الحساسية الجندرية في التكنولوجيا الرقمية: مقاربات لتصميم أدوات تعزز العدالة والمساواة

مقدمة

يتردد مصطلح الحساسية الجندرية Gender sensitivity كثيرًا في دراسات الجندر وفي التقارير التي تتناول تقاطعه مع مجالات الحياة الاجتماعية والعملية المختلفة. تختلف تعريفات المصطلح بشكل كبير، فتتراوح بين تعريفات بالغة العمومية إلى أخرى تخصص المصطلح في سياق مساعي مواجهة التمييز الجندري وتحقيق العدالة والمساواة الجندريين.

يقع أغلب هذه التعريفات في الإطار النظري الذي يُقدم الحساسية الجندرية على أنها وعي فردي أو جماعي بالجندر وآثاره الاجتماعية في مناحي الحياة اليومية للبشر. مع ذلك، العديد من التقارير التي تتناول تقاطع الجندر مع مجالات إنتاجية متنوعة تعتبر الحساسية الجندرية عنصرًا أساسيًا لتمكين عمليات الإنتاج من مراعاة الجندر والإسهام إيجابًا في تحقيق العدالة والمساواة الجندرية. ما يغيب عن ذلك المشهد هو إيضاح منهجية واضحة لاستخدام الحساسية الجندرية بشكل عملي يمكنها من لعب هذا الدور.

تتبنى هذه الورقة تعريفًا أكثر عملية لمفهوم الحساسية الجندرية. كما أنها تدافع عن فرضية مفادها أنه بالإمكان تفعيل هذا المفهوم بشكل عملي لسد فجوة قائمة حاليًا في محاولات دفع عمليات تطوير وتشغيل المنتجات والخدمات الرقمية في اتجاه تحقيق العدالة والمساواة الجندريين. 

لقد أضاء عدد لا حصر له من الدراسات والتقارير الديناميكيات المختلفة للمنتجات والخدمات الرقمية وأبعادها الجندرية. وقُدِمَت أدلة على مسؤولية كثير منها عن نمو ظواهر سلبية مثل خطاب الكراهية الجندري والعنف الجندري السيبراني وإعادة إنتاج الصور النمطية الجندرية. لكن الحلول التي طُرحت في معظمها قاصرة؛ فهي إما تتعلق بمعالجة هذه الآثار السلبية لاحقاً أو تقدم توصيات بالغة العمومية حول ما ينبغي أخذه في الاعتبار أثناء عمليات الإنتاج لتجنب هذه الآثار.

في مقابل ذلك، تطرح هذه الورقة تصورًا لكيفية تحويل الحساسية الجندرية إلى منهج عملي تفصيلي يمكن دمجه في المراحل المختلفة لدورة حياة المنتجات والخدمات الرقمية. تقدم الورقة تعريف عملي لمفهوم الحساسية الجندرية يبرز أهميتها والحاجة إليها وآليات تفعيلها. كما تناقش الحساسية الجندرية في سياق التكنولوجيا الرقمية وتطرح مقاربتين لدمجها في دورة حياة المنتجات والخدمات الرقمية.


ما هي الحساسية الجندرية وما أهميتها؟

تُعرّف الحساسية الجندرية Gender Sensitivity بأنها “الوعي بطرق تفكير الناس حول الجندر، مما يعني الاعتماد بقدر أقل على الافتراضات الخاصة بالتصورات التقليدية القديمة عن أدوار النساء والرجال.” الحساسية الجندرية هي أيضًا “القدرة على ملاحظة وإبراز الاختلافات والقضايا وصور عدم المساواة الجندرية، وتضمينها في الاستراتيجيات والأفعال.”

تتعلق الحساسية الجندرية في جانب رئيسي منها بالملاحظة والإدراك والفهم. ومن ثم فهي شكل من أشكال الوعي بماهية الجندر وكيف يعمل في المجتمع. كما أنها تعكس إدراكًا لكونه أحد أبرز أشكال التمييز الذي يقسم المجتمع إلى فئتين، وينتج عنه انتهاك حقوق إحداهما، مما يخلف صورًا لا حصر لها من المعاناة للنساء والفتيات.

لماذا نحتاج إلى الحساسية الجندرية؟

لا يمكن تصوير التمييز الجندري على أنه مجرد بنية علوية من الأفكار والانحيازات تؤثر في المجتمعات البشرية لتنتج ظواهر مختلفة. فهو في الواقع أحد البنى الرئيسية التي تشكلت حولها هذه المجتمعات، ربما منذ البدايات الأولى لنشأتها. لذلك تتضمن جميع تفاصيل الحياة اليومية للبشر بعدًا جندريًا. 

يختفي هذا البعد في معظم الأحيان من خلال تغليفه بطبقات من الاعتياد تجعل ملاحظته أمرًا بالغ الصعوبة. وما يعنيه ذلك هو أن الإخفاق في ملاحظة البعد الجندري في العديد من تفاصيل الحياة هو أمر متكرر. في نفس الوقت، يسمح ذلك بإعادة إنتاج التمييز الجندري واستمراريته ويعيق التقدم نحو تحقيق المساواة والعدالة لنصف المجتمع.

الحساسية الجندرية هي السبيل الوحيد لمواجهة الإخفاق المتكرر في ملاحظة وفهم الطريقة التي يعمل بها التمييز الجندري. وبالتالي فهي أداة ضرورية لدفع السعي إلى مواجهة التمييز الجندري. فطالما ظلت صور التمييز الجندري المتغلغلة في الممارسات اليومية خفية فلن يكون بالإمكان مواجهتها والعمل على التخلص منها. وهذا يعني أن تستمر هذه الصور في العمل على إعادة إنتاج التمييز الجندري، بما في ذلك النيل بشكل متواصل من أية مكاسب سبق تحقيقها على مسار تحقيق العدالة والمساواة الجندريين.

