غرف الصدى وخوارزميات التوصية: من يقرر ما نراه على الإنترنت؟

مقدمة

تمثل شبكة الإنترنت اليوم وبشكل متزايد عصب الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات في كل مكان في العالم، وهي بلا شك الواجهة الرئيسية للعالم الرقمي الذي أصبحنا نعيش فيه. تُعد شبكات التواصل الاجتماعي من بين التكنولوجيات والظواهر الرقمية الأكثر تغلغلًا في الحياة اليومية للأفراد والأكثر تأثيرًا في مناحي حياة المجتمعات سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.

أبرزت عديد من الأحداث المصيرية التي مر بها عالمنا خلال العقدين الأخيرين مدى خطورة تأثير منصات التواصل الاجتماعي. كان لتلك المنصات دور بارز لا يمكن إنكاره في تطور أحداث سياسية بالغة الأهمية في تاريخنا المعاصر، مثل ثورات الربيع العربي. لكن أمثلة أخرى مثل التطهير العرقي في ميانمار والحرب الأخيرة على قطاع غزة، مرورًا بمجريات الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، تؤكد جميعها مدى ما يمكن أن يصل إليه تأثير منصات التواصل الاجتماعي على واقعنا.

يثير التأثير المتزايد للتفاعلات على شبكات التواصل الاجتماعي كثيرًا من التساؤلات حول الآليات التي تشكل هذا التأثير. من بين الآليات التي لفتت الانتباه نظرًا لخطورتها هي ظاهرة ما يسمى بغرف الصدى. تتعلق هذه الظاهرة بتشكل شبكات أو بيئات افتراضية يكون المنخرطون فيها عرضة للتأثير المستمر لمجموعة الأفكار والمعتقدات التي يعتنقونها بالفعل، مع حجب ورفض كل ما هو مختلف عنها. أشارت دراسات وتقارير إعلامية عديدة إلى غرف الصدى كحواضن للفكر المتطرف وسبب لتعزيز الاستقطاب المجتمعي حول القضايا السياسية والاجتماعية الشائكة.

الضحية الأولى لغرف الصدى هي مفهوم الإنترنت كفضاء منفتح يمكن للناس فيه أن يتجاوزوا المساحات المحلية الضيقة التي يعيشون فيها وتفرضها عليهم الحدود الجغرافية والسياسية والاجتماعية. الوعد الذي قدمته الإنترنت كان تعزيز ممارسة الناس للحق في حرية التعبير والحق في الوصول إلى المعلومات دون قيود بحيث يتاح لهم تشكيل أفكارهم واتخاذ قراراتهم بحرية ودون تدخل من الضغوط الاجتماعية السائدة في مجتمعاتهم التقليدية.

لكن تخلق غرف الصدى واقعًا هو على النقيض تمامًا مما سبق. فهي تعيد إنتاج المساحات المنغلقة، بل وتجعلها أكثر انغلاقًا وتطرفًا، وتقمع ممارسة الناس لحرية التعبير وتحد من إمكانية وصولهم للمعلومات وتفرض عليهم تدخلًا خارجيًا في تشكيلهم لأفكارهم واتخاذهم لقراراتهم.

تسعى هذه الورقة إلى استكشاف ظاهرة غرف الصدى وبصفة خاصة أثرها السلبي على ممارسة مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي لحقوقهم الرقمية. تتناول الورقة في قسمها الأول تعريف غرف الصدى وكيفية تشكلها والتمييز بين أنواعها. وتنتقل الورقة في الأقسام الثلاثة التالية إلى مناقشة أثر غرف الصدى على كل من الحق في حرية التعبير والحق في الخصوصية والحق في الوصول إلى المعلومات. وفي قسمها الأخير تطرح الورقة توصيات لسبل التعامل مع ظاهرة غرف الصدى وتتناول هذه التوصيات كل من الحلول التقنية والحلول التشريعية والتنظيمية والحلول المجتمعية.


مفهوم غرف الصدى الرقمية

غرف الصدى (Echo Chambers) هو مصطلح مستعار من مجال هندسة الصوتيات. في الأصل، غرف الصدى هي فراغات مغلقة مصممة خصيصًا لإنتاج تكرار الأصوات (الصدى) بطريقة مناسبة لإحداث تأثير بعينه. استُعير هذا المصطلح في مجال دراسة التفاعلات الاجتماعية للإشارة إلى بيئات افتراضية يتواصل فيها مجموعة من الأفراد. تضمن هذه البيئات أن يكون أفرادها عرضة فقط لتلقي آراء ومعتقدات تدعم وتؤكد آرائهم ومعتقداتهم، مع استبعاد وفلترة أية آراء أو أفكار نقيضة أو مختلفة.

يمكن لغرف الصدى أن تتشكل في إطار أي مجموعة من الناس الذين يتفاعلون بشكل مكثف ولفترة طويلة. تعتبر الشبكات الاجتماعية على الإنترنت مجالًا مثاليًا لتشكل غرف الصدى بمعدل غير مسبوق. وقد أثبتت هذه الظاهرة أن لها آثارًا اجتماعية وسياسية بالغة الأهمية والخطورة، خاصة وأن الطريقة التي تعمل بها منصات التواصل الاجتماعي تدعم وجود غرف الصدى وتعمق من أثرها بصورة كبيرة.

ليست غرف الصدى كيانات ملموسة. على سبيل المقارنة، تعتبر الحسابات الشخصية للأفراد والصفحات والمجموعات على موقع فيسبوك كيانات ملموسة؛ والمقصود هنا أن بالإمكان التعرف عليها بشكل مباشر. كذلك الأمر مع المحتوى سواء كان صورة منشور أو تعليق، تتميز جميع هذه الكيانات الملموسة بأنها ملحوظة ولها حدود واضحة.

على نقيض ذلك، لا يمكن ملاحظة غرف الصدى بشكل مباشر وليس لها حدود واضحة. ليس لغرفة صدى ما عنوان يعلن عنها، ولا توجد طريقة مباشرة للالتحاق بها أو لمغادرتها. نحن نعرف بوجود غرف الصدى من خلال آثارها. على سبيل المثال، الانتشار السريع والواسع والمتكرر لمحتوى يدعم ويؤكد على فكرة أو موقف ما، إضافة إلى ارتباط ذلك بعدد من الحسابات أو الصفحات أو المجموعات التي تشارك بصفة مستمرة في نشر هذا المحتوى. على جانب آخر، يمكن إدراك انخراط شخص في غرف الصدى عندما تكون الغالبية العظمى من تفاعلاته على مواقع التواصل الاجتماعي محصورة فيمن يشبهونه من حيث خلفياتهم وأفكارهم ومعتقداتهم.

