 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية“
وتجد الحماية الدستورية فيما يتعلق بوضوح النص العقابي والوقوف على أدلة الجريمة، علتها في أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضِّه لأخطر القيود على حريته الشخصية، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقِّيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى. ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائي معرِّفًا بالتهمة مبينًا طبيعتها، مفصلًا أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها.
ثانيًا: غياب المفهوم القانوني للجريمة
نتيجة لعدم وضوح النص العقابي، أصبحنا أمام جريمة يغيب عنها المفهوم القانوني، ويُقصد بالمفهوم القانوني للجريمة “إن الجريمة تتمثل في الإخلال بنص عقابي، ليكون وقوعها يُمثل بفعل أو امتناع عن فعل يتحقق به هذا الإخلال”3 وهو ما أكدته المادة مادة 95 من الدستور المصري “العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون”، فقد دل ذلك على أن لكل جريمة ركنًا ماديًّا لا قوام لها بغيره يتمثل في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، ذلك أن العلائق التي يتناولها القانون الجنائي بالتنظيم محورها الأفعال ذاتها إيجابية كانت أم سلبية، باعتبارها مناط التجريم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها أو نفيها،4 ويتم على ضوئها التمييز بين الجرائم بعضها مع بعضٍ، كما تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة التي تناسبها وفقًا للقانون.
غموض المفهوم القانوني للجريمة يضعنا أمام تفسيرات مُلتبسة لنص المادة 25، والخلط بين جرائم مُختلفة مُعاقب عليها بقانون العقوبات وغيره من القوانين الأخرى، لذلك جاء النص مُرتبكًا، ليخلط بين السلوك/الفعل المُجرَّم وهو فعل “الاعتداء” وبين الحق أو المصلحة المُعتدَى عليها “القيم الأسرية”، ففعل الاعتداء لا يُمكن تصوره إذا لم يتم تحديد المصلحة المُعتدَى عليها، حيث أن مفهوم القيم والمبادئ الأسرية، لم يُعرف بقانون مُكافحة جرائم تقنية المعلومات، وهو مُصطلح يصعب إن لم يكن مُحالًا وضع تعريف جامع له، أو حصر صور وأشكال القيم المحمية من خلاله.
بالإضافة إلى نسبية هذا المصطلح، الذي إذا لم يتم تعريفه بشكل واضح وصحيح، وقعنا في دائرة، تصيد الأفعال وإعادة تفسير النصوص مع كل مُحاكمة، وفي هذا الأمر لا يجوز لمحكمة الموضوع أن تلجأ إلى تفسيرها الخاص، كما لا يجوز لها إعمال القياس في عقوبات مُقيِّدة للحرية، وهو ما يتعارض مع مبدأ شرعية العقوبات.
وفي ذلك استقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا :
“وحيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وإن اتخذ من ضمان الحرية الشخصية بنيانًا لإقراره وتوكيده، إلا أن هذه الحرية ذاتها هي التي تقيد من محتواه، فلا يكون إنفاذ هذا المبدأ لازمًا إلا بالقدر وفي الحدود التي تكفل صونها. ولا يجوز بالتالي إعمال نصوص عقابية يسيء تطبيقها إلى مركز قائم لمتهم، ولا تفسيرها بما يخرجها عن معناها أو مقاصدها، ولا مد نطاق التجريم _وبطريق القياس_ إلى أفعال لم يؤثمها المشرع، بل يتعين دومًا _وكلما كان مضمونها يحتمل أكثر من تفسير_ أن يرجح القاضي من بينها ما يكون أكثر ضمانًا للحرية الشخصية في إطار علاقة منطقية يقيمها بين هذه النصوص وإرادة المشرع، سواء في ذلك تلك التي أعلنها، أو التي يمكن افتراضها عقلًا. وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التي توخاها: أولاهما: أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع متصيدًا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها. وهي بعد ضمانة غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساقًا معها ونزولًا عليها”.
الدعوى رقم 84 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية“
ثالثًا: أثر غموض وعدم وضوح النص العقابي:
استقرت المحكمة الدستورية في مصر على مجموعة من المبادئ التي ترتبط بالأثر المُترتب على إعمال وتطبيق النصوص العقابية والتي انتهت إلى:
– أن الأصل في النصوص العقابية، هو أن تصاغ في حدود ضيقة لضمان أن يكون تطبيقها محكمًا.