في العديد من القضايا المحورية التي تكشف عن أشكال معاناة النساء عالميًا، يشكل تجاهل بُعد التمييز الجندري عائقًا أمام إحراز تقدم في معالجة هذه المشكلات. كما أنه قد يتسبب في تقويض أي مكاسب تحققت سابقًا في هذا الصدد.

على سبيل المثال، لا يزال تحقيق العدالة الجنائية في قضايا التحرش والاغتصاب متعثرًا في جميع أنحاء العالم بسبب عدم إدماج الحساسية الجندرية في إجراءات التحقيق والمحاكمة. كما أسقطت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا الاعتراف بالحق في الإجهاض ليعاد تجريمه في عديدٍ من الولايات. وقد حدث ذلك نتيجة لتأطير إشكالية الإجهاض في صورة تعدٍ على الحياة، مع إغفال كامل للبعد الجندري الذي يرتبط بهذه القضية. هذه الأمثلة وغيرها مما يصعب حصره توضح الأهمية البالغة لتضمين الحساسية الجندرية في جميع مناحي الحياة والأنشطة البشرية، بوصفه شرطًا أساسيًا للتقدم نحو تحقيق العدالة والمساواة الجندريين.


الملامح الرئيسية للحساسية الجندرية

يمكن للحساسية الجندرية أن تعمل في جميع صور التفاعل الإنساني وفي جميع المساحات الاجتماعية والعملية. فيمكن الحديث عن الحساسية الجندرية في إطار الأسرة، وأماكن الدراسة والعمل، وفي إطار الممارسة المهنية للرعاية الصحية والهندسة والمحاماة وغيرها.

كذلك يمكن الحديث عن الحساسية الجندرية في مجال تصميم وتطوير وإنتاج ونشر وتشغيل ومتابعة وتقييم المنتجات والخدمات الرقمية، وهو موضوع هذه الورقة. ولكن ينبغي الإشارة إلى أن الحساسية الجندرية لها ملامح رئيسية تنطبق على أي مجال يمكنها العمل فيه. يناقش القسم التالي هذه الملامح بشكل عام بينما يترك لقسم لاحق إيضاح كيف يمكن لهذه الملامح الرئيسية أن تعمل في سياق التكنولوجيا الرقمية.

مستويات عمل الحساسية الجندرية

يمكن التمييز بين ثلاث مستويات رئيسية لعمل الحساسية الجندرية:

ضرورة أخذ الجندر في الاعتبار دائمًا ودون استثناءات:

هذا هو المستوى المبدأي والضروري كمدخل لتضمين الحساسية الجندرية في أي مجال للتفاعلات والأنشطة البشرية بصفة عامة. يقوم هذا المستوى على إدراك حقيقة بسيطة وهي أنه لا يوجد نشاط بشري يغيب عنه البعد الجندري. قد يبدو هذا المبدأ بديهيًا، ولكن أهميته تبرز في التطبيق العملي. 

فإذا ما اعتُقد أن نشاطًا ما هو بطبيعته محايد جندريًا، أو إذا اعتُقد أن أحد مجالات الحياة مختص بجندر بعينه دون الآخر، ففي كلتا الحالتين يمثل ذلك إخفاقًا في أخذ الجندر في الاعتبار. فمثل هذه التصورات مستمدة دائمًا من المعتاد والسائد في المجتمع، والذي يعيد إنتاج التمييز الجندري من خلال إخفائه تمامًا، أو من خلال تأكيده بصورة أحادية الأبعاد. وبناءً على ذلك، يتم في الحالتين استبعاد الجندر من الاعتبار إما بادعاء أنه غير مؤثر في الحالة المعنية، أو بادعاء أنه عنصر ثابت فيها.

تجنب إعادة إنتاج الصور النمطية الجندرية:

في هذا المستوى تتمثل الحساسية الجندرية في إدراك الطريقة التي يمكن بها لأداء نشاط ما أن يعيد إنتاج صور نمطية جندرية تقليدية، والعمل على تجنب ذلك. ويعد هذا المستوى هو الأكثر صعوبة حيث أن أغلب الصور النمطية الجندرية تعد خفية لفرط اعتيادها. 

وفي أحيان كثيرة يمكن لجوانب تبدو إيجابية أن تُمثِل في ذاتها إعادة إنتاج للصور النمطية الجندرية. بصفة خاصة، يمكن للسعي إلى وضع الجندر في الاعتبار والذي يحققه المستوى الأول للحساسية الجندرية أن يسقط في فخ إعادة إنتاج صور نمطية جندرية. يحدث ذلك عندما يتمثل وضع الجندر في الاعتبار في تطبيق تصورات تقليدية معتادة حول الاختلافات الجندرية.

المبادرة بدعم المساواة الجندرية:

لا تتوافر فرصة العمل على هذا المستوى لجميع الحالات. وهو يتمثل في توفير صور من الدعم والمساعدة مصممة خصيصًا لإحداث توازن في مواجهة صور قائمة للتمييز الجندري. على سبيل المثال، قد يتمثل العمل على هذا المستوى في إدراك السبل التي يمكن بها دعم النساء لتكون فرصهن مساوية للفرص المتاحة للرجال في المجال المعني.


آليات عمل الحساسية الجندرية

لا تتمثل الحساسية الجندرية في مجموعة من الإجراءات والعمليات التي يمكن تطبيقها في كل مجال من مجالات الحياة. من ثم، لا يتمثل دمج الحساسية الجندرية في أي مجال من المجالات في وضع قائمة من الإجراءات الواجب القيام بها في الممارسة العملية.

الحساسية الجندرية تعتمد قبل أي شيء على وعي وإدراك العنصر البشري الذي يؤدي مهمة أو وظيفة ما. ودمج الحساسية الجندرية هو مهمة من مهام هذا العنصر البشري. ما يمكن العمل عليه لدفع وتشجيع دمج الحساسية الجندرية في أي مجال من مجالات التفاعل الإنساني هو تقديم المساعدة للأفراد حتى يتمكنون بأنفسهم من القيام بمهمة تضمين الحساسية الجندرية في عملهم.