المظاهر المميزة لغرف الصدى

تميل غرف الصدى إلى التشكل حول قضايا أو انتماءات تتناقض الآراء حولها بشكل استقطابي. بمعنى أن المهتمين بهذه القضايا عادة ما يكون لهم آراء واضحة ومحددة بخصوصها، وعادة لا تكون هذه الآراء وسطية أو مركبة.

من بين القضايا الخلافية التي تتشكل غرف الصدى حولها في السياق المصري على سبيل المثال الموقف من الحرب الأخيرة على قطاع غزة، والموقف من اللاجئين السوريين والسودانيين في مصر. في السياق الأمريكي ثمة العديد من القضايا الخلافية التي تم دراسة غرف الصدى ذات الصلة بها مثل الحق في الإجهاض، السيطرة على امتلاك الأسلحة النارية.

ينشئ المنخرطون في غرف الصدى مع الوقت أساليبهم التعبيرية المميزة لهم. تستخدم هذه الأساليب مفردات وصور وأيقونات وميمات تتحول مع الوقت إلى علامات يمكن تمييز المحتوى والتعرف عليه من خلالها. كما أنهم يستخدمون أحداثًا أو وقائع وقضايا شهيرة أو شخصيات معروفة كنماذج وأمثلة للتدليل على مواقفهم وآرائهم. يؤدي ذلك إلى مزيد من انغلاق غرف الصدى على نفسها ومن ثم إلى تغلب المواقف والآراء الأكثر تطرفًا وحدة، وربما الأكثر ميلًا إلى العنف.

إضافة إلى ذلك، يمكن النظر إلى غرف الصدى على أنها بيئات لممارسة الانحياز التوكيدي بشكل جماعي وتضخيمي. فالأفراد في غرفة الصدى يتبادلون المعلومات التي تؤكد معتقداتهم وتصوراتهم المشتركة، وهم يتعاونون في البحث عن هذه المعلومات وفي تفسير غيرها بصورة تتوافق مع آرائهم. كذلك تعد غرف الصدى بيئات خصبة لتوليد ونشر الأخبار الكاذبة والمعلومات الزائفة وترويجها على أنها الحقيقة المطلقة.

أنواع غرف الصدى

توجد طرق عدة لتصنيف غرف الصدى على الشبكات الاجتماعية. يمكن على سبيل المثال تصنيفها من حيث طبيعة الموضوعات التي يلتف حولها المنخرطون فيها (سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو معرفية). كذلك يمكن تصنيفها من حيث استمرارية نشاطها (دائمة أو موسمية أو مؤقتة). ويمكن أيضًا تصنيف غرف الصدى من حيث الحجم واتساع النطاق (محلية أو قومية أو إقليمية أو دولية). وأخيرًا يمكن تصنيفها من حيث عمق التأثير والخطورة.

ولكن يندر في الحقيقة أن تقع أي غرفة صدى تحت تصنيف وحيد بشكل حصري. يعود ذلك إلى أن عالمنا يمر خلال العقود الأخيرة بفترة استقطاب عميق نتيجة لأحداث وأزمات سياسية واقتصادية متوالية. تشمل تلك الأحداث حادث الحادي عشر من سبتمبر والحرب على الإرهاب، وصولًا إلى الأزمة الاقتصادية في عام 2008 ثم ثورات الربيع العربي، وأخيرًا جائحة كوفيد 19 ورئاسة دونالد ترامب الأولى، وحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

تعمل الأحداث العالمية الكبرى كخطوط استقطاب رئيسية تعمق التناقضات السياسية والاجتماعية في كل مكان وتنتظم من حولها المواقف المتناقضة بخصوص قضايا أخرى محلية وإقليمية ودولية. وفي الوقت الذي تصاعد فيه الانتشار الكبير لاستخدام الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، فقد كان لظاهرة غرف الصدى موقعًا خاصًا ومزدوجًا خلال هذه الفترة.

فيمكن القول بأن علاقة غرف الصدى بالاستقطاب المتزايد في كل مكان كانت ولا تزال علاقة تغذية في اتجاهين. يعني ذلك أن الاستقطاب المتزايد يغذي تشكل غرف الصدى ويمدها بوقود نموها وتزايد تأثيرها. وفي المقابل، تغذي غرف الصدى الاستقطاب وتعمقه وتدفع الناس وربما تضطرهم إلى اتخاذ مواقف حدية منه.

كيف يمكن كشف ودراسة غرف الصدى؟

على عكس، المتوقع يعد كشف غرف الصدى وإخضاعها للدراسة أمرًا بالغ الصعوبة. تعبير شخص عن موقف أو رأي بعينه ومشاركة آراء تدعم مواقفه لا يعني بالضرورة أنه منخرط في غرفة صدى. كما أن علاقات مثل المتابعة أو الصداقة أو حتى الانتماء إلى مجموعة أو متابعة صفحة بعينها ليست بالضرورة أدلة مؤكدة على الانخراط في غرف الصدى. الأهم من ذلك لا يتطلب تشكل غرف الصدى وجود مثل تلك المظاهر الواضحة. يمكن لعدد من الأفراد أن ينخرطوا في غرفة صدى واحدة دون أن يتابع أي منهم الآخر ودون الانتماء إلى أي مجموعة محددة.

تعتمد الدراسات التي تحاول تحليل ظاهرة غرف الصدى عدة مقاربات مختلفة. فيعتمد بعضها على آليات إحصائية كمية لمعدلات ومستويات تفاعل الأفراد، إما فيما بينهم أو مع نوعية بعينها من المحتوى. ويعتمد البعض الآخر على تحليل اللغة والخطاب والاستخدام المتكرر للوسومات (Hashtags). كذلك تلجأ دراسات مختلفة إلى استخدام نماذج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وآليات معالجة البيانات الضخمة.

ولا يزال عديد من الباحثين يسعون إلى ابتكار مقاربات أكثر فعالية لكشف ودراسة غرف الصدى. تهدف هذه الدراسات إلى التعرف بدقة على آثار غرف الصدى وعلى كيفية تشكلها وكذلك محاولة التوصل إلى سبل للحد من العوامل التي تساعد على تشكلها ولمقاومة الآثار الضارة لها.


كيف تتشكل غرف الصدى؟

يمكن لغرف الصدى أن تتشكل في أطر اجتماعية مختلفة، وقد سبق وجودها نشأة الفضاء الرقمي والإنترنت. لكن فرص تشكلها وعمق أثرها كانا محدودين للغاية فيما قبل نشأة شبكات التواصل الاجتماعي. فإضافة إلى أن هذه الشبكات قد أتاحت سبلًا غير مسبوقة لتواصل أعداد كبيرة من البشر، فهي أيضًا أتاحت أدوات جديدة للتعبير ونشر المحتوى.

