لماذا تفشل منصات التواصل الاجتماعي في مواجهة العنف الجندري

مقدمة

لا يزال التمييز على أساس الجندر (يستخدم أيضًا مصطلح النوع الاجتماعي ولكنه أقل دقة)، هو أكثر صور التمييز سيادة وأثرًا في المجتمعات البشرية حول العالم. وبرغم أن النضال لتحقيق المساواة الجندرية قد استمر طيلة أكثر من قرن ونصف حتى اليوم فلا يزال هذا الهدف بعيدًا على رغم ما يعتقد كثيرون.

لا يُغفل هذا الحكم على الأمور ما تحقق من إنجازات عبر هذه الفترة الطويلة، ولكنه أيضًا يضع في الاعتبار أن الصراع حول المساواة الجندرية لا يزال محتدمًا وأن الانتكاسات لا زالت واقعًا متكررًا حول العالم. ومع نشأة ونمو الفضاء السيبراني ثمة اليوم ساحة فريدة من نوعها للصراعات الاجتماعية، تفرض من خلال آلياتها وديناميكيات التفاعل عليها طبيعة جديدة لهذه الصراعات. يأتي في مقدمة هذه الصراعات الصراع حول المساواة الجندرية.

الوجه الأكثر قبحًا للتمييز الجندري وللصراع حول إنهاء هذا التمييز هو العنف الذي يستهدف النساء والفتيات على أساس الجندر. لقد واكب هذا العنف التمييز الجندري طيلة آلاف السنين واتخذ عددًا لا نهاية له من الصور التي تتفاوت في مدى الضرر والمعاناة التي توقعهما بالنساء والفتيات. لكن يظل العامل المشترك دائمًا هو أن العنف الجندري منهجي ويعاد إنتاجه اجتماعيًا وتتوارثه المجتمعات جيلًا بعد جيل.

ورثت المجتمعات الحديثة ظاهرة العنف الجندري التي تضاعف تعقيدها مع تعقيد هذه المجتمعات. وفي العصر الرقمي امتد التمييز الجندري والعنف المؤسس عليه ليصل إلى الفضاء السيبراني وينشئ ظاهرة بالغة التعقيد وهي العنف الجندري السيبراني. يعود التعقيد المفرط لهذه الظاهرة إلى أن ثمة عدد ضخم من العوامل التي تسهم في تشكيلها.

تحاول هذه الورقة التركيز على جانب واحد من جوانب ظاهرة العنف الجندري السيبراني، وهو الجانب المتعلق بأثر سياسات منصات التواصل الاجتماعي على نمو هذه الظاهرة واستمراريتها. تمثل منصات التواصل الاجتماعي الصورة الأكثر سيادة لاستخدام التكنولوجيا الرقمية وشبكة الإنترنت في الوقت الحالي. من ثم، فهذه المنصات تعد اليوم ساحات التفاعل الاجتماعي الأكثر تأثيرًا في حياة الأفراد والمجتمعات حول العالم.

تطرح الورقة فرضية أن ثمة ارتباط لا يمكن تجاوزه بين السياسات المتبعة في إدارة منصات التواصل الاجتماعي وبين النمو المتزايد للعنف الجندري على هذه المنصات. يؤدي هذا الارتباط إلى عدم إمكان كبح جماح العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي، وبالتالي إلى فشل أية سياسات حمائية لمواجهة هذا العنف.

تناقش الورقة مؤشرات رئيسية تميز ملامح العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي، وهي الكمي والكيفي والتأسيسي. كما تتناول مسؤولية نموذج أعمال منصات التواصل الاجتماعي عن نمو العنف الجندري، والخلل البنيوي في السياسات الحمائية المطبقة على هذه المنصات لمواجهة العنف الجندري. أخيرًا، تطرح الورقة توصيات لتحسين ضمانات الأمان للنساء والفتيات على منصات التواصل الاجتماعي.


فهم مظاهر العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي

يوجد العديد من الملامح المميزة لظاهرة العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي. تركز الورقة على ثلاثة جوانب رئيسية، وهي:

  • الجانب الكمي الإحصائي الذي يبرز النمو المستمر لهذا العنف رغم جهود مواجهته طوال ما يقرب من عقدين.
  • الجانب الكيفي الذي يضيء الاختلاف الكبير في طبيعة العنف الجندري السيبراني عما هو عليه في الواقع العملي.
  • الملمح التأسيسي والذي يوضح أن منصات التواصل الاجتماعي هي في مقدمة مساحات الفضاء السيبراني من حيث تأسيسها لأرضية جديدة للتمييز الجندري وبالتالي للعنف المؤسس عليه.

تزايد معدلات العنف الجندري

بحسب موقع الإحصائيات العالمية Statistica، ثمة توجه واضح لتزايد معدلات العنف ضد النساء والفتيات على الإنترنت. في الفترة من عام 2013 وحتى عام 2023، ازدادت نسبة النساء والفتيات في الفئة العمرية من 11 إلى 21 سنة اللاتي تعرضن لتعليقات مسيئة على الإنترنت من 40% إلى 51%. 

في نفس الفترة، قفزت نسبة الفتيات والنساء اللاتي تلقين محتوى مسيء من أشخاص يعرفنهن من 17% إلى 37%. هذا التزايد في معدلات العنف السيبراني قد امتد إلى الفتيات الصغيرات في سن السابعة وحتى العاشرة من أعمارهن، واللاتي تضاعف معدل تعرضهن لسلوكيات تهديدية وللتنمر من 16% إلى 30% في الفترة من عام 2016 إلى 2023.

