مقدمة
منذ إقرار الدستور المصري في عام 2014 تستمر المطالبات المتعلقة بضرورة إجراء مراجعة تشريعية شاملة لضمان إنفاذ الاستحقاقات الدستورية. يأتي الحبس في قضايا النشر على رأس الموضوعات التي يطالب بمراجعتها، وذلك تطبيقًا وإعمالًا لنصوص المواد 67 و 71 من الدستور. تحظر تلك المواد توقيع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية.
تقاعس المشرع، سواء من خلال البرلمان بشكل أصيل أو عبر المقترحات المقدمة من الحكومة بشكل ثانوي، عن الالتزام بهذه الضوابط فرض واقعًا قضائيًا متناقضًا. فبينما يحظر الدستور توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر هناك عشرات النصوص في قوانين مختلفة تسمح بتوقيع عقوبات سالبة للحرية في الجرائم المرتكبة بطريق النشر. أدى ذلك إلى تعدد التفسيرات التي تبنتها المحاكم المصرية للحق الدستوري، بهدف تجنب التطبيق المباشر لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر.
تناقش هذه الورقة تجاهل المحاكم الجنائية للمبدأ الدستوري بعدم توقيع عقوبة سالبة اللحرية في جرائم النشر، بما في ذلك النشر عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الصحفية. تتناول الورقة تفسير المحاكم الجنائية لهذا المبدأ عن طريق عرض ثلاثة أحكام قضائية لمحاكم جنائية مختلفة انتهت جميعها إلى توقيع عقوبات سالبة للحرية في جرائم نشر. أخيرًا، تقدم الورقة تعليقًا على هذه التفسيرات القضائية وتناقش تعارضها مع نصوص الدستور وتفسيرات المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض.
الأساس الدستوري لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر
أقر دستور 2014 الساري، في المواد 65 و67 و70 و71 و92، حق الأفراد في في التعبير عن آراءهم بأي وسيلة من وسائل التعبير والنشر العلني أو غير العلني. باعتباره الأصل الدستوري العام امتدادًا لما نصت عليه الدساتير السابقة. وهو ما أشارت إليه الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المعنية بالحقوق والحريات، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
يعد هذا الحق هو القاعدة العامة المنظمة لحرية التعبير بجميع صورها، التي أضُفى عليها الحماية الدستورية. كما أضفى أيضاً الحماية الدستورية على الحق في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، وحظر التعسف في حرمان المواطنين من استخدامها. ذلك لكون وسائل الاتصال العامة التقليدية والمستحدثة بكافة أشكالها وصورها هي الأدوات الرئيسية للتعبير عن الرأي بالإذاعة أو النشر أو بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير.
أكد الدستور على ذلك مرة أخرى من خلال تأكيده على كفالة وضمان الحريات المتفرعة من ذلك الحق، ومنها حرية الإبداع الفنى والأدبى، وحرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني، وحظر التعدي عليهم بأي صورة من الصور. امتد ذلك الحظر لحصر حق التقاضي لطلب وقف أو مصادرة الأعمال الفنية أو الفكرية أو الأدبية في النيابة العامة دون غيرها.
كانت غاية المشرع الدستوري من حظر توقيع العقوبات السالبة للحرية على جرائم النشر والعلانية كأصل عام هي حماية للأفراد المخاطبين بأحكام الدستور من أي استبداد أو ترهيب أو تهديد لحرياتهم الشخصية قد يتعرضوا له من جانب السلطة التنفيذية أو التشريعية، نتيجة للتعبير عن آرائهم عبر استخدام حقهم الدستوري في استخدام وسائل الاتصالات بجميع صورها. من ثم، يكون كل ما يرد خلاف ذلك من قواعد دستورية أخرى في ذات الدستور محض استثناء في حدود ضيقة، لا يجوز التوسع فيها.
بالإضافة إلى ذلك ولإضفاء المزيد من الحماية الدستورية على تلك الحريات والحقوق، وضع الدستور قيدًا على مبدأ التجريم والعقاب؛ فحظر على المشرع توقيع أي عقوبة جنائية تنال من الحرية الشخصية للأفراد نتيجة ممارستهم لحريتهم في التعبير عن آرائهم أو أفكارهم بأي من الصور سالفة البيان. كما حظر توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، وذلك كأًصل عام.
استثنى الدستور من ذلك ثلاثة صور من الجرائم على سبيل الحصر، هم: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن في الأفراد.
- المادة (65): “حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر.”
- المادة (67): “حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها.”
- المادة (70): “حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعى والمرئى والصحف الإلكترونية.”
- المادة (71): “يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز إستثناء فرض رقابة محددة عليها في زَمن الحرب أو التعبئة العامة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فيحدد عقوبتها القانون.”
- المادة (92): “الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا إنتقاصًا. ولا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها” كما نص في المادة (227) على أن “يشكل الدستور بديباجته وجميع نصوصه نسيجاً مترابطاً، وكلاً لا يتجزأ، وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة.”
عمومية مبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية
جاء حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية ملطقًا ومحررًا من أي قيد. استند المشرع الدستوري في هذا الحظر إلى عينية الجريمة وطريقة ارتكاب السلوك الإجرامي؛ معتبرًا أن النشر أو العلانية هما المعيارين الوحيدين اللازم توافر أي منهما في أي سلوك إجرامي.