يُعد الفارق الأكثر تأثيرًا هو الآليات المستخدمة على شبكات التواصل الاجتماعي لضمان استمرارية انخراط المستخدمين لأطول وقت ممكن. بالإضافة إلى آليات بناء ملفات شخصية وتنميط المستخدمين لتعظيم إمكانية التربح من بيع أكبر قدر من المعلومات التي تسهل ترويج السلع والخدمات من خلال هذه الشبكات. لذلك، فحتى إن كانت غرف الصدى كمفهوم تتخطى حدود الفضاء الرقمي، فهي كظاهرة على أرض الواقع ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا الفضاء، وتتخذ أكثر صورها خطورة وتأثيرًا من خلاله.

يميل الأفراد إلى الانخراط في غرف الصدى بشكلٍ غير واع. يعود ذلك مبدئيًا إلى ظاهرة نفسية هي الانحياز التوكيدي. ينعكس الانحياز التوكيدي في مجموعة من الممارسات هي:

  • تفضيل المعلومات التي تؤكد المعتقدات والتصورات التي يتبناها الشخص بالفعل.
  • الميل إلى البحث عن المعلومات وتفسيرها وتذكرها بطريقة تؤكد المعتقدات المسبقة.
  • التركيز على الأدلة التي تدعم التصورات المسبقة ورفض تلك التي تتعارض معها أو التقليل من مصداقيتها أو قيمتها.

في إطار التفاعلات المتاحة من خلال منصات التواصل الاجتماعي ينعكس الانحياز التوكيدي لدى الأفراد في عدة ممارسات هي:

  • الميل إلى نشر محتوى يعبر عن الأفكار والمعتقدات المسبقة.
  • الإعجاب بالمحتوى الذي يعبر عن أفكار ومعتقدات يتبناها الشخص، وإعادة نشره.
  • استخدام أدوات البحث للوصول إلى محتوى يؤكد ويدعم الأفكار والمعتقدات المسبقة.
  • متابعة الحسابات الشخصية والصفحات والانضمام إلى المجموعات التي تنشر محتوى يؤكد ويدلل على أفكار ومعتقدات مشتركة.

جميع الممارسات المذكورة اختيارية ويقوم بها الأفراد بشكل واع، ولكنها في حد ذاتها ليست كافية على الإطلاق لنشأة غرف الصدى ونموها واتساع وتعميق أثرها. العامل الحاسم الذي يدعم وجود غرف الصدى بالشكل القائم حاليًا هو مجموعة من الأدوات والسياسات التي تتبعها شركات التكنولوجيا الكبرى التي تدير منصات التواصل الاجتماعي.

تصمم الشركات هذه الأدوات وتضع هذه السياسات لأغراض تتعلق بتعظيم أرباحها. يتحقق ذلك من خلال خلق بيئات رقمية جاذبة للمستخدمين والعمل على أن يمضوا أطول وقت ممكن في تصفح المحتوى والتفاعل معه ومع غيرهم من خلال منصات التواصل الاجتماعي. يتيح ذلك الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات الشخصية عن المستخدمين والتي يمكن إعادة بيعها لأطراف ثالثة تستغلها في الحملات الدعائية التجارية بصفة رئيسية، ولكن أيضًا السياسية والاجتماعية.

تناقش النقاط التالية مجموعة من الأدوات والديناميكيات التي تستخدمها شركات التكنولوجيا في منصات التواصل الاجتماعي والتي تؤدي إلى دعم نشأة ونمو غرف الصدى وتعميق أثرها.

خوارزميات التوصية

خوارزميات التوصية هي إحدى أكثر آليات منصات التواصل الاجتماعي تأثيرًا. الغرض من خوارزميات التوصية هو اجتذاب المستخدم والعمل على أن ينخرط في التفاعل مع المنصة بشكل مستديم ولأطول وقت ممكن.

تعتمد خوارزميات التوصية على الخصائص الشخصية للأفراد لتخمين ما يمكن أن يجتذب اهتمامهم. وعلى هذا الأساس، تبدأ الخوارزميات في اقتراح المحتوى الذي قد يروق لهم والصفحات والمجموعات التي يمكنهم الانضمام إليهم ومتابعتها. مع الوقت تعتمد خوارزميات التوصية على السلوكيات السابقة للمستخدمين، فتقترح عليهم محتوى مشابه لما سبق لهم التفاعل معه. كما أنها تُمدد شبكات الأشخاص والصفحات والمجموعات التي يتابعونها باقتراح متابعة آخرين شبيهة لها أو ذات صلة بها.

خوارزميات التوصية هي أكثر آليات منصات التواصل الاجتماعي أثرًا في تشكيل غرف الصدى. فمع تراكم المعلومات المتاحة عن الشخص تصبح مقترحات خوارزميات التوصية أكثر دقة ولكن أكثر ضيقًا أيضًا. تنحصر مقترحات هذه التوصيات في نطاق أضيق من المحتوى المتشابه والأشخاص والصفحات والمجموعات المتشابهة وذات الصلة ببعضها البعض. 

بعبارة أخرى، تمثل خوارزميات التوصية في معظم الأحيان العمود الفقاري لغرف الصدى. فهي تتولى بنفسها تزويد المستخدم بمزيد من المحتوى الذي يتطابق مع تفضيلاته وميوله وتتجنب أن يتعرض لمحتوى مختلف حتى لا تتسبب في نفوره وفقدانه للاهتمام بالمنصة.

تفضيلات المستخدم

تتيح منصات التواصل الاجتماعي في حالات كثيرة للمستخدم أن يختار بشكل مباشر تفضيلات بعينها فيما يتعلق بالموضوعات التي يرغب في الاطلاع عليها. وفي حالات أخرى، تعتمد خوارزميات المنصات على اكتشاف تفضيلات المستخدم بطريق غير مباشر من خلال تتبع نشاطه على المنصة.

في جميع الحالات، تُستخدم تفضيلات المستخدم في تحديد المحتوى الذي تقدمه المنصة له، كما تعتمد خوارزميات التوصية على هذه التفضيلات. تدعم هذه السياسة استمرارية تمسك المستخدم بتفضيلاته، وتحول دون استطلاعه واستكشافه لمزيد من البدائل. ومن ثم، تسهم طريقة إدارة منصات التواصل الاجتماعي لتفضيلات المستخدم في نشأة واستمرار غرف الصدى.

