الفرص والتحديات في استخدام التقاضي الاستراتيجي للدفاع عن الحقوق الرقمية

مقدمة

في عصر يشهد تحولات تقنية غير مسبوقة، أصبحت الحقوق الرقمية مكونًا أساسيًا من حقوق الإنسان. يتعرض الأفراد والمؤسسات بشكل متزايد لانتهاكات تتراوح بين الرقابة، والمراقبة الجماعية، والاعتداء على خصوصية البيانات. في هذا السياق، برز التقاضي الاستراتيجي كأداة قانونية  تهدف إلى تحقيق تغييرات بنيوية، ليس فقط من خلال حماية الأطراف المباشرة في القضايا، بل أيضًا بإحداث تأثيرات أوسع تمتد إلى السياسات العامة والتشريعات.

تتزايد أهمية التقاضي الاستراتيجي في مجال الحقوق الرقمية لقدرته على توجيه الاهتمام نحو قضايا محورية مثل حرية التعبير، الوصول إلى المعلومات، وحماية الخصوصية. يتجاوز التقاضي الاستراتيجي بمفهومه الواسع مجرد حل النزاعات الفردية أمام المحاكم، بل يسعى إلى إحداث تغييرات هيكلية في القوانين والسياسات والممارسات.

يهدف التقاضي الاستراتيجي في سياق الحقوق الرقمية إلى توضيح المفاهيم القانونية الغامضة، وتطوير معايير جديدة لحماية الحقوق في الفضاء الإلكتروني، ومساءلة الجهات المسؤولة عن الانتهاكات. كما يمكن باستخدام التقاضي الاستراتيجي سد الفجوات التشريعية التي تعجز عن ملاحقة التطور التكنولوجي المستمر.

تناقش هذه الورقة كيفية استخدام آلية التقاضي الاستراتيجي في قضايا الحقوق الرقمية. تتناول الورقة مفهوم وأنماط التقاضي الاستراتيجي والفرص التي يتيحها، بالإضافة إلى التحديات التي تعيق استخدامه. كما تعرض الورقة تجارب محلية ودولية في استخدام التقاضي الاستراتيجي في سياق الحقوق الرقمية.


التقاضي الاستراتيجي في سياق الحقوق الرقمية 

التقاضي الاستراتيجي في مجال الحقوق الرقمية والتكنولوجيا هو استخدام للإجراءات القضائية بهدف تحقيق تغييرات منهجية ودائمة في السياسات أو الممارسات التي تؤثر على الحقوق الرقمية. يركز هذا النوع من التقاضي على القضايا الناشئة من التفاعل بين حقوق الإنسان والتكنولوجيا، مثل حماية الخصوصية والبيانات الشخصية، وحرية التعبير على الإنترنت، ومكافحة المراقبة الجماعية.

يهدف التقاضي الاستراتيجي في هذا المجال إلى تحقيق تغيير قانوني أو اجتماعي واسع النطاق يتجاوز حل النزاع الفردي ليؤثر على المجتمع ككل. كما أنه يتميز عن التقاضي الاستراتيجي العام بتخصصه في قضايا التكنولوجيا، مثل تنظيم استخدام الخوارزميات، ومحاسبة شركات التكنولوجيا الكبرى على انتهاكات حقوق المستخدمين. يتطلب هذا النوع من التقاضي مزيجًا من الخبرة القانونية والتقنية وفهمًا عميقًا للبيئة الرقمية، حيث يسعى إلى تشكيل سياسات رقمية عادلة وتعزيز الشفافية والمساءلة، مما يسهم في حماية الحقوق الأساسية للأفراد في العصر الرقمي.

الحقوق الرقمية كتجسيد لمبادئ حقوق الإنسان في البيئة الرقمية

الحقوق الرقمية ليست مفهومًا جديدًا منفصلًا عن حقوق الإنسان، بل هي امتداد طبيعي لها وتجسيد لمبادئها في العصر الرقمي. في الواقع، حقوق الإنسان مثل الحق في الخصوصية، وحرية التعبير، والمساواة، تأخذ أشكالًا جديدة في البيئة الرقمية. على سبيل المثال، حماية البيانات الشخصية تمثل تطورًا للحق في الخصوصية، بينما ضمان الوصول إلى الإنترنت يُعد تجسيدًا لحق الإنسان في الحصول على المعلومات.

مع تصاعد الاعتماد على التكنولوجيا، أصبحت التحديات التي تواجه الحقوق الرقمية أكثر وضوحًا، مما يستلزم دمجها بشكل كامل في المنظومة الحقوقية الشاملة. من هذا المنطلق، يجب أن يكون التقاضي الاستراتيجي في مجال الحقوق الرقمية مكملًا وموازيًا للجهود التي بذلت على مر العقود في التقاضي الاستراتيجي المتعلق بحقوق الإنسان بشكل عام.

فكما ساهمت القضايا الكبرى في مجالات مثل العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات في تشكيل القوانين والسياسات، يجب أن يؤدي التقاضي مجال في الحقوق الرقمية دورًا مشابهًا، مستفيدًا من الخبرات السابقة ومتكاملًا معها. تحقيق هذا الهدف يتطلب استخدام نفس الأدوات والأساليب، مع تكييفها لتلائم التحديات الفريدة التي تفرضها التكنولوجيا، لضمان حماية الحقوق الأساسية للأفراد في العالم الرقمي.

دور التقاضي الاستراتيجي في تعزيز العدالة الجنائية في العصر الرقمي

مع التطور التكنولوجي المتسارع، ظهرت أشكال جديدة من الانتهاكات التي لم تكن ممكنة في الماضي، مما يضع تحديات غير مسبوقة أمام حماية حقوق الإنسان. من أبرز هذه الانتهاكات: التعدي على الخصوصية من خلال جمع البيانات الشخصية على نطاق واسع دون موافقة المستخدمين. تقوم الحكومات والشركات بتتبع نشاط الأفراد عبر الإنترنت، وتحليل بياناتهم، وبيعها لأطراف ثالثة، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للحق في الخصوصية. كما برزت المراقبة الجماعية كأحد أخطر التحديات، حيث تعتمد الحكومات على تقنيات مثل التعرف على الوجه، والكاميرات الذكية، وبرمجيات التجسس لمراقبة المواطنين على نطاق واسع.