أكد تقرير للأمم المتحدة أن شبكة الإنترنت هي أرض خصبة لتطور ونمو العنف على أساس الجندر. يستشهد التقرير بدراسات أجريت حول العالم قدرت أن ما بين 16% إلى 58% من النساء والفتيات كن هدفًا لصور مختلفة من العنف السيبراني الجندري. يؤكد التقرير كذلك أن امتداد العنف ضد النساء والفتيات إلى العالم الافتراضي قد ضاعفت من حجمه وعمق تأثيره.

وفي حين بدأت ممارسات هذا العنف منذ ظهور آليات تواصل مثل البريد الإلكتروني وغرف الدردشة إلا أن صعود منصات التواصل الاجتماعي بصفة خاصة قد أدى إلى توسع تهديداته. زودت هذه المنصات مرتكبي ممارسات العنف الجندري بأدوات للتحرش والاستغلال والإساءة على مقياس عالمي.

يبرز تقرير آخر للأمم المتحدة حقيقة أن التطور التكنولوجي المتسارع لتكنولوجيات مثل الذكاء الاصطناعي يدفع بقوة تزايد معدلات العنف ضد النساء والفتيات في كل من الفضاء السيبراني وعلى أرض الواقع. الاعتماد المتزايد لمنصات التواصل الاجتماعي على الخوارزميات وعلى انتشار استخدام تطبيقات الهواتف الذكية من شأنه نشر ودعم الصور الجندرية النمطية ومعها الانحيازات الجندرية وكراهية النساء.

حسب إحصائيات للمركز المعلوماتي لجريدة الإيكونوميست تبلغ نسبة شيوع العنف السيبراني ضد النساء 85%. تمثل هذه النسبة النساء اللاتي شهدن عنفًا ضد نساء أخريات داخل وخارج دوائرهن المباشرة. في حين كانت نسبة من أبلغن عن تعرضهن شخصيًا للعنف في الفضاء السيبراني (38%).

كما بلغت نسبة من شهدن بتعرضهن أو تعرض أخريات للعنف في دوائرهن القريبة 65%. تفاوتت نسب تعرض النساء للعنف السيبراني بين الأقاليم الجغرافية المختلفة؛ فقد بلغت نسبة شيوع العنف الجندري في منطقة الشرق الأوسط 98%، وفي أمريكا اللاتينية 91%، وفي إفريقيا 90%، مقارنة بـ 76% في أمريكا الشمالية و74% في أوروبا.

ما تعكسه هذه النسب هو أن ثمة دور ملحوظ للعوامل الثقافية والاجتماعية، لكن هذا الدور أبعد ما يكون عن حسم معدلات العنف الجندري على الإنترنت. فالعامل الأساسي وراء نمو هذه الظاهرة يظل انتشار وتطور استخدام التكنولوجيات الرقمية، وبصفة خاصة النمو الضخم لعدد مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي حول العالم.

تُجمع نتائج العديد من الدراسات الأكاديمية وتقارير المنظمات الحقوقية الصادرة عن جهات متنوعة على مدار العقدين الأخيرين على أن منصات التواصل الاجتماعي قد أسهمت بشكل ملحوظ في تفاقم معدلات العنف الجندري عبر الإنترنت. كما سبق لمسار مناقشة العنف السيبراني ضد النساء والفتيات، والعداء للنساء في الفضاء السيبراني في أوراق سابقة.

ما تسعى إليه الورقة الحالية هو إبراز الأدلة التي تشير بوضوح إلى استمرار نمو العنف الموجه ضد النساء والفتيات عبر منصات التواصل الاجتماعي، سواء من حيث مدى انتشاره أو شدته أو عمق تأثيره. هذا النمو في حد ذاته مؤشر واضح لفشل سياسات الحماية التي توفرها منصات التواصل الاجتماعي في مواجهة العنف الجندري.

تطور أنماط خاصة للعنف الجندري السيبراني

أغلب المصطلحات المستخدمة لوصف أشكال العنف الجندري السيبراني، مثل التحرش، والترصد، والتشهير، وانتهاك الخصوصية، مستمدة من نظيراتها التي تُستخدم للإشارة إلى ممارسات تحدث في الواقع خارج الفضاء الرقمي. ورغم أن هذه المصطلحات تحتفظ بقدر كبير من دلالاتها الأصلية، فإنها في الوقت نفسه تغفل الفروق العميقة بين طبيعة هذه الأفعال عندما تُرتكب عبر الوسائط الإلكترونية في بيئة رقمية، وبين صورتها حين تقع في العالم المادي.

يمكننا هنا أن نطرح مثالًا أكثر شيوعًا. يمكن لأي فتاة أو امرأة أن تتعرض للتحرش اللفظي وربما التعدي على مساحتها الخاصة وعلى جسدها أثناء تحركها بأحد الشوارع. هذه واقعة يومية تمر بها ملايين النساء حول العالم. في بعض الأحيان يمكن للفتاة أو المرأة أن تأمل في أن تنتهي هذه التجربة المريرة بمجرد عبورها للشارع الذي كانت تتحرك فيه.

