الحق في الوصول إلى المعلومات: تأثير قوانين الملكية الفكرية على حرية الوصول إلى المعلومات

مقدمة

أنشطة الإنتاج الفكري بصورها المختلفة هي القوة الدافعة لتطور المجتمعات منذ فجر التاريخ. مع تطور المجتمعات البشرية إزدادت أهمية إحداث توازن بين حفظ حقوق أصحاب المنتجات الفكرية وبين تمكين المجتمع من الوصول إلى هذه المنتجات واستغلالها لدفع تطوره ورفاهيته.

في الوقت نفسه، استلزم تمكين المجتمع من استغلال المنتجات الفكرية لأفراده وجود وسطاء طالبوا بحماية حقهم في الحصول على عائد مقابل أدوارهم. دور الوسيط كان منذ قرون عاملًا لتعقيد عملية الوصول إلى توازن بين طرفي حقوق الملكية الفكرية وبين حق المجتمع في الاستفادة منها، والذي يتمثل حديثًًا في مفهوم الحق في الوصول إلى المعلومات.

يفترض بقوانين حماية الملكية الفكرية أن تكون أداة تحقيق التوازن المشار إليه سابقًا، ولكنها لأسباب تاريخية اقتصادية وسياسية كانت أميل دائمًا لتغليب مصالح الجهات الوسيطة. تعرض هذا التوازن لتحد بالغ الأثر مع ظهور التكنولوجيات الرقمية وتدخلها في عمليات إنتاج المنتج الفكري وعمليات إتاحة الوصول إليه.

تدافع هذه الورقة بصفة أساسية عن فرضية هي أن التكنولوجيات الرقمية أظهرت التناقض الكامن منذ البداية في مقاربة قوانين حماية حقوق الملكية الفكرية لتحقيق التوازن بين هذه الحقوق وبين الحق في الوصول إلى المعلومات. نتيجة لذلك فقد أصبحت هذه القوانين بصورتها التقليدية، والتي لم تتخل عنها حتى اليوم، تمثل عائقًا دون إتاحة الحق في الوصول إلى المعلومات. يستلزم ذلك التوصل إلى مقاربة بديلة لحماية الحقوق العادلة والمنصفة للملكية الفكرية دون إعاقة استمتاع المجتمع بالحق في الوصول إلى المعلومات بالصورة الأمثل.

تؤسس الورقة لفرضيتها الأساسية من خلال مناقشة مجموعة من التعريفات في قسمها الأول. تشمل التعريفات مفهوم المنتج الفكري والتمييز بين الحق المعنوي والحق المادي والصور المختلفة للملكية الفكرية. تنتقل الورقة في قسمها الثاني إلى مناقشة ما أحدثه ظهور التكنولوجيا الرقمية من آثار بالغة الأهمية مع خلقها للمنتج الرقمي وبصفة رئيسية البرمجيات وما مثلته من تحد لنمط دورة الإنتاج التقليدي. تناقش الورقة أيضًا ما أتاحته هذه التكنولوجيات من ابتكارات بديلة لحماية حقوق الملكية الفكرية مع تعظيم إمكانية الوصول إلى المنتج الرقمي.

أخيرًا، تستعرض الورقة مقاربات تحقيق التوازن بين حماية حقوق الملكية الفكرية وبين إتاحة الوصول إلى المنتج الفكري. تتناول الورقة ثلاث نماذج هي تمديد المقاربة القانونية التقليدية، وانتهاج مقاربات شبه تقليدية تحفظ الإطار القائم مع محاولة تحقيق قدر أكبر من إمكانية الوصول إلى المعلومات، والمقاربات المستلهمة من تطوير آليات الإنتاج التشاركي للبرمجيات المفتوحة والتي تفتح المجال أمام وصول منفتح إلى المعلومات لتعظيم انتفاع الأفراد والمجتمعات باستغلالها.


ما هي حقوق الملكية الفكرية؟

يقدم هذا القسم بشكل مختصر مجموعة من المفاهيم الأساسية حول الملكية الفكرية واختلافها عن صور الملكية الأخرى. تعود أهمية هذه المفاهيم إلى أنها توضح خصوصية المنتج الفكري كأداة نقل المعلومات. يركز القسم على الجوانب التي يظهر من خلالها التناقض بين طبيعة المنتج الفكري ودوره في تحقيق الوصول إلى المعلومات، وبين التصور الكلاسيكي له كسلعة وبناء الحقوق والقوانين المتعلقة به على هذا الأساس.

يغطي هذا القسم الطبيعة الخاصة للمنتج الفكري فيما قبل العصر الرقمي. استلزمت هذه الطبيعة الخاصة ظهور ممارسات وقوانين لحماية الحقوق المتعلقة بالمنتج الفكري. لكن هذه القوانين التزمت دائمًا بمقاربة تعتمد على نفس الإطار الذي يتعامل مع حماية حقوق ملكية السلع العادية. تسببت هذه المقاربة في وجود خلل في قوانين حماية الملكية الفكرية.

مفهوم المنتج الفكري

يمكن تعريف المنتج الفكري بأنه من خلق العقل. من أمثلة ذلك الاختراعات، الأعمال الأدبية والفنية، التصميمات، وكذلك الرموز والصور المستخدمة كعلامات تجارية. يمكن أيضًا تعريفه بأنه مجموعة من الأصول غير الملموسة والمحمية قانونًا من الاستخدام أو التطبيق الخارجي.

