الحق في استخدام الطيف الترددي في مصر: نحو حوكمة رقمية عادلة لمورد نادر

مقدمة

يُعَدّ الطيف الترددي الراديوي موردًا طبيعيًا نادرًا، ويمثّل ركيزة أساسية في البنية التحتية للاتصالات اللاسلكية المعاصرة. يمكن تشبيه الطيف الترددي بمجموعة من الطرق أو المسارات غير المرئية في الهواء، تُستخدم لنقل إشارات لاسلكية بين الأجهزة، مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الراديو والتلفاز وأجهزة Wi-Fi. ولكل نوع من أنواع الخدمات (كالإذاعة، والاتصالات، والإنترنت) مسار خاص بتردد معين، يضمن عدم تداخل الإشارات مع بعضها البعض. 

بحكم أن عدد هذه الترددات محدود، وجب تنظيم استخدامها بعناية كي لا تطغى خدمة على أخرى، وكي يحصل الجميع على فرصة متساوية للنفاذ إلى هذه المسارات. لذا، يخضع الطيف الترددي لأنظمة تنظيم دقيقة، تهدف إلى ضمان تخصيصه وتوزيعه بشكل عادل وفعّال بين الاستخدامات المختلفة، بما يتماشى مع المصلحة العامة.

تتناول هذه الورقة الإطار القانوني والمؤسسي لإدارة الطيف الترددي في مصر، وتبحث في مدى توافقه مع مبادئ العدالة الرقمية وحقوق الإنسان. تنطلق الورقة من تأصيل الحق في استخدام الطيف الترددي كامتداد لحرية التعبير والاتصال، وتُسلّط الضوء على مركزية الدولة في تنظيم هذا المورد، وانعكاسات ذلك على التعددية الإعلامية والمبادرات المجتمعية.

كما تتناول الورقة العلاقة بين سياسات الطيف والتفاوت الرقمي، وتعرض نماذج مقارنة من دول أخرى تتيح فرصًا أوسع للمجتمع في النفاذ والابتكار. وفي الختام، تقدّم الورقة عدد من التوصيات التي تستهدف تعزيز الشفافية والمشاركة، وتوسيع قاعدة المستفيدين من هذا المورد الحيوي.

إدارة الطيف الترددي وضمان الحق في الاتصال

في السياق المصري، أقرّ المشرّع صراحةً بأن الطيف الترددي يُعدّ من الموارد الطبيعية المحدودة. فتنص المادة (49) من قانون الاتصالات رقم 10 لسنة 2003 على أن “الطيف الترددي مورد طبيعي محدود، والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات هو الجهة المسؤولة عن تنظيم وإدارة جميع الشؤون المتعلقة باستخدامه طبقًا لأحكام هذا القانون”.

يُرسّخ هذا النص الوضع القانوني للدولة كمتحكّم رئيسي في إدارة الطيف، ويُسلّط الضوء على الحاجة إلى إرساء نظام حوكمة رقمية عادلة يضمن عدم احتكار هذا المورد الحيوي من قبل جهات بعينها، ويُراعي مبادئ الشفافية والتعددية والمشاركة المجتمعية.

من منظور حقوقي، يُعَد ضمان الوصول المنصف إلى هذا المورد بمثابة تمكين للحقوق الرقمية وامتدادًا للحق في حرية التعبير وتداول المعلومات. تنص المواثيق الدولية، كالمادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على حق كل فرد في التماس المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها عبر أي وسيلة إعلام ودونما اعتبار للحدود. وبما أن البث الإذاعي والتلفزيوني والاتصالات اللاسلكية تندرج جميعها تحت هذه الوسائل، فإن التحكم في الطيف الترددي يعني عمليًا التحكم في وسائل ممارسة هذا الحق.

ظهر التأصيل الحقوقي لفكرة “الحق في استخدام الطيف الترددي” كاستجابة للتحدي التاريخي المتمثل في ندرة الترددات وحاجة الدول لتنظيم استخدامها. فمنذ بدايات عصر الراديو اعتُبر الطيف موردًا عامًا نادرًا يستوجب التوزيع العادل. وفي كثير من البلدان الديمقراطية، تطوّر الأمر إلى الاعتراف بحقوق الجمهور في هذا المورد عبر سياسات تضمن تنوّع الجهات الحاصلة على التراخيص (حكومية، خاصة، مجتمعية) لتحقيق التعددية الإعلامية ومنع الاحتكار.

على سبيل المثال، تطرح مبادئ منظمة المادة 19 بشأن تنظيم البث أن عملية تخطيط الترددات يجب أن تكون مفتوحة وتشاركية. وأن خطة توزيع الترددات ينبغي أن تضمن تقاسمًا منصفًا للترددات المخصصة للبث بين ثلاثة مستويات: الخدمة العامة، والخاصة، والمجتمعية. 

كما تطرح هذه المبادئ إمكانية حجز نطاقات معينة للمستقبل لضمان وجود مساحة للبث المجتمعي غير الربحي. تنطلق هذه الرؤية من حق المجتمع، بمختلف فئاته، في إيصال صوته عبر الأثير، وعدم قصر هذا الامتياز على الحكومات أو الشركات الكبرى.

على الصعيد الدولي، برز أيضًا حق المجتمعات الأصلية في إدارة وسائل اتصالها كجزء من حقوقها المعترف بها. فمثلاً، ينص إعلان الأمم المتحدة لحقوق الشعوب الأصلية (2007) في المادة (16) على حق الشعوب الأصلية في تأسيس وسائل إعلام خاصة بها بلغاتها، وفي الوصول إلى جميع أشكال وسائل الاتصال غير المملوكة لها.