متى توافر أحد المعيارين وجب على المشرع العادي الالتزام بأن تكون العقوبة التي يقررها كجزاء جنائي لهذا السلوك غير سالبة للحرية، دون أن يتوقف ذلك على صفة أو وظيفة أو مهنة مرتكب هذا السلوك. ذلك لأن المشرع الدستوري قد استند إلى معيار طريقة ارتكاب الجريمة، وليس شخص أو صفة مرتكبها. فلم يشترط المشرع في مرتكب الجريمة صفة معينة كالصحفي أو الكاتب أو الأديب أو الفنان أو المخرج أو المنتج أو الناشر أو الطابع أو الموزع أو غيرهم. فيسري حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية على جميع الأفراد.
لم يضع المشرع الدستوري أيضًا أي قيد على مكان ارتكاب الجريمة، سواء كان ارتكابها من داخل أو خارج البلد. واستثنى من ذلك فقط ثلاثة صور من الجرائم على سبيل الحصر، هم: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن في الأفراد. اجاز الدستور للمشرع العادي في هذه الجرائم دون غيرها من جرائم النشر أو العلانية أن يقرر العقاب الجنائي الملائم كجزاء على ارتكاب أي منها دون التقيد بحظر توقيع عقوبة سالبة للحرية.
تفسير المحاكم الجنائية للمبدأ الدستوري
على الرغم من إقرار الدستور لهذه الضمانة منذ ما يقرب من عشر سنوات، إلا أن تطبيقها والالتزام بها من جانب الجهات المنوط بها تطبيق أحكام الدستور لم يتسم بالقدر الكافي من الجدية. لجأت بعض من المحاكم الجنائية إلى تفسير النص الدستوري تفسيرًا يخل بتلك الضمانة ويتعارض مع النص الدستوري ذاته. يحرم ذلك غالبية الأفراد من الحماية الدستورية المقررة لهم، والتي تحميهم من العقوبة السالبة للحرية حال ارتكاب إحدى جرائم النشر أو العلانية.
فيما يلي ثلاثة أحكام قضائية لمحاكم جنائية لجأت لهذا التفسير، على سبيل المثال نتج عن ذلك التفسير إدانة القضاء للمتهمين في تلك الدعاوى وتوقيع عقوبة سالبة للحرية على كل منهم لارتكاب جرائم بطريق النشر أو العلانية في غير حالات التحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد.
أولًا: محكمة الجنايات
في مارس 2021، أصدرت محكمة جنايات القاهرة حكمًا بحبس أحد المتهمات لارتكابها إحدى جرائم النشر. قضت المحكمة بإدانة المتهمة وحبسها لمدة سنة عن اتهامها بارتكاب جريمة الإذاعة “أخباراً واشاعات كاذبة كان من شأنها إثارة الفزع بين الناس والحاق الضرر بالمصلحة العامة،” من خلال النشر عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
قدم دفاع المتهمة أثناء المرافعة دفعًا بعدم دستورية نصوص المواد 216 من قانون الإجراءات الجنائية، و102 مكرر من قانون العقوبات، و27 من القانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لمخالفتهم المواد 65 و70 و71 من الدستور. رفضت المحكمة هذا الدفع مبررة ذلك بأن الدفع قُصِد به إطالة أمد التقاضي وتعطيل الفصل في الدعوى. عللت المحكمة ذلك بالأسباب الآتية:
- هذا الدفع مردود عليه بأن نص الدستور على كفالة الحرية الشخصية لا يمنع المشرع من وضع قوانين لتنظيمها، وحين يكون من وراء استعمالها اﻹضرار بالغير فإنها لا تكون حرية ولا تكون مكفولة.
- السلوك المُجرّم بالمادة 102 مكرر من قانون العقوبات يخرج عن الحماية التي كفلها الدستور لحرية إبداء الرأي والتعبير، كما لا يندرج تحت الجرائم التي حظر الدستور توقيع عقوبة سالبة للحرية على مرتكبها.
- الحظر الذي أورده الدستور في المادة 71 غايته حماية حرية إبداء الرأي والصحافة ولم تكن غايته تبربر ارتكاب جرائم بطريق النشر.