يصلح هذان التعريفان كنقطة بداية لفهم الفارق بين ما نعده منتجًا فكريًا عن غيره من المنتجات. النشاط الذي يؤدي إلى وجود منتج فكري هو نشاط عقلي غير ملموس حتى وإن صاحبه نشاط مادي بشكل أو بآخر. على سبيل المثال، يحتاج الروائي إلى بذل جهد عضلي واستخدام أدوات لكتابة روايته أو تسجيلها. لكن النشاط المعني بخلق منتج فكري يظل منفصلًا عن أي جهد مادي يصاحبه.

لا يمكن للمنتج الفكري أن ينتقل من شخص إلى آخر في صورته العقلية غير الملموسة. وبالتالي فلا يمكن له أن يحقق أي أثر لوجوده إلا من خلال وسيط مادي ما، سواء كان ذلك شيء مادي ملموس أو عملية ما تعيد نسخه بصورة أو بأخرى.

بصفة خاصة، يستدعي الحصول على عائد مادي نتيجة لاستغلال المنتج الفكري أن يتم تجسيده أو تحويله من فكرة غير ملموسة إلى شيء مادي ملموس يمكن تداوله؛ من ثم يمكن بيعه وشراؤه. أوضح مثال لذلك هو الأعمال الأدبية المكتوبة والتي يمكن فقط الحصول على عائد مادي لها من خلال طباعتها في صورة ورقية أو من خلال نشر نسخ رقمية منها وبيعها.

في جميع الحالات ما يمكن بيعه ليس هو المنتج الفكري في ذاته ولكن فرصة الوصول إليه بطريقة أو أخرى. في أحيان كثيرة تكون عملية توفير إمكانية الوصول إلى منتج فكرية بالغة التعقيد وعالية التكلفة. وفي أحيان أخرى تستدعي هذه العملية إضافة جهد إبداعي يمثل في ذاته منتجًا فكريًا. على سبيل المثال، يمكن لقصيدة أن تتاح من خلال طباعتها ونشرها، ويمكن أيضًا أن تتاح من خلال تلحينها وأدائها مغناة. وفي هذه الحالة يكون اللحن والأداء منتجات فكرية إضافية.

ما بين الحق المعنوي والحقوق المادية

يتميز المنتج الفكري بأنه يمثل إنجازًا شخصيًا أو جماعيًا يعكس تميز صاحبه أو أصحابه. يستحق المنتج الفكري عادة تقديرًا معنويًا يمثل رأس مال اجتماعي. هذا الجانب المعنوي للمنتج الفكري يعتمد على ارتباط اسم صاحبه به. من ثم، تمثل نسبة المنتج الفكري لصاحبه قيمة بالغة الأهمية يحرص عليها. على جانب آخر، يظل من حق صاحب أي منتج فكري أن يسعى إلى عائد مادي يصلح في حده الأدنى كتعويض عن الوقت والجهد الذين بذلهما لإنتاجه.

يحتاج المنتج الفكري إلى المرور بعمليات تُحوله إلى صورة يمكن من خلالها أن يصل المستخدم النهائي إليه. على سبيل المثال، يبدأ العمل السينمائي كفكرة أولية ثم يمر بمراحل كتابة السيناريو قبل إنتاجه وانتهاءًا بعرضه في دور السينما أو من خلال البث على الإنترنت. توجد عملية وسيطة ذات تكلفة مادية يقدمها مستثمرون يتوقعون عائدًا مجزيًا لاستثمارهم. وبخلاف العمليات الصناعية التقليدية، التي يمثل فيها المنتج المصنوع في حد ذاته ضمانة الحصول على عائد بيعه، لا يمكن ضمان عائد استغلال منتج فكري إلا باحتكار الحق في هذا الاستغلال.

ثمة إذن ثلاثة أنواع من الحقوق تتعلق بالمنتج الفكري، وهي:

  • الحق المعنوي للمنتج الأصلي.
  • الحق المادي له.
  • الحقوق المادية للجهات الوسيطة التي تتيح وصول المستخدم النهائي إلى المنتج الفكري.

تحتاج هذه الحقوق إلى ضمانات خارجية خاصة بها حيث أنها عرضة للتعدي عليها بسبل مختلفة. فالحقوق المعنوية عرضة للانتحال ونسبة المنتج الفكري إلى شخص غير صاحبه الحقيقي. والحقوق المادية للمنتج الأصلي عرضة للتعدي من خلال استغلال منتجه الفكري دون تقديم مقابل مادي له. كذلك الحقوق المادية للجهات الوسيطة عرضة للتعدي من خلال نسخ وتوزيع الصور المادية للمنتج الفكري من خلال طرف آخر.

صور الملكية الفكرية

ثمة صور مختلفة للمنتجات الفكرية تتمايز فيما بينها بشكل كبير. كذلك فإن الاعتراف بهذه الصور قد تطور مع الوقت ومع تطور المجتمعات البشرية. ففي حين حصل منتجو النصوص المكتوبة على الحق بالاعتراف بحصرية نسبتها إليهم منذ زمن بعيد، استغرقت الأعمال الفنية التشكيلية وقتًا لتمييز أصحابها ونسبة أعمالهم إليها. كذلك احتاجت الاختراعات والتصميمات التطبيقية إلى تغيرات اجتماعية بعينها حتى أمكن الاعتراف بأحقية أصحابها في الانفراد بنسبة الفضل إليهم بخصوصها.