تتسم هذه الانتهاكات بكونها عابرة للحدود، مما يجعل من الصعب معالجتها عبر الآليات التقليدية للتقاضي التي تركز عادة على النزاعات الفردية. لذلك، يتطلب التصدي لهذه التحديات نهجًا استراتيجيًا وجماعيًا، مثل الدفع نحو سنّ تشريعات عالمية تنظم استخدام البيانات والتكنولوجيا. من أبرز الأمثلة على مثل هذه التشريعات هو اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي (GDPR)، والذي ينطبق على أي جهة تعالج البيانات الشخصية للأفراد المقيمين في الاتحاد الأوروبي، بغض النظر عن مكان تواجد الجهة.

كما يمكن إطلاق دعاوى قانونية تهدف إلى إحداث تغييرات هيكلية، مثل الطعن في سياسات المراقبة الجماعية أو ممارسات جمع البيانات دون إذن. على سبيل المثال، حصلت منظمة العفو الدولية على حكم قضائي في دعوى رفعتها مع عدد من المنظمات الحقوقية ضد برامج المراقبة الشاملة في المملكة المتحدة.

قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عام 2021 بأن نظام المراقبة الجماعية في المملكة المتحدة انتهك الحق في الخصوصية. كان الهدف من هذه الدعاوى ليس فقط الحصول على تعويض للأفراد المتضررين، بل أيضًا تغيير القوانين والممارسات التي تسمح بالمراقبة الجماعية. في هذا السياق، يعلب التقاضي الاستراتيجي دورًا محوريًا في مواجهة هذه الانتهاكات بشكل جذري، من خلال وضع سوابق قانونية، وبناء تحالفات دولية بين المنظمات الحقوقية، والضغط على الحكومات والشركات الكبرى.

التقاضي الاستراتيجي كأداة حيوية لمواجهة الفاعلون الجدد

في مجال الحقوق الرقمية، يتميز مشهد أصحاب المصلحة بتنوعه وتعقيده، حيث يشمل الحكومات، والأفراد، والمجتمع المدني، والأهم شركات التكنولوجيا الكبرى ومقدمي خدمات الاتصالات. أصبح لهذه الشركات تأثير كبير لتحكمها في تدفق المعلومات، وإدارة البيانات الشخصية، وتطوير تقنيات تمس حقوق الإنسان الأساسية. شركات التكنولوجيا الكبرى ليست مجرد كيانات اقتصادية، بل تمتلك نفوذًا هائلًا يتطلب أدوات قانونية متخصصة لمواجهتها، مثل التقاضي الاستراتيجي.

تمتلك شركات التكنولوجيا الكبرى موارد مالية وقانونية ضخمة تمنحها تفوقًا في النزاعات القانونية التقليدية، مما يجعل التقاضي التقليدي غير كافٍ لضمان مساءلتها. هنا يبرز دور التقاضي الاستراتيجي، الذي لا يهدف إلى تحقيق مكاسب قانونية محدودة فحسب، بل يسعى لإحداث تغييرات هيكلية في السياسات والممارسات.

بالإضافة إلى ذلك، يعتمد هذا النهج على بناء تحالفات بين الخبراء التقنيين والمجتمع المدني لتشكيل جبهة موحدة قادرة على مواجهة هيمنة هذه الشركات. كما يهدف إلى تعزيز الوعي العام حول القضايا الرقمية والدفع نحو إصلاحات قانونية وتنظيمية تُعالج الاختلالات الهيكلية في العلاقة بين الأفراد وهذه الشركات.

على سبيل المثال، يمكن للتقاضي الاستراتيجي أن يركز على قضايا مثل شفافية الإعلانات المستهدفة أو الطعن في القرارات التمييزية الناتجة عن أنظمة الذكاء الاصطناعي، بما يسلط الضوء على تأثير هذه السياسات على المجتمع ككل. في المجمل، تفرض الطبيعة الخاصة لشركات التكنولوجيا الكبرى اعتماد أدوات قانونية مرنة ومبتكرة، مثل التقاضي الاستراتيجي.

التقاضي الاستراتيجي في ظل تعقيدات التكنولوجيا وغموض التشريعات

يكتسب التقاضي الاستراتيجي أهمية متزايدة في ظل التحديات الكبيرة التي تواجه مجال الحقوق الرقمية، حيث يتمثل أحد أبرز هذه التحديات في سوء تفسير القوانين وعدم وضوحها. وُضعت أغلب هذه القوانين في سياقات سابقة لم تأخذ في الاعتبار التطورات التقنية المتسارعة، مما يؤدي إلى فجوات قانونية تستغلها بعض الجهات، سواء كانت حكومات أو شركات. كما يظهر الجانب التقني كعائق إضافي، حيث تتطلب القضايا المتعلقة بالتكنولوجيا فهمًا عميقًا للأنظمة الرقمية وتعقيداتها، وهو ما قد يكون غير متوفر لدى المحاكم أو الأطراف القانونية التقليدية.

يوفر التقاضي الاستراتيجي أداة فعّالة لمعالجة هذه الفجوات، حيث يعمل على توجيه النظام القضائي نحو تفسير القوانين بشكل أكثر دقة وشمولًا بما يتماشى مع التحديات التقنية الحالية. يمكن أيضًا من خلال هذه القضايا تسليط الضوء على الثغرات القانونية والدفع نحو إصلاحات تشريعية تعالج هذه المشكلات على نحو شامل.