“حيث أنه عن الدفع بعدم دستورية نص المادة 216 من قانون الإجراءات الجنائية و 102 مكرر من قانون العقوبات و27 من القانون رقم 175 لسنة 2018 لمخالفتهم للمواد 65 و 70 و 71 من الدستور بقالة أن الدستور كفل حرية الرأي والتعبير وكذا حرية النشر للمصريين وحظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية فمردود بما هو مقرر إن النص في المادة 4 من الدستور علي أن الحرية الشخصية مكفولة – ذلك لا يمنع المشرع من وضع قوانين لتنظيمها في مصلحة الجماعة فإن هذه الحرية كغيرها من سائر الحريات لا تقوم بالنسبة إلى الفرد إلا في حدود احترامه حريات غيره – فحين يكون من وراء إستعمالها اﻹضرار بالغير فإنها لا تكون في حقيقة أمرها حرية ولا تكون بالتبع مكفولة وكان القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا نص في المادة 29 من أنه :” تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح على الوجه التالي أ-…، ب- إذا دفع أحد الخصوم أثناء نظر الدعوى أمام إحدي المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة ورأت المحكمة أو الهيئة أن الدفع جدي أجلت نظر الدعوى وحددت لمن آثار الدفع ميعاداً لا يجوز ثلاثة شهور لرفع الدعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية العليا فإذا لم ترفع الدعوى في الميعاد اعتبر الدفع كأن لم يكن ..” وكان مفاد هذا النص أن محكمة الموضوع وحدها هي الجهة المختصة بتقدير جدية الدفع بعدم الدستورية وأن اﻷمر بوقف الدعوى المنظورة أمامها وتحديد ميعاد لرفع الدعوى بعدم الدستورية جوازي لها ومتروك لمطلق تقديرها – وأنه من المقرر أن نص المادة 29 من القانون رقم 48 لسنة 1979 بشأن المحكمة الدستورية العليا يتسق والقاعدة العامة المقررة في المادة 16 من القانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية المعدل ومفادها أن محكمة الموضوع وحدها هي الجهة المختصة بتقدير جدية الدفع بعدم الدستورية ولما كان ذلك وكانت جريمة إذاعة أخبار كاذبة المؤثمة بالمادة 102 مكرر من قانون العقوبات تخرج عن الحماية التي كفلها الدستور لحرية إبداء الرأي والتعبير كما أنها لا تندرج تحت تلك الجرائم التي حظر الدستور بمادته 71 توقيع عقوبة سالبة للحرية علي مرتكبها إذ أن ذلك الحظر الذي أورده الدستور غايته حماية حرية إبداء الرأي والصحافة ولم تكن غايته تبربر ارتكاب جرائم بطريق النشر أما بخصوص المادة 216 من قانون الإجراءات الجنائية فإنها لم تخالف نصا في الدستور ذلك أن الدستور لم يرسم او ينظم اختصاصاً لمحكمة الجنايات بنوع معين من الجرائم بأن المشرع هو من نظم اختصاص المحاكم بنظر القضايا ومن ثم فإن تدخل المشرع باحاطة نوع معين من الجرائم بمزيد من الضمانات وجعلها من اختصاص محكمة الجنايات فلا مخالفة فيه لنصوص الدستور وترى المحكمة في حدود سلطتها التقديرية أن ما ينعاه الدفاع في هذا الخصوص لم تستظهر منه المحكمة شبهة عدم الدستورية وأن ما تناوله في دفعه قصد به إطالة أمد التقاضي وتعطيل الفصل في الدعوي وهو ما يصمه بعدم الجدية ولا تجد محلاً ﻹجابة طلب الوقف لرفع الدعوي بعدم الدستورية أمام المحكمة العليا وتلتفت عنه.”
محكمة جنايات القاهرة، جلسة 17 مارس 2021، حكم في الدعوى رقم 12499 لسنة 2020 جنح التجمع اﻷول
ثانيًا: المحكمة الاقتصادية
في سبتمبر 2023، قضت محكمة القاهرة الاقتصادية بحبس أحد المتهمين لارتكاب جريمة تعمد إزعاج الغير بإساءة استعمال وسائل الاتصالات.1 وفقًا للحكم فقد نشر المتهم على حسابه الخاص على فيسبوك مقالًا يتضمن عبارات تشكل جريمتي سب وقذف المجني عليه، فقضت المحكمة بمعاقبته بالحبس ثلاثة أشهر مع الشغل والنفاذ.
قدم دفاع المتهم أثناء المرافعة دفعًا بعدم دستورية نص المادة رقم (76) من قانون تنظيم الاتصالات الصادر بالقانون رقم 10 لسنة 2003. يقوم الدفع على تضمن نص المادة 76 توقيع عقوبة سالبة للحرية في الجريمة المنصوص عليها في البند 2 بالمخالفة لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية، ومبدأ شرعية التجريم والعقاب.2 استند الدفع في ذلك إلى المواد أرقام 4، 9، 51، 53، 54، 59، 62، 65، 67، 71، 92، 94، 95، 96 من الدستور.
رفضت المحكمة هذا الدفع واعتبرته واردًا على غير أساس من الجدية. فرأت أن الدفع محاولة من المتهم ودفاعه للاستفادة مما تنص عليه المادة 71 من الدستور والحماية المقررة بموجبها للإفلات من انطباق نصوص مواد الاتهام المنطبقة على الواقعة، وإطالة أمد النزاع، وعدم تمكين المحكمة من الفصل في الدعوى. عللت المحكمة الرفض بالأسباب الآتية:
- دشنت المادة 71 من الدستور مبدأ هامًا خاص بحظر الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها تكريسًا لحرية الصحافة. ومن ثم، حظر المشرع الدستوري توقيع عقوبة سالبة للحرية على ممارسة هذه الحريات.
- نص المادة 2/76 من قانون تنظيم الاتصالات لا علاقة له بالجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية أو التي تقع بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري التي حظر الدستور توقيع عقوبة سالبة للحرية على مرتكبها.
- حدد الدستور شروطًا وأحوالًا لا تنطبق على المتهم، خاصة المادة 71 من الدستور، لا يندرج من ضمن فئاتها المتهم الذي تكفل حريته موادًا أخرى من الدستور مثل الخاصة بكفالة حرية الرأي والتعبير.
