مقدمة
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة تغلغلًا واسعًا للتكنولوجيا الرقمية في مختلف جوانب الحياة البشرية. أعادت تطبيقات هذه التكنولوجيا صياغة الطريقة التي يمارس بها البشر أنشطتهم المختلفة. كذلك فتحت تكنولوجيات رقمية مثل الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي مساحات جديدة لممارسة صور قديمة وجديدة من الأنشطة.
تأثرت في هذا الإطار الطرق التي ينخرط بها الأفراد في ممارسة الأنشطة الثقافية ويصبحون جزءًا من الحياة الثقافية لمجتمعاتهم وللعالم ككل. كما تأثرت بشكل واضح الطرق التي بها يمكن للأفراد أن يقدموا منتجهم الثقافي للآخرين والطرق التي يستهلكون بها المنتج الثقافي لغيرهم. بالإضافة إلى ذلك، تأثرت سبل الإنتاج الثقافي بصوره المختلفة بشكل جذري نتيجة لتطور تطبيقات التكنولوجيا الرقمية.
في حين أسهمت التكنولوجيا الرقمية بالفعل في دعم حصول الأفراد على بعض حقوقهم الثقافية، إلا أن الإمكانيات الكامنة للتكنولوجيا الرقمية في دعمها للحقوق الثقافية تتخطى كثيرًا ما أمكن تحقيقه فعلًا. ويعود عدم تحقق هذه الإمكانيات إلى وجود العديد من العراقيل.
في الوقت نفسه فتحت التكنولوجيا الرقمية الباب أمام تفاقم بعض التهديدات للحقوق الثقافية كما خلقت تهديدات جديدة لها. ثمة إذن حاجة ماسة إلى إحداث توازن بين الحاجة إلى تعظيم الفائدة العائدة من استخدام التكنولوجيا الرقمية لدعم الحصول على الحقوق الثقافية، وبين حماية هذه الحقوق في مواجهة التهديدات التي قد يشكلها استخدام هذه التكنولوجيا.
تهدف هذه الورقة إلى مناقشة العلاقة بين التكنولوجيا الرقمية والحقوق الثقافية. وتبدأ بتقديم خلفية حول مفهوم الحقوق الثقافية كما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
تعرض الورقة أولًا مقاربتها لمفهومي التراث والمنتج الثقافي في إطار عالم رقمي قبل أن تعرض أهم التحديات التي تواجهها حماية الحقوق الثقافية في ظل هذا العالم. أخيرًا تناقش الورقة تصورًا لما ينبغي أن يطرأ على فهم وصياغة وحماية الحقوق الثقافية في ظل التطور التكنولوجي.
تقاطع التكنولوجيا الرقمية مع الحقوق الثقافية
ما المقصود بالحقوق الثقافية؟
يمكن تعريف الحقوق الثقافية بأنها حقوق كل شخص سواء بصورة فردية أو في جماعة وكذلك الجماعات البشرية في أن يطوروا ويعبروا عن إنسانيتهم، ورؤيتهم للعالم والمعاني التي يعطونها لوجودهم وتطورهم من خلال القيم والمعتقدات واللغة والمعرفة والفنون والمؤسسات وطرق العيش. تشمل هذه الحقوق مجالًا واسعًا من التجربة البشرية يتميز بأنه يمنح الجماعات والأفراد هوايتهم المميزة لهم، ومن ثم فهو ضروري لحياة كل فرد على حدة ولربط الفرد بجماعته وربطه بالإنسانية على اتساعها.
حرصت المواثيق الدولية لحقوق الإنسان منذ بداياتها الأولى على حماية الحقوق الثقافية. تنص المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في فقرتها الأولى على أن
“لكلِّ شخص حقُّ المشاركة الحرَّة في حياة المجتمع الثقافية، وفي الاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدُّم العلمي وفي الفوائد التي تنجم عنه.”
تعيد المادة 15 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التأكيد على ذات الحقوق، تنص المادة على
“1. تقر الدول الأطراف في هذا العهد بأن من حق كل فرد:
(أ) أن يشارك في الحياة الثقافية،
(ب)أن يتمتع بفوائد التقدم العلمي وبتطبيقاته،
(ج) أن يفيد من حماية المصالح المعنوية والمادية الناجمة عن أي أثر علمي أو فني أو أدبي من صنعه.