توجد صورتان أساسيتان هما الأكثر شيوعًا للملكية الفكرية. الأولى هي حقوق النشر، وتتعلق بالأعمال المكتوبة عادة، والثانية هي براءات الاختراعات، وتتعلق بالتطبيقات التكنولوجية والتصميمات ومخططات العمليات وغيرها.

قوانين حماية الملكية الفكرية

تعود أقدم حالات تدخل سلطة الدولة لحماية الملكية الفكرية إلى عصر النهضة. شهدت هذه المرحلة ظهور المطبعة، كما شهدت بدايات تطوير التكنولوجيا في مجالات الصناعة المختلفة خارج الأطر التقليدية التي ظلت سائدة في العصور السابقة. تطورت قوانين حماية الملكية الفكرية مع الوقت نتيجة لجهود الأطراف المختلفة المتدخلة في العمليات الضرورية لانتقال المنتج الفكري من لحظة نشأته إلى لحظة وصول ما يمكن اعتباره المستخدم النهائي أو المستهلك إليه. 

سعى المبدعون إلى أن تتضمن قوانين حماية الملكية الفكرية ما يوفر الحماية الكافية لحقوقهم المعنوية، وهو ما أغفلته الصور الأولى لممارسات حماية الملكية الفكرية. على جانب آخر، مثلت الدولة أحيانًا ومنظمات المجتمع المدني طرف الصالح العام المتمثل في إتاحة أكبر قدر من إمكانية الوصول إلى المنتجات الفكرية. يأتي ذلك على أساس الأثر الإيجابي العائد على المجتمع نتيجة تمكن أفراده من الوصول إلى المنتج الفكري. أدى ذلك إلى ظهور مبدأ تقادم الحقوق الحصرية بعد فترة زمنية محددة يصبح بعدها بإمكان أي طرف الوصول إلى المنتج الفكري أو إتاحة الوصول إليه للغير دون التعرض للمساءلة القانونية ودون الحاجة إلى دفع مقابل لذلك.

بالإمكان النظر إلى قوانين حماية الملكية الفكرية على أنها الأداة القانونية لفرض توازن مقبول بين الأطراف ذات المصلحة في توفير إمكانية الوصول إلى المنتج الفكري. هذه الأطراف هي:

  • المنتِج الأصلي، أي صاحب المنتج الفكري في صورته الأولى غير الملموسة.
  •  الوسطاء والقائمين على أداء عمليات توفير الوصول إلى المنتج الفكري، مثل دور النشر، وصناعات الإنتاج الفني وغيرها.
  • المستهلك النهائي للمنتج الفكري، ومن ورائه الصالح العام الذي يمثل أيضًا ما نشير إليه بالحق في الوصول إلى المعلومات، بوصفه حقًا للفرد وللمجتمع. 

ظلت قوانين حماية الملكية الفكرية عرضة للتجاذب بين هذه الأطراف طوال قرون وحتى يومنا هذا. لا يمكن الحكم بأن هذه القوانين قد حققت توازنًا عادلًا بقدر ما أنها قد حافظت على مصالح الطرف أو الأطراف الأكثر سلطة أو نفوذًا. من ثم، لا يعد تجنيًا القول بأن الطرف الأكثر استفادة من قوانين حماية الملكية الفكرية كان دائمًا ولا يزال هو ممثلي صناعات النشر والإنتاج الفني.

على مسافة بعيدة من هؤلاء حظى المنتجون الأصليون للأعمال الفكرية بحماية مقبولة لحقوقهم المعنوية. ولكن حصولهم على نصيب عادل من العوائد المادية ترك غالبًا لقوى السوق التي لا تكون في معظم الأحيان لصالحهم. في النهاية، لم يحظ حق المستهلك النهائي ولا الصالح العام المتمثل في الحق في الوصول إلى المعلومات بحماية ذات معنى.


أثر الفضاء الرقمي على الوصول إلى المعلومات وحقوق الملكية الفكرية

المنتج الرقمي وكسر الدورة التقليدية للإنتاج

أتاحت الحواسيب قدرات كامنة هائلة لمعالجة البيانات والمعلومات. هذه القدرات لم يكن بالإمكان استغلالها دون البرمجيات التي تقوم بالمهام الفعلية للمعالجة. مثلت البرمجيات أدوات ذات قيمة وظيفية كبيرة، مما أدى بالضرورة إلى العمل على تحويل هذه القيمة الوظيفية إلى مصدر لتوليد الأرباح.

استلزم إنشاء صناعة برمجيات مربحة اللجوء إلى قوانين الملكية الفكرية لضمان حقوق حصرية تجاه نشر واستخدام البرمجيات. استُخدِمّت قوانين براءات الاختراع لهذا الأمر نظرًا لطبيعة البرمجيات كأدوات تُستخدم لأغراض متنوعة ولا ينطبق عليها نموذج الاستهلاك المباشر. بصفة خاصة، اختير نموذج براءات الاختراع لأنه يتيح أن تحكم حقوق المستخدم النهائي للبرمجيات رخصة تقيد هذه الحقوق. على سبيل المثال، تفرض هذه الرخصة عادة على المستخدم ألا يعيد نشر البرمجية وألا يحاول تعديلها.