فعلّت بعض الدول هذا الحق عبر تخصيص تراخيص طيف ترددي لمشاريع اتصالات تديرها المجتمعات المحلية بشكل ذاتي. مثل هذه الخطوات تستند إلى فهم حديث لحقوق الإنسان يعتبر الوصول إلى الإنترنت والاتصالات عنصرًا جوهريًا من المشاركة في المجتمع المعاصر، لا يقل أهمية عن الوصول إلى الموارد المادية التقليدية.

في مصر، ورغم عدم وجود نص دستوري صريح يُعرّف الطيف الترددي كحق عام، إلا أن الدستور الحالي تضمّن مواد ذات صلة بحرية الإعلام والاتصال. فقد أكدت المادة (70) من الدستور حق المواطنين في إصدار الصحف ووسائل الإعلام بمجرد الإخطار، وحقهم في ملكية وإدارة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والرقمية. كما حظرت المادة (71) الرقابة المسبقة على وسائل الإعلام في غير أزمنة الحرب والتعبئة العامة. 

تشير هذه المواد ضمنيًا إلى أن الوصول إلى منصات الاتصال والإعلام ينبغي ألا يكون حكرًا على الدولة وحدها. وبالمثل، فإن تمكين الأفراد والمجتمع المدني من استخدام الطيف الترددي لتأسيس إذاعات محلية أو شبكات اتصال مجتمعية يتوافق مع مبدأ التعددية الإعلامية الذي يتبناه الدستور. ومع ذلك، قد تفرض القيود القانونية تحديات كبيرة أمام تفعيل هذه الحقوق دون إجراء إصلاحات هيكلية.

بشكل عام، تُعَد السيطرة على الطيف الترددي في جوهرها سيطرة على منفذ من منافذ حرية التعبير والاتصال. وعليه، فإن أي سياسة لإدارة هذا المورد ينبغي أن تأخذ في الحسبان التزامات مصر تجاه حقوق الإنسان، وضمان ألا يؤدّي التنظيم إلى تقييد غير مشروع لتداول المعلومات أو إلى إقصاء لفئات من حق الاتصال. بل على العكس، يجدر أن يكون التنظيم عونًا على سد الفجوات في الاتصال وضمان وصول صوت المهمّشين، من خلال إتاحة المجال لمبادرات أهلية ومجتمعية لاستخدام الطيف في إطار القانون.

السياق القانوني والمؤسسي في مصر

لفهم كيفية إدارة الطيف الترددي في مصر، من الضروري تحليل الإطار القانوني والمؤسسي الذي يحكم هذا المورد. يُشكّل قانون الاتصالات، وتعديلاته اللاحقة، العمود الفقري لهذا الإطار. أسّس القانون الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات (NTRA) وهيكلية لجنة تنظيم الترددات، وحدد شروط منح التراخيص وضوابط استخدام الأجهزة اللاسلكية. كما أثّرت تطورات مؤسسية لاحقة، خاصة في مجال الإعلام، على توزيع الاختصاصات بين مختلف الهيئات، بما في ذلك إنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام عام 2018.

أولًا: الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وصلاحياته

أُنشئ الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات بموجب قانون الاتصالات كهيئة وطنية مختصة بكل ما يتعلق بتنظيم قطاع الاتصالات. يمنح القانون الجهاز سلطات واسعة تشمل إصدار تراخيص تشغيل شبكات الاتصالات وخدماتها، وإدارة طيف الترددات، ووضع معايير الجودة، وحماية حقوق المستخدمين. كما ينص القانون على أن الجهاز هو المسؤول عن إدارة جميع شؤون استخدام الطيف. ويعني ذلك عمليًا أنه لا يمكن لأي جهة (حكومية أو خاصة) استخدام أي تردد في مصر إلا بإذن وترخيص رسمي من الجهاز.

ينص القانون أيضًا على إنشاء لجنة تنظيم الترددات ضمن الهيكل التنظيمي. تتشكل هذه اللجنة بقرار من وزير الاتصالات، ويرأسها الرئيس التنفيذي للجهاز، وتضم في عضويتها ممثلين عن جهات سيادية وأمنية (رئاسة الجمهورية، الدفاع، الداخلية، الأمن القومي) إضافة إلى ممثل اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) وثلاثة أعضاء يرشحهم وزير الاتصالات.

تختص اللجنة “بتنظيم الطيف الترددي”، ما يعني أنها الهيئة العليا التي تعتمد خطة توزيع الترددات بين الاستخدامات المختلفة. يُلاحظ هنا أن تركيبة اللجنة تميل بشكل كبير لصالح الأجهزة الحكومية والأمنية، مع غياب أي تمثيل للمجتمع المدني أو القطاع الخاص غير الحكومي. وينعكس هذا في القرارات التي تتخذها اللجنة، حيث تغلب عليها اعتبارات الدولة وأولوياتها (خاصة الأمنية) عند إعداد خطط الطيف.

على صعيد التراخيص، يفرض القانون في المادة 51 أنه “لا يجوز استخدام تردد أو حيز ترددات إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من الجهاز“. كما يضع شروطًا لمنح الترخيص، منها مراعاة متطلبات القوات المسلحة وأجهزة الأمن القومي قبل إصدار أي ترخيص.

بالإضافة إلى ذلك، يُلزم القانون الجهاز القومي بوضع إجراءات علنية وشفافة للتقدم للحصول على الترددات، مع سقف زمني (90 يومًا) للبت في طلب الترخيص. هذه الأحكام تهدف نظريًا إلى ضمان عملية منظمة وعادلة لمنح الترددات، إلا أن اشتراط موافقة الجهات الأمنية يمنح تلك الجهات حق النقض الضمني على أي طلب إذا رأت فيه تعارضًا مع مصالحها.