عندما نقارن هذه الواقعة بالتحرش السيبراني فنحن أمام واقع مختلف. يمكن لأي فتاة أو امرأة أن تتواجد في عشرات أو مئات الشوارع الافتراضية على الإنترنت وبصفة خاصة على أي منصة من منصات التواصل الاجتماعي. وجودها يتحدد بأي منشور على حسابها الخاص، وأي تعليق لها على منشور لحساب آخر، وأي إشارة إليها من خلال منشور لحساب فرد أو مجموعة قد تعرفهم أو لا معرفة عندها لوجودهم.

كل حالة من هذه الحالات هي فرصة للتعرض للتحرش والتعدي اللفظي بكل صورة ممكنة. قد يأتي التحرش في أي حالة من هذه الحالات من شخص واحد، أو قد يأتي من عشرات أو مئات الأشخاص. وقد تنتهي تجربة التعرض للتحرش بعد بعض الوقت مع تدني الاهتمام بالمنشور أو التعليق ذي الصلة، ولكنها قد تطول وتتجدد وتنتشر مع إمكانية إعادة نشر المنشور نفسه أو إعادة الإشارة إليه في منشورات أخرى. يمكن لذلك أن يحدث بعد أيام أو شهور وأحيانًا بعد سنوات.

لا يقف الأمر بالضرورة عند هذا الحد. يشبه التواجد على منصات التواصل الاجتماعي أن تكون هناك نافذة على جميع شوارع الفضاء السيبراني. يمكن لأي شخص في أي وقت أن ينفذ من خلالها إلى داخل المنزل ليواصل تحرشه وتهديداته وممارساته العنيفة بشكل مباشر وخارج نطاق رقابة الآخرين.

على أرض الواقع، يندر أن يتمكن شخص تحرش عابرًا بأحدهم في الشارع من الوصول إلى عنوان السكن أو رقم الهاتف لمواصلة إيذائه بعيدًا عن أعين الناس. لكن منصات التواصل الاجتماعي تتيح صلة مباشرة بين الوجود العلني للمستخدم وإمكانية التواصل معه بشكل خاص. وما يزيد الأمر خطورة أن هذه الصلة قد تمتد إلى العالم الواقعي، إذ يمكن تتبع الشخص من خلال المعلومات المتوفرة عنه على المنصة، والوصول إلى مكان سكنه أو عمله أو دراسته.

يمكن من المثال السابق ملاحقة النقاط التالية:

  • أولًا: أن مصطلحًا واحدًا من المصطلحات المستخدمة للإشارة إلى العنف الجندري، مثل “التحرش”، لا يشبه في حقيقته على منصات التواصل الاجتماعي نظيره على أرض الواقع خارج الفضاء السيبراني بأي شكل.
  • ثانيًا: هذا الاختلاف يأتي مباشرة من طبيعة أدوات التواصل والاحتكاك والتفاعل التي تتيحها منصات التواصل الاجتماعي. تضاعف هذه الأدوات من إمكانية الاحتكاك بأفراد آخرين عشرات بل مئات وآلاف المرات مقارنة بهذه الإمكانية على أرض الواقع. كما أنها تضاعف إمكانية تصعيد العنف من التحرش اللفظي العابر إلى إمكانية الإيذاء البدني.

عند إضافة مفردات مثل “سيبراني”، و“إلكتروني”، و“رقمي”، إلى مصطلحات دالة على العنف الجندري مثل “تحرش”، و“ترصد”، فهذا لا يعني مجرد انتقال الأفعال المشار إليها من أرض الواقع إلى الفضاء السيبراني. ما يعنيه ذلك هو إنتاج أنماط جديدة من العنف الجندري تختلف بشكل جذري في طبيعتها وإمكانيات تصعيدها وأثرها على ممارسة النساء والفتيات لحياتهن الطبيعية. هذه الأنماط الجديدة للعنف الجندري تستمد وجودها وطبيعتها من الطريقة التي تعمل بها منصات التواصل الاجتماعي بشكل مباشر.

ظاهرة الفضاء الذكوري Manosphere

يُعرّف الفضاء الذكوري Manosphere بأنه “مجموعة متنوعة من المواقع الإلكترونية والمدونات ومنتديات الإنترنت التي تروج للذكورية والعداء للنساء ومعارضة النسوية.” عادةً ما يتخذ المنتمون لهذا الفضاء عناوين تدافع عما يسمونه “حقوق الرجال”. فيُصوِر هؤلاء توجههم على أنه محاولة لحماية الحقوق التي يرون أنها مهدرة للرجال في مواجهة تنامي الحراك النسوي الذي يهدف إلى تحقيق المساواة للمرأة وإنهاء أشكال التمييز ضدها.

منصات التواصل الاجتماعي هي بيئات خصبة لتمدد ونمو الفضاء الذكوري. وفي الواقع، لا يمكن الفصل بين الصورة الحالية لهذه الظاهرة وبين الإمكانيات التي أتاحتها منصات التواصل الاجتماعي لها. يمكن القول بأن أي وجود سابق لظاهرة الفضاء الذكوري لا يعدو أن يكون بدايات محدودة ومجهولة في معظمها لما أصبحت عليه هذه الظاهرة من خلال منصات التواصل الاجتماعي. بالتالي، لا يُعد من سبيل المبالغة القول بأن الظاهرة كما أصبحت عليه اليوم هي بصفة خاصة من إنتاج منصات التواصل الاجتماعي.