ما تطرحه هذه الورقة هو استبدال قوائم الإجراءات بقوائم الأسئلة. المقصود هنا هو مجموعة من الأسئلة التي يحتاج الأفراد أو فرق العمل إلى طرحها عند أدائهم لوظائفهم اليومية. الغرض من هذه الأسئلة هو حفز وتوجيه وعي وإدراك الأفراد للبعد الجندري المتضمن في المهمة أو الوظيفة التي يؤدونها. ما تؤدي إليه الإجابات التي يتوصلوا إليها هو أمر مرهون بالطبيعة الخاصة لمجال عملهم والمهمة الموكلة إليهم على وجه التحديد.

لا يقتصر التوصل إلى إجابات على هذه الأسئلة على الجهد النظري. على حسب ما تقتضيه كل حالة يمكن أن تتطلب إجابة سؤال ما مزيدًا من البحث أو الإجراءات. تشمل تلك الإجراءات جمع المعلومات من خلال استبيانات، أو إجراء تجارب عملية، أو الاستعانة بجهات خارجية متخصصة وذات خبرة.

الحساسية الجندرية في سياق التكنولوجيا الرقمية

يوجد عاملان رئيسيان يحكمان تناول الحساسية الجندرية في سياق التكنولوجيا الرقمية:

العامل الأول هو حقيقة أن التكنولوجيا الرقمية اليوم قد تغلغلت في شتى مجالات النشاط البشري. وإذا وضِع في الاعتبار أن الجندر هو أيضًا عامل حاضر بالضرورة في جميع مناحي الحياة فالمساحة التي يغطيها تقاطع الحساسية الجندرية مع التكنولوجيا الرقمية هي بالتأكيد بالغة الاتساع.

العامل الثاني هو أن التكنولوجيا الرقمية قد أعادت تشكيل أنماط تفاعل البشر فيما بينهم وتفاعلهم مع الأنشطة المختلفة التي يقومون بها في حياتهم اليومية. وهذا يعني بالضرورة أن التكنولوجيا الرقمية قد أعادت في حالات كثيرة تشكيل البعد الجندري في مجالات الحياة المختلفة التي تدخلت فيها وبدرجات متفاوتة.

مقاربة سيناريوهات الاستخدام

اتساع نطاق تقاطع الحساسية الجندرية مع تطبيقات التكنولوجيا الرقمية قد يجعل من الصعب الوصول إلى نقاط التقاطع المؤثرة والهامة والتي يجب الالتفات إليها. ومن ثم ينبغي أن تكون هناك مقاربة تسمح بالوصول إلى هذه النقاط بشكل فعال ودون إضاعة كثير من الوقت. 

ثمة عديد من المقاربات التي تتخذ من واحدة أو أكثر من خصائص المنتج أو الخدمة الرقمية نقطة بداية لها. على سبيل المثال، قد تبدأ مقاربة ما بتصنيف المنتج ما بين تطبيق برمجي أو خدمة. كما قد تبدأ مقاربة أخرى بمجال عمل المنتج، ما بين تطبيق مكتبي أو تطبيق ترفيهي، وما بين تطبيق أو خدمة تتعلق بالصحة أو التعليم أو الثقافة أو الأخبار.

يوجد في الواقع عدد لا حصر له من طرق تصنيف المنتجات والخدمات الرقمية. وما يمكن ملاحظته بالنسبة لهذه الطرق هو أن تفرقتها بين المنتجات والخدمات الرقمية لا يمكن الربط بينه وبين البعد الجندري بسهولة. بالإضافة إلى أنها لا تؤدي إلى مقاربة موحدة تصلح للتعامل مع المنتجات والخدمات المختلفة.

في مقابل ما سبق، تقترح هذه الورقة الاعتماد على مقاربة تبدأ بتعقب سيناريوهات التعامل المباشر أو غير المباشر للمستخدم المحتمل مع المنتج أو الخدمة الرقمية. ما يميز هذه المقاربة عن غيرها هي أنها تبدأ بالمستخدم المحتمل وبذلك تطرح البعد الجندري منذ البداية.

لا يمكن البدء بالمستخدم دون طرح سؤال “أي جندر ينتمي إليه؟”. لذلك، يمكن تطبيق هذه المقاربة على أي منتج أو خدمة رقمية؛ فيوجد دائمًا مستخدم ما إما سيتعامل مباشرة مع المنتج أو الخدمة أو سيكون عرضة لآثار عمل أي منهما. تتيح هذه المقاربة تعقب خبر تعامل المستخدم مع المنتج أو الخدمة عبر السيناريوهات المختلفة مما يسمح بتبين النقاط التي يمكن أن يكون البعد الجندري عندها عامل مؤثر ينبغي أخذه في الاعتبار.

مقاربة التمكين والخيارات

تدفع مسؤولية التكنولوجيا الرقمية عن إعادة تشكيل البعد الجندري في الأنشطة اليومية إلى التركيز على الطريقة التي تختلف بها تطبيقات التكنولوجيا الرقمية عن سابقاتها في أداء المهام المختلفة. بالإضافة إلى ما ينتجه ذلك من ظواهر جديدة لم يكن لها وجود من قبل.

المثال الأبرز هو أن التكنولوجيا الرقمية مسؤولة عن خلق عالم افتراضي كامل هو الفضاء السيبراني. يعيش عدد متزايد من البشر اليوم في هذا العالم الافتراضي ربما لفترات أطول مما يعيشونه في العالم الواقعي. وينبغي إدراك أن ما يجعل هذا العالم الافتراضي ممكنًا وما يحكم خبرة من يعيشون فيه هو في الحقيقة مجموعة من المنتجات والخدمات الرقمية. 