علاوة على ذلك، أقر القانون مبدأ المقابل المالي للترخيص في المادة 53، حيث يحدد الجهاز رسوم استخدام الترددات على مختلف الخدمات اللاسلكية. ويلتزم جميع مستخدمي الطيف بسداد هذه الرسوم (باستثناءات محدودة للاتحاد الوطني للإذاعة والتلفزيون في نطاقات مخصصة له).

استخدم الجهاز بالفعل نظام الرسوم والمزادات كمصدر دخل كبير للدولة. فعلى سبيل المثال، عند طرح تراخيص الجيل الرابع  (4G) عام 2016، دفعت الشركات مبالغ طائلة للحصول عليها. فقد دفعت شركة أورنج نحو 484 مليون دولار، بينما بلغت حصة شركة اتصالات مصر حوالي 535 مليون دولار للحصول على الطيف الترددي للجيل الرابع.

تعكس هذه الأرقام الكبيرة توجه الدولة نحو تعظيم العائد المالي من الطيف، (كما نصت عليه المادة 50 من القانون)، لكنها في الوقت نفسه تثير تساؤلات حول تأثير هذه الكلفة على المستهلكين وعلى قدرة شركات جديدة أصغر على الدخول للسوق.

ثانيًا: تطور التنظيم في البث الإذاعي والتلفزيوني

رغم أن قانون الاتصالات أعطى الجهاز ولجنة تنظيم الترددات سلطة على جميع الترددات، إلا أنه استثنى صراحةً ترددات البث الإذاعي والتلفزيوني المستخدمة من قبل اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) من كثير من أحكام الترخيص. فالمادتان 51 و52 وغيرها تعفيان الترددات المخصصة دوليًا للإذاعة والتلفزيون من اشتراطات الترخيص المسبق من الجهاز.

كما تعفي المواد أجهزة البث الخاصة باتحاد الإذاعة والتلفزيون من بعض القيود، مع الاكتفاء بإلزام الاتحاد بإخطار الجهاز بحيازته أو تشغيله لهذه الأجهزة. كان هذا الاستثناء التاريخي منطقيًا في ظل الوضع السابق حين كان ماسبيرو هو المحتكر الحكومي للبث، وبالتالي تُركِت تردداته واحتياجاته التقنية بمنأى عن تعقيدات الترخيص الاعتيادي.

بيد أن المشهد الإعلامي تغير جزئيًا بعد دستور 2014، الذي نص على إنشاء هيئات مستقلة لتنظيم الإعلام. ففي 2018، صدر قانون تنظيم الصحافة والإعلام الذي أنشأ المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وهيئة وطنية للإعلام بديلة لهيئة الإذاعة القديمة. مُنح المجلس صلاحية منح التراخيص لإنشاء وتشغيل الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والرقمية. 

نتيجة لذلك، أصبح على من يرغب بتأسيس قناة تلفزيونية أو محطة إذاعية خاصة الحصول على ترخيص محتوى وتشغيل من المجلس الأعلى، إلى جانب التنسيق مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لتوفير التردد المناسب. قبل 2018، كانت العملية تفتقر لوضوح مماثل، إذ تلجأ القنوات الخاصة للبث عبر الأقمار الصناعية من خلال تراخيص استثمارية ثم التنسيق مع نايل سات والجهاز لتخصيص تردد. أما اليوم، فقد توحّد المسار تنظيميًا لكن تحت إشراف المجلس الأعلى للإعلام الذي يضع معايير تتعلق بالمحتوى والملكية.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى عدم وجود إطار قانوني صريح يسهّل إطلاق إذاعات مجتمعية صغيرة أو محلية. فالتراخيص الحالية إما لمحطات قومية كبيرة (حكومية أو خاصة تجارية) أو لمنصات رقمية. لم ينص قانون تنظيم الإعلام على حصص للمجتمع المحلي في الأثير، على عكس بعض الدول التي تخصص نسبة من الترددات للإذاعات المجتمعية غير الربحية. وبالتالي تبقى أية مبادرة أهلية لإنشاء محطة بث رهن نفس الإجراءات والشروط المطبقة على المؤسسات التجارية الكبرى، ما يجعل دخولها المجال أمرًا عسيرًا ما لم تحظ بدعم سياسي أو علاقات نافذة.

ثالثًا: ضبط الأجهزة والمعدات اللاسلكية

جانب آخر مهم في الإطار القانوني هو التحكم بالأجهزة والمعدات اللاسلكية. فالمادة 52 من قانون الاتصالات تحظر حيازة أو تشغيل أي جهاز لاسلكي داخل البلاد دون موافقة الجهاز القومي، باستثناء أجهزة بث ماسبيرو ضمن نطاقه الخاص. يعني ذلك أن حتى استيراد معدات (Wi-Fi) أو أجهزة إرسال راديو هواة يتطلب ترخيصًا أو موافقة.

وقد شُددت هذه الأحكام مؤخرًا عبر تعديل قانون الاتصالات في ديسمبر 2022، بموجب القانون 172 لسنة 2022. غلّظ هذا التعديل عقوبات حيازة أو استخدام أجهزة اتصالات دون تصريح. وعللت الحكومة ذلك بمواجهة انتشار استخدام المعدات غير المرخصة التي قد تضر بالأمن أو تسبب تداخلات ضارة. الواقع أن كثيرًا من هذه الأجهزة “غير المرخصة” تشمل، على سبيل المثال، مقوّيات الشبكة (Signal Boosters) التي يلجأ إليها المواطنون في المناطق ضعيفة التغطية، أو أجهزة توزيع الإنترنت منزليًا عبر مسافات أبعد من المسموح.