منذ البداية أثبتت الطبيعة الرقمية للبرمجيات تناقضات كبيرة مع إمكانية تطبيق قوانين حماية الملكية الفكرية عليها. في نهاية المطاف كانت هذه القوانين مصممة للتطبيق على منتجات تصل إلى مستخدمها النهائي في صورة مادية ملموسة وعادة غير قابلة للنسخ أو التعديل. في المقابل، يمكن نسخ وتعديل المنتجات الرقمية بسهولة باستخدام نفس الأدوات المستخدمة لتشغيلها، أي الحواسيب الرقمية. لذلك، كانت المسافة بين فرض قوانين حماية الملكية الفكرية على المنتجات الرقمية، وفي مقدمتها البرمجيات، وبين التطبيق الفعلي لهذه القوانين واسعة دائمًا.

على جانب آخر، أبرزت المنتجات الرقمية تناقضًا أكثر أهمية. ففي حالة السلع العادية ثمة ارتباط واضح بين عملية الإنتاج وبين تحقيق عائد لبيع المنتج النهائي لها. على سبيل المثال، ينتج مصنع للكراسي عددًا محددًا منها كل عام. ثمة تكلفة واضحة لإنتاج هذا العدد من الكراسي يمكن من خلاله تحديد تكلفة كل كرسي على حدة. بإضافة هامش ربح إلى التكلفة يمكن تحديد سعر البيع هذه الكراسي بالجملة ثمة بالتجزئة للمستخدم النهائي. 

ليس ذلك هو الحال مع البرمجيات أو أية منتجات رقمية أخرى. ثمة بالطبع تكلفة لإنتاج برمجية ما، ولكن المنتج النهائي ليس عددًا محددًا من الوحدات القابلة للنفاد عند بيعها. فالمنتج النهائي رقمي، مما يعني أنه قابل للنسخ إلى مالا نهاية. بتعبير آخر، عملية إنتاج منتج رقمي هي عملية ذات تكلفة محددة ولكن ناتجها هو عدد غير محدود من الوحدات التي لا تنفد ببيعها. بل إنها غير قابلة للاستهلاك كأي سلعة أخرى. فبينما ستُستهلك السلع الاعتيادية أو تبلى بعد وقت باستخدامها فالمنتج الرقمي لا يطرأ عليه أي تغيير بالاستخدام العادي وهو قابل للاستخدام بنفس الكفاءة لوقت غير محدود.

هذا الاختلاف بين المنتج الرقمي وبين السلعة التقليدية له أهمية بالغة. فهو يكسر نمط الإنتاج التقليدي الذي يقوم عليه مفهوم التداول في السوق وكيفية تحديد سعر أي سلع حسب مبدأ العرض والطلب. فهذا المبدأ يقوم تحديدًا على أن أية سلعة يمكن فقط أن يتاح منها قدر محدود في أي وقت.

الطب على أية سلعة يمثل التنافس من أجل الحصول على نصيب من هذا القدر المحدود. ويتحدد السعر (العادل) للسلعة بناء على حدة هذا التنافس. السلع التي يتاح منها قدرًا ضئيلًا مع وجود طلب كبير عليها يرتفع سعرها، والعكس صحيح. فكيف يمكن تطبيق ذلك على المنتج الرقمي؟ بمعنى أوضح، كيف يمكن أن يتحدد سعر (عادل) لمنتج رقمي إذا عاملناه كسلعة تقليدية؟ الحقيقة طبعًا أن هذا مستحيل. فنظريًا يمكن أن تتيح عملية إنتاج أي منتج رقمي القدر المطلوب منه في أي وقت دون تحمل تكلفة إضافية تذكر.

تكلفة توفير برمجية لمائة مستخدم لا تكاد تختلف عن توفيرها لألف أو حتى مليون مستخدم. خاصة إذا ما حصل المستخدمون علي هذه البرمجية بتنزيلها من خلال الإنترنت. ما يعنيه ذلك هو أن تسعير المنتج الرقمي هو مسألة تقديرية تعود إلى منتِجه. وبينما قد يحدد السعر على أساس التكلفة وعدد النسخ التي يتوقع بيعها، وتكاليف البنية التحتية، والتطوير المستمر، والصيانة، إلا أن هذا السعر لا يخضع بشكل حقيقي لمبدأ العرض والطلب. في الحقيقة، يعتمد تحقيق الأرباح في عمليات تسويق المنتجات الرقمية بشكل كامل على احتكار حقوق بيعها وعلى تقييد حقوق مستخدميها في نسخها.

تقييد حقوق مستخدمي المنتج الرقمي

تستخدم شركات التكنولوجيا قوانين حماية براءات الاختراع وقوانين حماية العلامات التجارية لضمان إمكانية تحقيق أكبر قدر من الأرباح نتيجة لنشاطها في إنتاج البرمجيات وغيرها من المنتجات الرقمية. يعني ذلك أن المستخدم النهائي لأي من هذه المنتجات يحصل فقط على حق استخدام المنتج ولا تنتقل إليه ملكية هذا المنتج بشكل كامل.