تتجلى ظاهرة الفضاء الذكوري في الجهد شبه المنظم لمجموعات من الرجال يتعاونون في إنتاج ونشر خطاب الكراهية للنساء ومهاجمة النسوية. يتخصص بعض المجموعات المنضوية تحت مظلة الفضاء الذكوري في مهاجمة الأفكار النسوية بصفة عامة وفي رفض فكرة المساواة بين الرجل والمرأة من حيث المبدأ. 

كما يتخصص بعضها في التعامل السلبي مع قضايا نسوية بعينها مثل مقاومة التحرش وجرائم التعدي الجنسي على النساء. وتتنوع تخصصات هذه المجموعات حسب النطاقات الجغرافية والثقافية المحلية. على سبيل المثال، تتجه مجموعات الفضاء الذكوري في الفضاء السيبراني المصري إلى التركيز على مقاومة منح النساء حقوقًا عادلة ومساوية للرجال في شؤون الزواج والطلاق وحضانة الأطفال.

يتمثل جزء رئيسي من جهود مجموعات الفضاء الذكوري في ممارسات جماعية مباشرة لصور مختلفة من العنف السيبراني. تقود هذه المجموعات حملات تشهير وتحرش سيبراني وإساءة وتهديد بالعنف تستهدف مجموعات حقوقية نسوية أو نساء بعينهن. في مقدمة المستهدفات بهذه الحملات النسويات البارزات والصحفيات والسياسيات وكذلك نجمات الفن والمجتمع. تعتمد هذه الحملات على أدوات ووسائل الترويج التي تتيحها منصات التواصل الاجتماعي لتعظيم مدى وعمق انتشارها وتأثيرها.

يمكن الربط بين نمو وانتشار ظاهرة الفضاء الذكوري على منصات التواصل الاجتماعي وبين واحدة من الظواهر الرئيسية المتجذرة على هذه المنصات وهي ظاهرة غرف الصدى. فمجموعات الفضاء الذكوري هي في حقيقتها غرف صدى يجتمع فيها أعداد من الرجال ذوي الرؤى والأفكار والانحيازات والمعتقدات المتماثلة.

تكمن أهمية الربط بين ظاهرتَي الفضاء الذكوري وغرف الصدى في إبراز حقيقة أساسية. فمنصات التواصل الاجتماعي ليست مجرد وسيلة أكثر فعالية تتيح لمجموعات الفضاء الذكوري التعبير عن أفكارها وخطابها المعادي للنساء وللنسوية. كما أنها ليست فقط ساحة تُمارس فيها هذه المجموعات عنفها الجندري ضد النساء، ولكنها قبل ذلك بيئة حاضنة تسهم في نشأة هذه المجموعات وفي نموها وتضخم تأثيرها. أوضحت ورقة سابقة لمسار حول غرف الصدى أن المسؤول الأول عن نشأة وتوسع هذه الظاهرة هو سياسات منصات التواصل الاجتماعي والطريقة التي تعمل بها خوارزميات التوصية بالمحتوى والترويج له.


سياسات المنصات ونمو ظواهر العنف الجندري

ينتقل القسم الحالي من مؤشرات نمو ظواهر العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي إلى محاولة تفسير هذا النمو من خلال جانبين رئيسيين. الجانب الأول هو علاقة نموذج عمل منصات التواصل الاجتماعي بدفع نمو العنف الجندري عليها. والجانب الثاني هو الخلل الكامن في سياسات مواجهة العنف الجندري على هذه المنصات والذي يجعل فشلها أمرًا محتومًا. يتضح من الجانبين أن الخصائص البنيوية لمنصات التواصل الاجتماعي تجعل من نمو العنف الجندري عليها والفشل في مواجهته نتيجة لا يمكن تجنبها.

علاقة نموذج عمل المنصات بنمو العنف الجندري

خرجت الدراسات المختلفة التي تناولت نموذج عمل منصات التواصل الاجتماعي بمصطلحات عدة لوصف هذا النموذج. بعض هذه المصطلحات مثل “اقتصاديات جذب الانتباه – Attention Economy” تشير إلى الآلية المحورية لعمل هذا النموذج. البعض الآخر مثل “تسليع الشخصية – Commodification of Personhood” يشير إلى السلعة الأساسية التي يروج لها هذا النموذج.

ثمة بالتأكيد علاقة تكامل بين ما تشير إليه هذه المصطلحات. يقوم نموذج عمل منصات التواصل الاجتماعي على توليد الأرباح بالاعتماد على مدى انخراط مستخدمي هذه المنصات في التفاعل المستمر مع المحتوى الذي تتيحه لهم. بالتالي، فأسر انتباه المستخدم لأطول فترة ولأعمق قدر ممكن هو هدف محوري تسعى المنصات إلى تحقيقه بشتى السبل. أحد أهم هذه السبل هي تحويل المستخدمين أنفسهم إلى سلع يعاد تسويقها لبعضهم البعض. مبادئ تطبيق هذه العملية بين جذب الاهتمام والتسليع بالغة البساطة في خطوطها العامة.