2. تراعى الدول الأطراف في هذا العهد، في التدابير التي ستتخذها بغية ضمان الممارسة الكاملة لهذا الحق، أن تشمل تلك التدابير التي تتطلبها صيانة العلم والثقافة وإنماؤهما وإشاعتهما.
3. تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام الحرية التي لا غنى عنها للبحث العلمي والنشاط الإبداعي.
4. تقر الدول الأطراف في هذا العهد بالفوائد التي تجنى من تشجيع وإنماء الاتصال والتعاون الدوليين في ميداني العلم والثقافة.
التراث والمنتج الثقافي في عالم رقمي
في عام 2018 أضافت وزارة الثقافة والإعلام والرياضة في المملكة المتحدة لفظ “رقمي” إلى اسمها، وأصدرت في العام نفسه تقريرها السنوي تحت عنوان “الثقافة رقمية”. تشير مقدمة التقرير إلى أن ”استخدام التكنولوجيا الرقمية في القطاع الثقافي قد أدى إلى مشهد متكامل بشكل متزايد للنشاط الإبداعي وحرر صورًا جديدة من التعبير الفني وطرق التوزيع وإمكانيات الوصول.” يعكس الاعتراف على هذا المستوى بأهمية التكنولوجيا الرقمية في القطاع الثقافي مدى ما حققته هذه التكنولوجيا من تغلغل كبير في القطاع.
أحدث استخدام التكنولوجيا الرقمية ثورة في تمكين الأفراد حول العالم من الوصول إلى المنتج الثقافي بصوره المختلفة وفي تيسير سبل الإنتاج الثقافي وجعله متاحًا على نطاق واسع. فتتيح الرقمنة إمكانيات غير مسبوقة لحفظ التراث المادي الملموس، مثل الآثار المبنية والنقوش والعملات والمخطوطات.
كما أن سبل التسجيل بالصوت والصورة الرقمية أكثر مرونة وأكثر قابلية للنسخ والحفظ مما يجعل استخدامها مثاليًا لحفظ التراث المعنوي، مثل الممارسات الاجتماعية والعادات والتقاليد. وإلى جانب اتساع إمكانيات تسجيل وتوثيق التراث الثقافي، تتيح التكنولوجيا الرقمية إمكانيات غير مسبوقة للوصول إلى هذا التراث.
يمكن للباحثين المتخصصين وللهواة وللجمهور العادي اليوم أن يصلوا إلى نماذج تراث الشعوب المختلفة بسهولة لم تكن متاحة في أي وقت سابق. كذلك تضيف تطبيقات التكنولوجيا الرقمية سبلًا تيسر للشخص العادي أن يصل إلى التراث الثقافي وأن يتفاعل ويتواصل معه بطرق جذابة. بالإضافة إلى ذلك، تقدم المتاحف الكبرى حول العالم اليوم جولات افتراضية بين أروقتها تتيح للأفراد حول العالم التفاعل مع معروضاتها متجاوزين بذلك عوائق المسافات وتكاليف السفر وتنظيم الوقت.
تهديدات الحقوق الثقافية في عالم رقمي
دخلت البشرية مع التطور المتسارع للتكنولوجيا الرقمية إلى عالم جديد هو العالم الرقمي. يخلق هذا العالم ظروفًا جديدة ينبغي التعايش معها. كما أنه يفرض شروطًا جديدة للأنشطة والممارسات البشرية، ومنها ما يتعلق بالمشاركة في الحياة الثقافية.
مع الوقت، تصبح الحدود بين المجتمعات المختلفة أضعف. وفي المقابل، يتشكل فضاء ثقافي عالمي عابرٌ للحدود التقليدية بين الثقافات المختلفة متيحًا بذلك فرصًا أكبر للتواصل البشري. يُفترض نظريًا على الأقل أن جميع الأفراد يمكنهم الوصول إلى هذا الفضاء والمشاركة في تشكيله بنفس القدر، ولكن هذا عمليًا غير صحيح.