تشديد العقوبة يعني أن من يقوم بمبادرات ذاتية لتحسين الاتصال (كأن يمد شبكة واي فاي لجيرانه في قرية نائية) قد يعرّض نفسه للمساءلة القانونية إن لم يحصل على التصاريح اللازمة، والتي غالبًا ما لا تكون متاحة للأفراد العاديين.

رابعًا: المركزية والاحتكار

يتّسم الإطار القانوني المصري بالصرامة والمركزية، حيث تُحتكر سلطة التوزيع والترخيص من قبل الجهاز القومي، الذي يخضع بدوره لنفوذ تنفيذي وأمني قوي. وقد حقق هذا الإطار بعض المكاسب على صعيد ضبط الطيف وزيادة الإيرادات، لكنه يفتقر إلى مبادئ الحوكمة التشاركية والمساءلة والاستقلالية.

كما أن تقاطع الاختصاصات بين قانوني تنظيم الاتصالات والإعلام، في غياب تنسيق فعال، يعقّد من مسارات الترخيص، ويفتح المجال أمام تضارب الاختصاصات. وتبقى الاستقلالية المؤسسية لكل من الجهاز القومي والمجلس الأعلى للإعلام محل تساؤل، خاصة في ظل غياب معايير الإفصاح والرقابة المجتمعية.

توصي المبادئ الدولية، مثل تلك التي تُقرّها منظمة المادة 19، بأن تكون هيئات تنظيم الطيف والبث مستقلة، شفافة، وتُمثّل مختلف الأطراف المعنية، وهو ما لا يتحقق بشكل كافٍ في الحالة المصرية.

دور الطيف الترددي في السيطرة الرقمية

لطالما أدركت الأنظمة الحاكمة أن التحكم في موارد الاتصالات يمنحها نفوذًا واسعًا على الفضاء الرقمي والمعلوماتي، ويُعدّ الطيف الترددي من أبرز هذه الموارد وأكثرها استراتيجية. فالسيطرة على الطيف لا تعني فقط التحكم في من يحق له البث أو تقديم خدمات الاتصال، بل تفتح المجال أمام فرض عزلة رقمية على مناطق أو مجموعات بعينها عبر إجراءات حجب أو قطع الاتصالات.

في السياق المصري، برزت ملامح هذا النمط من السيطرة منذ قانون الاتصالات في عام 2003. فربط القانون إدارة الطيف بتحقيق التوازن بين متطلبات الأمن القومي وتنمية قطاع الاتصالات. كما نص القرار الوزاري رقم 258 لسنة 2003 على أن تنظيم الطيف ينبغي أن يخدم الصناعات الوطنية من جهة، ويُلبّي اعتبارات الأمن القومي من جهة أخرى. ويُجسّد هذا الربط التوجه العام نحو التعامل مع الطيف بوصفه ملفًا أمنيًا بامتياز، لا يقل في أهميته الاستراتيجية عن موارد الطاقة أو المياه.

ويُلاحظ في تشكيل لجنة تنظيم الترددات أن الطابع الأمني حاضر بقوة؛ إذ تضم اللجنة ممثلين عن وزارتي الدفاع والداخلية، وهيئة الأمن القومي. يُكرّس هذا التكوين الغلبة للصوت الأمني في قرارات تخصيص الطيف وإدارته، ويعني ضمنًا أن اعتبارات الشفافية والتعددية قد تأتي في مرتبة أدنى.

وقد مكّنت هذه السيطرة الرسمية على الطيف الدولة من تنفيذ إجراءات تحكم رقمي غير مسبوقة، أبرزها قطع خدمات الاتصالات والإنترنت خلال ثورة يناير 2011. فشهدت البلاد في تلك الفترة إغلاقًا شبه تام لشبكات الهاتف المحمول والإنترنت لمدة خمسة أيام، في خطوة منسّقة بين الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وشركات الاتصالات، تنفيذًا لأوامر أمنية. قضت محكمة القضاء الإداري لاحقًا بعدم دستورية هذه الإجراءات، إلا أن الحادثة مثّلت نموذجًا صارخًا على ما تتيحه السيطرة على الطيف من قدرة على عزل مجتمع بأكمله رقميًا.

إلى جانب القطع الشامل، ثمة أدوات أقل حدّة للسيطرة الرقمية ترتبط بشروط التراخيص وامتثال الشركات. فشركات الاتصالات في مصر ملزمة قانونًا بالتعاون مع الجهات الأمنية في تنفيذ أوامر الحجب، وتوفير أدوات المراقبة، وفقًا لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018. بالإضافة إلى ذلك، لدى الجهاز القومي سلطة إصدار أوامر الحجب، ما أدى خلال السنوات الأخيرة إلى حجب مئات المواقع الصحفية والحقوقية، دون إجراءات قضائية شفافة.

كما تمنح المادة 67 من قانون الاتصالات السلطات المختصة الحق في وضع يدها على جميع الشبكات وخدمات الاتصالات وإدارتها أثناء الطوارئ أو في سياقات الأمن القومي. ولم تُعرّف المادة مفهوم هذه المصطلحات، مما يمنح الدولة غطاءً قانونيًا واسعًا لإجراءات استثنائية تمس حقوق المستخدمين.

من جهة أخرى، تم توظيف نظام التراخيص ذاته كوسيلة للتمييز السياسي، حيث ظلت تراخيص البث الإذاعي والتلفزيوني حكرًا على الجهات الحكومية أو الجهات القريبة من الدولة، فيما تم استبعاد الأصوات المستقلة أو المعارضة. وعند فتح المجال أمام إذاعات خاصة، كانت التراخيص تُمنح غالبًا لشخصيات ذات صلة مباشرة بالمؤسسات الأمنية أو رجال أعمال موالين.