في المقابل، تؤدي طبيعة الفضاء السيبراني إلى أن يكون عدد سيناريوهات خبرة المستخدم فيه غير محدود. يظل بالطبع بالإمكان تتبع بعض السيناريوهات المتعلقة بعدد من العمليات الشائعة، مثل إنشاء حساب جديد على منصة للتواصل الاجتماعي، أو تحديد تفضيلات المشاهدة على منصة لمقاطع الفيديو. ولكن سيناريوهات التفاعل المحتملة بين المستخدمين في الفضاء السيبراني لا يمكن بأي حال حصرها، وفي الواقع لا يمكن حتى تخيلها في وقت سابق.

ما تحتاجه المنتجات والخدمات الرقمية التي تشكل الفضاء السيبراني هو مقاربة إضافية تدعم مقاربة سيناريوهات الاستخدام. هذه المقاربة تبدأ من أدوات التفاعل المتاحة للمستخدم وما تفتحه من إمكانيات. في حين لا يمكن حصر صور التفاعل الممكنة في مساحة للتفاعل الاجتماعي بين ملايين البشر، فأي منتج أو خدمة رقمية يقدم عددًا محددًا من أدوات التفاعل والتي يمكن رصد وتحليل ما تتيحه من إمكانيات. كما يمكن تحليل أثر ذلك على صور تعبير الأفراد عن أنفسهم وعن مواقفهم وأفكارهم وسبل تفاعلهم مع بعضهم البعض.

تركز الورقة على البعد الجندري المتضمن في صور التعبير والتفاعل هذه. وما يميز هذه المقاربة هو أن أدوات التفاعل لها تأثير ضخم في تشكيل البيئة المعاشة في الفضاء السيبراني. ومن ثم فالقرارات المتعلقة بها هي نقاط تحكم هامة يمكن لفهم ودراسة البعد الجندري عندها أن يكون له آثار واسعة النطاق.

كمثال توضيحي، يمكن النظر في خيارات إمكانية إرسال رسائل شخصية خاصة إلى مستخدم آخر. بعض منصات التفاعل الاجتماعي تتيح هذه الإمكانية حصرًا للأصدقاء وحدهم، ويفترض أن فئة الأصدقاء تضم من يكون بينهم وبين الشخص المعني معرفة متبادلة.

البعض الآخر يتيح هذه الإمكانية لفئة المتابعين أيضًا، وهم عادة أشخاص يعرفون الشخص المعني ولكن لا يشترط أن يعرفهم. الخيار الثالث هو إتاحة هذه الإمكانية لأي مستخدم آخر وهو ما يشمل أشخاص لا توجد بينهم وبين الشخص المعني أي معرفة مسبقة. قرار إتاحة أداة للتواصل المباشر وفق أي من هذه الخيارات الثلاث له آثار كبيرة على خبرة المستخدم اليومية. تختلف هذه الآثار بالضرورة بناء على البعد الجندري.

كمثال آخر، تتيح منصات التواصل الاجتماعي أدوات للتعبير عن ردود أفعال على المنشورات مختزلة في صورة أيقونات مختلفة. بعض المنصات تتيح خيارًا واحدًا للتعبير عن أن المنشور قد أعجب المتلقي. البعض الآخر يتيح عدة خيارات للتعبير عن الإعجاب والحب والغضب والضحك والحزن. وأخيرًا، بعض المنصات يتيح عددًا أكبر من الخيارات.

في حالات تعدد الأيقونات المتاحة يمكن ملاحظة أنها خلقت عددًا كبيرًا من آليات التفاعل، وكثير من هذه الآليات له أبعاد جندرية. يمكن إيضاح مدى تأثير أدوات تفاعل أخرى مثل التعليقات والخيارات المتعلقة بها مثل من يمكنه التعليق، وهو يتاح لطرف ثالث الرد على تعليق على منشور أم لا. كل خيار من تلك هو قرار إما يفتح الباب أمام عدد من التفاعلات الممكنة أو يوصده وكل هذه التفاعلات عرضة لأن تتلون بالبعد الجندري.

يتأثر البعد الجندري بهذه الخيارات التقنية لأنّها تُنتج تجارب استخدام غير متكافئة بين المستخدمين والمستخدمات، وتفتح المجال أمام أنماط معينة من العنف أو التمييز الجندري. فعلى سبيل المثال، إتاحة الرسائل الخاصة من الغرباء قد تعرّض النساء بشكل أكبر للتحرش أو الرسائل غير المرغوب فيها. قد يؤدي ذلك إلى شعورهن بعدم الأمان ويحدّ من تفاعلهن وحريتهن في الفضاء الرقمي.


معايير الحساسية الجندرية في سياق التكنولوجيا الرقمية

يحاول هذا القسم الإجابة على سؤال هو: كيف يمكن تضمين الحساسية الجندرية في عمليات تطوير وإنتاج وتشغيل المنتجات والخدمات الرقمية بشكل عملي؟ في حين يبدو من ترتيب الأقسام الفرعية التالية أنها تعبر عن عملية خطية تتبع المراحل الرئيسية لدورة حياة المنتج أو الخدمة الرقمية إلا أن من الضروري ملاحظة أن ترتيب العرض هنا هو فقط أداة تنظيمية.

في الواقع، يتطلب تضمين الحساسية الجندرية في سياق التكنولوجيا الرقمية النظر إلى مراحل دورة حياة المنتج أو الخدمة الرقمية على أنها متداخلة. يعني ذلك أن كل مرحلة منها ينبغي في معظم الوقت أن تأخذ المراحل التالية لها في الاعتبار. كذلك ثمة دائمًا علاقة تغذية راجعة بين المراحل المختلفة حيث تستلزم نتائج مرحلة ما إعادة النظر في القرارات المتخذة في مرحلة سابقة لها.

معايير الحساسية الجندرية في مراحل التصميم والتطوير

يبدأ تضمين الحساسية الجندرية في دورة حياة المنتج الرقمي منذ البدايات الأولى لصياغة الفكرة الأولية للمنتج. السؤال الأول الذي يطرحه مطور منتج رقمي هو عادة “من أتوقع أن يستخدم هذا المنتج؟”. تتعلق إجابة هذا السؤال عادة بمواصفات تجريدية محايدة، بينما يؤخذ البعد الجندري في الاعتبار فقط في حالات بعينها.