ديناميكيات التفاعل الاجتماعي

تشجع منصات التواصل الاجتماعي ديناميكيات للتفاعل بين الأشخاص تحثهم على السعي إلى نيل استحسان الآخرين. تبني هذه الديناميكيات إطارًا يستشعر فيه الأفراد مكانة اجتماعية تعتمد على عدد المتابعين ومعدلات تفاعلهم مع منشورات الشخص. يمثل ذلك بعدًا إضافيًا لميل الأشخاص بصفة عامة إلى السعي إلى نيل موافقة واستحسان من يعجبون بهم أو من يحترمون آرائهم.

وسائل مثل متابعة الآخرين أو صداقتهم تمثل صورًا من الروابط الاجتماعية التي يحرص مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي على استدامتها والتوسع فيها. تعمل أيضًا أدوات مثل التعليق على المنشورات أو أيقونات الإعجاب وغيرها كنوع من الجوائز والحوافز المعنوية التي يهتم بها المستخدمون.

تتضافر هذه الديناميكيات في خلق بيئة يسعى فيها الأفراد إلى التقارب مع من يشبهونهم ومن لهم نفس الأفكار والآراء؛ فهؤلاء أقرب دائمًا إلى أن يكون التفاعل معهم إيجابيًا. وبذلك تسهم هذه الديناميكيات بقدر كبير في تشكيل غرف الصدى.

أنظمة الإعجاب والمشاركة

آليات الإعلان عن الإعجاب بالمحتوى وإعادة نشره هي من بين ديناميكيات التفاعل الاجتماعي التي سبق الإشارة إليها. تعمل تلك الآليات كمؤشرات تستخدمها خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي لتحديد المحتوى المرشح لاجتذاب اهتمام المستخدمين.

المنشورات التي تحوز على معدلات أعلى من التفاعل بإظهار الإعجاب بها أو إعادة مشاركتها، تقوم الخوارزميات بإتاحتها لعدد أكبر من المستخدمين. وتعتمد الخوارزميات عادة على تشابه الميول والتفضيلات بين المستخدمين لتحديد أي منهم يمكن تصور أن يجتذب المحتوى المرشح اهتمامه. لذلك، يتلقى الأفراد عادة مزيدًا من المحتوى الرائج الذي يشبه ما سبق لهم التفاعل معه. يؤدي هذا إلى مزيد من انخراط الأفراد في غرف الصدى وتزايد فرصة تعرضهم للمحتوى الذي يتفق مع ما لديهم من آراء أو تفضيلات.


تأثير غرف الصدى على حرية التعبير

  • الضغط الاجتماعي داخل الغرف: يؤدي الانخراط في غرف الصدى إلى أن يستشعر الأفراد الحاجة المستمرة إلى التفاعل مع نوع المحتوى الأكثر رواجًا وتأثيرًا داخل هذه الغرف. يميل الأفراد إلى نشر محتوى يؤكد ويدعم الرؤى والأفكار المشتركة التي تتشكل غرف الصدى حولها وذلك لإحساسهم بأن ذلك يضمن مزيدًا من تفاعل الآخرين معه ومن ثم بناء مكانتهم الاجتماعية الافتراضية ودعمها. يؤدي ذلك إلى تضييق نطاق الأفكار والآراء التي يميل الأفراد إلى طرحها ومناقشتها، مما يحد من ممارستهم لحرية التعبير عما قد يجول في خاطرهم.
  • الرقابة الذاتية: ارتباط استدامة الروابط الاجتماعية مع الآخرين والمكانة التي يكتسبها الفرد بتشارك الأفكار والآراء المتشابهة يؤدي بالأفراد إلى ممارسة الرقابة الذاتية على ما يعبرون عنه من أفكار ومواقف. يمتنع الأفراد طواعية عن التعبير عن آراء تخالف ما توافق عليه المنخرطون بنفس غرف الصدى خشية أن يفقدوا مكانتهم الاجتماعية.
  • تهميش الآراء المخالفة: مع ميل المنخرطين في غرف الصدى إلى تجنب التعبير عن أفكار وآراء تتناقض مع تلك السائدة فيها، تصبح هذه الآراء مهمشة. يتعرض من يعبر عن هذه الآراء لعقوبات اجتماعية تستخدم آليات التفاعل المتاحة على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل وقف المتابعة وعدم التفاعل مع المنشورات. في المحصلة يصبح أصحاب الآراء المخالفة معزولون عن المجتمع الافتراضي الذي اعتادوا التفاعل معه من خلال غرف الصدى.
  • فلترة المحتوى المخالف: تؤدي العوامل السابق الإشارة إليها مجتمعة إلى عملية فلترة للمحتوى المخالف. يميل المنخرطون في غرف الصدى إلى الامتناع عن التعبير عن آراء مخالفة، ويتعرض من يعبرون عنها منهم إلى التهميش والاستبعاد. تتضاءل بذلك إمكانية أن يتعرض المنخرطون في غرف الصدى لأي محتوى مخالف؛ نتيجة لأن غالبية من يتابعونهم لا ينشرون مثل هذا المحتوى، إضافة إلى أن خوارزميات المنصة بدورها لا ترشحه لهم. ومن ثم يؤدي الانخراط في غرف الصدى إلى تقييد إمكانية وصول آراء بعينها إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين وهو ما يعد قيدًا على حق أصحاب هذه الآراء في حرية التعبير.
  • حجب الوصول إلى وجهات النظر المتنوعة: يعني الانخراط في غرف الصدى أن يكون الأفراد عرضة حصرًا لنطاق ضيق من وجهات النظر دون غيرها. يؤدي ذلك إلى حرمان الأفراد من الاطلاع على أية وجهات نظر مختلفة وافتقارهم إلى إمكانية مقارنة أفكارهم مع غيرها وتشكيلها وتطويرها والتعبير عنها بحرية.
  • تشكيل بيئة معادية للآراء المختلفة: تشكل غرف الصدى بيئات منعزلة ومغلقة على نفسها تتردد في كل منها أصداء صوت وحيد مع تهميش وحجب أي صوت مخالف له. يؤدي ذلك إلى تجذير التمسك بالآراء والمعتقدات ويغذي التطرف فيها والإيمان اليقيني بصوابيتها. في المقابل، يتجذر الاقتناع بخطأ الآراء المختلفة ويتحول الموقف منها من مجرد خلاف في الرأي إلى عداء ورفض مبدأي.