التفاوت الرقمي ودور إدارة الطيف

يشير مصطلح الفجوة الرقمية إلى التفاوت في قدرة الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بين فئات المجتمع المختلفة، سواء من حيث البنية التحتية أو المهارات الرقمية أو التكلفة. وفي السياق المصري، تظهر الفجوة الرقمية على عدة مستويات: بين الحضر والريف، بين الرجال والنساء، وبين الشرائح الاقتصادية المختلفة.

تلعب سياسات إدارة الطيف الترددي دورًا مهمًا – وإن كان غير مباشر – في تشكيل هذه الفجوة، عبر تأثيرها على انتشار خدمات الاتصالات اللاسلكية وجودتها وأسعارها. تعرض الورقة في هذا القسم ملامح التفاوت الرقمي في مصر استنادًا إلى أحدث الإحصاءات، وتحلل كيف يمكن لإدارة الطيف المساهمة في ردم هذه الفجوة أو توسيعها.

تشير بيانات عام 2024 إلى تحسّن ملحوظ في مؤشرات الاتصال الرقمي في مصر على المستوى الوطني، لكنها تخفي وراءها فروقًا جغرافية وديموغرافية واضحة. فقد بلغ معدل انتشار استخدام الإنترنت بين السكان حوالي 72.2% في بداية 2024. هذا يعني أن قرابة ثلاثة أرباع المصريين باتوا متصلين بالإنترنت بشكل أو بآخر. كما وصل عدد المستخدمين إلى حوالي 82 مليون شخص. وبالمثل، تجاوز عدد اشتراكات الهاتف المحمول 110 ملايين اشتراك، أي ما يعادل 97% من إجمالي السكان (بعض الأفراد يمتلكون أكثر من خط). هذه الأرقام تعكس انتشارًا واسعًا للبنية التحتية الخلوية والإنترنت المحمول في عموم البلاد.

لكن التفاصيل تكشف اختلالات: فوفق بيانات عام 2022، 84% من سكان الحضر يستخدمون الإنترنت مقابل 63% فقط من سكان الريف. ويظهر التفاوت أيضًا على أساس النوع الاجتماعي، حيث تبلغ نسبة مستخدمي الإنترنت من الذكور 79%، مقارنة بـ65% فقط من الإناث

تعزى الفجوة الريفية-الحضرية إلى عوامل عدة منها: تركّز استثمارات البنية التحتية (كالألياف الضوئية وأبراج المحمول) في المدن الكبرى أكثر من القرى، إضافة إلى ارتفاع معدلات الأمية الرقمية نسبيًا في الريف وصعوبة القدرة على تحمّل تكاليف الخدمة لبعض الأسر الريفية. أما الفجوة الجندرية، فتعود جزئيًا إلى عوامل اجتماعية واقتصادية تجعل وصول النساء للتكنولوجيا أو استفادتهن منها أقل (مثل نسب التعليم وعادات استخدام الموبايل والإنترنت).

إلى جانب ذلك، هناك فروق بين المحافظات: فالمحافظات الحضرية كالقاهرة وبورسعيد والإسكندرية تتصدر معدلات الوصول إلى الإنترنت، بينما محافظات الصعيد وجنوب مصر تسجل نسبًا أدنى. هذه التباينات تضع شرائح كبيرة من السكان خارج نطاق الاقتصاد الرقمي بشكل كامل أو جزئي، مما يؤثر على فرصهم في التعليم والعمل والوصول للمعلومات.

أثر سياسات الطيف الترددي على الفجوة الرقمية

تُعد إدارة الطيف الترددي عاملًا حاسمًا في رسم خريطة النفاذ الرقمي في أي بلد، إذ تُحدّد السياسات المتبعة في تخصيص الترددات وتكلفتها مدى انتشار شبكات الاتصالات اللاسلكية بين المناطق المختلفة. وتعتمد شركات الاتصالات على الحصول على ترددات مناسبة وبشروط ميسّرة لبناء شبكاتها وتوسيع تغطيتها، مما يجعل من سياسات الطيف رافعة للعدالة الرقمية أو على العكس، أداة تعمّق التفاوت الجغرافي والاجتماعي في النفاذ إلى الإنترنت.

وقد أدى ذلك إلى تفاوت فعلي بين الريف والحضر، حيث تستفيد المدن من التحديثات التقنية الأسرع (مثل 4G و5G)، بينما تتأخر المناطق الريفية في الوصول إلى هذه الخدمات. على سبيل المثال، عند طرح خدمات الجيل الرابع عام 2016، ركزت الشركات في البداية على المدن الكبرى، في حين تأخرت تغطية الريف لسنوات. هذا التوزيع غير المتوازن للترددات وسرعات الشبكات يُعمّق الفجوة الرقمية، ويُحد من فرص سكان الأرياف في الاستفادة من الخدمات الرقمية.

من زاوية أخرى، يؤثر شكل إدارة الطيف على إمكانية مشاركة المجتمع في توفير الاتصال، عبر السماح باستخدام نطاقات مفتوحة أو مجانية بدون ترخيص فردي. هذه النطاقات ساهمت عالميًا في تمكين مبادرات أهلية وابتكارات فردية لنشر الإنترنت. وفي مصر، ورغم السماح باستخدام Wi-Fi، تظل هناك قيود قانونية على قوة البث وبعض المعايير التقنية، مما يحدّ من إمكانيات التوسع الذاتي.

في حال قررت الدولة تخصيص نطاقات إضافية للاستخدام العام، فسيُساهم ذلك في تخفيف الضغط عن الشبكات التجارية، ويفتح الباب أمام مبادرات محلية منخفضة التكلفة. كذلك، تُظهر تجارب بعض الدول فعالية سياسات “استعمله أو أخسره” (Use it or lose it)، التي تُحفّز المشغّلين على تغطية المناطق النائية، وإلا يُسمح لجهات بديلة باستخدام الطيف في تلك المناطق. تطبيق هذه السياسات في مصر قد يتيح لمؤسسات محلية أو جمعيات أهلية تشغيل شبكات صغيرة لسد الفجوات، لكن ذلك يتطلب تعديلات تشريعية تضمن مزيدًا من المرونة في تخصيص الطيف.