بالإضافة إلى ذلك، يساهم التقاضي الاستراتيجي في تعزيز وعي المحاكم بأهمية السياق التقني والتحديات المرتبطة به. يساعد ذلك في بناء نظام قضائي أكثر قدرة على التعامل مع القضايا الرقمية المعقدة. كما يتيح للمجتمع المدني والمنظمات الحقوقية فرصة لتوجيه النقاش العام نحو الحاجة لتشريعات وسياسات تواكب التطورات التقنية، مما يعزز من حماية الحقوق الرقمية للأفراد.

تحديات استخدام آلية التقاضي الاستراتيجي

قبل التطرق إلى التحديات المحتملة التي تواجه التقاضي الاستراتيجي في مجال الحقوق الرقمية، من الضروري الإشارة إلى وجود تحديات عامة تصاحب هذا النوع من التقاضي بمختلف أشكاله وسياقاته. يُعد التقاضي الاستراتيجي أداة قوية للتغيير الاجتماعي وترسيخ الحقوق، لكنه يواجه جملة من التحديات المعقدة والمتشابكة التي تتطلب نهجًا متكاملًا وفهمًا دقيقًا للتعامل معها.  لا تنحصر هذه التحديات في إطار قانوني أو جغرافي معين، بل تمتد لتشمل أبعادًا قانونية وإجرائية، واقتصادية واجتماعية وسياسية.

  • أحد أبرز التحديات يتمثل في البيئة القضائية ذاتها، حيث تعاني بعض الأنظمة القضائية من ضعف الاستقلالية أو الكفاءة، ما يجعلها غير قادرة على التعامل مع القضايا الحقوقية المعقدة بشكل عادل وفعّال. هذا الضعف قد يؤدي إلى صدور أحكام متناقضة أو إلى تأخيرات طويلة في البت بالقضايا. يُضعف ذلك من تأثير التقاضي الاستراتيجي وقدرته على إحداث التغيير المطلوب.
  • يٌعد تنفيذ الأحكام القضائية تحديًا جوهريًا. ففي بعض الأحيان، حتى بعد الحصول على أحكام ترسخ الحقوق والحريات في قضايا استراتيجية، قد تواجه الأحكام مقاومة من الجهات المعنية، مثل الحكومات أو الشركات الكبرى. قد يتطلب تنفيذ هذه الأحكام إصلاحات تشريعية طويلة الأمد أو إجراءات تنفيذية معقدة، مما يجعل التأثير الفعلي للحكم أقل مما هو مأمول.
  • يواجه التقاضي الاستراتيجي أيضًا صعوبة تتعلق بطول أمد الإجراءات وتعقيدها. تستغرق هذه القضايا غالبًا سنوات قبل أن تُبتّ، مما يؤدي إلى إرهاق الأطراف المعنية واستنزاف مواردها.
  • يُعد إثبات الضرر الجماعي تحديًا كبيرًا، لا سيما في القضايا التي تستهدف حماية حقوق مجموعات معينة من المجتمع. في كثير من الحالات، يكون الضرر غير مباشر أو يصعب قياسه بدقة، مما يضعف من قوة القضية ويحد من تأثيرها القانوني.
  • تشكل التكاليف المالية الباهظة للتقاضي عقبة إضافية. فالقضايا الاستراتيجية تتطلب موارد مالية كبيرة لتغطية أتعاب المحامين، والخبراء، والتكاليف الإجرائية. يقوض ذلك من قدرة المنظمات الصغيرة أو الأفراد ذو الموارد المحدودة على إقامة هذا النوع من القضايا، بالأخص عندما تكون ضد جهات قوية تمتلك إمكانيات مالية كبيرة.


البيئة التشريعية والتنظيمية

القوانين المتعلقة بالتكنولوجيا غالبًا ما تكون غير محدثة لتواكب التطورات السريعة في المجال الرقمي. على سبيل المثال، قوانين حماية البيانات قد لا تغطي الممارسات الجديدة لجمع وتحليل البيانات الضخمة. يتيح ذلك للشركات والحكومات التحايل على القوانين من خلال استغلال الثغرات القانونية، مما يجعل من الصعب على المحامين إثبات الانتهاكات أو بناء قضية قوية. إضافة إلى ذلك، قد تكون بعض القوانين متعارضة بين الدول أو لا تتضمن تعريفات واضحة لمفاهيم أساسية مثل “الخصوصية الرقمية” أو “الموافقة المستنيرة”.

التحدي التقني

القضايا المتعلقة بالحقوق الرقمية تعتمد بشكل كبير على الجوانب التقنية، مثل طريقة عمل الخوارزميات، والتشفير، وإدارة البيانات. هذه الجوانب غالبًا ما تكون معقدة وتتطلب معرفة تقنية متخصصة. عدم وجود محامين أو قضاة لديهم هذا الفهم يمكن أن يؤدي إلى تجاهل الأدلة التقنية أو سوء تفسيرها. على سبيل المثال، في قضايا التعرف على الوجه، قد لا يكون لدى المحاكم الدراية الكافية بمدى دقة الخوارزميات أو التحيزات التي قد تحملها، وهو ما يضعف من قوة الحجة القانونية.

إثبات الضرر الرقمي

في كثير من الأحيان يكون الضرر في القضايا الرقمية غير ملموس أو غير مباشر. على سبيل المثال، في قضايا المراقبة الجماعية، يصعب إثبات أن شخصًا معينًا قد تعرض للضرر المباشر بسبب تتبع بياناته. يختلف هذا عن الأضرار التقليدية مثل الأضرار المالية أو الجسدية التي يمكن قياسها بسهولة. ضعف القدرة على إثبات الضرر يجعل القضية أقل إقناعًا للمحكمة، مما يؤدي إلى احتمال رفض الدعوى أو عدم إصدار أحكام ملزمة أو أحكام يكون لها تأثير واسع.

غياب السوابق القضائية

تفتقر المحاكم إلى سوبق قضائية يمكن الاستناد إليها بسبب حداثة القضايا المتعلقة بالحقوق الرقمية. هذا الغياب يجعل القضاة أكثر تحفظًا عند النظر في القضايا الرقمية، حيث يفتقرون إلى أمثلة سابقة تساعدهم في فهم الأبعاد القانونية والتقنية للقضية.