– أن يكون النص العقابي حادًّا قاطعًا لا يؤذن بتداخل معانيه أو تشابكها، كي لا تتسع دائرة التجريم.
– يجب أن يظل النص العقابي دومًا في إطار الدائرة التي يكفل الدستور في نطاقها قواعد الحرية المنظمة.
ولذلك يترتب على الإخلال بهذه القواعد وتطبيق النصوص المُبهمة أن يعوق محكمة الموضوع عن إعمال قواعد صارمة تحدد لكل جريمة أركانها، وتقرر عقوبتها بما لا لبس فيه، ويحمل في ثناياه مخاطر اجتماعية لأن تطبيقه يكون انتقائيًّا منطويًا على التحكم في أغلب الأحوال.
كما أن الأضرار المترتبة على هذا الغموض لا تكمن في مجرد التجهيل بالأفعال المنهي عنها، بل تعود إلى عنصر أكثر خطرًا يتمثل في افتقارها إلى الحد الأدنى من الأسس اللازمة لضبطها، والتي تحول كأصل عام بين القائمين على تنفيذها، وإطلاق العنان لنزواتهم، أو سوء تقديراتهم.
لذلك يترتب أثر مُباشر على تطبيق النص العقابي الغامض، في كون مضمونه خافيًا على أوساط الناس باختلافهم حول فحواه، ومجال تطبيقه، وحقيقة ما يرمى إليه، فلا يكون معرِّفًا بطريقة قاطعة بالأفعال المنهي عن ارتكابها، بل مجهِّلًا بها ومؤديًا إلى إبهامها ومن ثم يكون إنفاذه مرتبطًا بمعايير شخصية قد تخالطها الأهواء، وهى بعدُ معايير مرجعها إلى تقدير القائمين على تطبيقه لحقيقة محتواه، وإحلال فهمهم الخاص لمقاصده محل مراميه التي غالبًا ما يجاوزونها التواءً بها أو تحريفًا لها لينال الأبرياء وبوجه خاص فإن غموض النص العقابي يعوق محكمة الموضوع عن إعمال قواعد صارمة جازمة، تحدد لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا لبس فيه، وهى قواعد لا ترخُّص فيها، وتمثل إطارات لعملها لا يجوز اقتحام حدودها. كذلك فإن غموض النص العقابي يحمل في ثناياه مخاطر اجتماعية لا ينبغي التهوين منها ويقع ذلك لأن المواطنين الذين اختلط عليهم نطاق التجريم، والتَوتْ بهم شبهات تأثيم فعل معين، وإن كان القانون بمعناه العام يسوغها، بل إن الاتجاه المعاصر والمقارن في شأن النصوص العقابية، يؤكد على أن الأضرار المترتبة على غموضها، لا تكمن في مجرد التجهيل بالأفعال المنهي عنها، بل تعود _في تطبيقاتها_ إلى عنصر أكثر خطرًا، وأبرز أثرًا، في افتقارها إلى الحد الأدنى من الأسس اللازمة لضبطها، والتي تحول كأصل عام بين القائمين على تنفيذها وإطلاق العنان لنزواتهم، أو سوء تقديراتهم
لذلك يلتمس الدفاع
1– وقف الدعوى تعليقيًا، وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية للفصل في مدى دستورية جريمة ” الاعتداء على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري ” الواردة بنص المادة 25 من القانون رقم 175 لسنة 2018 ” قانون مُكافحة جرائم تقنية المعلومات “
2 – أو تحديد أجلًا مع التصريح لنا بإقامة دعوى أمام المحكمة الدستورية للفصل في دستورية النص محل الطعن.
1تقرير صادر عن اللجنة المُشتركة من لجنة الاتصالات ومكتبي الشئون الدستورية والتشريعية والدفاع والأمن القومي، بتاريخ مايو 2018.
2يُراجع في ذلك المعني الحكم الصادر في الدعوى رقم 146 لسنة 20 قضائية، المحكمة الدستورية العليا “دستورية”.
3يُراجع في هذا المعنى الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية في الدعوى رقم 84 لسنة 17 قضائية “دستورية”.
4الحماية الدستورية للحقوق والحريات ص 741 ، مؤلف للدكتور فتحي سرور، دار الشروق طبعة عام 2000.