تداعيات تقييد غرف الصدى لحرية التعبير

  • تضييق النقاش العام: تؤدي ظاهرة غرف الصدى إلى تشكيل مجتمعات افتراضية مغلقة على نفسها ومنعزلة عن بعضها البعض. يفتقد المنخرطون في غرف صدى مختلفة إلى أية مساحات عامة يمكن فيها مشاركة ونقاش الآراء بحرية. ينعكس ذلك على إمكانية وجود أي نقاش عام يتم فيه تداول الأفكار والآراء المتنوعة والمختلفة عن بعضها.
  • تعزيز الاستقطاب: تؤدي غرف الصدى إلى تجذر انعزال الأفراد داخلها، وميلهم إلى التطرف في أفكارهم مع الوقت، وفلترة الأفكار المختلفة. يؤدي ذلك إلى أن تعزز غرف الصدى الاستقطاب حول القضايا الخلافية، حيث يختفي أي مجال للنقاش بين أصحاب الرؤى المختلفة، ويتم تهميش الآراء الوسطية التي تعتمد على تفهم الرأي المخالف ورؤية الجوانب الإيجابية له. يدفع ذلك أصحاب الآراء المختلفة إلى اتخاذ مواقف تزداد حدة العداء فيها مع الوقت، وهو ما من شأنه زيادة فرص اللجوء إلى العنف، في مقابل فرص الحوار للوصول إلى حلول للتناقضات السياسية والاجتماعية.
  • إضعاف التنوع الفكري: مع الميل المتزايد لغرف الصدى لتعزيز الآراء الأكثر تطرفًا واستبعاد الأفكار الوسطية والمخالفة تنحصر الأفكار المتداولة في المجتمع في حدود ضيقة يفصل فيما بينها مساحة بعيدة من التناقض. يدعم ذلك سيادة النظرة الأحادية للعالم ورفض أي تنوع أو اختلاف عن السائد في المجتمع، وهو ما يؤدي في النهاية إلى افتقاد المجتمع إلى المرونة المطلوبة لدعم إمكانية التطور والابتكار والإبداع.

غرف الصدى والحق في الخصوصية

يتعلق الحق في الخصوصية بوجود حدود واضحة بين المجالين الشخصي والعام. بالنسبة لكل فرد تحمي هذه الحدود ما يخصه وما هو من شأنه وحده. يشمل ذلك البيانات والمعلومات الشخصية والتي لا يجوز للغير الاطلاع عليها إلا في أضيق الحدود ولأغراض محددة وبعلم وموافقة صاحبها. كما تشمل سيطرة الشخص على قراراته وأفكاره دون تدخل مباشر أو غير مباشر من غيره في توجيهها.

يعتبر كل شكل من أشكال اختراق هذه الحدود تعديًا على الحق في الخصوصية. بهذا المعنى يؤدي الانخراط في غرف الصدى إلى تهديدات عدة للحق في الخصوصية. يكون ذلك من خلال تسهيل الوصول إلى البيانات والمعلومات الشخصية، وأيضًا تسهيل استغلال هذه البيانات والمعلومات للتأثير على قرارات وأفكار الأشخاص.

إضافة إلى ذلك، تعتبر غرف الصدى في حد ذاتها أدوات لتشكيل تفضيلات وأفكار الشخص تحت ضغط خارجي. من ثم، ليست غرف الصدى عامل مساعد على انتهاك الحق في الخصوصية فحسب وإنما هي أداة انتهاك لهذا الحق. تتناول النقاط التالية بعض جوانب الآثار السلبية لغرف الصدى على الحق في الخصوصية للمنخرطين فيها.

غرف الصدى كأداة لجمع وتحليل البيانات

  • تتبع سلوك المستخدم: انخراط الأشخاص في غرف الصدى يجعل من إمكانية تتبع سلوكهم عن قرب أمرًا أكثر سهولة وفعالية. مجرد الانخراط في غرف الصدى ينبئ بالكثير عن الشخص. إضافة إلى ذلك، يؤدي شعور الأمان الزائف الذي يستشعره المنخرطون في غرف الصدى إلى إفصاح بعضهم عن سلوكياتهم بشكل مباشر أو الإشارة إليها.
  • تحليل التفضيلات والاهتمامات: غرف الصدى هي قبل أي شيء شبكات لأفراد يشتركون في عدد من التفضيلات والاهتمامات. ومن ثم، تجعل غرف الصدى من السهل تحليل التفضيلات والاهتمامات للأفراد المنخرطين فيها دون الحاجة في كثير من الأحيان إلى أن يكشف كل منهم عنها صراحة. فبالإمكان رصد انتماء الأفراد لغرفة صدى ما، على سبيل المثال، بمجرد متابعتهم لعدد كاف من المنخرطين الناشطين فيها. ومن خلال معرفة التفضيلات والاهتمامات السائدة في غرف الصدى يمكن كشف أن هؤلاء الأفراد يشتركون فيها حتى وإن لم يعبروا عن ذلك بأفعال واضحة مثل كتابة ومشاركة المنشورات والتعليق عليها.
  • بناء الملفات الشخصية: بناء ملفات شخصية تفصيلية عن الأفراد هو أحد أكثر اختراقات الخصوصية حدة. بناء ملف شخصي لأحدهم يجعل استهدافه أكثر سهولة وفعالية. وقد لا يقتصر استغلال مثل تلك الملفات الشخصية على الاستهداف الدقيق بالإعلانات والمحتوى فقط بل قد يتخطى ذلك إلى أغراض المراقبة والتعقب والتي قد تمثل خطورة كبيرة على سلامة وحياة الأفراد.

غرف الصدى كأداة لاستغلال السمات الشخصية

  • توجيه المحتوى المخصص: تعد غرف الصدى أدوات مثالية لاستهداف مجموعة من الأشخاص بمحتوى مخصص يستغل تحديدًا الميول والتفضيلات المشتركة بينهم. يُسهِل انخراط الأفراد في غرف الصدى ضمان أن يصل المحتوى المخصص إلى أكبر عدد ممكن، فغرف الصدى بالأساس هي بيئات ينتشر فيها المحتوى بسرعة وعلى نطاق واسع.
  • استهداف الإعلانات: تساعد غرف الصدى بشكل مثالي على استهداف مجموعة من الناس بإعلانات مخصصة لهم. يحصل المعلنون على معلومات دقيقة عن ميول وتفضيلات المنخرطين في غرف الصدى بسهولة أكبر مقارنة بالاعتماد على مؤشرات أكثر عمومية مثل الفئة العمرية والنوع والطبقة الاجتماعية. في الواقع، تعزز غرف الصدى هذه التصنيفات ولكن تضيف إليها معلومات تفصيلية أكثر عن التفضيلات المحددة للأفراد.
  • تشكيل التجربة الشخصية: التدخل في تشكيل التجربة الشخصية للأفراد هو أحد أكثر انتهاكات الحق في الخصوصية خطورة. تسمح غرف الصدى باستهداف عدد كبير من الأشخاص بدقة كبيرة تقترب من دقة استهداف شخص بعينه. يؤدي انغلاق غرف الصدى إلى تعرض المنخرطين فيها إلى مؤثرات مستديمة دون فرصة نقدها أو تحليلها مما يؤدي إلى أن يكون تأثيرها في تجربتهم الشخصية أكثر عمقًا ورسوخًا. يسلب هذا من الأشخاص أي سيطرة واعية لهم على تشكيل تجاربهم التي تظل محدودة بما تشجعه غرف الصدى من مؤثرات دون غيرها.