يتناقض ذلك بشكل واضح مع خضوع المنتجات الرقمية لآليات تسويق السلع التقليدية. ولكن هذا ليس هو التناقض الوحيد أو الأكثر أهمية. فتقييد حقوق مستخدم المنتج الرقمي له تداعيات عديدة. أول الحقوق التي تقيدها رخص استخدام البرمجيات هو الحق في الوصول إلى كود المصدر للبرمجية. تتعامل شركات التكنولوجيا مع كود المصدر على أنه التصميم الأصلي للبرمجية ومن ثم تخضعه لحماية أسرار الصناعة. ولكن هذا ليس صحيحًا على الإطلاق.

كود المصدر هو في الواقع أحد الصور التي توجد فيها البرمجية وليس مخطط إعادة تصنيعها. بعبارة أكثر وضوحًا، كود المصدر هو البرمجية على هيئة قابلة لأن يقرأها ويفهمها البشر، في حين تكون الصورة النهائية للبرمجية نفسها على هيئة تعليمات بلغة لا تفهمها إلا الآلة. لذلك، فكود المصدر ضروري لمعرفة كيف تؤدي البرمجية وظائفها، وهو ضروري لاكتشاف الأخطاء التي قد تسبب مشاكل وظيفية أو أضرارًا عديدة. تشمل تلك الأضرار فقدان أو تشويه البيانات التي تعمل عليها البرمجية أو إتاحة ثغرات أمنية تعرض البيانات الشخصية للمستخدم لمخاطر الوصول غير المشروع إليها.

تختلف المخاطر التي يمكن أن تشكلها برمجية معيبة أو أي منتج رقمي آخر قد ينطوي على كود قابل للتنفيذ على حاسوب المستخدم عن المخاطر التي تشكلها عيوب صناعة السلع التقليدية. فالبرمجيات والمنتجات الرقمية عرضة لأن يكون بها أخطاء ومشاكل أكثر من أي منتج آخر. كذلك يصعب كثيرًا اكتشاف العيوب والمشاكل في البرمجيات والمنتجات الرقمية ويستحيل الوصول إلى العيب وسبب المشكلة في غياب كود المصدر. وفي ظل تقييد حق المستخدم في الوصول إلى كود المصدر، وتحريم خروج هذا الكود خارج نطاق الشركة المنتجة للبرمجية فإن التعامل مع العيوب والمشاكل يظل محدودًا بموارد هذه الشركة وخاضعًا لسياساتها وعملياتها الداخلية وتقديرها أيضًا.

على جانب آخر، ينطوي حصول المستخدم على برمجية مغلقة كصندوق أسود على التسليم بقدر من الثقة العمياء في الشركة المنتجة ونواياها. بمعنى آخر، تطالب الشركة المنتجة لبرمجية مغلقة مستخدمي هذه البرمجية بالتصديق في أنها حريصة وأمينة على مصالحهم وأمن بياناتهم وأجهزتهم دون إمكانية التيقن من ذلك بشكل مباشر أو من خلال أي طرف ثالث.

بالإضافة إلى ذلك، يمثل تقييد حق المستخدم في الوصول إلى كود المصدر للبرمجية التي اشتراها انتهاكًا لحقه في الوصول إلى المعلومات. فأحد التعريفات الأساسية لهذا الحق تتمثل في حق الأفراد والمجموعات في الوصول إلى المعلومات التي تتعلق بمصالحهم وبأمنهم. هذا الحق هو تحديدًا ما يفرض على منتج أي سلعة أن يتيح لمشتريها كافة المعلومات حول الاستخدام الآمن لها والعيوب المتوقعة. وفي حالة البرمجيات والمنتجات الرقمية لا توجد هذه المعلومات بشكل كامل إلا في كود المصدر.

مفهوم القرصنة ومحاولات مكافحتها

استخدام مفهوم القرصنة للإشارة إلى انتهاك الحقوق الحصرية لإتاحة الوصول إلى المنتجات الفكرية يعود إلى فترات سابقة على نشأة التكنولوجيات الرقمية. أصبح المفهوم أكثر شيوعًا بصفة خاصة مع نشأة الإنترنت ومع ظهور مواقع وشبكات متخصصة في إتاحة الوصول إلى البرمجيات والمنتجات الفكرية المختلفة خارج قيود الحقوق الحصرية لنشرها وتوزيعها.

يمكن القول بأن تاريخ قوانين حماية الملكية الفكرية في محاولة اللحاق بالتطورات التكنولوجية السابقة على التكنولوجيا الرقمية لم يكن ناجحًا بشكل كامل في أي وقت. ولكن هذه القوانين ظلت قادرة على الحفاظ على توازن لصالح أرباح جهات النشر والإنتاج. لم يكن الأمر كذلك في حال تطورات التكنولوجيا الرقمية.

يعود ذلك إلى مميزات هذه التكنولوجيا. ولكنه أيضًا يعود إلى عامل إضافي أنتجته التكنولوجيا الرقمية والإنترنت، وهو انضمام شركات التكنولوجيا كطرف جديد في المعادلة. ما يميز شركات التكنولوجيا الكبرى هو أنها تعتمد على نموذج أعمال مختلف بشكل حاسم عن النموذج التقليدي لإنتاج وتداول السلع السائد سابقَا. على وجه التحديد، لا يعتمد نموذج أعمال شركات التكنولوجيا على إنتاج سلعة وبيعها، بل يعتمد بدلًا من ذلك على اجتذاب جمهور من المستخدمين لخدماتها ثم بيع إمكانية الوصول إلى هؤلاء المستخدمين. 