يتناول هذا القسم من الورقة التهديدات التي خلقتها التكنولوجيا الرقمية لتمتع الأفراد بحقوقهم الثقافية. الفرضية التي تطرحها الورقة هي أن أهمية الحياة الثقافية لأي مجتمع تكمن في أن هذه الحياة هي الفضاء الذي يتشارك أفراد المجتمع من خلاله في خلق هوياتهم الفردية وكذلك في خلق هوية جماعية لهم.
يؤسس أفراد أي مجتمع هوية كل منهم وهويتهم الجماعية على التراث المشترك، وعلى صور التعبير الثقافي التي ينتجونها ويتشاركونها من خلال أنشطتهم الثقافية المختلفة. هذه الهويات الفردية والجماعية تنعكس على شتى ممارسات وأنشطة أفراد المجتمع. كما أنها تسهم في تحديد الميول السائدة وإمكانيات التقدم المعرفي والتكنولوجي وفي تزويد المجتمع بالمرونة والقدرة اللازمين لمواجهة التحديات المستقبلية. ومع ازدياد أهمية الفضاء الثقافي العالمي الموحد يصبح دوره في صياغة الميول الثقافية العالمية السائدة أكثر تأثيرًا في حياة المجتمعات مقارنة بتأثير الفضاء الثقافي المحلي لكل منها.
ثمة جانب إيجابي لأن يشارك البشر جميعهم في فضاء ثقافي واحد يمكنهم من خلاله صياغة توجه مشترك نحو التعامل مع تحديات المستقبل. تتضح أهمية هذا الجانب إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تحديات المستقبل هي عالمية بطبيعتها، ومنها على سبيل المثال مخاطر تغير المناخ وكذلك مخاطر تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي خارج نطاق السيطرة البشرية.
ولكن على الجانب الآخر، ثمة عديد من العوامل التي تؤدي إلى فجوات هائلة في قدر وعمق مشاركة الأفراد من مجتمعات مختلفة في الفضاء الثقافي الموحد. يجعل ذلك من تمثيلهم كأفراد وتمثيلهم كجماعات ذات ثقافات مختلفة غير متوازن. وينعكس ذلك بالضرورة على مدى تمتع كل فرد في العالم بحقوقه الثقافية.
تهديد الحق في المشاركة في الحياة الثقافية
في الوقت الذي صيغت فيه الوثائق الدولية الأساسية لحقوق الإنسان كانت الرؤية الغالبة على إقرار الحق في المشاركة في الحياة الثقافية تنحصر إلى حد كبير في النطاق المحلي لكل دولة. ولكن كما أوضحت مقدمة هذا القسم فإن الحياة الثقافية في عالم رقمي أصبحت تتصل بشكل متزايد بفضاء ثقافي عالمي موحد.
بالتالي، فإن شروط تمتع أي فرد بالحق في المشاركة في الحياة الثقافية ينبغي اليوم أن تمتد إلى حقه في الوصول إلى هذا الفضاء، والمشاركة بفعالية في تشكيله وتطويره. ومع لعب الإنترنت دورًا محوريًا وضروريًا في إتاحة الفضاء الثقافي العالمي الموحد يتقاطع الحق في المشاركة في الحياة الثقافية بوضوح مع الحق في الوصول إلى الإنترنت، وهو أحد الحقوق الرقمية الأكثر أهمية على الإطلاق.
ولكن شبكة الإنترنت هي أيضًا في العالم الرقمي البوابة الرئيسية وأحيانًا الوحيدة لوصول الأفراد إلى الفضاء الثقافي المحلي لدولهم ومجتمعاتهم. من ثم، يمكن من حيث المبدأ قياس فرص إمكانية تمتع الفرد بالحق في المشاركة في الحياة الثقافية المحلية أو العالمية بمدى إمكان وصوله إلى الإنترنت. يطرح هذا المؤشر في حد ذاته إشكالية واضحة مع استمرار تدني إمكانية الوصول إلى الإنترنت في عديد من الدول الأكثر فقرًا في العالم.
إلى جانب غياب المساواة في مجرد وصول الأفراد إلى الإنترنت ثمة تفاوت آخر أكبر وأكثر تأثيرًا في مشاركة الأفراد في الحياة الثقافية. فبينما يسمح الاتصال بالإنترنت للفرد بالوصول إلى المحتوى المتاح من خلالها، فإن استفادته بهذا المحتوى وتفاعله معه بأي قدر يتوقف على عدة شروط أخرى، في مقدمتها اللغة.