مخاطر انتهاك الخصوصية

  • التنميط الرقمي: المقصود بالتنميط هو تصنيف الناس إلى أنماط محددة بناء على المواصفات الشخصية المشتركة فيما بينهم. يعد التنميط بصفة عامة تعديًا على الخصوصية لأنه ببساطة يلغي التمايز الفردي والخصوصية الشخصية لكل فرد. يؤدي احتباس الأشخاص في غرف الصدى إلى تسهيل تحويلهم إلى أنماط رقمية ومعاملتهم بشكل مستمر على هذا الأساس مما ينزع عنهم خصوصيتهم الشخصية. يعود ذلك إلى أن غرف الصدى تدفع الأشخاص إلى الالتزام بمواقف وآراء وأفكار متماثلة ولا تسمح لأي منهم بالتميز بالاختلاف عن النمط العام الذي تفرضه غرفة الصدى بشكل صارم.
  • تسريب المعلومات الشخصية: الأشخاص المنخرطون بصفة مستمرة ولفترات طويلة في غرف الصدى أكثر عرضة لتسرب معلوماتهم الشخصية. يستشعر المنخرطون في غرف الصدى قدرًا من الأمان الزائف نتيجة لإحساسهم بأنهم بين أقران مشابهين لهم بشكل كامل. ويؤدي التفاعل المستمر في بيئة تبدو آمنة إلى مبادرة وتطوع عديد من الأشخاص بالكشف عن معلوماتهم الشخصية. يقودهم إلى ذلك عادة السعي إلى توثيق الروابط الاجتماعية مع الآخرين من المنتمين إلى نفس غرف الصدى أو لاكتساب ثقة الآخرين، وربما لإسباغ قدر أكبر من الموثوقية على ما يتبادلونه مع غيرهم من معلومات أو آراء.
  • الاستغلال التجاري للبيانات: بناء على النقطتين السابقتين يكون المنخرطون في غرف الصدى أكثر عرضة لاستغلال بياناتهم لأغراض تجارية. يساعد التنميط على اكتشاف بيانات ومعلومات ذات علاقة بهويات الأفراد وتصنيفاتهم واستغلالها بشكل جماعي. فالانخراط في غرف صدى بعينها يعد مؤشرًا لعديد من الصفات الشخصية والميول والاهتمامات التي يمكن استغلالها تجاريًا. ويضيف تسريب المعلومات الشخصية من خلال تفاعلات الأفراد في غرف الصدى إلى تأكيد الصفات الشخصية لهم ويسمح بالاستهداف الفردي الأكثر دقة.

تأثير غرف الصدى على الحق في المعلومات

  • حجب المحتوى المتنوع: يتجنب المنخرطون في غرف الصدى إنتاج أو إعادة نشر أي محتوى لا يدعم صراحة وبوضوح الآراء والتفضيلات المشتركة فيما بينهم. ينتج عن ذلك حصر المحتوى المتداول داخل غرف الصدى في نطاق ضيق وهو ما يؤدي عمليًا إلى حجب أي محتوى آخر. يحرم ذلك المنخرطين في غرف الصدى من إمكانية الوصول إلى قدر كبير من المعلومات التي يتضمنها المحتوى المتنوع والمختلف.
  • ترشيح المعلومات انتقائيًا: يعتمد تداول المعلومات داخل غرف الصدى على مدى دعمها للآراء والمعتقدات السائدة فيها وليس على صحتها أو موثوقية مصادرها. ومن ثم فإن المعلومات التي يتاح للمنخرطين في غرف الصدى الوصول إليها تنحصر فقط في نطاق ضيق، وهو ما يمثل عائقًا يحول دون وصولهم إلى نطاق واسع من المعلومات.
  • تشكيل الفقاعات المعلوماتية: يسهم العاملان المشار إليهما سابقًا في تشكيل فقاعات معلوماتية. والفقاعة المعلوماتية هي مجال محدود ومنعزل للمعلومات المتاح للأفراد الوصول إليها مع حرمانهم من الوصول إلى المعلومات خارجها. بعبارة أخرى، تمثل هذه الفقاعات سجونًا معلوماتية تقيد حرية من داخلها في التحرك إلى خارجها والوصول إلى المعلومات بحرية.
  • انتشار المعلومات المضللة: يعتمد تبني المعلومات في غرف الصدى كما سبقت الإشارة على معيار وحيد وهو مدى دعمها للآراء والمعتقدات المشتركة للمنخرطين في هذه الغرف. يؤدي ذلك إلى تجاهل الوسائل الموضوعية للتدقيق في صحة المعلومات وموثوقية مصادرها. يعزز ذلك بدوره محدودية الوصول إلى المعلومات المختلفة التي يمكن استخدامها لكشف زيف المعلومة التي يتم تبنيها أو عدم موثوقية مصدرها. في المحصلة، تعد غرف الصدى بيئات خصبة لتداول ونشر المعلومات المضللة بل ورفض أي محاولة للتدقيق فيها.
  • تضخيم روايات معينة: يعتمد قدر الثقة التي تحصل عليها رواية ما للأحداث أو الوقائع داخل غرف الصدى على مدى دعمها أو تأكيدها للآراء والمعتقدات التي يتشاركها المنخرطون في هذه الغرف. تصبح تلك الروايات موضع اهتمام وتداول أكبر بغض النظر عن مدى صحتها أو دقتها أو حتى مدى أهميتها أو دلالتها. وفي المحصلة يتم تضخيم أهمية روايات بعينها على حساب غيرها بل ورفض أية روايات أخرى بغض النظر عن أية قيمة موضوعية لها.
  • إضعاف المصادر المتنوعة: يميل المنخرطون في غرف الصدى إلى تلقي معلوماتهم من المصادر التي يستشعرون انحيازها لنفس الرؤى والتفضيلات التي يتشاركون فيها. تكتسب هذه المصادر ثقتهم بغض النظر عن أية معايير موضوعية لموثوقيتها. في المقابل، فإن المصادر المتنوعة وغير المنحازة تسبب نفورًا لدى المنخرطين في غرف الصدى وضعفًا لثقتهم فيها؛ ومن ثم يتجنبون متابعتها أو إيراد المعلومات منها. يؤدي ذلك مع الوقت إلى إضعاف معدلات متابعة المصادر المتنوعة وغير المنحازة.