  • المبدأ الأول: ما جذب اهتمام المستخدم في السابق هو الأرجح أن يجذب انتباهه مرة أخرى. وللحفاظ على استمرارية انتباهه للمنصة يكفي أن يُعرَض عليه مزيد من المحتوى المشابه لما أثار اهتمامه سابقًًا.
  • المبدأ الثاني: ما جذب اهتمام آخرين يشبهون المستخدم حسب عدد من الخصائص المشتركة أقرب إلى أن يجذب انتباهه أيضًا. وكنتيجة لذلك، يكفي لاستبقاء انتباهه بالمنصة أن يُتاح له المزيد من المحتوى الذي اجتذب انتباه أقرانه.
  • المبدأ الثالث: يميل البشر بطبيعتهم إلى الانجذاب إلى بعضهم البعض. هذه الجاذبية تعمل سواء بالإيجاب أو السلب، أي أنهم ينجذبون إلى من يشبهونهم وكذلك إلى من هم على النقيض منهم. لذلك، تسويق المستخدمين لبعضهم البعض هو وسيلة فعالة لجذب الانتباه لفترات أطول وتعميق هذا الانتباه بإضافة بُعد شخصي إليه.
  • المبدأ الرابع: أي مؤشر للقيمة يصلح كجائزة يسعى الناس بطبيعتهم إلى الحصول عليها. والنتيجة أن مؤشرات مثل عدد المتابعين وحجم التفاعل مع المنشورات تمثل دافعًا للمستخدمين لأن يتولوا مهمة تسويق أنفسهم للآخرين بإنتاج محتوى يجتذب انتباههم.

يمكن للمبادئ الأربعة هذه أن تفسر جزءًا كبيرًا من ديناميكيات التفاعل على منصات التواصل الاجتماعي. كذلك يمكنها أن تفسر لماذا تعمل هذه المنصات كبيئات ملائمة لنمو جميع ظواهر الصراع الاجتماعي. يأتي في مقدمة هذه الصراعات بلا أدنى شك الصراع حول المساواة الجندرية. 

بخلاف غيره من الصراعات، يمتد هذا الصراع متجاوزًا الحدود الجغرافية والطبقية واللغوية ليجد أصداءً متوافقة بين أكثر دول العالم تقدما وثراءً وأكثرها تأخرًا وفقرًا. ينعكس ذلك في السهولة والتلقائية التي يمكن بها لمحتوى مُنتَج في أي دولة أن ينتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي ويعاد تدويره في الفضاءات السيبرانية لدول أخرى.

تلعب خوارزميات التوصية بالمحتوى دورًا كبيرًا في تمكين النشر الواسع النطاق للمحتوى المنطوي على خطاب كراهية جندري. لا يحدث ذلك لأن هذه الخوارزميات تنتقي هذا المحتوى بشكل خاص، ولكن لأنها تنتقي ما هو مرشح لجذب انتباه أكبر عدد من المستخدمين. في المقابل، العمل المستمر لهذه الخوارزميات ينتج مع الوقت القاعدة الواسعة من المستخدمين المؤهلين للإقبال على هذا المحتوى.

يحدث ذلك من خلال ظاهرة غرف الصدى والتي تنشئ مجتمعات مغلقة فكريًا وذات اهتمامات مشتركة محددة. جميع هذه المجتمعات قابلة للتطرف تجاه أي قضية تهتم بها. لكن ما يميز قضايا الجندر هو حجم المجتمعات التي يمكن خلقها حول العداء للنساء وللنسوية وامتدادها عبر حواجز الجغرافيا واللغة.

الخلل البنيوي في السياسات الحمائية للمنصات

في يوليو عام 2021 أعلنت الشركات المسؤولة عن أربع من أكبر منصات التواصل الاجتماعي، وهي فيسبوك وجوجل وتيك توك وتويتر، عن حزمة من الالتزامات لمواجهة الإساءة والعنف ضد النساء ولتحسين أمانهن. تتلخص الالتزامات التي أعلنتها الشركات المذكورة في كل من:

  • توفير إعدادات أكثر تفصيلًا (مثل تحديد من يمكنه أن يرى، أو يشارك، أو يعلق، أو يرد على المنشورات).
  • استخدام لغة أبسط وأوضح عبر واجهات الاستخدام.
  • توفير إمكانية وصول أسهل لأدوات الأمان.
  • تخفيف العبء الملقى على النساء من خلال العمل النشط على تقليل قدر الإساءة التي يتعرضن لها.

وفيما يخص تسهيلات الإبلاغ عن التعرض للعنف السيبراني الجندري تعهدت هذه الشركات باتخاذ الخطوات التالية:

  • تمكين الشاكيات من تعقب وإدارة بلاغاتهن.
  • توفير قدرة أكبر على التعامل مع السياق و/أو اللغة.
  • تقديم مزيد من الإرشادات حول سياسات المنصة عند تقديم بلاغات.
  • إنشاء مزيد من الطرق للنساء للوصول إلى المساعدة والدعم خلال عملية الإبلاغ.

بعد ما يقرب من أربعة أعوام من إطلاق هذه المبادرة لا توجد أية مؤشرات لمدى نجاحها في الحد من معدلات تعرض النساء للعنف السيبراني الذي يستهدفهن تحديدًا على أساس الجندر. على عكس ذلك، لا تزال هذه المعدلات في تصاعد متزايد. لم تتضمن المبادرة أيضًا أية إطار للمتابعة والتقييم. بصفة خاصة، لم يرد بالمبادرة أية التزامات على هذه الشركات بإيجاد آلية لنشر تقارير شفافية حول معدلات العنف الجندري وحول التعديلات التي أجرتها فعليًا لسياساتها الحمائية.