المثال الأبرز لمحاولة تمديد وتطوير قوانين الحماية الفكرية التقليدية لتغطي الإنترنت كان محاولة تمرير قانونين بالكونجرس الأمريكي في عام 2012. القانونان هما قانون وقف القرصنة على الإنترنت Stop Online Piracy Act (SOPA)، وقانون حامية الملكية الفكرية PROTECT IP Act (PIPA)

نص القانونان على إجراءات متشددة تجاه مواقع الإنترنت التي ينشر مستخدموها من خلالها أية مواد محمية بقوانين الملكية الفكرية. بلغت هذه الإجراءات حد حجب المواقع وإغلاقها وتغريم الشركات التي تديرها. كما تضمنت النصوص أيضًا عقوبات بالسجن لبعض الأفعال التي جرمتها.

واجه مشروعا القانونين معارضة ضارية، ليس فقط من مستخدمي الإنترنت الذين نظموا تظاهرات مناوئة لهما، ولكن أيضًا من قبل عديد من شركات التكنولوجيا الكبرى إضافة إلى مواقع على الإنترنت. كان أكبر مظاهر مناوءة تمرير القانونين تنظيم عملية تسويد (وقف عمل) لعديد من مواقع الإنترنت صاحب تظاهرات كبرى في يوم 18 يناير 2012. أدى ذلك في النهاية إلى تجميد تمرير القانونين وعدم خروجهما إلى النور.

تطور رخص استغلال المنتج الرقمي

أنشأت التكنولوجيا الرقمية نوعًا جديدًا من المنتجات الفكرية وهو البرمجيات. اعتٌبرت البرمجيات صورة من صور الابتكارات أو الاختراعات العملية التي يغطي حماية ملكيتها قوانين براءات الاختراع وتحكم إعادة نشرها قوانين حماية العلامات التجارية. على هذا الأساس كان الحاكم لحقوق المستخدم النهائي للبرمجية هو رخصة الاستخدام التي يتلقاها عند شرائه لها.

حظرت هذه الرخص على المستخدم النهائي استغلال البرمجية لأبعد من حدود الاستخدام المباشر لها. وبصفة خاصة، حظرت على المستخدم نسخ البرمجية أو تنزيلها على عدد من الحواسيب أكبر من عدد محدد تنص عليه الرخصة. كذلك لم تتح الرخص التقليدية للمستخدم الحصول على كود المصدر للبرمجية، وبالتالي لم تتح له إمكانية تعديله بأي شكل.

إلى جانب أن هذه القيود لا يمكن تبريرها بالحق العادل للمنتِج في الحصول على عائد مناسب مقابل منتجه فهي في الواقع تنتهك حقوق المستخدم، وبصفة رئيسية حقه في الوصول إلى معلومات ضرورية لتحقيق مصالحه وأمنه. نشأت حركات البرمجيات مفتوحة المصدر Open Source Software، والبرمجيات الحرة Free Software كتيار مضاد لهذه القيود وللأضرار الناتجة عنها لكل من المستخدم العادي ولتطور صناعة البرمجيات أيضًا.

في إطار حركات البرمجيات الحرة والمفتوحة المصدر نشأت الحاجة إلى صور جديدة من رخص استخدام البرمجيات تحافظ على الحقوق المعنوية للمطور الأصلي للبرمجية في حين تتيح حقوقًا أكبر للمستخدم النهائي. في مقدمة هذه الحقوق، الحق في الحصول على كود المصدر للبرمجية، والحق في تعديلها وإعادة نشرها بعد التعديل.

النموذج الأول والأكثر شهرة لرخص الاستخدام الحر للبرمجيات هي رخصة جي بي إل GPL والتي كتب النسخة الأولى منها المبرمج والناشط ريتشارد ستولمان عام 1989. وإضافة إلى تطور هذه الرخصة بصدور نسخ جديدة منها فقط صدر العديد من رخص الاستخدام الحر للبرمجيات وغيرها من المنتجات الفكرية. تتنوع هذه الرخص من حيث الحقوق التي تتيحها لكل من صاحب المنتج الفكري الأصلي وللمستخدم النهائي له. تعتبر رخص المشاع الإبداعي Creative Commons الصورة الأكثر شمولية لرخص نشر المنتجات الفكرية في الفضاء العام.


تحقيق التوازن في عالم رقمي

أثر المقاربة القانونية التقليدية على الحق في الوصول إلى المعلومات

العلاقة بين القوانين التقليدية لحماية الملكية الفكرية من جانب وبين الحق في الوصول إلى المعلومات من جانب آخر كانت طيلة الوقت تنطوي على تناقض. يمكن القول بأنه فيما قبل ظهور التكنولوجيات الرقمية وما أحدثته من ثورة في إمكانيات نسخ وحفظ وتعديل ونقل البيانات والمعلومات، ظل هذا التناقص مكتومًا إلى حد كبير.

المقصود بذلك أن المعوقات العملية للتبادل الحر للمعلومات كانت دائمًا أكبر من أن يكون لقوانين حماية الملكية الفكرية أثر ملموس وكبير على الحق في الوصول إلى المعلومات. في نهاية المطاف، كانت التكاليف المادية التي لا يمكن تجنبها هي العائق الأساسي أمام الوصول المنفتح للمنتجات الفكرية. وشكل هذا الواقع التصورات السائدة للمنتج الفكري كسلعة مشابهة لغيرها من حيث أن الحصول عليها يشترط أن يحصل من يوفرها على أرباح تحفز إنتاجه لها.