مواجهة مصالح شركات التكنولوجيا الكبرى ومقدمي الخدمات 

تمتلك شركات التكنولوجيا الكبرى موارد ضخمة تمكنها من تعيين فرق قانونية متخصصة للدفاع عن سياساتها. هذه الشركات غالبًا ما تستخدم سياسات وشروط استخدام معقدة وطويلة للغاية لتبرير ممارساتها. بالإضافة إلى ذلك، قد تمارس هذه الشركات ضغوطًا سياسية واقتصادية لتعطيل الجهود القانونية ضدها، مثل الضغط على الحكومات لتبني قوانين تحمي مصالحها أو التهديد بنقل استثماراتها من دولة إلى أخرى. على سبيل المثال، في عام 2021 وأثناء مناقشة قانون أسترالي يلزم شركات التكنولوجيا بدفع مقابل المحتوى الإخباري هددت كلًا من شركة ميتا وجوجل بسحب خدماتها من أستراليا. نجحت التهديدات بالفعل في فرض تعديلات على القانون لتخدم مصالح الشركات.

القضايا العابرة للحدود

الانتهاكات الرقمية نادرًا ما تكون محصورة في دولة واحدة. على سبيل المثال، يمكن جمع البيانات الشخصية لشخص ما في إحدى الدول قبل معالجتها في دولة أخرى ثم بيعها لطرف ثالث في دولة ثالثة. هذا التعقيد يثير تحديات تتعلق بالاختصاص القضائي وتطبيق القوانين، حيث قد تكون هناك تناقضات بين القوانين المحلية والدولية أو صعوبة في إلزام الأطراف الأجنبية بالامتثال لأحكام المحكمة.

مقاومة الأطراف السياسية والتشريعية

الحكومات التي تعتمد على برمجيات المراقبة أو التعاون مع الشركات الكبرى غالبًا ما تكون مترددة في دعم الجهود القانونية التي تسعى إلى تقويض هذه الممارسات. في بعض الحالات، قد تقوم الحكومات بتعديل القوانين أو إصدار تشريعات جديدة تعيق التقاضي. يضعف ذلك من فاعلية الأحكام القضائية ويجعل من الصعب إحداث تغيير جوهري في السياسات أو الممارسات. على سبيل المثال، بعد أن واجهت الحكومة الألمانية طعون دستورية على استخدامها لبرمجيات تجسس، أقرت الحكومة في عام 2017 تشريعًا يسمح ب”مراقبة الاتصالات السلكية واللاسلكية من المصدر.” أضفى ذلك الشرعية على ممارسات كانت المحاكم قد شككت فيها سابقًا.



إرساء سوابق قانونية ملزمة

التقاضي الاستراتيجي في مجال الحقوق الرقمية يتيح فرصة لإرساء سوابق قانونية تُستخدم كمرجع مستقبلي في القضايا الرقمية. مثل هذه السوابق يمكن أن تعالج الثغرات القانونية الحالية وتساعد في توفير إطار قانوني واضح لحماية الحقوق الرقمية. كما أنها تساهم في توسيع نطاق الحماية القانونية وتوفير ضمانات أقوى للمستخدمين.

على سبيل المثال، أبطلت محكمة العدل الأوروبية في عام 2015 اتفاقية الملاذ الآمن بين المفوضية الأوروبية والولايات المتحدة. تسمح هذه الاتفاقية للشركات الأمريكية بالتصديق الذاتي على التزامها بمعايير حماية البيانات في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تمكينها من تلقي البيانات الشخصية من الاتحاد الأوروبي.

رأت المحكمة أن الاتفاقية لم تضمن حماية للبيانات الشخصية المنقولة إلى الولايات المتحدة بشكل كافي، خاصة في ضوء قوانين المراقبة الأمريكية التي سمحت بوصول واسع النطاق إلى البيانات الشخصية من قبل السلطات العامة. أدى الحكم إلى اضطرار آلاف الشركات الأمريكية التي اعتمدت على الملاذ الآمن لنقل البيانات عبر الأطلسي إلى إيجاد آليات قانونية بديلة لمواصلة عمليات النقل هذه مع ضمان حماية البيانات.

 تعزيز الشفافية والمساءلة

تُجبر القضايا الاستراتيجية شركات التكنولوجيا ومقدمي الخدمة والحكومات على الكشف عن ممارساتها المتعلقة بإدارة البيانات واستخدام التكنولوجيا، مما يعزز الشفافية والمساءلة. على سبيل المثال، يمكن أن تُلزم قضية قانونية شركة ما بالإفصاح عن تفاصيل خوارزمياتها أو سياسات جمع البيانات أو قواعد وآليات التحقق من المحتوى وحظر الصفحات وغيرها من الممارسات. يتيح ذلك للباحثين والناشطين تحليل هذه الممارسات وتقييم مدى توافقها مع معايير حقوق الإنسان.

على سبيل المثال، كشفت قضية كاربنتر ضد الولايات المتحدة، أمام المحكمة العليا الأمريكية في عام 2018، عن ممارسات لم تكن مُعلنة سابقًا لمقدمي خدمات الاتصالات فيما يتعلق بالاحتفاظ ببيانات الموقع الجغرافي. أجبرت القضية مقدمي الخدمات على الكشف بدقة عن كيفية جمع وتخزين ومشاركة تلك البيانات مع سلطات إنفاذ القانون دون أوامر قضائية. كما أرسى القرار الناتج مبدأ مفاده أن حصول الحكومة على معلومات الموقع الجغرافي للهواتف الذكية يشكل تفتيشًا يتطلب أمرًا قضائيًا.