في المقابل، تُبرز التعهدات التي وردت بالمبادرة المقاربة التي تستخدمها شركات التكنولوجيا الكبرى نحو التعامل مع العنف الجندري المتزايد على هذه المنصات. التركيز الأكبر في هذه المقاربة هو على “ما ينبغي على النساء فعله لتجنب التعرض للعنف وللتعامل مع العنف الواقع عليهن فعليًا”. وما تقترحه التعهدات ضمنًا في هذا الإطار هو أن على النساء تحجيم تفاعلهن مع الآخرين من خلال حصر دائرة هذا التفاعل في أضيق حدود ممكنة لتجنب التعرض للعنف الجندري.

على جانب آخر، توضح التعهدات أنه عند تعرض النساء للعنف الجندري بالفعل يقع على عاتقهن عبء الإبلاغ عنه ومتابعة البلاغات للتأكد من تعامل المنصة معها. وتلك هي إعادة لإنتاج المقاربة التشريعية للتعامل مع العنف الجندري في العالم الواقعي التي اثبتت فشلها في اللتصدي للظاهرة طوال عقود ماضية.

لا تضع التعهدات أي مسؤوليات على عاتق الشركات لمواجهة ظاهرة العنف الجندري على منصاتها، فهي لا تحدد بوضوح أية خطوات أو إجراءات تنفيذية. وما هو أهم من ذلك، يغيب عن هذه التعهدات أي التزام بالتعامل الجاد مع تفشي العداء للنساء وشيوع خطاب الكراهية الجندري.

يعيد ذلك إنتاج التعامل مع التمييز والعنف الجندريين على أرض الواقع. فهو ببساطة يختزل الظاهرة الحقيقية في نتائجها ويتعامل مع هذه النتائج بمعزل عن السياق الذي يعيد إنتاجها ويدفعها نحو الاستمرار والنمو. 

ينبغي الإشارة إلى أن تلك إشكالية تقع فيها عديد من الأدبيات التي تتناول ظواهر العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي والإنترنت. ففي كثير من هذه الأدبيات، بما في ذلك ما تصدره الأمم المتحدة من تقارير، يتم عد العداء للنساء وخطاب الكراهية الجندري بين مظاهر العنف ضد النساء والفتيات، وهذا خلل خطير حيث أنه يخلط بين السبب والنتيجة. الحقيقة هي أن التمييز الجندري والذي يكشف عن نفسه في صورة العداء للنساء وخطاب الكراهية ضدهن هو السياق الذي ينتج جميع صور العنف الجندري، وهو ليس واحد فقط من هذه الصور.

لذلك، سياسات الحماية من العنف الجندري التي تنتهجها شركات التكنولوجيا المسؤولة عن منصات التواصل الاجتماعي تنطوي على خلل بنيوي محوري وهو تجاهل سياق العداء للنساء وخطاب الكراهية الجندري. يؤدي ذلك إلى أن المقاربة المستخدمة في هذه السياسات تدعم بشكل غير مباشر مناخ التمييز ضد النساء من خلال تحميلهن المسؤولية عن كل من تعرضهن للعنف الجندري أولًا وعن مواجهة هذا العنف والتعامل معه ثانيًا.

بعبارة أخرى، يمكن القول بأن سياسات الحماية من العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي هي في حد ذاتها تمييزية ضد النساء. نتيجة لذلك، فإلى جانب أن هذه السياسات لا توفر حماية كافية للنساء في مواجهة العنف الموجه ضدهن، فهي أيضًا تسهم بشكل غير مباشر في نمو هذا العنف بتحميل النساء المسؤولية عنه.


بدائل مواجهة العنف الجندري

تناقش الورقة في القسم التالي كيف يمكن أن تكون سياسات إدارة منصات التواصل الاجتماعي عاملًا إيجابيًا في مواجهة ظواهر العنف الجندري وفي توفير حماية أفضل للنساء والفتيات بدلًا من المساهمة في نموه.

ما أوضحته الأقسام السابقة هو أن ثمة علاقة وثيقة بين نموذج عمل منصات التواصل الاجتماعي الساعي للربح وبين استمرار ونمو العنف الجندري على هذه المنصات. واقعيًا، لا يمكن توقع أن تختار شركات التكنولوجيا تعديل نموذج أعمالها طواعية. كذلك لا يمكن تصور أن تُقدِم هذه الشركات على وضع سياسات حمائية تضر بأرباحها، ولكن فرض ذلك عليها أمر ممكن. 

في نهاية المطاف، دفع الضرائب يقلل من الأرباح ولكن يظل بالإمكان فرضها. ومن ثم، لا مجال واقعيًا إلا لخيارين لمحاولة تحجيم أثر سياسات منصات التواصل الاجتماعي، وهما ما يناقشهما هذا القسم.

فرض سياسات حمائية أفضل على المنصات

تعتمد مقاربة تحسين السياسات الحمائية للنساء والفتيات في مواجهة العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي الساعية للربح على إجابة عدد من الأسئلة. 

هل ثمة مجال لتحسين السياسات الحمائية القائمة؟

يوجد بالتأكيد مجال لتحسين السياسات الحمائية الحالية. لن يؤدي ذلك إلى مردود ضخم في ظل نموذج الأعمال الحالي لمنصات التواصل الاجتماعي. فبصورة واقعية، لا يمكن لأي سياسة حمائية أن توقف نمو مصادر العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي.