لأسباب عدة يوجد تفاوت هائل في المحتوى المتاح على الوب من حيث لغته. فحسب بعض الإحصائيات الأخيرة، يمثل المحتوى المتاح على الوب باللغة الإنجليزية أكثر من 52% من إجمالي المحتوى المتاح عليه. وتليها اللغات الأسبانية والألمانية والروسية واليابانية والفرنسية بنسب تتراوح بين 4.3% إلى 5.5%.
يلاحظ أن قائمة اللغات العشر الأكثر استخدامًا في محتوى الوب يغيب عنها بعض أكثر اللغات انتشارًا في العالم، مثل الصينية والتي يمثل المحتوى الذي يستخدمها 1.3%، واللغة العربية التي يمثل المحتوى الذي يستخدمها 0.6% فقط.
محدودية المحتوى المتاح من خلال الإنترنت باللغات المحلية لعديد من المجتمعات تعني أولًا أن نصيب هذه المجتمعات مما توفره الإنترنت من إمكانيات للمشاركة في الحياة الثقافية محدود. وتمثل هذه المحدودية ثانيًا عائقًا أمام مشاركة الأفراد الذين لا يمكنهم استخدام اللغات الأكثر شيوعًا على الوب في الحياة الثقافية العالمية.
لا يمكن النظر إلى تلك المشكلة على أنها مجرد حرمان نسبي من المزايا التي تضيفها التكنولوجيا الرقمية إلى التمتع بالحق في المشاركة في الحياة الثقافية. الإنترنت اليوم هي الفضاء الرئيسي للتفاعل الثقافي. وذلك التفاعل الذي يجري من خلالها هو اليوم يعيد صياغة ثقافات المجتمعات البشرية حول العالم، بغض النظر عن قدر مشاركة كل مجتمع منها على حدة في تلك الصياغة.
يعني ذلك أن الوصول ذو المعنى إلى الحياة الثقافية من خلال الإنترنت ليس ترفًا أو ميزة إضافية، بل هو ضرورة لا غنى عنها حتى يمكن لأي فرد في عالم رقمي أن يتمتع بحقه في المشاركة في الحياة الثقافية.
تهديد التراث والتنوع الثقافي
تقدم التكنولوجيا الرقمية إمكانيات هائلة في مجال توثيق التراث الثقافي، إلا أن هذا الدور لا يخلو من التحديات والتهديدات. تتعلق تلك التحديات بالتكامل والتوافق والاستدامة طويلة الأمد. التطور المتسارع للتكنولوجيا الرقمية يخلق معه مخاوف مرتبطة بسرعة انتهاء صلاحية المحتوى الرقم. فمع الوقت تصبح صيغ الملفات الرقمية غير قابلة للقراءة أو للاستخدام لتقادمها واستبدالها بغيرها وعدم دعمها من البرمجيات المختصة.
بالإضافة إلى ذلك، تتطلب عمليات رقمنة التراث إمكانيات تكنولوجية ومادية تتفاوت حسب نوع العنصر التراثي. ترتفع تكلفة الإمكانيات المطلوبة لعمليات الرقمنة عندما يراعى فيها إشتراطات تجعلها أكثر موثوقية أو عند الرغبة في إتاحة التمثيل الرقمي للتراث لأوسع جمهور ممكن.
تتفاوت قدرة الوصول إلى الإمكانيات المشار إليها بين المجتمعات المختلفة بشكل كبير. يعني ذلك أن الثقافات المختلفة لا تحظى بالقدر نفسه من فرص توثيق تراثها رقميًا أو إتاحته للجمهور للاطلاع عليه من خلال وسائل التكنولوجيا الرقمية.
التفاوت من حيث الإمكانيات واللغة يؤديان معًا إلى تفاوت كبير في تمثيل الثقافات المختلفة على الإنترنت. يؤدي ذلك بدوره إلى افتقاد الفضاء الثقافي العالمي الذي يتشكل من خلال الإنترنت إلى التنوع ويجعله محدودًا وأقل مرونة.