“ولما كان ذلك وكان دفاع المتهم قد دفع بعدم دستورية المادة 76 لسنة 2003 بشأن تنظيم الاتصالات في عبارات مرسلة لم تتبين بها المحكمة مواطن مخالفة النص للدستور المصري وبيان أوجه ومواطن الاختلاف محل الدفع وذلك حتي يتكشف للمحكمة جدية أو عدم جدية هذا الدفع، وحيث أن هذا الدفع فضلا عن أنه غير ملزم للمحكمة لعدم تعلقة بالنظام العام إلا انه قد جاء غير جدياً وغير صحيح لما هو مستقر عليه من أن المجتمع المصري يحكمة مبدأ سيادة القانون كأساس لمشروعية اﻷعمال.
ولا يقطع في ذلك ما يتساند عليه الدفاع من دفع بعدم دستورية نص المادة 2/76 من قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003 بقولة مخالفتها لمواد الدستور ومنها المادتين 71 ,67 من الدستور، فإن نص المادة 2/76 من قانون رقم 10 لسنه 2003 بشأن تنظيم الاتصالات لا علاقة له بالجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أو التي تقع بسبب علانية المنتج الفني أو الادبي أو الفكري التي نص الدستور المصري الصادر عام 2014 في المادتين 71/67 علي عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية عنها، إذ أن هاتين المادتين من الدستور قد استهلتا شروطا وأحوالاً لا تنطبق عل المتهم وخاصة المادة 71 من الدستور المصري والتي دشنت مبدأً هاماً خاص بحظر الرقابة علي الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها او إغلاقها، وتكريسا لحرية الصحافة – التي كلفها الدستور ممارستها بكل الوسائل – اطلق الدستور قدراتها في مجال التعبير ليظل عطاؤها متدفقا تتصل روافده دون انقطاع فلا تكون القيود الجائزة عليها إلا عدوانا على رسالتها يهئ لانفراط عقدها ومدخلا للتسلط والهيمنة عليها وإيذانا بانتكاسها ومن ثم فقد صار متعينا على المشرع أن يضع من القواعد القانونية ما يصون للصحافة – إصدارا وممارسة – حريتها ومن ثم فقد اتبع المشرع الدستوري حظراً للعقوبة السالبة للحرية لتلك الحريات والتي لا يندرج من ضمن فئاتها المتهم، الذي يكفل حريته موادا اخري من الدستور مثل الخاصة بكفالة حرية الرأي والتعبير طبقا للحدود والأطر الدستورية التي تحمي قيم المجتمع وحريات غيره من المواطنين وإذ المحكمة وهي بصدد استخلاص ذلك تتيقن من محاولة المتهم ودفاعه من الاستفادة مما تنص عليه تلك المادة والحماية المقرره بموجبها للإفلات من انطباق النصوص المنطبقة علي الواقعة وإطالة أمد النزاع وعدم تمكين المحكمة من الفصل في الدعوى ومن ثم يضحى الدفع بعدم دستورية هاتين المادتين بدعوى مخالفة نصوص الدستور وارداً علي غير أساس من الجدية، اﻷمر الذي ترى معه المحكمة أن دفع المتهم في هذا الشأن قد جاء على غير سند من الواقع والقانون وتلتفت عنه المحكمة قاضية برفضه، وتكتفي بإيراد ذلك باﻷسباب دون المنطوق.”
ثالثاً: محكمة الجنح
قضت محكمة جنح مدينة نصر في يناير 2024 بحبس أحد المتهمين لمدة سنة مع الشغل لاتهامه بارتكاب جريمة إذاعة أخبار كاذبة في الخارج. استندت المحكمة في ذلك إلى اتهام النيابة العامة للمتهم بارتكاب هذه الجريمة باستخدام حسابه الشخصي على موقع فيسبوك من داخل لمصر لنشر مقالات أتاح الاطلاع عليها لجميع مستخدميه. 3
قدم دفاع المتهم أثناء المرافعة دفعًا بعدم دستورية نصي المادتين 80 فقرة د، و102 مکررا/1 من قانون العقوبات، لمخالفتهما لنصي المادتين 70، 71 من الدستور. بالإضافة إلى بطلان أمر الإحالة للمحاكمة لنسخهما بموجب نص المادة 71 من الدستور والمادة 29 من القانون رقم 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام.
رفضت المحكمة هذا الدفع وبررت ذلك بأن المتهم غير مخاطب بأحكام قانون تنظيم الصحافة والإعلام، وأن الحساب الذي استخدمه في ارتكاب الواقعة علي موقع التواصل الإجتماعي “فيسبوك” هو حساب شخصي. عللت المحكمة الرفض بالأسباب الآتية:
- تلتزم الدولة بحماية حرية الفكر والإبداع والصحافة والطباعة والنشر وتضمن تكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام بلا رقابة مفروضة عليها سوى أحكام القوانين المنظمة لتلك الحريات، في إطار لا يشكل تحريضًا على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، وينسحب هذا الإطار إلى تطبيق التشريع الخاص بممارسة أعمال الصحافة والإعلام.