تحفيز تطوير التشريعات الملائمة

يمكن للتقاضي الاستراتيجي أن يُحفز استحداث تشريعات جديدة أو تعديل القائم منها، وذلك عبر إبراز الثغرات القانونية ونقص الحماية التشريعية في النصوص الحالية. فعندما تُظهر قضية ما قصور قوانين حماية البيانات في مواجهة ممارسات شركات التكنولوجيا الكبرى، قد يدفع ذلك المشرّعين إلى سنّ تشريعات مُستحدثة تُلزِم هذه الشركات بسياسات أكثر تشددًا في حماية بيانات المستخدمين.

 تعزيز حقوق المستخدمين الرقمية

يساهم التقاضي الاستراتيجي في تمكين المستخدمين من المطالبة بحقوقهم الرقمية، مما يعزز وعيهم وقدرتهم على حماية هذه الحقوق. على سبيل المثال، في قضية تتعلق بحق المستخدم في حذف بياناته الشخصية، قد يؤدي الحكم لصالح المستخدم إلى تقوية هذا الحق وإجبار شركات التكنولوجيا على توفير أدوات تتيح للمستخدمين إدارة بياناتهم بفعالية. يؤدي ذلك إلى خلق ثقافة حقوقية رقمية تشجع الأفراد على الدفاع عن خصوصيتهم وحرياتهم الرقمية.

أنماط وأمثلة لاستخدام آلية التقاضي الاستراتيجي

للتقاضي الاستراتيجي صور وأنماط مختلفة ومتنوعة، ويجب أن يتم اختيار النمط المناسب حسب طبيعة موضوع القضية أو النتائج المطلوب تحقيقها. تشمل صور التقاضي الاستراتيجي:

التقاضي لاختبار القوانين

يهدف هذا النمط إلى الطعن في دستورية أو قانونية قوانين أو لوائح أو سياسات تتعلق بالحقوق الرقمية. يتحقق ذلك من خلال رفع دعوى قضائية أمام المحاكم المختصة، والتي بدورها تقوم بفحص ودراسة دفوع المدعين بعدم دستورية نص قانوني، أو تتصدى المحكمة من تلقاء نفسها بتشككها في دستورية نص قانوني محدد.

مثال: قضية منظمة الحقوق الرقمية في أيرلندا ضد وزير الاتصالات (2014): طعنت المنظمة في توجيه الاتحاد الأوروبي لحفظ البيانات، الذي كان يفرض على مقدمي خدمات الاتصالات تخزين بيانات المستخدمين لمدة تصل إلى عامين. ألغت محكمة العدل الأوروبية التوجيه بأكمله باعتباره غير دستوري، ووجدت أنه ينتهك الحقوق الأساسية في الخصوصية وحماية البيانات بموجب قانون الاتحاد الأوروبي.

التقاضي لإنشاء سوابق قضائية

يركز هذا النمط على رفع قضايا تهدف إلى إنشاء سوابق قضائية جديدة تُرسخ مبادئ حماية الحقوق الرقمية.

مثال: قضية جمعية المؤلفين ضد هاثي تراست (2014): قام اتحاد من المكتبات البحثية (HathiTrust) برقمنة ملايين الكتب من مجموعاته، بما في ذلك الكتب المحمية بحقوق النشر لإنشاء قاعدة بيانات قابلة للبحث النصي الكامل. زعمت القضية التي اقامتها جمعية المؤلفين أن رقمنة الكتب يشكل انتهاكًا لحقوق النشر الخاصة بهم، إلا أن المحكمة قضت لصالح المكتبات تحت مبدأ “الاستخدام العادل”. أرست القضية سوابق قضائية مهمة حول كيفية تطبيق قانون حقوق النشر على الأنشطة الرقمية التي تخدم أغراضًا تعليمية وبحثية وعامة.

التقاضي الجماعي

يُستخدم هذا النمط عندما يتضرر عدد كبير من الأفراد من نفس الانتهاك لحقوقهم الرقمية. يتيح التقاضي الجماعي للأفراد المتضررين رفع دعوى قضائية واحدة نيابة عن المجموعة بأكملها، ما يُقلل التكاليف ويزيد من قوة موقفهم.

مثال: قضية لينوفو وسوبرفيش: في عام 2015، تم رفع دعوى قضائية جماعية ضد شركة لينوفو بسبب تثبيتها برنامج “VisualDiscovery” من شركة سوبرفيش على أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بها. تم اعتبار هذا البرنامج بمثابة برنامج تجسس لأنه جمع بيانات عن أنشطة المستخدمين عبر الإنترنت وعرض إعلانات بناءً عليها دون موافقة واضحة. انتهت القضية بتسوية دفعت فيها لينوفو وسوبرفيش تعويضات للمستخدمين المتضررين.

التقاضي أمام المحاكم الدولية والإقليمية

يُمكن استخدام هذا النمط لرفع قضايا تتعلق بانتهاكات الحقوق الرقمية أمام المحاكم الدولية والإقليمية، مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أو لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.

مثال: قضية منطمة الأخ الأكبر ووتش وآخرون ضد المملكة المتحدة (2021): أقامت مجموعة من منظمات حقوق الإنسان قضية أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) ضد الاعتراض الجماعي للاتصالات وتبادل المعلومات الاستخباراتية من قبل الأجهزة الأمنية في المملكة المتحدة. قضت المحكمة بأن نظام الاعتراض الجماعي للاتصالات في المملكة المتحدة انتهك الحق في احترام الحياة الخاصة والعائلية والمراسلات وحرية التعبير.

التقاضي بالنيابة عن المصلحة العامة

يهدف هذا النمط إلى حماية المصلحة العامة في مجال الحقوق الرقمية والتكنولوجيا، وذلك من خلال رفع دعاوى قضائية من قبل منظمات المجتمع المدني أو الأفراد المهتمين.

مثال: اتحاد الحريات المدنية الأمريكي ضد مدير وكالة الأمن القومي الأمريكية (2015): أقام الاتحاد دعوى قضائية ضد مدير وكالة الأمن القومي آنذاك، جيمس كلابر، طعنًا في برنامج الوكالة للجمع الشامل لبيانات الاتصالات الهاتفية للمواطنين الأمريكيين. قضت محكمة الاستئناف للدائرة الثانية، في حكمها الصادر في مايو 2015، بأن البرنامج تجاوز النطاق الذي أذن به الكونجرس وفقًا لقانون (USA PATRIOT Act).