على سبيل المثال، إن كان فريق من نطوري البرمجيات يسعى لتطوير تطبيق جديد للتصميم الهندسي فإجابة السؤال قد تكون “المهندسون الميكانيكيون.” على جانب آخر، قد يستهدف مطورو منصة تواصل اجتماعي جديدة فئة الشباب والمراهقين كجمهور لهم.

لا يبدو البعد الجندري ذو أهمية في الحالة الأولى وعادة لن يؤخذ في الاعتبار. في الحالة الثانية يبدو البعد الجندري أكثر أهمية وسيفكر المطورين في سبل اجتذاب الشابات والفتيات لمنصتهم. في الحالتين يعتمد مجرد وضع البعد الجندري في الاعتبار على تصورات مسبقة متأثرة بالصور النمطية السائدة. الأسوأ هو أنه عندما يفترض مصممو منتج رقمي أن منتجهم سيكون محايدًا جندريًا فهذا ضمنيًا يعني أن قراراتهم التصميمية ستنبني تلقائيًا على تصور أن المستخدم رجل.

الخطوة الأولى لتضمين الحساسية الجندرية في مراحل التصميم والتطوير الأولي للمنتج الرقمي تتمثل في عدم افتراض غياب البعد الجندري بناء على التصورات المسبقة. بدلًا من ذلك، ينبغي أن يبدأ المصمم والمطور بافتراض وجود هذا البعد، ويطرح على نفسه تساؤلات حول كيفية تأثيره على القرارات التصميمية الأولية.

قد يكون ذلك صعبًا في حالات كثيرة، لأن المصممين والمطورين لن يكون من السهل عليهم تجاوز تصوراتهم المسبقة. وقد يؤدي ذلك إلى أن يكون طرحهم لتساؤلات تتضمن البعد الجندري صوريًا ولا يؤدي إلى إجابات تؤثر فعليًا على قراراتهم التصميمية. السبيل الأفضل في مثل هذه الحالات هو الاعتماد على استطلاع رأي المستخدمين والمستخدمات المحتملين للمنتج. يمكن تصميم استبيانات هذا الاستطلاع بحيث تأخذ الجندر في الاعتبار، مع الحرص على أن تتضمن عينة المستطلع آرائهم نسبة كافية من النساء، إضافة إلى الحرص في عملية تحليل النتائج على إبراز اختلاف الاستجابة حسب الجندر.

ينطبق ما سبق على جميع المنتجات الرقمية سواء كان الافتراض المسبق لمصمميها هو أنها محايدة جندريًا أو أن البعد الجندري فيها هام ومؤثر. بصفة عامة، ينبغي أن ينحي المصمم أية افتراضات مسبقة ويعتمد بدلًا من ذلك على أدوات موضوعية للحصول على إجابات للأسئلة التصميمية حول احتياجات ومتطلبات وتفضيلات المستخدم المفترض للمنتج.

يتمثل تضمين الحساسية الجندرية في هذه المقاربة في الحرص على التمثيل الجندري المتوازن في مصادر الإجابات سواء كانت استطلاعات للرأي أو تجارب عملية أو غيرها. يغطي بذلك مصممو المنتج الرقمي مستويين من مستويات عمل الحساسية الجندرية، وهما أخذ البعد الجندري في الاعتبار، وتجنب الصور النمطية الجندرية.

الخطوة الثانية لتضمين الحساسية الجندرية تتمثل في الاهتمام بما قد تظهره مدخلات الخطوة الأولى من اختلافات في الاحتياجات والمتطلبات والتفضيلات بناء على الجندر. فينبغي أن يحرص المصمم والمطور على أن تستجيب قراراته التصميمية للاحتياجات والمتطلبات والتفضيلات، دون إعطاء أوزان مختلفة لها حسب اختلاف نسب التمثيل الجندري في مجمل فئة المستخدمين المستهدفة.

بمعنى إن كان المتوقع أن يكون غالبية مستخدمي المنتج من الرجال، فلا ينبغي إيلاء احتياجاتهم وتفضيلاتهم أولوية أكبر أو إغفال احتياجات وتفضيلات النساء بناء على ذلك. يمثل ذلك نوع من التمييز الإيجابي، وهو إذا ما توافرت فرصة تحقيقه، يغطي المستوى الثالث لتضمين الحساسية الجندرية، أي المبادرة بدعم المساواة الجندرية.

معايير الحساسية الجندرية في مراحل النشر والتشغيل

تتعلق مراحل نشر وتشغيل المنتج أو الخدمة الرقمية بصفة خاصة بآليات التسويق واجتذاب المستخدمين. ما ينبغي التركيز عليه في هذه المراحل هو الرسالة الموجهة إلى المستخدم المحتمل. السؤال الرئيسي للقائمين على هذه المراحل هو: كيف يمكن صياغة رسالة تجتذب أكبر عدد ممكن من المستخدمين المستهدفين؟ 

يتمثل تضمين الحساسية الجندرية في هذه المراحل في تنحية الافتراضات المسبقة حول البعد الجندري. يبدأ ذلك باستبعاد فرضية الحياد الجندري، ويمر باستبعاد أية افتراضات مسبقة حول خصوصية جندرية متخيلة. بناء على ذلك لا ينبغي أن يكون الهدف هو صياغة رسالة تسويقية محايدة جندريًا. وكذلك لا ينبغي أن يكون الهدف هو صياغة رسالة تسويقية تجتذب أفراد أي جندر بناء على تصورات مسبقة حول ما يمكن أن يجتذبهم أو يجتذبهن.

يجب أن تعتمد الرسالة التسويقية للمنتج أو الخدمة على مخرجات المرحلة السابقة. يعني ذلك أن تعتمد على الطريقة التي تستوفي بها القرارات التصميمية للمنتج الاحتياجات والمتطلبات والتفضيلات المختلفة للمستخدمين المحتملين. إذا ما كان تضمين الحساسية الجندرية في المراحل الأولى للتصميم والتطوير ناجحًا فهذا سيساهم في نجاحه في مراحل النشر والتشغيل. وما تحتاجه الرسالة التسويقية في صياغتها في هذه الحالة هو أن تعكس بشكل صادق مسار الوصول للقرارات التصميمية.