- المادة الأولى من قانون تنظيم الصحافة والإعلام نصت على أنه تشريع خاص، ولكل تشريع خاص نطاق تطبيق وفئة مخاطبة بأحكامه، وهذا القانون عرّف ماهية الصحفي والإعلامي، ونص على أن يستثنى من تطبيق أحكامه الحساب الإلكتروني الشخصي.
- لا ينطبق على المتهم أي وصف من الأوصاف المنصوص عليها بالمادة الأولى من القانون، وثبت من مطالعة أدلة الإثبات أن الحساب الذي استخدمه المتهم في ارتكاب الواقعة هو حساب شخصي مرتبط برقم هاتف وببريد إلكتروني مسجل باسمه.
“وحيث أنه عن الدفع الثاني والثالث : بعدم دستورية نص المادتين 80 فقرة د ، 102 مکررا/1 من قانون العقوبات لمخالفتهما لنص المادتين 70، 71 من الدستور المصري و بطلان أمر التقديم للمحاكمة لنسخهما بموجب نص المادة 71 من الدستور والمادة 29 من القانون رقم 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام:
وحيث أن المحكمة تستهل ردها القانوني في هذا الشأن بالإشارة إلى مواد الباب الثالث من دستور جمهورية مصر العربية بعنوان الحقوق والحريات والواجبات العامة في مواده من المادة 51 حتي المادة 64 منها والتي التزمت بها الدولة المصرية وفقا للتعديلات الدستورية التي أدخلت على الدستور المصري حتى تعديل عام 2019 بشكل يكفل حماية الحقوق والحريات نفاذاً لإلتزاماتها الإقليمية والدولية وحيث تنص المادة 65 من الدستور المصري على أن (حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر)
وحيث تنص المادة 67 من الدستور المصري على أن ( حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها. وللمحكمة في هذه الأحوال إلزام المحكوم عليه بتعويض جزائي للمضرور من الجريمة إضافة إلى التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحقه من أضرار منها، وذلك كله وفقا للقانون)
وحيث تنص المادة 70 من الدستور المصري على أن (حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل اﻹعلام المرئية والمسموعة ووسائط اﻹعلام الرقمي وتصدر الصحف بمجرد اﻹخطار علي النحو الذي ينظمه القانون وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث اﻹذاعي والمرئي والصحف اﻹلكترونية)
وحيث تنص المادة 71 من الدستور المصري علي أنه (يحظر بأي وجه فرض رقابة علي الصحف ووسائل اﻹعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العلف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فيحدد عقوباتها القانون)
وحيث تنص المادة 72 من الدستور المصري على أن (تلتزم الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها، بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام)
وتأسيساً على ما تقدم فإن الدولة المصرية في ثوبها التشريعي الجديد تلتزم بحماية حرية الفكر والإبداع الأدبي و حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والإلكتروني وغيرها من طرق النشر وتضمن تكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام بلا رقابة مفروضة عليها سوى أحكام القوانين المنظمة لتلك الحريات وممارستها في إطار لا يشكل تحريضاً على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد فتلك تحدد التشريعات الخاصة عقوبتها ولا يجوز تحريك الدعوى الجنائية ضد مرتكبيها إلا عن طريق النيابة العامة وينسحب هذا الإطار الدستوري العام في حماية حق الرأي والصحافة والإعلام والنشر إلى تطبيق التشريع الخاص المنطبق على ممارسة أعمال الصحافة و الإعلام على نحو ما ثبت بمذكرة دفاع المتهم وهو القانون رقم 180 لسنة 2018 بشان تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام،
وحيث تنص المادة الأولى من القانون رقم 180 لسنة 2018 على أن (يعمل بأحكام القانون المرافق في شأن تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وتسري أحكامه على جميع الكيانات والمؤسسات والوسائل الصحفية والإعلامية والمواقع الإلكترونية ويتثني من ذلك الموقع أو الوسيلة أو الحساب الإلكتروني الشخصي ما لم ينص القانون المرافق على خلاف ذلك.
ولما كان لكل تشريع خاص نطاق تطبيق وفئة مخاطبة باحكامه وكانت نصوص القانون رقم 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة و الإعلام و المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام قد شملت في مادته رقم (۱) تعريفا لبعض الكلمات والعبارات التي انتظمتها نصوصه عرفت ماهية الصحفي والإعلامي والنقيب والمقصود بالصحيفة والإعلام المسموع المرئي أو الإلكتروني إلى آخره من تعريفات تضمنتها تلك المادة، ولما كان الثابت في الفقرة الثانية من المادة الأولى من هذا القانون أنه يستثني من تطبيق أحكامه الموقع أو الوسيلة أو الحساب الإلكتروني الشخصي ما لم ينص القانون المرافق على خلاف ذلك على النحو مار البيان ولما كان المتهم لا ينطبق عليه أي وصفا من الأوصاف و التعريفات المنصوص عليها بالمادة رقم (1) من القانون وكان الثابت للمحكمة من مطالعة أدلة الإثبات التي شافتها النيابة العامة تحقيقاتها أن الحساب الذي استخدمه المتهم في ارتكاب الواقعة علي موقع التواصل الإجتماعي الفيس بوك هو حساب شخصي (…) المربوط برقم الهاتف المحمول (…) مربوط بالبريد الإلكتروني والمسجل باسم المتهم ومن ثم فإن المتهم غير مخاطب بأحكام القانون رقم 180 لسنة 2018 على النحو مار البيان وقد اتفق أمر التقديم للمحاكمة الصادر من النيابة العامة وصحيح الواقع و القانون لا بطلان فيه ولا عوار وهو ما تقضي معه المحكمة برفض هذا الدفع.”