عواقب تقييد الوصول للمعلومات

  • تشكيل رؤية محدودة للواقع: محدودية الوصول إلى المعلومات تؤدي بالضرورة إلى المعرفة المحدودة بالواقع وبالتالي تشكيل رؤية محدودة بل وربما مشوهة له. من بين الصور الشائعة للرؤية المحدودة والمشوهة للواقع نظريات المؤامرة التي تقوم على تصور زائف للواقع والتشكك المستمر في موثوقية وصحة مصادر المعلومات الواقعية. تؤدي الرؤية المحدودة للواقع إلى الشك في كل آخر مختلف وهو ما ينمي نزعة انعزالية وعدائية لدى الأشخاص.
  • صعوبة اتخاذ قرارات مستنيرة: تؤدي محدودية الوصول إلى المعلومات إلى عدم قدرة الأشخاص على بناء قراراتهم على أساس معرفة كافية بالمعلومات الضرورية. يشمل ذلك أن يكون الأشخاص عرضة أكثر للوقوع كضحية للخداع أو النصب. كذلك يشمل الافتقار إلى القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة في قرارات تتعلق بالاستحقاقات السياسية مثل التصويت في الانتخابات على المستويات المختلفة.
  • تعزيز التحيزات المعرفية: تؤدي محدودية الوصول إلى المعلومات إلى افتقار الأشخاص إلى التنوع المعرفي وحصر معارفهم في الأطر التقليدية التي تربوا عليها وتشكلت انحيازاتهم بناء عليها. يقود ذلك إلى التحيزات المعرفية والتي تمثل حائلًا دون تقبل الأشخاص لأي مصادر معرفية تختلف عن تلك التي اعتادوها. يمثل ذلك عقبة كبيرة تحول دون إمكانية تطور الأفراد معرفيًا، كما تحول دون إمكان اكتسابهم لمهارات جديدة في شتى المجالات. على نطاق مجتمعي يؤدي شيوع التحيزات المعرفية إلى جمود المجتمع وتأخره وعدم قدرته على تبني المعارف التي يمكن أن تساعده في مواجهة التحديات المتجددة أو في مواكبة التطورات التكنولوجية التي تعتمد عليها مساعي التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

توصيات للتعامل مع غرف الصدى

حلول تقنية

تتحمل شركات التكنولوجيا الكبرى التي تدير شبكات التواصل الاجتماعي مسؤولية كبيرة عن تفشي ظاهرة غرف الصدى وما يترتب عليها من أخطار مجتمعية. يعتمد نموذج أعمال هذه الشركات على تسليع مستخدمي منصاتها وبياناتهم الشخصية، وتسويق خدماتها لأطراف ثالثة. هذا النموذج يدفع الشركات إلى تطوير آليات تجعل نشأة وتمدد غرف الصدى أمرًا لا يمكن تجنبه.

على هذا الأساس، ينبغي على هذه الشركات تحمل مسؤوليتها تجاه تطوير حلول للتعامل مع غرف الصدى والحد من تمددها ومن العواقب الناجمة عنها. طرحت دراسات مختلفة سبلًا بديلة لتصميم برمجيات إدارة منصات التواصل الاجتماعي بشكل يكسر الميل إلى تشكيل الفقاعات المعلوماتية وغرف الصدى.

  • تطوير خوارزميات أكثر توازنًا: الطريقة التي تعمل بها الخوارزميات المستخدمة على منصات التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها خوارزميات التوصية، تلعب دورًا رئيسيًا في تشكل غرف الصدى ودعم تمددها وانغلاقها على نفسها. يمكن تصور تطوير خوارزميات بديلة تلعب دورًا إيجابيًا في مساعدة المستخدمين على تتبع المحتوى الذي يتوافق مع اهتماماتهم وتفضيلاتهم، ولكنها في الوقت نفسه لا تحد من تعرضهم لمحتوى خارج إطار هذه الاهتمامات. يمكن أن ترفق خوارزميات التوصية بالمحتوى المرشح اقتراحات بمحتوى  يتضمن أفكارًا مختلفة أو حتى مناقضة له. بصفة خاصة، ينبغي تقديم خيارات للتأكد من صحة المعلومات المتضمنة في المحتوى والتنبيه في حال كان مصدر المعلومات غير موثوق لأي سبب. على جانب آخر، لا ينبغي أن تمتد مثل هذه الإجراءات إلى حجب أي محتوى وإنما ينبغي فقط أن تتيح للمستخدم فرصة أن يختار بنفسه الاطلاع على المحتوى بعد تحذيره.
  • تعزيز التنوع في عرض المحتوى: ثمة استراتيجيات عدة لتعزيز التنوع في المحتوى المقدم من خلال منصات التواصل الاجتماعي. فلا ينبغي حصر المحتوى المتاح لأي مستخدم فيما ترشحه سلوكياته وخيارته السابقة أو ما يشاركه المستخدمون الآخرين الذين يتابعهم أو سبق له التفاعل معهم. بدلًا من ذلك، ينبغي أن يتاح للمستخدم بنسبة معينة أن يطلع على محتوى مختلف ومن مصادر متنوعة. يمكن استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي لإلحاق المحتوى المعروض بملخص حول موضوعه يستعرض وجهات نظر مختلفة حوله ويتضمن روابط لمصادر معلومات تمثل وجهات النظر هذه.
  • تحسين شفافية النظم: الشفافية ضرورية لتمكين أي أطر تنظيمية لعمل منصات التواصل الاجتماعي، فمن الضروري أن تتيح شركات التكنولوجيا إمكانية الوصول إلى قدر كاف من المعلومات حول كيفية عمل المنصات التي تديرها. ينبغي أن تقدم هذه الشركات معلومات كاملة عن طريقة عمل خوارزمياتها وعن البيانات التي يتم جمعها عن المستخدمين وسلوكياتهم وتفاعلاتهم مع الآخرين ومع المحتوى الذي يتعرضون له. كذلك ينبغي أن تتضمن هذه المعلومات كيفية استخدام الخوارزميات لهذه البيانات وكيف يؤثر ذلك على خبرة المستخدم عند تفاعله مع المنصة. مثل هذه المعلومات ضرورية أولًا للتعرف على مدى إسهام هذه النظم في نشأة وتمدد غرف الصدى، وثانيًا للتوصل إلى مقترحات عملية لتعديل الخوارزميات بحيث تصبح أكثر توازنًا.