لا يمكن اختزال التفاوت الرقمي في بُعد الطيف فقط، إذ تتداخل معه عوامل أخرى كالتعليم والبنية التحتية والتكلفة والمهارات الرقمية. إلا أن الطيف يظل شرطًا أساسيًا للاتصال، وتوزيعه العادل والفعال ركيزة من ركائز الإنصاف الرقمي. ولذا، ينبغي أن تُقاس نجاحات سياسات الطيف الترددي بقدرتها على تضييق الفجوة الرقمية لا تعميقها، وهو ما يتطلب إعادة نظر في الأدوات التنظيمية والمالية التي تحكم هذا المورد الحيوي.

الطيف الترددي وحرية الإعلام والمبادرات المجتمعية

يرتبط الطيف الترددي ارتباطًا وثيقًا بالإعلام، إذ يُعد الأساس التقني لعمل البث الإذاعي والتلفزيوني. وقد شهدت مصر عبر تاريخها تحكمًا صارمًا في هذا المورد، بما انعكس سلبًا على تنوع المشهد الإعلامي وحرية التعبير، وأعاق بروز مبادرات إعلامية ومجتمعية مستقلة. يستعرض هذا الجزء من الورقة العلاقة بين سياسات الطيف في مصر وحرية الإعلام من جهة، والمبادرات المجتمعية الساعية للتواصل المستقل من جهة أخرى، مع مقارنات دولية تبرز الفجوة القائمة.

حرية الإعلام وتراخيص البث

احتكرت الدولة المصرية البث الإذاعي والتلفزيوني لعقود طويلة عبر اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو)، الذي سيطر على الأثير بشكل كامل. ومع بدايات الانفتاح النسبي في التسعينيات، ظهرت بعض القنوات الفضائية الخاصة، ثم محطات إذاعية خاصة محدودة، لكنها اقتصرت على نطاقات ضيقة مثل FM في القاهرة والمدن الكبرى. كما ظلت التراخيص محصورة في أيدٍ ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالدولة. لا توجد حتى اليوم في مصر إذاعة مجتمعية محلية تبث على FM رغم وجود العشرات من المحطات الحكومية والخاصة الكبرى.

تضع القوانين المنظمة، مثل قانون تنظيم الصحافة والإعلام، شروطًا مالية وتنظيمية مشددة للحصول على تراخيص. تتضمن هذه الاشتراطات متطلبات رأسمالية وتحريرية وأمنية تجعل من شبه المستحيل على كيان أهلي صغير أو جمعية مجتمعية الحصول على ترخيص إذاعة محلية.

ونتيجة لذلك، لجأت بعض المبادرات الشبابية إلى البث عبر الإنترنت كبديل. لكن هذه المحطات تبقى محاصرة من ناحيتين: ضعف الوصول إلى جمهور واسع بسبب الحاجة إلى أجهزة واتصال بالإنترنت، وكونها خاضعة أيضًا لسلطة المجلس الأعلى للإعلام الذي يفرض تراخيص حتى على الوسائط الرقمية، ويُجيز حجبها.

هذا الإقصاء لصيغ الإعلام المجتمعي ترك أثرًا بالغًا على حرية التعبير والتنوع الثقافي في مصر. فالقنوات والإذاعات المرخصة مملوكة حاليًا لتكتلات إعلامية متحالفة مع أجهزة الدولة، مما أدى إلى تجانس المحتوى وغياب التعددية الحقيقية في الصوت الإعلامي. بالمقارنة، بدأت بعض الدول العربية الأخرى في الاعتراف بالإعلام المجتمعي، كما في تونس والأردن، رغم محدودية التجربة. لكن حتى اليوم في مصر، لا يوجد أي اعتراف رسمي بهذا الشكل من الإعلام.

الشبكات المجتمعية للاتصالات

لا يقتصر الأمر على الإعلام، بل يشمل أيضًا إمكانية بناء شبكات اتصالات محلية. فالشبكات المجتمعية (Community Networks) التي تُبنى وتُدار محليًا لتوفير الاتصال، ما تزال غائبة رسميًا عن البيئة المصرية. هناك بعض المحاولات غير الرسمية من قبل مجتمعات محلية في القرى لنقل الإنترنت من المدن المجاورة عبر وصلات لاسلكية، لكن هذه المبادرات تفتقر إلى الاعتراف القانوني، ويعمل القائمون عليها في الخفاء لتجنب العقوبات.

الإطار التنظيمي في مصر لا يعترف بأي فاعل في مجال الاتصالات سوى الشركات المرخصة من الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، وهو ما يقصي المبادرات المجتمعية بشكل كلي. في غياب هذا الاعتراف، تبقى المناطق غير المربحة اقتصاديًا محرومة، أو تعتمد على حلول غير رسمية قد تكون عُرضة للملاحقة.

تجارب مقارنة في إدارة الطيف الترددي

تتباين سياسات إدارة الطيف الترددي حول العالم، وتعكس في كثير من الأحيان الفلسفة السياسية للدولة، ودرجة التزامها بحقوق الإنسان والتنمية الشاملة. ويمكن لتجارب دولية مختارة أن تلهم صناع القرار بسياسات بديلة تعزز من التعددية، وتوسع النفاذ، وتدمج اعتبارات اجتماعية وثقافية في تنظيم الطيف. يعرض هذا القسم تجارب رائدة ومتميزة في مجالات تخصيص الطيف للمجتمعات، وتيسير الوصول للمناطق المهمشة، وتحقيق التوازن بين الحوكمة والتنمية.