الخطوة التالية لتضمين الحساسية الجندرية تتمثل في طرح تساؤلات تهدف إلى تجنب أن تنطوي الرسالة التسويقية للمنتج على صور نمطية جندرية بشكل مباشر أو غير مباشر. يعتمد تحقيق ذلك على ألا تقتصر الأسئلة على سؤال “ماذا تقول هذه الرسالة عن المنتج؟” إضافة إلى هذا السؤال ينبغي أن تُطرح أسئلة مثل: “ماذا تقول هذه الرسالة عن المستخدم المتوقع؟” هل يبدو من صياغة الرسالة أنها تتوجه حصرًا إلى الرجال دون النساء أو العكس، أو أنها تتوجه إلى الطرفين بشكل متوازن؟ هل تصور الرسالة المستخدم المحتمل بطريقة تعتمد على تصورات نمطية جندرية (الرجل القوي، المرأة الجذابة)؟

طرح هذه التساؤلات والوصول إلى إجابات لها أمرًا معقدًا وبالغ الصعوبة. لا يمكن الاعتماد على ما يمكن للقائمين على صياغة الرسالة التسويقية أن يتوصلوا إليه بأنفسهم وفي حدود خبراتهم الشخصية. هذه الخبرات ستكون دائمًا عرضة للافتراضات والتصورات المسبقة والسائدة في مجال عملهم. 

للخروج من هذا المأزق ينبغي أن يتجه هؤلاء إلى موارد خارجية مساعدة. يشمل ذلك الدراسات التي تتناول علاقة الجندر بالتسويق والأثر الجندري للرسائل التسويقية، أو استطلاعات للرأي تتضمن عينة متوازنة جندريًا. كما يجب البحث في إلى أي حد يمكن للنساء أن يشعرن بالإقصاء أو الإساءة أو عدم الارتياح نتيجة الافتراضات الجندرية المتضمنة في الرسالة التسويقية.

أحد الجوانب الهامة التي يجب على المسؤولين عن إنشاء الرسائل التسويقية في العصر الرقمي مراعاتها هي أن هذه الرسائل، التي تعتمد غالبًا أو كليًا على وسيلة رقمية، تُعد جزءًا أساسيًا من الفضاء الرقمي ذاته. يشبه الأمر الطريقة التي تمثل بها لوحات الإعلانات على جانبي الطرق في المدينة جزءًا من البيئة العمرانية التي يعايشها سكانها.

في البيئات الرقمية، تكتسب الرسائل التسويقية تأثيرًا أعمق بسبب طبيعة التفاعل الشخصي. لذا، يجب على مصممي هذه الرسائل التفكير مليًا في الانطباعات العامة التي قد تثيرها لدى المتلقين. لا يقتصر الأمر على مضمون الرسالة المتعلق بالمنتج والجمهور المستهدف فحسب، بل يمتد ليشمل دلالاتها الأوسع، وبالأخص بعدها الجندري المحتمل.

معايير الحساسية الجندرية في مراحل المتابعة والتقييم

يتعلق تضمين الحساسية الجندرية في مراحل المتابعة والتقييم بتطوير مؤشرات ومقاييس وإجراءات يمكن بها رصد مدى نجاح المنتج أو الخدمة في أخذ البعد الجندري في اعتباره. يحكم نجاح تضمين الحساسية الجندرية في هذه المراحل الحصول على إجابات ذات معنى ومؤشرات تعكس الواقع بأكبر قدر ممكن من الدقة نتيجة لطرح الأسئلة الصحيحة.

على سبيل المثال، يقاس نجاح منتج ما عادة بنمو معدلات الإقبال على شرائه. كما يقاس نجاح خدمة ما، مثل منصات التواصل الاجتماعي، بنمو قاعدة مستخدميها ومعدلات نشاطهم عليها. مثل هذه المؤشرات لا يمكنها قياس مدى نجاح المنتج أو الخدمة في تضمين الحساسية الجندرية.

في ظل تغلغل التكنولوجيا الرقمية في الحياة اليومية للبشر، لم يعد استخدام منتجات وخدمات هذه التكنولوجيا اختياريًا تمامًا. ومن ثم، قياس نجاح تضمين الحساسية الجندرية فيها بمعدلات نمو قاعدة المستخدمين يشبه قياس جودة المعيشة في بلد ما بناء على معدل نمو تعداد سكانه.

تُظهر الدراسات أن هناك علاقة بين بعض منتجات وخدمات التكنولوجيا الرقمية وتزايد مظاهر مثل خطاب الكراهية والعنف الجندري السيبراني. تشير هذه الدراسات إلى وجود قصور في تضمين الحساسية الجندرية خلال مراحل تطوير هذه المنتجات والخدمات. ومع ذلك، فإنها لا تقدم قياسًا دقيقًا لهذا القصور أو تحديدًا واضحًا لأسبابه.

تتوجه أيضًا هذه الدراسات نحو ظواهر يدخل في تشكيلها ونموها عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية واسعة النطاق. ومن ثم يستحيل تحديد مسؤولية عمليات تصميم وتطوير وتشغيل المنتجات الرقمية بدقة عن هذه الظواهر. بالتالي، ينبغي رصد الأثر الجندري المباشر على تفاصيل الخبرة اليومية للمستخدم، وذلك بالاعتماد على المستويات الثلاث لعمل الحساسية الجندرية التي سبق مناقشتها.

يجب تصميم أدوات المتابعة والتقييم للمنتجات والخدمات الرقمية بحيث تقيس مدى نجاحها في تلبية احتياجات ومتطلبات وتفضيلات مستخدميها بشكل لا يغفل البعد الجندري. وعلى المستوى الثاني ينبغي تطوير أدوات قادرة على رصد تعرض مستخدمي المنتج أو الخدمة للصور النمطية الجندرية.