محكمة جنح مدنية نصر، جلسة 18 يناير 2024، حكم في الدعوى رقم 1206 لسنة 2023 جنح مدينة نصر ثان
تعليق على التفسيرات القضائية
على الرغم من أن الأحكام الثلاثة السابقة صدر كل منها عن محكمة جنائية مختلفة، واختلفت مواد الاتهام في كل حكم منهم، إلا أنه يجمعهم النظر في ارتكاب جرائم متعلقة بالنشر والعلانية.
- الحكم الأول أدان المتهمة بارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة (102 مكرر) من قانون العقوبات. تنص المادة على أن
“يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسين جنيها ولا تجاوز مائتى جنيه كل من أذاع عمدا أخبارا أو بيانات أو إشاعات كاذبة إذا كان من شأن ذلك تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة. وتكون العقوبة السجن وغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز خمسمائة جنيه إذا وقعت الجريمة فى زمن الحرب. ويعاقب بالعقوبات المنصوص عليها فى الفقرة الأولى كما من حاز بالذات أو بالواسطة أو أحرز محررات أو مطبوعات تتضمن شيئا مما نص عليه فى الفقرة المذكورة إذا كانت معدة للتوزيع أو لاطلاع الغير عليها ، وكل من حاز أو أحرز أية وسيلة من وسائل الطبع أو التسجيل أو العلانية مخصصة ولو بصفة وقتية لطبع أو تسجيل أو إذاعة شيء مما ذكر.”
- الحكم الثاني أدان المتهم بارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة (76) من قانون تنظيم الاتصالات الصادر بالقانون رقم 10 لسنة 2003. تنص المادة على أن
“مع عدم الإخلال بالحق فى التعويض المناسب، يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من: ١ – ….. ٢ – تعمد إزعاج أو مضايقة غيره بإساءة استعمال أجهزة الاتصالات.”
- الحكم الثالث أدان المتهم بارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة (102 مكرر) والمادة (80 د) من قانون العقوبات. تنص المادة على أن
“يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن 100 جنيه ولا تجاوز 500 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل مصرى أذاع عمدا ًفى الخارج أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية للبلاد وكان من شأن ذلك إضعاف الثقة المالية بالدولة أو هيبتها واعتبارها أو باشر بأية طريقة كانت نشاطًا من شأنه الإضرار بالمصالح القومية للبلاد. وتكون العقوبة السجن إذا وقعت الجريمة فى زمن حرب”
اتفقت الثلاث المحاكم على رفض الدفع بعدم دستورية هذه المواد لمخالفتها أحكام الدستور فيما يتعلق بمبدأ حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية المنصوص عليه في المادتين 67 و71 من الدستور. ورأت كل منهم أن هذا المبدأ لا ينطبق على أي من هذه الجرائم.
كما اتفقت المحاكم في تفسيرها لهذه النصوص الدستورية على أن مبدأ حظر عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية المنصوص عليه في هاتين المادتين من الدستور غايته فقط حماية حرية الصحافة، والمنتج الفني أو الأدبي أو الفكري. ومن ثم، تقتصر الحماية الدستورية على فئات بعينها، دون غيرها.
اجمعت أيضًا المحاكم في الثلاث أحكام بأن المتهم في كل من القضايا ليس من بين الخاضعين لهذه الحماية الدستورية التي تمنع معاقبته بعقوبة سالبة للحرية. وذلك لكونه ليس صحفيًا أو إعلاميًا أو غير ذلك من الفئات المستفادة من هذه الحماية لعدم خضوعه للقوانين الخاصة المنظمة لعمل هذه الفئات، كقانون تنظيم الصحافة والإعلام على سبيل المثال.
أولًا: تعارض التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع نصوص الدستور
على الرغم من اتفاق هذه المحاكم في تفسيرهم القضائي لهذه الحماية الدستورية، إلا أن هذا التفسير يُعد محل انتقاد. يتعارض التفسير مع ذات النصوص الدستورية التي استند إليها، لكونه يحتوي على تضييق لضمانة دستورية لم يقيدها الدستور ولم يفوض المشرع العادي في تقيدها.
جاء الحظر الدستوري لتوقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية مطلقًا ومحررًا من أي قيد. استند الدستور إلى عينية الجريمة وطريقة ارتكاب السلوك الإجرامي فقط، معتبرًا أن النشر أو العلانية هما المعيارين الوحيدين اللازم توافر أي منهما في أي سلوك إجرامي. ومتى توافر أحد المعيارين وجب على المشرع العادي الالتزام بأن تكون العقوبة التي يقررها كجزاء جنائي لهذا السلوك غير سالبة للحرية، دون أن يتوقف ذلك على صفة أو وظيفة أو مهنة مرتكب هذا السلوك.