ما يمكن أن تحققه هذه السياسة هو تحجيم التعبير عن هذا العنف وقطع الطريق أمام تصعيده. وكخطوة أولى وأساسية ينبغي تعديل مقاربة وضع السياسات الحمائية بحيث تقع أعباء تطبيقها بقدر أكبر على إدارة المنصات وليس على الضحايا الفعليين أو المحتملين. كما ينبغي أن تقوم السياسات الحمائية في مواجهة العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي على التدخل الاستباقي والمبادرة من قبل هذه المنصات.

يمكن أيضًا للسياسات الحمائية أن تكون ذات فعالية أكبر في مواجهة التجمعات ذات الوجود الملموس، مثل الصفحات والمجموعات والحسابات التي يمكن إثبات ترويجها لخطاب كراهية جندري وممارستها للعنف الجندري. معظم هذه التجمعات تستخدم كأسماء تعريفية لها كلمات وعبارات ذات دلالات واضحة على الغرض منها.

تعقب مثل هذه التجمعات ممكن تكنولوجيًا وهو في الواقع يُنفَذ فعلًا فيما يتعلق بسياسات مكافحة الإرهاب التي تتبناها غالبية المنصات الأوسع انتشارًا. وفي جميع الأحوال، ينبغي أن تتوافر ضمانات كافية لحماية الحق في حرية التعبير عند وضع وتنفيذ سياسات من هذا النوع. 

يمكن لاستغلال أدوات ونماذج الذكاء الاصطناعي أن يحقق نتائج مرضية في كشف المحتوى المنطوي على خطاب كراهية أو الذي يمثل أحد صور العنف الجندري. لكن يجب قبل ذلك تطوير وتدريب هذه النماذج بصورة فعالة وكفؤ ومن خلال عمليات منضبطة لضمان ألا تضر بحقوق أي طرف.

على جانب آخر، يمكن قطع الطريق أمام تصعيد العنف الجندري من خلال رصد المؤشرات التي تكشف إمكانية حدوث هذا التصعيد والتعامل معه قبل أن يحدث فعليًا. يمكن كذلك الاعتماد على نماذج الذكاء الاصطناعي لتحقيق هذا الغرض من خلال تدريبها على تحليل ورصد مؤشرات التصعيد وربط ذلك بإجراءات وقائية مؤقتة أو دائمة. يمكن أيضًا للإعدادات الافتراضية (Default settings) أن تستخدم خيارات الحماية الأعلى بدلًا من العكس حتي يكون توفير حماية أكبر هو البديل الأولي والذي يمكن للمستخدم تعديله حسب رغبته لاحقًا.

هل يمكن لشركات التكنولوجيا تحسين سياساتها الحمائية طوعًا بشكل جاد؟

الإجابة هي بالنفي. لا يمكن توقع أن تضحي شركات التكنولوجيا بأي قدر من إمكانيات توليدها للأرباح طواعية. تحول آليات السوق الرأسمالي دون ذلك. الحالة الوحيدة التي يمكن لشركة ربحية فيها أن تضحي ببعض أرباحها هو إن كان بديل ذلك هو التضحية بقدر أكبر من الأرباح.

الحقيقة هي أن أية سياسات حمائية فعالة في مواجهة العنف الجندري السيراني بصوره المختلفة ستؤدي حتمًا إلى خفض معدلات جذب الانتباه إلى جانب مؤثر من أكثر صور المحتوى انتشارًا على منصات التواصل الاجتماعي. هذه حقيقة لا تحب شركات التكنولوجيا الاعتراف بها. تُفضل الشركات إخفاء هذه الحقيقة وراء دعاوى حماية الحق في حرية التعبير، بالرغم من أن ثمة قواعد واضحة للتمييز بين خطاب الكراهية والتحريض على العنف. كذلك ثمة ضمانات إجرائية عديدة للتعامل مع الحالات التي لا يكون فيها هذا التمييز واضحًا بالقدر الكافي.

هل يمكن أن يُفرض على شركات التكنولوجيا تطبيق سياسات حمائية أكثر فعالية؟

الإجابة على هذا السؤال يمكن أن تعتمد على السوابق المثبتة. فعندما فرضت بعض الدول قواعد للتعامل مع الخطاب الداعم للإرهاب وفق تصنيفات كثير منها غير مدعوم بأدلة حقيقية، انصاعت أغلب منصات التواصل الاجتماعي لتطبيق هذه القواعد. تم ذلك معظم الوقت دون الحاجة إلى إصدار تشريعات تفصيلية بهذا الخصوص.

ينبغي التأكيد أن استخدام هذا المثال لا يعني مطلقًا الدعوة إلى فرض سياسات حمائية في مواجهة العنف الجندري بنفس الطريقة غير الملتزمة بأطر قانونية سليمة. يُستخدم هذا المثال فقط كدليل على إمكانية استجابة شركات التكنولوجيا لقواعد حمائية قد تؤثر على أرباحها عندما تتوافر الإرادة السياسية لذلك.

المطلوب هو أن يكون فرض أية قواعد حمائية في إطار دستوري وقانوني يكفل ضمانات حقيقية لكل من فعالية الحماية المطلوبة واحترام الحق في حرية التعبير والحق في الخصوصية أيضًا. وما يمكن تأكيده هنا أن ذلك ممكن وقابل للتنفيذ مع التسليم بأنه لن يكون مثاليًا أو كاملًا بالضرورة، ولكنه بالتأكيد قد يحدث أثرًا ملحوظًا. مثل ذلك الأثر حتى وإن كان محدودًا فهو سيعني واقعًا أفضل ربما لمئات الآلاف أو حتى ملايين النساء والفتيات حول العالم.