وأخيرًا، يلزم تطوير أدوات يمكنها رصد مدى توفير المنتج أو الخدمة دعمًا للنساء والفتيات يتيح لهن فرصا أكثر توازنًا مع تلك المتاحة للرجال. تعتمد غالبية هذه الأدوات على توفير سبل لمستخدمي المنتجات والخدمات الرقمية لوصف تجاربهم وخبراتهم في استخدامها مع طرح الأسئلة الصحيحة عليهم.

لا تقتصر إتاحة فرصة وصف تجارب المستخدمين بالضرورة على طرح استبيانات مطولة قد يحجم أغلبهم عن الاستجابة لها. لكن بالإمكان أن تُستخدَم طرق مبتكرة للحصول على انطباعات المستخدمين وردود أفعالهم. تستخدم منصات التواصل الاجتماعي هذه الطرق بالفعل للحصول على انطباعات المستخدمين حول المحتوى الذي ترشحه لهم من خلال أسئلة حول مدى ملاءمته لتفضيلاتهم وإن كانوا يرغبون في التعرض لمزيد من المحتوى المشابه له.

لا يتطلب الأمر إذن أكثر من أن تستخدم الطريقة ذاتها لطرح أسئلة تتعلق بالبعد الجندري للمحتوى. كذلك تتيح منصات التواصل الاجتماعي لمستخدميها إمكانية الإبلاغ عن المحتوى الذي ينتهك بعضًا من القواعد. يمكن لهذه الآلية أن تتضمن الإبلاغ عن المحتوى الذي ينطوي على صور نمطية جندرية. وفي حين أن اتخاذ إجراءات عقابية تجاه مثل هذا المحتوى قد يعد في معظم الأحيان انتهاكًا للحق في حرية التعبير، ولكن إتاحة الحق للمستخدم في عدم التعرض لمحتوى مماثل لا يعد كذلك.


كيف يمكن دمج الحساسية الجندرية في التكنولوجيا الرقمية؟

لابد من توافر عدد من المتطلبات الأساسية لضمان أن يتم دمج الحساسية الجندرية في المراحل المختلفة لدورة حياة المنتج أو الخدمة الرقمية. تناقش الأقسام التالية هذه المتطلبات وكيفية توفيرها.

التعليم والتدريب

يمكن للتوجيهات والإرشادات المقدمة للقائمين بالمهام المختلفة في مراحل تطوير المنتجات والخدمات الرقمية أن تساعدهم على تضمين الحساسية الجندرية في عملهم. لكن يظل نجاح دمج الحساسية الجندرية في تطوير أي منتج يعتمد بشكل كبير على وعي وفهم المشاركين في هذه العمليات للجانب المتعلق بالجندر فيها. مثل هذا الوعي والإدراك يمكن المساعدة على اكتسابه من خلال مراحل التعليم قبل الانخراط في العمل المهني أو من خلال فرص التدريب التي يمكن إتاحتها بعد ذلك.

تمثل المراحل التعليمية التي تؤهل للانخراط في عالم المهن فرصة مهمة لتزويد المصممين والمطورين المستقبليين بالأسس النظرية والتدريب العملي الضروري لدمج الحساسية الجندرية في تخصصاتهم. يجب استغلال هذه الفرصة لتقديم تأسيس نظري يسمح بإدراك مفاهيم الجندر والتمييز الجندري وأثره الاجتماعي والدور الأساسي للصور النمطية الجندرية في دعم استمرار وإعادة إنتاج التمييز الجندري.

يصعب كثيرًا أن يتاح مثل هذا التأسيس النظري بعد الانخراط بالفعل في العمل المهني. من المهم أيضًا أن تتضمن البرامج الدراسية لإعداد المصممين والمطورين تعريفهم بتقاطع التكنولوجيا الرقمية مع الجندر والتأثير المتبادل بينهما. يتيح ذلك أن تتشكل لدى الدارسين القدرة على فهم الطريقة التي يمكن بها للمنتجات والخدمات الرقمية أن تسهم سلبًا وإيجابًا في مساعي تحقيق العدالة والمساواة الجندريين.

هذه الجوانب معًا هي ما يشكل لدى المهنيين الحساسية الجندرية على مستوى الوعي والإدراك الشخصي لكل منهم. وهو كذلك ما يجعل تضمينهم لهذه الحساسية أمرًا طبيعيًا وربما تلقائيًا عندما يمارسون العمل في مجالات تخصصهم.

يمكن للمؤسسات المنخرطة في مجالات تصميم وتطوير المنتجات والخدمات الرقمية أن تقدم للعاملين بها برامج تدريبية متخصصة. تهدف هذه البرامج إلى تزويدهم بالخلفية النظرية والقدرات العملية المطلوبة لتضمين الحساسية الجندرية في عملهم. قد يساهم ذلك في تدارك بعض القصور في البرامج الدراسية. 

على جانب آخر، تمتاز البرامج التدريبية بإمكان تركيزها على تقاطع الجندر مع مجال العمل المحدد للمؤسسة أو لمهام قطاع بعينه من العاملين بها. يسمح ذلك بأن يحصل المتدربون على مهارات تتعلق تحديدًا بكيفية تضمين الحساسية الجندرية في مهام عملهم الفعلية. لا يمكن أن تغطي هذا الجانب البرامج الدراسية التعليمية السابقة للعمل، والتي تميل إلى تقديم خلفية نظرية عامة وغير مرتبطة بالمهام التفصيلية.

صنع السياسات

ينبغي أن يكون للمؤسسات المنخرطة في مجالات تصميم وتطوير وتشغيل المنتجات والخدمات الرقمية سياسات واضحة تجاه تضمين الحساسية الجندرية في عملياتها. تشمل هذه السياسات البرامج التدريبية التي ينبغي توفيرها للعاملين لضمان أن يكون لديهم القدرة والأدوات المعرفية المطلوبة لتضمين الحساسية الجندرية في عملهم.