الأخطر من ذلك هو أن غلبة ثقافة ما بعينها على الفضاء الثقافي العالمي المتشكل في الفضاء السيبراني يجعل منه أداة لإنشاء شكل من أشكال الهيمنة الثقافية. مثل هذه الهيمنة الثقافية تمثل عدوانًا على الحقوق الثقافية للمنتمين إلى الثقافات الأقل تمثيلًا؛ فهي تساهم في إنشاء تراتبية تسوغ التمييز ضد تراثهم ومنتجهم الثقافي.
تهديد عمليات الإنتاج الثقافي
استحدثت التكنولوجيا الرقمية عديدًا من التهديدات التي قد تعرقل عمليات الإنتاج الثقافي أو تهدر حقوق المنخرطين فيها بصور مختلفة. إتاحة المنتج الثقافي في صيغة رقمية تعني أن نسخه وتوزيعه أصبحا أكثر سهولة، وهي أيضًا تعني أن تعديله بأي شكل أصبح أكثر سهولة.
توجد إشكاليات تتعلق بالنسخ والتوزيع للمنتج الثقافي بالمخالفة لقوانين حقوق النشر في الدول المختلفة. تمثل هذه الإشكاليات منطقة رمادية تتفاوت فيها المواقف. فثمة انتقادات كبيرة لقوانين حقوق النشر، بعضها يتعلق بجمودها وافتقادها إلى المرونة وتغليبها للمصالح الضيقة على الصالح العام الأولى بالرعاية. ففي سبيل حماية الأرباح المالية المتولدة عن توزيع المنتج الثقافي، والتي يمكن وصف بعضها بالمغالاة غير المبررة، يتم حرمان المجتمع من الاستفادة بشكل كامل من المنتج الثقافي في عمومه وبالبحث العلمي بصفة خاصة من خلال الحد من إمكانية الوصول إليه.
على جانب آخر، توجه انتقادات إلى قوانين حماية الملكية الفكرية بالقصور وعدم مواكبة صور الإنتاج الثقافي الجديدة التي جعلتها التكنولوجيا الرقمية ممكنة. فعلى خلاف الصور التقليدية للمنتج الثقافي لا توجد أية حماية لحقوق الملكية الفكرية لصور المحتوى المنشور من خلال مواقع التدوين ومنصات التواصل الاجتماعي، على الرغم من أن ثمة توجه لتسليع هذا المحتوى وتشجيع منتجيه بتقديم عائد مادي بطرق مباشرة أو غير مباشرة مقابل نشره. ولا تنظم القوانين حتى اليوم آليات لحماية الحقوق المعنوية لمنتجي هذا المحتوى ولا لضمان حقهم في أية عوائد مادية مترتبة على نشره.
أخيرًا، ومع موجة التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي التوليدي تواجه عمليات الإنتاج الثقافي تهديدًا من نوع غير مسبوق. حتى وقت قريب لم يكن ثمة منافس للبشر في الإنتاج الثقافي. وفي حين كان بالإمكان دائمًا أن يتم انتحال منتج ثقافي وانتهاك الحق المعنوي لصاحبه في نسبته إليه، إلا أنه لم يكن في يوم شك في أن أي منتج ثقافي يقف خلفه إنسان ما.
أصبحت نماذج اللغة التي تقوم عليها تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي قادرة على صنع محتوى نصي أو بصري أو صوتي، أو بصري وصوتي معًا. تمثل هذه التطبيقات تهديدًا لحقوق صناع المنتج الثقافي من البشر من جانب وتهديدًا لعمليات الإنتاج الثقافي في مجملها من جانب آخر.
على سبيل المثال، يمكن استخدام نماذج اللغة لإنتاج محتوى منسوب إلى أشخاص بعينهم بشكل يصعب ضحده. ومن ناحية أخرى، تعتمد نماذج اللغة في تدريبها على حزم بيانات متاحة من خلال الإنترنت، وفي معظم الأحيان لا تكشف الشركات المطورة لهذه النماذج على مصادر حزم البيانات المستخدمة لتدريبها.