أحدث تطور التكنولوجيا الرقمية تغييرًا حاسمًا لهذه الصورة. وفرت التكنولوجيا الرقمية سبل وصول إلى المنتجات الفكرية أقل تكلفة بكثير مما كان عليه الحال سابقًا. ولكن بشكل أكثر أهمية، كشفت هذه التطورات عن طبيعة الاختلاف الجذري بين المنتج الفكري وبين السلع التقليدية. أعادت التكنولوجيا لكل من المنتِج الأصلي للمنتَج الفكري والمستخدم النهائي له مكانتهما الأوضح والأبرز بوصفهما الطرفين الأصيلين، على حساب العمليات الوسيطة لإتاحة الوصول إلى المنتج الفكري.

في ظل هذا التعديل لإطار عملية إنتاج واستهلاك المنتج الفكري يبرز بوضوح أكبر دور قوانين الحماية الفكرية الذي يميل إلى تغليب المصالح المرتبطة بعمليات إتاحة الوصول إلى المنتج الفكري على حساب مصالح الطرفين الأصيلين وهما المنتِج الأصلي والمستخدم النهائي.

تضيف الطبيعة الخاصة للمنتج الرقمي بعدًا ثالثًا للصورة. فكما سبق أن ناقشته هذه الورقة، يكسر المنتج الرقمي الآلية التقليدية، أي مبدأ العرض والطلب التي يفترض أن يقوم عليها التسعير العادل للسلع التقليدية. مع تزايد توافر المنتجات الفكرية في صورة رقمية تمتد طبيعة المنتج الرقمي، مثل البرمجيات، إلى الصور الرقمية للمنتج الفكري.

ينطبق على هذه الصور الرقمية حقيقة عدم قابليتها للاستهلاك من خلال استخدامها، والإمكانية غير المحدودة لنسخها. ومن ثم، ففرض قوانين حماية الملكية الفكرية التقليدية على هذه الصور الرقمية للمنتج الفكري يصبح بدوره حماية لحقوق احتكار غير عادلة. وهو ينتهك حقوق الأفراد وحق المجتمع في الوصول إلى المعلومات ولكن بصورة مختلفة عما هو عليه في حالة البرمجيات.

يحرم ذلك الأفراد والمجتمع من التمتع بالانفتاح المعلوماتي الذي تجعله التكنولوجيا الرقمية ممكنًا. كما أنه يحرم الأفراد من الوصول الحر إلى المعلومات التي تسمح لهم بالتعلم واكتساب المهارات والتطور الذاتي وتحسين حياتهم. وهو كذلك يحرم المجتمع من إمكانيات التطور التي يتيحها حصول عدد أكبر من أفراده على المعلومات اللازمة لخلق المعرفة ونفع مجتمعهم. ذلك كله في سبيل توفير فرص لتوليد الأرباح للجهات المحتكرة لحقوق الملكية الفكرية دون رابط محدد بالتكلفة الحقيقية التي تتحملها ودون قيود على سلطتها التقديرية لتحديد عائد استغلال هذه الحقوق.

المقاربات غير التقليدية للحكومات والقطاع الخاص

تدرك بعض الحكومات اليوم أهمية إتاحة إمكانية وصول أوسع للمعلومات لمواطنيها. وهي تسعى لتحقيق ذلك من خلال مشروعات ومبادرات مختلفة. بعض هذه المبادرات تتضمن التعاقد مع جهات نشر بعينها، مثل الدوريات العلمية الكبرى، لإتاحة وصول مجاني لمواطني هذه الدول إلى بعض المواد التي تنشرها هذه الجهات على مواقعها.

أحد نماذج تلك المبادرات هو إتاحة الوصول إلى محتوى دوريات علمية من خلال مشروع بنك المعرفة الذي توفره الحكومة المصرية. من جانب آخر، يمكن لبعض الحكومات التي تقدم تمويلًا لمنتج فكري أن تتيح الوصول المجاني إليه. كنموذج لهذه المقاربة أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في عام 2022 عن إتاحة جميع الأوراق العلمية التي تمولها الحكومة الأمريكية مجانًا عند نشرها من قبل أي جهة بنهاية عام 2025.

تتيح أيضًا عديد من جهات القطاع الخاص العاملة في مجالات النشر والإنتاج الفني سبل وصول مفتوح إما بشكل كامل ودائم أو جزئي ومؤقت لبعض المواد التي تنشرها من خلال مواقعها على الإنترنت. تتنوع سبل الإتاحة هذه بين حصرها بنوعية معينة من المحتوى المنشور أو بتحديد درجات وصول محدودة للحسابات المجانية على تلك المواقع. على جانب آخر، تبنت كثير من شركات التكنولوجيا نمط البرمجيات المفتوحة لتطوير بعض برمجياتها وذلك لاستغلال المزايا والفرص التي يتيحها هذا النمط.

بالرغم من أن هذه المقاربات غير تقليدية في ظاهرها، حيث أنها لا تقصر الوصول إلى المنتج الفكري على صورة التبادل التجاري وتتيح وصولًا مفتوحًا بقدر ما إلى هذا المنتج، إلا أنها تظل داخل إطار الصورة التقليدية التي تسعى للحفاظ على أرباح الشركات ذات الحقوق الاحتكارية.