التقاضي الاستباقي

 يتميز هذا النمط برفع قضايا قبل وقوع ضرر مُباشر، وذلك بهدف منع انتهاكات مُحتملة للحقوق الرقمية.

مثال: قضية موزيلا ضد لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية (2019): أقامت شركة موزيلا دعوى قضائية ضد قرار لجنة الاتصالات الفيدرالية لإلغاء قواعد حيادية الإنترنت التي تم وضعها في عام 2015. استندت هذه الدعوى إلى حجج استباقية تتعلق بالتهديدات المحتملة لتطبيق القرار وقبل حتى أن تظهر آثاره بشكل كامل. لم تكن تلك الدعوى الوحيدة؛ فبعد قرار اللجنة قام المدعون العامون من 22 ولاية أمريكية بالإضافة إلى عدد من المنظمات الحقوقية وشركات التكنولوجيا برفع دعاوى مماثلة ضد القرار.

استخدام آليات الشكوى والطعن الإداري

بالإضافة إلى التقاضي أمام المحاكم، يمكن استخدام آليات الشكوى والطعن الإداري للطعن في القرارات أو الإجراءات الإدارية التي تؤثر على الحقوق الرقمية.

مثال: تقديم شكوى إلى جهاز تنظيم الاتصالات بسبب قرار يُقيد الوصول إلى بعض المواقع الإلكترونية.

التقاضي المُتعدد الأوجه

يتضمن هذا النمط استخدام مجموعة مُتنوعة من استراتيجيات التقاضي في نفس الوقت، مثل رفع دعاوى قضائية أمام محاكم مختلفة أو استخدام آليات الشكوى الإدارية بالتوازي مع التقاضي القضائي.

مثال: إقامة عدد كبير من الطعون على قرار إداري مثل قرارات تنظيم تراخيص المواقع الصحفية.


تأثيرات الذكاء الاصطناعي واستخداماته على عملية التقاضي الاستراتيجي في مجال الحقوق الرقمية 

الحديث عن الذكاء الاصطناعي ودوره وتأثيراته أصبح أمرًا أساسيًا في كافة القضايا المرتبطة بالحقوق الرقمية. يناقش القسم التالي كيفية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في عملية التقاضي الاستراتيجي، وتوظيفه بشكل جيد بهدف تعظيم المكاسب.

تعزيز كفاءة التقاضي الاستراتيجي: قد يساهم الذكاء الاصطناعي في تسريع عمليات البحث القانوني، حيث توفر أدوات التحليل المعتمدة على الذكاء الاصطناعي إمكانية البحث عن السوابق القضائية واللوائح القانونية في ثوانٍ. من الممكن أن يساعد ذلك المحامين في بناء حجج قوية تستند إلى قضايا مشابهة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتنبؤ القانوني، وهو مجال متطور للذكاء الاصطناعي، توقع نتائج القضايا بناءً على البيانات التاريخية. يسمح ذلك للمحامين بتحديد أفضل الاستراتيجيات لمتابعة التقاضي الاستراتيجي. على الرغم من ذلك، يجب مراجعة منطقية عملية التنبؤ بالنتائج والتوقعات السردية المقترحة من الذكاء الاصطناعي بشكل دقيق. كما ينبغي أن يُأخذ في الاعتبار الخوارزميات والبيانات التي تم تدريب الذكاء الاصطناعي عليها والتي تؤثر بالضرورة في صحة الفرضيات التي ينتهي إليها.

تحليل النصوص القانونية: في البيئات التشريعية المعقدة، يواجه المحامون والباحثون القانونيون الذين يعملون على ملفات التقاضي الاستراتيجي أزمة كبيرة تتعلق بتعدد التشريعات ذات الصلة ببعضها. تعدد التشريعات دومًا ما يفتح احتمالات متعددة بل أنه من الممكن أن يترتب عليه نتيجة غير مفيدة في حالة إغفال نص قانوني أو بند في إحدى اللوائح التنفيذية.

على سبيل المثال، قد يتم استخدام نصوص قانونية في قوانين تنظيم الإعلام لرفع الحجب عن موقع صحفي، ولكن عند الذهاب إلى المحكمة من الممكن أن تستخدم جهة الحجب نصوصًا من قوانين أخرى، مثل قوانين مكافحة الإرهاب، لتبرير الحجب. قد ينتهي ذلك إلى إرساء مبدأ قضائي جديد يسمح للسلطات بالحجب لأسباب ودوافع غير منضبطة ويصعب مراقبة مشروعيتها.



إشكاليات التقاضي الاستراتيجي في السياق المصري 

تشهد القوانين المتعلقة بالحقوق الرقمية في مصر تطورًا متسارعًا، لكنه يثير مخاوف عميقة بشأن تقييد الحريات الأساسية. منذ إصدار قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات وقانون تنظيم الصحافة والإعلام، بالإضافة إلى قانون مكافحة الإرهاب والتعديلات المرتقبة على قانون الإجراءات الجنائية، أصبحت البيئة القانونية أكثر تضييقًا على حرية التعبير والخصوصية في الفضاء الرقمي.

تحتوي هذه القوانين على نصوص فضفاضة وغامضة، مثل الاتهامات بـ”الإضرار بالأمن القومي” و”نشر الأخبار الكاذبة”، وهي تُستخدم بشكل متزايد لتجريم الأنشطة الرقمية المشروعة. تُستغل هذه النصوص لتكميم الأفواه وملاحقة الصحفيين، والنشطاء، والمواطنين العاديين الذين يعبرون عن آرائهم على منصات التواصل الاجتماعي أو ينشرون معلومات تخالف الرواية الرسمية للدولة.