يؤدي ذلك إلى مخاوف مبررة من أن تمثل عمليات التدريب لهذه النماذج انتهاكًا لحقوق الملكية الفكرية لأصحاب المحتوى المدرج في حزم البيانات. وفي حين أن بعض هذا المحتوى تحميه قوانين الملكية الفكرية السارية بالفعل فإن إثبات وقوع الانتهاك أمر بالغ الصعوبة. يرجع ذلك لعدة أسباب، في مقدمتها أن هذه القوانين قاصرة عن التعامل مع الأوضاع الجديدة التي تنشئها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
الحقوق الثقافية الرقمية
يوضح ما ناقشه القسم السابق أن استخدام التكنولوجيا الرقمية قد أنتج عديدًا من الظروف التي تؤدي إلى تحديات وتهديدات تواجه حماية الحقوق الثقافية. يستدعي ذلك تعديل فهمنا لبعض هذه الحقوق أو تعديل الأدوات القانونية والسياسات والممارسات التي تسعى لحمايتها.
ينبغي أن تنطلق هذه التعديلات من تصور متكامل لطبيعة الحياة الثقافية في عالم رقمي. يعتمد هذا التصور على دعامتين أساسيتين:
- الأولى هي أن الحياة الثقافية في عالم رقمي تعتمد في معظمها على تفاعلات وأنشطة وممارسات تتم من خلال وسائط تكنولوجية رقمية. فمن خلال هذه الوسائط يمكن للأفراد الوصول إلى المنتج الثقافي بصوره المختلفة، ومن خلالها أيضًا يمارس الأفراد والجماعات صورًا عدة من عمليات الإنتاج الثقافي ومشاركته مع غيرها.
- الثانية هي أن الحياة الثقافية في عالم رقمي تتجه بشكل متزايد نحو إزالة العوائق الجغرافية والسياسية لتتشكل في فضاء ثقافي عالمي واحد.
حماية التراث والتنوع الثقافي
تتطلب حماية التراث في عالم رقمي إيجاد آليات دولية متفق عليها لتنظيم عمليات التوثيق الرقمي للتراث بصوره المختلفة. ينبغي أن تشمل هذه الآليات ضبط الحد الأدنى من البيانات التعريفية التي تضمن موثوقية تمثيل المحتوى الرقمي للعنصر التراثي المعني كما تضمن سلامة نسبته ووضوحها. وفي سبيل إنفاذ تلك الآليات ينبغي إلزام الدول بأن تحتوي تشريعاتها على نصوص ملزمة بتطبيق الحد الأدنى المتفق عليه من البيانات التعريفية وأن تحتوي كذلك على إجراءات مناسبة تجاه المحتوى المخالف وناشريه.
كما ينبغي أن تشمل الآليات الدولية لتنظيم التوثيق الرقمي للتراث التالي:
- توحيد لمنهجية التوثيق لضمان تمثيله بأفضل شكل ممكن للعنصر التراثي المعني.
- توحيد الصيغ الرقمية للملفات المستخدمة وضمان توافقيتها واستدامتها.
- وضع شروط خاصة بالمعدات والتجهيزات المستخدمة لعمليات التوثيق والحفظ الدائم.
- وضع شروط إمكانية الوصول إلى المحتوى وإمكانية إعادة النسخ وإعادة النشر بصور تضمن عدم الإخلال بحقوق الملكية المعنوية للعنصر التراثي.
على جانب آخر، ينبغي إنشاء آليات دولية للعمل على تحقيق تمثيل عادل لتراث الثقافات المختلفة في الفضاء الثقافي العالمي الموحد. يشمل ذلك مبادرات ومشروعات للتعاون في نقل التكنولوجيا وتبادل الخبرات وتقديم الدعم والمساعدة الفنية والمادية للدول ذات الإمكانيات المحدودة. كذلك يمكن تحقيق قدر أكبر من التوازن في تمثيل الثقافات المختلفة من خلال توفير بوابات موحدة تتيح الوصول إلى المحتوى الرقمي التوثيقي لتراث ثقافات عالمية متعددة.
ربما تكون محاولة الحفاظ على قدر مناسب من التنوع الثقافي هي الهدف الأكثر صعوبة في ظل تعدد العوامل المؤثرة في هذا التنوع وتعدد الأطراف ذات الصلة به. وفي حين يمكن العمل على تحقيق قدر من التنوع في المحتوى التوثيقي لتراث الثقافات المختلفة فإن تحقيق هذا التنوع في الإنتاج الثقافي المتجدد الممثل للثقافات حول العالم هو أمر أكثر صعوبة.