كما يجب أن تشمل هذه السياسات إعداد توجيهات وإرشادات تتعلق بكيفية تضمين الحساسية الجندرية في العمليات المختلفة للمؤسسة. وبناء على هذه التوجيهات والإرشادات ينبغي أن تتضمن سياسات المؤسسات خططًا وإجراءات للإشراف والمتابعة والتقييم تضمن الالتزام الفعلي بتضمين الحساسية الجندرية في العمليات المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يجب تقييم مدى فعالية هذه التوجيهات والإرشادات ومراجعتها وتعديلها حسب الحاجة.

وجود سياسات مختصة بتضمين الحساسية الجندرية في أعمال المؤسسات المعنية يظل في معظمه خيارًا تتخذ هذه المؤسسات قرار تبنيه طواعية. وفي حالة المؤسسات الربحية ينطوي ذلك على تكلفة من حيث الوقت والموارد. كما أنه قد يتعارض مع نموذج عمل هذه المؤسسات وقدرتها على توليد الأرباح.

لذلك ثمة حاجة إلى دفع وتشجيع هذه المؤسسات لتبني سياسات لدمج الحساسية الجندرية في عملها. كما يمكن ممارسة ضغوط أو حتى استخدام القوانين لفرض الالتزام بتبني هذه السياسات. يستدعي ذلك أن تقوم منظمات المجتمع المدني المعنية ببذل مزيد من الجهود الموجهة إلى كل من شركات التكنولوجيا والحكومات والمؤسسات التشريعية. وبصفة رئيسية ينبغي العمل على أن تأخذ سياسات الدول المختصة بالتكنولوجيا الرقمية في اعتبارها جانب تضمين الحساسية الجندرية كأحد أهدافها.

الإشراف والمتابعة والتقييم

المقصود بعمليات الإشراف والمتابعة والتقييم في هذا القسم تلك التي يتم إجراؤها في سياق عمليات الإنتاج نفسها؛ أي العمليات الداخلية للمؤسسات الإنتاجية والتي تتأكد من خلالها من انتظام وجودة عملياتها الإنتاجية.

يتطلب دمج الحساسية الجندرية في عمليات الإنتاج وفي المراحل التالية أن تضع المؤسسات سياسات واضحة تجاه هذا الدمج وأن يترتب على هذه السياسات وجود توجيهات وإرشادات داخلية لتطبيقها. وتختص عمليات الإشراف والمتابعة والتقييم بالتأكد من أن هذه التوجيهات والإرشادات يتم تطبيقها بالفعل.

لكن نظرًا لطبيعة الحساسية الجندرية كإدراك ووعي قبل أي شيء آخر فإن ضمان تضمينها في عمليات الإنتاج لا يقتصر على تنفيذ مجموعة من الإرشادات والتوجيهات بشكل آلي. لا يمكن لهذه التوجيهات أن تكون تفصيلية بالقدر الكافي بل إنها فقط توجه اهتمام الأفراد وفرق العمل إلى تساؤلات ينبغي أن يضعوها في اعتبارهم أثناء قيامهم بمهامهم.

يجب أن تتضمن عمليات الإشراف والتقييم لقاءات وورش عمل مع القائمين على تنفيذ العمليات الإنتاجية المختلفة لمناقشتهم بشكل فردي وجماعي حول طريقة تعاملهم مع إرشادات وتوجيهات دمج الحساسية الجندرية في مهامهم. 

يمكن لورش العمل هذه أن تلعب دورين في نفس الوقت. فهي من جانب تبرز مدى قدرة الأفراد وفرق العمل على فهم التوجيهات والإرشادات وقدر وعيهم للبعد الجندري في المهام التفصيلية لعملهم. وعلى جانب آخر، تؤدي ورش العمل دورًا تعليميًا وتدريبيًا. فيمكن أن تساعد على سد الفجوات المعرفية والإدراكية لدى فرق العمل وأن تبرز الجوانب التي ربما يكونوا قد أغفلوها في تطبيقهم العملي للإرشادات والتوجيهات.

من المحبذ أن تستعين المؤسسات الإنتاجية بمتخصصين في دراسات الجندر إما داخل المؤسسة أو بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني وغيرها لإدارة اللقاءات وورش العمل. يسمح ذلك بنقل المعرفة في الاتجاهين ويؤدي إلى مخرجات تسمح بتطوير سياسات المؤسسات ذات الصلة بدمج الحساسية الجندرية في أعمالها.


خاتمة

تحويل مفهوم الحساسية الجندرية إلى منهج عملي يدمجها في المراحل المختلفة لدورة حياة منتجات وخدمات التكنولوجيا الرقمية يمكنه أن يساهم بشكل كبير في مساعي تحقيق العدالة والمساواة الجندريين. يمكن تحقيق ذلك إذا ما توافرت الإرادة الكافية لدى المؤسسات الإنتاجية، وفي مقدمتها شركات التكنولوجيا الكبرى، أو باستخدام آليات واستراتيجيات مختلفة لتشجيعها ودفعها نحو تبني سياسات لدمج الحساسية الجندرية في أعمالها.

طرحت هذه الورقة تصورًا عمليًا لمفهوم الحساسية الجندرية وكيفية تحويله إلى منهج للعمل عبر مراحل دورة حياة منتجات وخدمات التكنولوجيا الرقمية. وقدمت الورقة في قسمها الأول المفاهيم الأساسية التي يمكن من خلالها تحويل الحساسية الجندرية من مفهوم نظري إلى منهج عملي. وفي قسمها الثاني طرحت تصورًا لكيفية تطبيق هذا المنهج في إطار عمليات تطوير وإنتاج وتشغيل ومراقبة وتقييم منتجات التكنولوجيا الرقمية. وأخيرًا ناقشت في قسمها الثالث المتطلبات الأساسية لتمكين دمج الحساسية الجندرية في العمليات الإنتاجية لمنتجات وخدمات التكنولوجيا الرقمية.