المكسيك: الاعتراف بالطيف كحق للمجتمعات الأصلية

بعد إصلاح دستوري في 2013، تبنّت المكسيك قانون الاتصالات والبث لعام 2014 الذي أقرّ بثلاث فئات من التراخيص: تجارية، وعامة، واجتماعية (بما فيها المجتمعية). هذا الإطار منح المجتمعات الأصلية والإثنية أداة قانونية للوصول إلى الطيف، وألزم المعهد الاتحادي للاتصالات بتخصيص جزء من النطاقات لهذه الجهات. واعتمدت التجربة على مادة دستورية صريحة (المادة 2) تكفل للشعوب الأصلية إدارة شؤونها، بما في ذلك إنشاء أنظمة اتصالات خاصة بها.

أحد أبرز تجليات هذه السياسات تمثل في منح ترخيص لشبكة Telecomunicaciones Indígenas Comunitarias (TIC) لتشغيل شبكات GSM في ولاية واهاكا. تغطي الشبكة عشرات القرى وتوفر خدمات اتصال أساسية بأسعار رمزية. وقد نجحت التجربة نظرًا للدمج العضوي بين الحماية الدستورية، والإرادة السياسية، والإصلاح التشريعي. النموذج المكسيكي يجسّد كيف يمكن تحويل الطيف من مورد احتكاري إلى حق جماعي، يُعزز العدالة الاجتماعية والثقافية.

الولايات المتحدة: نافذة أولوية للقبائل

في خطوة نوعية، خصّصت هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية (FCC) نافذة أولوية لمدة سبعة أشهر للقبائل الأصلية لتقديم طلبات ترخيص لنطاق 2.5GHz في المناطق الريفية التي تشمل أراضيهم. قدمت الهيئة الطيف مجانًا، كاعتراف باحتياج هذه المجتمعات لوسائل اتصال سيادية ومستدامة.

كنتيجة لذلك، حصل أكثر من400 كيانًا قبليًا على تراخيص، من بينها قبيلة نافاجو التي استخدمت النطاق لإنشاء شبكات Wi-Fi و4G داخل أراضيها. تُبرز التجربة أن الاعتبارات التنموية والاجتماعية يمكن أن تتفوق على الاعتبارات المالية، حيث فُضِّل التخصيص المجاني للمجتمعات على المزادات التجارية.

أوروبا: حصة للبث المجتمعي ولوائح مرنة

في عدد من الدول الأوروبية، يُعد البث المجتمعي جزءًا معترفًا به من منظومة الإعلام. في المملكة المتحدة، يوجد منذ عام 2004 نظام رسمي لتراخيص “الراديو المجتمعي”، تمنح بموجبه عشرات التراخيص لإذاعات غير ربحية تخدم أحياء محددة. تُحدَّد ترددات هذه المحطات بعناية، ويُفرض عليها سقف للدخل الإعلاني لضمان استقلالها المجتمعي. وتموّل بعض هذه المحطات جزئيًا من صندوق دعم تُقتطع أمواله من إيرادات الإعلانات على المحطات التجارية.

في فرنسا، يندرج “راديو الجمعيات” ضمن قانون الاتصال ويخضع لتسهيلات تنظيمية وتمويلية مماثلة. الهدف من هذا التخصيص هو تعزيز التنوع السمعي، وإتاحة منصات للمجتمعات المحلية والأقليات للتعبير عن هويتها وصوتها.

إضافة إلى ذلك، تتبنى أوروبا في بعض الدول مفهوم الطيف المشترك (Shared Spectrum)، حيث تُخصَّص ترددات لتجارب جامعية أو لمشغّلين محليين عبر تراخيص مؤقتة.

جنوب إفريقيا: إتاحة الطيف للمجتمع المدني

في ظل التحديات الجغرافية والاقتصادية، اعتمدت جنوب إفريقيا سياسات مرنة نسبيًا في التعامل مع الطيف لصالح المجتمعات. من أبرز هذه السياسات، منح ترخيص تجريبي لمشروع Zenzeleni، وهو شبكة مملوكة لمجتمع محلي في منطقة نائية، اعتمدت على تكنولوجيا بسيطة ومزيج من التوصيلات السلكية واللاسلكية لتوفير خدمات الاتصال.

كذلك، استخدمت الدولة تكنولوجيا TV White Spaces (استغلال الترددات غير المستخدمة في البث التلفزيوني) في مشاريع لتوفير الإنترنت في القرى بالشراكة مع جامعات محلية. وقد وافقت الهيئة المنظمة على استثناءات تنظيمية لتيسير هذه المشاريع، مما مكّن من توصيل الإنترنت لقرى ظلت لعقود خارج التغطية التجارية.

الهند والبرازيل: سد الفجوة عبر سياسة الطيف

اعتمدت الهند منذ التسعينيات سياسة “هاتف لكل قرية”، وشجعت الشركات على التوسع في المناطق الريفية من خلال حوافز ضريبية وتخصيصات ترددية إضافية. الأداة الرئيسية كانت صندوق الخدمة الشاملة (USOF)، الذي يُموّل من رسوم تُفرض على الشركات المرخصة ويُستخدم لبناء البنية التحتية في المناطق المحرومة. هذا الصندوق ساعد في إنشاء آلاف الأبراج التي استفاد منها ملايين المواطنين، ثم أُجّرت للشركات.