لم يشترط الدستور في مرتكب الجريمة صفة معينة مثل كونه صحفي أو كاتب أو أديب أو فنان أو ناشر أو غيرهم. إنما جاء الحظر مطلقًا يسري على جميع الأفراد. كما جاء مطلقًا أيضًا من أي قيد على مكان ارتكاب الجريمة، سواء كان ارتكابها في داخل أو خارج البلاد. استثنى الدستور من ذلك ثلاث صور فقط من الجرائم على سبيل الحصر، هم: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن في الأفراد.
من ثم، يجب على المحاكم في تفسيرها القضائي لهذا النص أن تراعي ما يجب على المشرع العادي مراعاته حتى تتسق تفسيراتها مع أحكام الدستور، باعتباره التشريع الأسمى الذي يجب اتباعه. فيجب ألا يتعدى التفسير على ما قرره الدستور من حقوق وضمانات، وألا يقدم تبريرات لنصوص قانونية مشوبة بشبهة عد الدستورية كان يجب على المشرع العادي إلغاءها، أو تعديلها بما يتفق مع أحكام الدستور وضوابطه.
في هذا السياق، أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن
“ملاءمات التشريع هي من أخص مظاهر السلطة التقديرية للمشرع العادي، ما لم يقيده الدستور بحدود وضوابط يتعين على التشريع التزاماها وإلا عُد مخالفاً للدستور، ومن ثم يكون من حق المشرع العادي أن يستقل بوضع القواعد القانونية التي يراها محققة للمصلحة العامة، متى كان في ذلك ملتزماً بأحكام الدستور وقواعده.”4
ثانيًا: تعارض التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع التفسير القضائي للمحكمة الدستورية العليا
تعارض أيضًا التفسير القضائي للمحاكم الجنائية الثلاث مع ما أقرته المحكمة الدستورية في أحد أحكامها الصادرة في يوليو 2024. نظرت المحكمة الدستورية دعوى تطعن في دستورية نص المادة 303 من قانون العقوبات، والتي تنص على أن:
“يعاقب على القذف بغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة عشر ألف جنيه. فإذا وقع القذف في حق موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة، وكان ذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، كانت العقوبة غرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه”
أقرت المحكمة بدستورية نص المادة 303 من قانون العقوبات، واستندت في ذلك إلى المادة 71 من الدستور الذي فسرته تفسيرًا مختلفًا عن تفسير المحاكم الجنائية له. قررت المحكمة أن عقوبة الغرامة المالية المنصوص عليها في المادة 303 تتوافق مع حظر الدستور لتوقيع عقوبات سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية؛ باستثناء الحالات الثلاث المذكورة سابقًا.
عللت المحكمة الدستورية حكمها بالعبارات الآتية:
“وحيث أن العقوبة المرصودة بنص الفقرة الثانية من المادة 303 المطعون عليها قد استوفت مقتضيات القيد الدستوري المنصوص عليه في المادة 71 من الدستور، بحظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، في غير أحوال الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فإنه يكون قد سلم من مخالفة هذا القيد الدستوري، وكان المشرع قد قرر عقوبة الغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه، ولا تزيد عن عشرين ألف جنيه، وهي عقوبة تتدرج بين حدين أدنى وأعلى، تاركاً للمحكمة أن تقدر القدر المناسب منها بحسب جسامة الفعل المنسوب للمتهم، وخطورته الإجرامية؛ فإنه يكون قد انضبط بأحكام دستورية العقوبة، ولم يجترأ على تخومها”5
يتضح مما سبق أن المحكمة الدستورية اعتبرت أن حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية، المنصوص عليه في المادة 71، يسري على جميع الأفراد من دون أي قيد. يتعارض ذلك مع تفسيرات المحاكم الجنائية التي استخدمت ذات النص لتبرير توقيع عقوبات سالبة للحرية في ذات الجرائم.
ثالثًا: تعارض التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع التفسير القضائي لمحكمة النقض
اختلف أيضًا التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع التفسير القضائي لمحكمة النقض في ذات الموضوع. أقرت محكمة النقض في أحد أحكامها الحديثة مبدًأ قضائيًا بشأن حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية. جاء ذلك المبدأ في حكم لها في أحد الدعاوى القضائية التي أدين فيها المتهم بارتكاب جريمتين أحدهم نشر أخبار كاذبة.
قضت محكمة الجنايات بمعاقبة المتهم بالحبس لمدة سنتين مع الشغل وتغريمه مبلغ عشرين ألف جنيه. طعن المتهم على هذا الحكم أمام محكمة النقض التي قبلت الطعن وألغت ما قُضي به من عقوبات سالبة للحرية. استندت المحكمة في قضائها إلى المادتين67 و71 من الدستور الساري، باعتبارهما الأساس الدستوري لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية.
قررت المحكمة أن:
“المستفاد من نص المادتين 67، 71 من الدستور أن الشارع وضع فيهما سياجاً دستورياً لحماية حرية الفكر والإبداع ونصتا على منع توقيع أي عقوبة سالبة للحرية للجرائم التي ترتكب بسببها واستثنى من ذلك الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد فقد ترك ذلك للقانون.”6
ردد الحكم مضمون ما نص عليه الدستور دون أي تقييد أو استثناء. كما يُعد الحكم أيضًا من السوابق القضائية الرئيسة لمحكمة النقض في شأن التعرض لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية. على الرغم من أن هذا الحكم جاء سابقًا للأحكام الجنائية الثلاثة المشار إليها، وعلى الرغم من أن المحاكم الجنائية ينبغي عليها الالتزام بمبادئ وتفسيرات محكمة النقض باعتبارها المحكمة الأعلى في درجات محاكم القضاء العادي، إلا أنها رأت خلاف ذلك في تفسيرها غير الصحيح لهذه الضمانة الدستورية.