إضافة إلى ذلك، تمنح هذه القوانين السلطات صلاحيات واسعة لمراقبة الأنشطة الإلكترونية، بما يشمل تتبع الاتصالات وجمع البيانات الشخصية دون  توفير ضمانات كافية لحماية الخصوصية. تساهم هذه الممارسات في خلق بيئة رقمية عدائية تعزز مناخ الخوف والرقابة الذاتية بين الأفراد والمؤسسات الإعلامية. 

تُستخدم أيضًا هذه القوانين لتبرير حجب مئات المواقع الإلكترونية التي تشمل منصات إخبارية وحقوقية، وهو ما يمثل انتهاكًا صريحًا لحق الجمهور في الوصول إلى المعلومات. كما تتعرض منصات الإعلام الرقمي لضغوط مستمرة من خلال فرض قيود تنظيمية صارمة وعقوبات مالية كبيرة، مما يعيق نمو هذا القطاع ويحد من تنوع الأصوات المستقلة. يضاف إلى ذلك غياب كامل للقوانين ذات الطابع الحمائي مثل قوانين حماية البيانات وقوانين تداول المعلومات، إما لكونها قوانين معطلة أو أنها قيد الإعداد منذ سنوات طويلة.

تواجه السلطة القضائية في مصر تحديات متعددة تتعلق باستقلاليتها وحيادها، حيث أصبحت تتعرض لتدخلات متزايدة من السلطة التنفيذية. يثير ذلك مخاوف حول نزاهة الإجراءات القانونية وحقوق المتقاضين. تُستخدم المحاكم أحيانًا كأداة لتضييق الخناق على المعارضين السياسيين والنشطاء، من خلال إصدار أحكام قاسية في قضايا ذات طابع سياسي، بما في ذلك قضايا حرية التعبير والتجمع.

بالإضافة إلى ذلك، تعاني المنظومة القضائية من بطء الإجراءات وتراكم القضايا، ما يعيق تحقيق العدالة الناجزة. في ظل هذه الأوضاع. كل هذه الإشكاليات تجعل نجاح القضايا ذات الطابع الاستراتيجي في مجال الحقوق الرقمية في مصر أمرًا صعبًا للغاية. لكن على الصعيد الآخر، في حال نجاحها، قد ترسي هذه القضايا مبادئ قضائية مهمة لحماية الحقوق الرقمية للعديد من المواطنين.

قضايا حجب المواقع الإلكترونية:

شهدت مصر خلال العقد الأخير تصاعدًا في ممارسة حجب المواقع الإلكترونية دون مبررات قانونية واضحة. بدأت هذه الممارسة في عام 2017، حيث تم حجب عدد كبير من المواقع الإخبارية والحقوقية والمدونات لتصل إلى ما يقرب من 600 موقع إلكتروني وفقًا لرصد توثيق مسار.

تستند السلطات في قرارات الحجب إلى قوانين مختلفة، أبرزها قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003، وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، وقانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018. تمنح هذه القوانين جهات التحقيق والأمن القومي والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام صلاحيات وسلطات واسعة لحجب المواقع بدعوى حماية الأمن القومي أو الاقتصاد القومي أو منع نشر أخبار كاذبة أو محتوى يُحرض على العنف أو الكراهية.

يُثير استخدام هذه القوانين انتقادات واسعة. فتعريفات المصطلحات المستخدمة في القوانين، مثل “الأمن القومي” و”الأخبار الكاذبة”، فضفاضة للغاية وقابلة للتأويل. يسمح ذلك للسلطات باستخدامها لقمع حرية التعبير وتقييد الوصول إلى المعلومات. كما يُنتقد غياب الشفافية في إجراءات الحجب وعدم وجود آليات فعالة للطعن عليها، ما يُقلل من فرص مساءلة السلطات.

رغم القيود والتحديات، لم يتوقف الجهد الحقوقي والقانوني للطعن في قرارات حجب المواقع الإلكترونية. أُقيمت العديد من الدعاوى القضائية أمام المحاكم الإدارية والقضاء المستعجل للطعن في هذه القرارات. استندت هذه الدعاوى إلى مخالفة قرارات الحجب للدستور والقوانين التي تكفل حرية التعبير وتداول المعلومات. ساهمت هذه الدعاوى في توضيح بعض الجوانب الإجرائية المتعلقة بحجب المواقع، لكنها لم تُؤدِ إلى تغيير جذري في الوضع.

بشكل عام، لم تُحقق الدعاوى القضائية التي أُقيمت للطعن في قرارات حجب المواقع في مصر نجاحًا كبيرًا في تغيير السياسة العامة للحجب أو إسقاط القوانين التي تستند إليها السلطات. مع ذلك، ساهمت هذه الدعاوى في إثارة النقاش العام حول القضية، وتوثيق الانتهاكات، ومُساءلة السلطات، وتقديم حجج قانونية يُمكن الاستناد إليها في المستقبل. كما تُشجع هذه الدعاوى على تطوير استراتيجيات قانونية جديدة للطعن في قرارات الحجب، مثل التركيز على مخالفة القرارات للمعايير الدولية لحقوق الإنسان أو على عدم تناسبها مع الأهداف المعلنة.

قضية الحرمان من استخدام وسائل الاتصال:

تضمن قانون مكافحة الإرهاب عدد من التدابير التي يمكن للمحكمة أن تقضي بها بالإضافة إلى العقوبة الأصلية. تشير الفقرة السابعة من المادة 37 إلى سلطة المحكمة في توقيع تدبير “حظر استخدام وسائل اتصال معينة أو المنع من حيازتها أو إحرازها”.

بموجب هذا النص قضت إحدى محاكم جنايات الإرهاب غيابيًا بإدانة المتهم ومعاقبته بالسجن لمدة عشر سنوات، وإلزامه بالإقامة في مكان معين (منزله)، ومنعه عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمدة خمس سنوات. مع إعادة إجراءات المحاكمة بحضور المتهم دفع محاميه بعدم دستورية هذه المادة استنادًا إلى مخالفة القانون “القواعد والشرائط الدستورية المطلوبة واللازمة لصحة عرض القرارات بقوانين ومناقشتها من قبل مجلس النواب وكذلك لتخلف شرط النشر اللازم لإنفاذ القوانين بشكل عام.”