تشجيع الانتقال إلى منصات ذات نماذج عمل مختلفة

توجد منصات تواصل اجتماعي لا تتبع نموذج العمل الربحي القائم على اقتصاد جذب الانتباه أو تسليع الشخصية. النماذج البارزة هي تلك المنضوية تحت لواء ما يسمى بالفيديفرس Fediverse. لا شك أن تبني نموذج أعمال مختلف له أثر إيجابي على معدلات العنف الجندري، ولكنه ليس كفيلًا باختفاء هذا العنف.

لا ينبغي توقع أن يختفي العنف الجندري أو خطاب كراهية وعداء النساء والنسوية بشكل كامل من منصات التواصل الاجتماعي التي تتبنى نموذج أعمال مختلف. ومع ذلك فلا شك أن وجود مثل هذه المنصات البديلة هو فرصة لبناء مجتمعات سيبرانية أكثر أمانًا للنساء والفتيات. 

فمثل هذه المنصات يمكن ألا تشجع وجود ظواهر مثل غرف الصدى بنفس القدر، في حين تشجع تعرض المستخدمين بشكل مستمر لطيف واسع من الأفكار والمواقف المختلفة من القضايا الخلافية، بما في ذلك قضايا المساواة الجندرية. من شأن ذلك أن يؤدي إلى خفض حدة الاستقطاب بقدر ملحوظ. كما يمكن دعم ذلك التوجه من خلال نشاط جهات مثل المنظمات النسوية والحقوقية وغيرها على هذه المنصات لاستغلال وجود فرص أكثر عدالة لنشر أصواتها وأصوات من تمثلهم على هذه المنصات.

لا يعني تخلي منصات التواصل الاجتماعي البديلة عن نموذج أعمال مثيلاتها الساعية للربح إلى التخلي عن أدوات تحسين خبرة المستخدم، بما في ذلك خوارزميات التوصية بالمحتوى وغيرها. ما يمكن في الواقع أن تتيحه مثل هذه المنصات هو أولًا الشفافية في كيفية عمل الخوارزميات والنتائج المتوقعة لعملها. 

ثانيًا حرية الاختيار للمستخدم لأي الخوارزميات يرغب في استخدامها لتوفير توصيات بالمحتوى الذي يتوافق مع ميوله. وأخيرًا ضمانات لحدود مقبولة لما يمكن وما لا يمكن للخوارزميات أن تقوم به. على وجه التحديد، ينبغي أن توجد حدود تمنع نوعيات بعينها من الخوارزميات في حين تضع خطوطًا لا تتخطاها الخوارزميات المسموح بها.

من الملاحظ أنه يتم في أحيانًا كثيرة تجاهل الإشارة إلى المنصات البديلة كأحد مقاربات مواجهة تنامي العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي الأكثر استخدامًا. يعود ذلك إلى أن ثمة فجوة في الاعتراف بمسؤولية نموذج أعمال منصات التواصل الاجتماعي الأكثر انتشارًا عن العنف الجندري بين الفضاء الأكاديمي وبين فضاء عمل المنظمات الدولية.

ففي حين لا تتوانى الدراسات الأكاديمية عن إبراز العلاقة الواضحة بين نموذج أعمال منصات التواصل الاجتماعي وبين نمو العنف الجندري عليها، تكاد تخلو تقارير المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة وهيئاتها من الإشارة إلى هذه العلاقة. لكن يتفاوت وضوح هذه الإشارة في تقارير منظمات المجتمع المدني. ولا شك أن هذا الوضع في حاجة إلى تغييره قبل أن تقوم هذه الجهات بدور واضح في تشجيع اختيار مستخدمي الإنترنت لمنصات تواصل اجتماعي ذات نموذج أعمال مختلف.


خاتمة

ناقشت هذه الورقة فرضية أنه لا أمل في تجاوز ظاهرة العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي بقدر ذو معنى دون التخلي عن نموذج الأعمال الذي تقوم عليه النسخة السائدة والأكثر انتشارًا من هذه المنصات. ونظرًا لأنه لا يمكن توقع هجرة كبيرة لمستخدمي هذه المنصات إلى بديلاتها التي تستخدم نموذج أعمال مختلف في المستقبل القريب، فالمحصلة التي لا يمكن تجنبها هو أنه لوقت طويل قادم ينبغي توقع أن تستمر ظاهرة العنف الجندري في النمو على منصات التواصل الاجتماعي.

حاولت هذه الورقة إضاءة الأدلة المختلفة على فرضيتها من خلال ثلاث ملامح مميزة لظاهرة العنف الجندري على منصات التواصل الاجتماعي، والتي ناقشها القسم الأول من الورقة. في حين قدم القسم الثاني تحليلًا لنموذج أعمال هذه المنصات ومسؤوليته عن نمو العنف الجندري، وسياسات مواجهة العنف الجندري المنطوية على خلل بنيوي يجعل فشلها أمرًا محتومًا.

وأخيرًا ناقشت الورقة مقاربتين لتحسين ضمانات الأمان للنساء والفتيات على منصات التواصل الاجتماعي. الأول يتلخص في فرض سياسات حمائية أكثر فعالية، والثاني هو تشجيع الهجرة إلى منصات ذات نموذج أعمال مختلف لا يشجع على نمو العنف الجندري ويتيح إمكانية مواجهته بفعالية أكبر.