حلول تشريعية وتنظيمية

لا يمكن الاعتماد بشكل كامل على تطوع شركات التكنولوجيا الكبرى للقيام بما تقتضيه مسؤوليتها الاجتماعية تجاه التعامل مع ظاهرة غرف الصدى. في نهاية المطاف، لا يمكن توقع أن تتبنى هذه الشركات طواعية سياسات تحد من أرباحها. يستدعي ذلك أن تمارس الدول من خلال مؤسساتها التشريعية والتنفيذية دورًا أكبر في تنظيم عمليات إدارة شركات التكنولوجيا لمنصات التواصل الاجتماعي. وينبغي أن يكون الحد من ظاهرة غرف الصدى أحد أولويات اهتمام مؤسسات الدول عند تصديها لمهام تنظيم عمل شركات التكنولوجيا.

  • قوانين حماية البيانات: ينبغي أن يولي مشرعو قوانين حماية البيانات اهتمامًا أكبر باستخدام البيانات الشخصية بطرق تعزز نشأة وتمدد غرف الصدى. يشمل ذلك حظر حصول الشركات التي تدير منصات التواصل الاجتماعي على فئات بعينها من البيانات الشخصية. ويشمل أيضًا حظر استخدام بعض البيانات التي تحصل عليها المنصات في أغراض بعينها. كذلك من المهم تقييد حرية تبادل الشركات لبيانات مستخدميها مع طرف ثالث في حدود بعينها مع اشتراط الموافقة الصريحة للمستخدم على ذلك.
  • تنظيم عمل المنصات: ينبغي ألا تقتصر التشريعات على حماية البيانات وحدها وإنما ينبغي سن تشريعات تنظم عمل منصات التواصل الاجتماعي بشتى جوانبها. بصفة خاصة، ينبغي أن تنظم هذه التشريعات عمليات إدارة المحتوى، وطرق عمل الخوارزميات المسؤولة عن اختيار وترشيح المحتوى والمتابعة وغير ذلك. وينبغي أن يضع أي تنظيم محتمل لعمل المنصات الآليات الداعمة لنشأة غرف الصدى في الاعتبار وأن يعمل على الحد منها.
  • ضمانات الحقوق الرقمية: ينبغي على الدول تقديم ضمانات حقيقية لحماية الحقوق الرقمية لمواطنيها وفي مقدمتها الحق في حرية التعبير، والحق في الخصوصية، والحق في الوصول إلى المعلومات في بيئة رقمية. يشمل ذلك التدخل التشريعي في تنظيم عمل المنصات وفي حماية البيانات الشخصية. كذلك تشمل هذه الضمانات التعامل القانوني مع أية ممارسات إجرامية تمس بهذه الحقوق، وتعتبر غرف الصدى بيئة خصبة لبعض من هذه الممارسات. ففي الحالات التي تدعم فيه غرف الصدى التطرف والعداء للمختلفين يمكن أن يتولد عنها ممارسات مثل نشر الخطاب التحريضي، وتهديد الأفراد وابتزازهم، وخرق الخصوصية ونشر البيانات الشخصية لتسهيل إيذاء البعض أو الإضرار بمصالحهم.

حلول مجتمعية

  • التوعية الرقمية: التوعية الرقمية بمعناها الشامل يمكن أن تسهم في حماية كثير من المستخدمين من السقوط في فخ الانخراط غير المتعمد في غرف الصدى حيث يكونون عرضة لحجب المعلومات والتغذية بالدعاية الزائفة وغير ذلك من الأخطار. تعرف المستخدمين على إمكانيات التكنولوجيا الرقمية وما يمكن أن تتيحه لهم من الانفتاح على المعارف والمعلومات المتنوعة من شأنه أن يجعلهم أكثر حرصًا على البحث عن مصادر متنوعة للمعلومات واستكشاف الأفكار والآراء غير المعتادة لهم. يؤدي ذلك إلى اتساع آفاقهم وتجنبهم للانحباس داخل غرف الصدى.
  • تعزيز التفكير النقدي: التفكير النقدي هو نقيض الاستسلام لأحادية الفكر والنظرة المحدودة للعالم. يقوم التفكير النقدي على قدر صحي من التشكك في المعلومات المتاحة والسعي إلى التأكد من صحتها بسبل موضوعية. تعزيز التفكير النقدي يبدأ بالمناهج التعليمية ولكنه أيضًا يمكن أن يتحقق من خلال وسائل الإعلام ومن خلال جهود المجتمع المدني والأفراد والجماعات.
  • دعم التنوع المعلوماتي: إتاحة المزيد من المصادر للمعلومات والحرص على تمثيل شتى وجهات النظر والآراء بشكل متوازن من شأنه دعم التنوع المعلوماتي وخلق مناخ يعتاد فيه الناس التعرض لآراء وتوجهات مختلفة دون حساسية. يعزز ذلك عدم اعتماد شعور الأشخاص بالأمان والألفة على انخراطهم في مجتمعات مغلقة بين من يتماثلون معهم فقط. يمكن استغلال الإنترنت والشبكات الاجتماعية نفسها في توفير المصادر المتنوعة للمعلومات والعمل على نشرها بشكل واسع واجتذاب المستخدمين إليها.

خاتمة

لا شك أن ظاهرة غرف الصدى هي واحدة من أكثر ظواهر عالمنا الرقمي خطورة وأوسعها انتشارًا وأعمقها أثرًا. لا يمكن توقع إمكان التوصل إلى حلول فعالة للتعامل مع هذه الظاهرة في المدى القريب. يعود ذلك إلى حقيقة أنها تعتمد في نشأتها وتوسعها وعمق أثرها على نموذج الأعمال الذي تنتهجه شركات التكنولوجيا الكبرى التي لا تزال تحتكر النصيب الأكبر من مشهد خدمات الشبكات الاجتماعية.

وإلى حين يصبح للبدائل التشاركية لإدارة الشبكات الاجتماعية على الإنترنت نصيب أكبر من هذا المشهد فسيظل استمرار منصات التواصل الاجتماعي مرهون بإمكانيات توليد أكبر قدر ممكن من الأرباح. وطالما كان توليد مثل هذه الأرباح يعتمد على الآليات نفسها التي تدعم وتعزز نشأة غرف الصدى فلا يمكننا توقع أن تختفي هذه الظاهرة أو تنكمش في وقت قريب.

سعت هذه الورقة إلى التعرف على ظاهرة غرف الصدى على الشبكات الاجتماعية مع التركيز على أثرها على الحقوق الرقمية. ناقشت الورقة في أقسامها المختلفة تعريف غرف الصدى وكيفية تشكلها ثم أثر هذه الظاهرة على كل من الحق في حرية التعبير، والحق في الخصوصية، والحق في الوصول إلى المعلومات. كما قدمت الورقة في قسمها الأخير توصيات بالحلول التقنية والتشريعية والتنظيمية وكذلك المجتمعية للتعامل مع هذه الظاهرة.