تعمل هذه المقاربات كمتنفس بديل عن السعي إلى الوصول إلى المنتج الفكري بسبل غير قانونية. وفي أحيان كثيرة توفر للشركات تعويضًا ماديًا مناسبًا يساهم في المحافظة على أرباحها. في نفس الوقت، تستخدم هذه المقاربات للتدليل على إمكانية إحداث توازن بين النمط التقليدي لتوليد الأرباح وبين إتاحة وصول أوسع للمعلومات، وذلك في مواجهة المطالبات ببدائل أكثر جدية لإتاحة وصول مفتوح حقيقي إلى المنتج الرقمي والفكري.

مقاربات الحلول التشاركية

يتيح التطور المستمر للتكنولوجيا الرقمية مع الوقت المزيد من سبل تغيير المسارات التقليدية لعمليات إنتاج الملكية الفكرية وإتاحة الوصول إليها والاستفادة منها. تيسير وتبسيط عمليات إنتاج عديد من صور المنتج الفكري تسمح للمنتِج الأصلي بأن يضع بنفسه منتجه في صورة صالحة لاستفادة الآخرين منها.

في الوقت نفسه تتيح الصور المختلفة لتراخيص الاستخدام أن يحافظ المنتِج الأصلي على حقوقه المعنوية في نسبة منتجه الفكري إليه مع إتاحته للآخرين دون قيود غير مبررة. كذلك يتيح التواصل من خلال الإنترنت إمكانية نشر المنتج الفكري ووصول أكبر عدد ممكن من الناس إليه. تفتح هذه العوامل مع غيرها الباب أمام إمكانية تطوير صور مختلفة لإنتاج واستغلال المنتج الفكري. بصفة خاصة يمكن في كثير من الحالات الاستغناء بشكل كامل عن دور الوسيط ما بين المنتِج الأصلي وبين المستخدم النهائي.

أنتجت حركة البرمجيات المفتوحة نموذجًا للإنتاج التشاركي حقق نجاحًا كبيرًا. تعتمد كثير من البرمجيات الأوسع انتشارًا والأكثر أهمية اليوم على آليات تشاركية لتطويرها وتحديثها بشكل مستمر. النموذج الأبرز هو القلب الوظيفي لنظام التشغيل لينكس، والذي تنبني من حوله الإصدارات المختلفة لهذا النظام. تتألف كذلك هذه الإصدارات من عدد ضخم من البرمجيات مفتوحة المصدر التي يتم تطويرها بشكل تشاركي منفتح. هذا النموذج يمكن تمديده إلى عمليات الإنتاج الرقمي لمنتجات فكرية أخرى بخلاف البرمجيات، كما يصلح لحالات كثيرة من التعاون البحثي.

يمكن للحلول التشاركية كذلك أن تتيح بديلًا عن تمويل الجهات الوسيطة لعمليات إنتاج المنتج الفكري. فيمكن للمنتجين الأصليين أن يحصلوا على دعم مادي مناسب، سواء في صورة مالية مباشرة لتعويضهم على الوقت والجهد المبذول، أو في صورة عون عيني كتقديم المساعدة لإخراج منتجهم الفكري في صورة قابلة للاستغلال من قبل المستخدم النهائي.

يمكن تقديم الدعم المالي في صورة تمويل تشاركي تطوعي أو في صورة الدفع المسبق في مقابل الوصول إلى المنتج الفكري عند اكتماله. في جميع هذه الحالات يمكن للمنتجين الأصليين الحصول على الدعم اللازم لاستمرارهم في عملهم وتحقيق دخل مناسب، في حين تكون منتجاتهم متاحة على نطاق أوسع وبتكلفة أقل مما هو الحال إذا ما اضطروا للجوء إلى جهات وسيطة.


خاتمة

بنت هذه الورقة فرضيتها حول كل من المنتج الفكري في صورته العامة والمنتج الرقمي في مواجهة قوانين الحماية الفكرية التي يتم فرضها عليهما. حاولت الورقة إيضاح التناقض الناشئ عن تطبيق قوانين حماية الملكية الفكرية التقليدية على البرمجيات والمنتجات الرقمية، والذي يمثل انتهاكًا للحق في الوصول إلى المعلومات. مددت الورقة هذا الفهم ليشمل الصور الرقمية للمنتجات الفكرية بصفة عامة. وفي النهاية أضاءت الورقة الضوء على إمكانية تعميم المقاربات التي أنتجتها حركات البرمجيات الحرة والمفتوحة المصدر على الصور الرقمية للمنتجات الفكرية.

أسست الورقة طرحها بشكل تراكمي عبر أقسامها الثلاثة بتقديم خلفية تأسيسية لمناقشة المفاهيم المختلفة التي تتعامل معها في القسم الأول، ثم عرض لما أحدثته التكنولوجيا الرقمية من تغييرات حاسمة في مشهد عمليات إنتاج المنتج الفكري وإتاحة الوصول إليه في القسم الثاني. وأخيرًا قدمت الورقة مقارنة بين مقاربات ثلاث تقليدية وشبه تقليدية وتشاركية مبرزة الحاجة إلى الانحياز إلى المقاربة الأخيرة الأكثر توافقًا مع العصر الرقمي الذي يعيشه عالمنا والأقرب إلى تحقيق توازن عادل بين حماية حقوق الملكية الفكرية وبين الحق في الوصول إلى المعلومات.