أما البرازيل، فاعتمدت قانونًا في 2018 يُشرِّع عمل مزوّدي الإنترنت الصغار (ISPs). ساعد ذلك الكثير من مزودي الخدمة في استخدام تكنولوجيا لاسلكية ونطاقات مفتوحة لتقديم خدمات في المناطق الطرفية والريفية. ووضعت هيئة الاتصالات البرازيلية إطارًا خاصًا يُسهّل حصول هؤلاء على تراخيص من فئة صغيرة، ويمنحهم حماية قانونية دون تحميلهم الأعباء التنظيمية الثقيلة المخصصة للشركات الكبرى.

السياسات البديلة والتوصيات

في ضوء ما سبق، واستعراض النماذج المقارنة دوليًا، تبرز الحاجة الملحة لتبني حزمة من السياسات البديلة والتوصيات العملية لإصلاح منظومة إدارة الطيف الترددي في مصر. يهدف هذا الإصلاح إلى تحقيق العدالة الرقمية، وضمان الشفافية والمشاركة، وفتح المجال لفاعلين جدد من المجتمع المدني والمبادرات المحلية.

أولًا: إصلاحات قانونية وتنظيمية

  1. تعديل المادة 67 من قانون الاتصالات: يجب تقييد صلاحيات الدولة في قطع الاتصالات من خلال إدراج ضوابط قانونية صارمة، مثل تحديد الحالات المسموح فيها بالقطع (الحرب، الكوارث الطبيعية الكبرى)، واشتراط أمر قضائي مسبق أو موافقة مجلس الوزراء، وإخطار مجلس النواب لضمان الرقابة السياسية.
  2. الاعتراف القانوني بالإعلام المجتمعي: ينبغي تعديل قانون تنظيم الإعلام لينص على فئة خاصة من التراخيص للإذاعات المجتمعية والمحلية غير الهادفة للربح، بشروط ميسرة، ورسوم رمزية، وسعات بث محدودة، مع ضمان مشاركة مجتمعية فعلية في إدارتها.
  3. تخصيص نطاقات تجريبية للشبكات المجتمعية: من الممكن استحداث تصاريح تجريبية قصيرة الأجل للجمعيات الأهلية أو الجامعات لتشغيل شبكات لاسلكية محلية في نطاقات ضيقة، بهدف تجربة نماذج اتصال بديلة، بما لا يؤثر على مصالح المشغلين التجاريين.
  4. تمثيل المجتمع المدني في لجنة تنظيم الترددات: ينبغي تعديل تشكيل اللجنة بإضافة عضوين يمثلان المجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية، لضمان طرح رؤى اجتماعية وحقوقية عند اتخاذ قرارات توزيع الطيف.
  5. تعزيز استقلالية الأجهزة التنظيمية: يجب مراجعة أساليب تعيين قيادات الجهاز القومي، وتقليل تبعيتها لوزارة الاتصالات، وضمان استقلال ميزانيتها، ما يُرسخ الفصل بين الجهات المنظمة والجهات التنفيذية.

ثانيًا: سياسات تشجيعية لإشراك فئات جديدة

  1. تخصيص حصة من الترددات للمشاريع المجتمعية: يوصى بحجز 10% من نطاقات البث الإذاعي والتلفزيوني لمشاريع غير ربحية، تُفعَّل تدريجيًا وفق الطلب المجتمعي.
  2. إلزام شركات الاتصالات ببرامج مسؤولية مجتمعية: ينبغي أن يتضمن كل ترخيص جديد بندًا يلزم الشركة بدعم مشروع مجتمعي في أحد مجالات البث أو الاتصالات أو التدريب الرقمي.
  3. سياسة “استخدمها أو شاركها”: يوصى باعتماد نظام مشاركة الطيف وفق نموذج (CBRS)، بحيث يُسمح لمزودين محليين باستخدام الترددات غير المستغلة لفترة محددة.
  4. الاستثمار في التدريب المجتمعي: من المهم تصميم برامج وطنية لتدريب الأفراد على تشغيل الشبكات الصغيرة، وصيانة المعدات، وإدارة المحطات الإعلامية المجتمعية.

ثالثًا: تعزيز الشفافية والمشاركة العامة

  1. نشر الخطط الوطنية للطيف بشكل دوري: ينبغي إصدار وثيقة كل عامين توضح توزيع الترددات، والترددات المزمع طرحها، وسياسات التخصيص.
  2. فتح باب المشاورة العامة: يجب أن تُعقد جلسات استماع علنية قبل القرارات الكبرى، كما يجب أن تُتاح مسودات السياسات للنقاش العام.
  3. آلية لتظلمات التراخيص: ينبغي إنشاء لجنة مستقلة للنظر في شكاوى مقدمي الطلبات غير الموافق عليها، لضمان النزاهة.

رابعًا: تحسين الكفاءة التقنية والإجرائية

  1. تعظيم استخدام الترددات عبر تقنيات المشاركة: يوصى بتشجيع تقنيات التقسيم الزمني/المكاني، لتمكين استخدام أكثر من جهة لنفس التردد.
  2. رصد الترددات غير المستخدمة: يجب أن يطور الجهاز القومي أدوات لتتبع الترددات المهملة، وسحبها أو إعادة تخصيصها عند الضرورة.
  3. تسهيل ترخيص الأجهزة الصغيرة: ينبغي أن يُطبَّق نظام الاعتماد النوعي على الأجهزة ذات المدى القصير، ما يُحرر السوق من البيروقراطية ويشجع الابتكار.

يتطلب تنفيذ هذه التوصيات رؤية سياسية تؤمن بأهمية حوكمة الطيف الترددي كأداة لتحقيق العدالة الرقمية. ورغم أن النتائج لن تكون فورية، إلا أن تبني خطوات تدريجية، تبدأ بإصلاحات قانونية وتنظيمية، سيمهد لتأسيس بيئة تشاركية ومستقرة.