رابعًا: تعارض التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع التزام المشرع بمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية
حاول التفسير القضائي للمحاكم الجنائية غض الطرف عن تراخي المشرع العادي عن الالتزام بأحكام الدستور وعدم التعرض للنصوص العقابية في جرائم النشر أو العلانية المخالفة للدستور بالتعديل أو الإلغاء. كما حاول تبرير تطبيق عقوبات جنائية سالبة للحرية مخالفة لأحكام الدستور.
على الرغم من ذلك، يصطدم ذلك التفسير مع المشرع العادي الذي كان أكثر التزامًا من المحاكم الجنائية بالضمانة الدستورية الخاصة بعدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية. أقر المشرع تعديلات محدودة على العقوبات المقررة لبعض جرائم النشر أو العلانية، إضافة إلى مراعاته لطبيعة العقوبة في جرائم النشر أو العلانية التي استحدثها بعد إقرار دستور 2014.
بعد إقرار وسريان الدستور الحالي التزم المشرع بهذا المبدأ فيما استحدثه من جرائم نشر أو علانية. أحد أهم الأمثلة هو قانون مكافحة الإرهاب الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 94 لسنة 2015. تضمن القانون بعض جرائم النشر والعلانية، ومن بينها المادة (35)، التي جاء نصها يجرم الآتي:
“نشر أو إذاعة أو عرض أو ترويج أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أعمال إرهابية وقعت داخل البلاد، أو عن العمليات المرتبطة بمكافحتها بما يخالف البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع،”
عاقب المشرع من تعمد ارتكاب هذه الجريمة بعقوبة غير سالبة للحرية، وهي الغرامة التي لا تقل عن مائتى ألف جنيه ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه..
يتكرر الأمر أيضًا في جريمة أخرى من جرائم النشر أو العلانية المنصوص عليها في المادة (36) من ذات القانون.
نصت المادة على أن
“يحظر تصوير أو تسجيل أوب ث أو غرض أية وقائع من جلسات المحاكمة فى الجرائم الإرهابية إلا بإذن من رئيس المحكمة المختص، ويُعاقب بغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه كل من خالف هذا الحظر.”
يتضح من ذلك أن المشرع التزم بعدم توقيع عقوبة سالبة للحرية. وحينما طرأ تعديل على هذه المادة لاحقًا بالقانون رقم 149 لسنة 2021 يتضمن تشديد للعقوبة، التزم المشرع مرة أخرى بهذه الضمانة الدستورية. زاد المشرع في هذا التعديل من مقدار العقوبة المالية فقط، لتصبح الغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة ألف جنيه.7
في مثال من قانون العقوبات، استحدث المشرع المادة (186 مكرر) لتضاف إلى الباب الرابع عشر من الكتاب الثاني لقانون العقوبات الخاص بالجرائم التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من وسائل النشر أو العلانية. جرّم نص المادة تصوير أو تسجيل كلمات أو مقاطع أو بث أو نشر أو عرض بأي طريق من طرق العلانية لوقائع جلسة محاكمة مخصصة لنظر دعوى جنائية دون تصريح من رئيس المحكمة المختصة بعد أخذ رأي النيابة العامة. عاقب المشرع مرتكب هذه الجريمة بعقوبة غير سالبة للحرية، وهي الغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه، حتى في حالة العود كظرف مشدد. التزم المشرع بهذا الحظر وقرر مضاعفة عقوبة الغرامة دون أي عقوبة سالبة للحرية.8
الهوامش
1 محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 16 سبتمبر 2023، حكم في الدعوى رقم 1327 لسنة 2023 جنح اقتصادية القاهرة.
2 تنص المادة 76 من قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003 على أن “مع عدم الإخلال بالحق في التعويض المناسب، يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من: 1ـ استخدم أو ساعد على استخدام وسائل غير مشروعة لإجراء اتصالات. 2ـ تعمد إزعاج أو مضايقة غيره بإساءة استعمال أجهزة الاتصالات”.
3 محكمة جنح مدينة نصر، جلسة 18 يناير 2024، حكم في الدعوى رقم 1206 لسنة 2023 جنح مدينة نصر ثان.
4 حكم المحكمة الدستورية العليا – جلسة 18-2-1984 – الدعوى رقم 93 لسنة 4 قضائية دستورية.
5 حكم المحكمة الدستورية العليا – جلسة 6-7-2024 – الدعوى رقم 60 لسنة 22 قضائية دستورية.
6 محكمة النقض، الدائرة الجنائية، جلسة 25-10-2020، الطعن رقم 19196 لسنة 88 قضائية.
7 قانون رقم 149 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون قانون مكافحة الإرهاب – الجريدة الرسمية – العدد 45 تابع – في 11 نوفمبر 2021.
8 قانون رقم 71 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات – الجريدة الرسمية – العدد 23 مكرر – في 13 يونية 2021.