قبلت المحكمة هذا الدفع، وعلى أثر ذلك أقام المتهم الدعوى الدستورية رقم 31 لسنة 40 قضائية دستورية في 22 فبراير 2018، أمام المحكمة الدستورية العليا. لم تُصدر المحكمة حكمًا في هذه الدعوى حتى الآن وما زالت متداولة أمامها بالإضافة إلى خمسة عشر دعوى أخرى بعدم دستورية هذا القانون لأسباب متعددة حسب الطلبات الواردة في كل منهم.



قضية “شريمس ضد فيسبوك” (Schrems v. Facebook):

تُعد قضية شريمس ضد فيسبوك نموذجًا بارزًا لنجاح التقاضي الاستراتيجي في الدفاع عن الحقوق الرقمية. تمكنت هذه القضية من إحداث تغيير جذري في الأطر القانونية المنظمة لحماية البيانات الشخصية ونقلها عبر الحدود الدولية

انطلقت هذه القضية بمبادرة من الناشط النمساوي ماكس شريمس، الذي استغل الوسائل القانونية المتاحة للطعن في سياسات نقل البيانات الخاصة بشركة فيسبوك، مسلطًا الضوء على التهديدات التي تشكلها برامج المراقبة الأمريكية على خصوصية المستخدمين الأوروبيين.

دفعت قضية شريمس محكمة العدل الأوروبية إلى إلغاء اتفاقية “الملاذ الآمن” في عام 2015، مما أدى إلى إعادة صياغة الإطار القانوني لنقل البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ومع استمرار المخاوف بشأن حماية البيانات، رفع شريمس دعوى أخرى، استهدفت هذه المرة اتفاقية “درع الخصوصية”، ليحقق نصرًا جديدًا في عام 2020 بإبطالها أيضًا. قضت المحكمة في الدعوى الثانية بعدم امتثال اتفاقية “درع الخصوصية” بمعايير اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR).

لم تقتصر تداعيات هذا النجاح القانوني على الإطار النظري، بل فرضت تغييرات جوهرية على سياسات الشركات الكبرى مثل فيسبوك وجوجل وأمازون، حيث أصبحت ملزمة بإيجاد بدائل أكثر أمانًا لنقل البيانات، أو مواجهة عواقب قانونية وتنظيمية صارمة. كما عززت القضية الوعي العام بضرورة حماية البيانات الشخصية كمبدأ أساسي من مبادئ الحقوق الرقمية، وأجبرت الحكومات الأوروبية والأمريكية على إعادة التفاوض بشأن آليات جديدة تضمن توازنًا بين التدفقات التجارية وحماية الخصوصية.

قضية إي إي أو سي ضد أمازون

رفعت لجنة تكافؤ فرص العمل الأمريكية (EEOC) في عام 2021 دعوى قضائية ضد شركة أمازون بالنيابة عن الموظفة إميلي سوزا. اتهمت سوزا شركة أمازون بالتمييز على أساس الجنس وفي طريقة تعاملها مع حقوق العمال. تعرضت سوزا لمضايقات من مديرها المباشر، بما في ذلك مكالمات هاتفية غير مهنية و تعليقات غير لائقة. عندما اشتكت سوزا من هذه السلوكيات، قامت الشركة بنقلها مؤقتًا من موقعها في ديلاوير إلى نيوجيرسي، مما أثر سلبًا على ظروف عملها وفرص ترقيتها.

اعتبرت لجنة EEOC أن هذه الإجراءات تشكل بيئة عمل عدائية و تمييزية. كما ركزت اللجنة أيضًا على وجود نمط ممنهج من التمييز يمارس ضد العمال في مراكز التوزيع التابعة لأمازون، ما يُشير إلى وجود مشكلة هيكلية تتطلب تدخلًا قانونيًا على مستوى استراتيجي.

تمكنت هذه الدعوى من إحداث تغييرات جذرية في سياسات وممارسات الشركات الكبرى، وتحديدًا في طريقة تعاملها مع حقوق العمال. انتهت هذه المعركة القانونية بتسوية تاريخية في عام 2022، دفعت فيها أمازون تعويضات تصل ل10 ملايين دولار للعمال المتضررين، والتزام الشركة باتخاذ إجراءات ملموسة وفعالة لتحسين سياساتها وممارساتها بشكل جذري. شملت هذه الإجراءات مراجعة وتعديل سياسات الإجازات لتصبح أكثر مرونة وتُراعي الظروف الصحية واحتياجات العمال ذوي الإعاقة.

قضية حجب تويتر في نيجيريا

شهدت نيجيريا في عام 2021 قرارًا من الحكومة بحجب منصة تويتر بشكل كامل “إلى أجل غير مسمى”، كرد على حذف المنصة لتغريدة لرئيس نيجيريا. بررت تويتر حذف التغريدة لمخالفتها معايير المنصة واحتوائها على تهديدات بالعنف، إلا أن الحكومة لم تتقبل هذا الإجراء واعتبرته تدخلًا في شؤونها الداخلية وتقويضًا لسيادتها. بعد 7 أشهر من الحجب  والمفاوضات، وافقت تويتر على إنشاء كيان قانوني لها في نيجيريا والامتثال لبعض الشروط الأخرى، في مقابل رفع الحجب في يناير 2022. في أثناء ذلك، كان قرار الحجب قد أثار ردود فعل واسعة على المستويين المحلي والدولي، وتم الطعن على القرار أمام المحكمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS Court). أصدرت المحكمة حكمًا، في يوليو 2022، قضت فيه بأن الحجب غير قانوني ويُشكل انتهاكًا لحرية التعبير. كما طالبت المحكمة الحكومة باتخاذ خطوات تضمن عدم تكرار هذا النوع من الرقابة على الإنترنت مرة أخرى.