يتطلب السعي إلى تحقيق التنوع الثقافي والحفاظ عليه توفر إدراك واضح لدى الأطراف الدولية الفاعلة لمدى أهمية هذا التنوع لمستقبل توافقي متناغم بين شعوب الجنس البشري وقدرة أكبر لهذا الجنس على مواجهة تحديات المستقبل.
من خلال هذا الإدراك يمكن التوصل إلى مبادرات دولية لدفع عمليات الإنتاج الثقافي في الدول الأقل حظًا وإتاحة فرص الوصول إلى هذا الإنتاج بصوره المختلفة. يساهم ذلك أيضًا في تشجيع إمكانية تفاعل الأفراد من ثقافات مختلفة مع المنتج الثقافي للثقافات المغايرة لثقافاتهم، وتوفير الآليات المساعدة لذلك مثل الترجمة بين اللغات المختلفة.
الحق في المشاركة في الحياة الثقافية
تتعلق المشاركة في الحياة الثقافية في عالم رقمي بشكل متزايد بإمكانية الوصول إلى الفضاء الثقافي العالمي الموحد الذي تتيح الإنترنت إنشاءه. من ثم فإن الحق المتساوي للجميع في إمكانية المشاركة الفعالة في الحياة الثقافية التي تؤثر في حياتهم تتطلب بصفة أولية حماية الحق في الوصول إلى الإنترنت.
تتضح في ذلك الصلة الوثيقة والضرورية بين حماية الحقوق الثقافية في عالم رقمي وبين حماية الحقوق الرقمية في صورتها الأساسية. ولكن حماية الحق في المشاركة الفعالة في الحياة الثقافية في عالم رقمي تتخطى بالضرورة مجرد الوصول إلى الإنترنت. ينبغي أن يتسع مفهوم الحق في المشاركة في الحياة الثقافية ليشمل حدا أدنى من الشروط الضرورية لأن تكون هذه المشاركة فعالة في إطار كل من الحياة الثقافية المحلية والعالمية.
من الضروري أن يشمل أي توسيع لمفهوم الحق في المشاركة في الحياة الثقافية إلزام الدول والمؤسسات الخاصة ذات الصلة بالعمل على التخلص من عوائق هذه المشاركة وفي مقدمتها عائق اللغة. يمكن لهذا الإلزام أن يبدأ تدريجيًا بتحديد عدد من الخدمات الثقافية الأساسية التي تلتزم الجهات المعنية بالعمل على توفيرها بعدد من اللغات الأكثر شيوعًا في العالم، بحيث يكون بإمكان أكبر عدد ممكن من الأفراد الاستفادة منها.
كما ينبغي إلزام هذه الجهات بالتوسع المستمر في إتاحة المحتوى الثقافي بأكبر عدد ممكن من اللغات في حدود قدراتها. ويمكن استغلال التطور المتسارع لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في دعم التوجه نحو توفير المحتوى الثقافي بأكبر عدد من اللغات من خلال تيسير إمكانية الترجمة الآلية عندما يكون ذلك ممكنًا مع اشتراط حد أدنى من جودة ودقة هذه الترجمة.
خاتمة
الحقوق الثقافية هي من بين أكثر حقوق الإنسان تأثرًا بالتطور المتسارع للتكنولوجيا الرقمية. يمكن القول بأن هذا التطور قد صبغ الحياة الثقافية كما يمكن عيشها اليوم بصبغة رقمية طاغية. هذا الوضع له مزاياه العديدة ولكنه أيضًا ينتج تحديات وتهديدات لحماية الحقوق الثقافية ينبغي السعي إلى فهمها وإلى مواجهتها.
في هذا الإطار فقد سعت هذه الورقة إلى تقديم رؤية تنطلق من الاقتناع بأن المظهر الرئيسي لأثر التكنولوجيا الرقمي في الحياة الثقافية يتمثل في عولمة هذه الحياة. بعبارة أخرى، أدى تطور التكنولوجيا الرقمية إلى خلق فضاء ثقافي عالمي موحد، هذا الفضاء رقمي وعموده الفقاري هو الإنترنت.
ناقشت الورقة في قسمها الأول تعريفات أساسية، فقدمت إيضاحًا لمفهوم الحقوق الثقافية بناء على نصوص كل من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
كما قدمت الورقة مقاربة لفهم كل من التراث والمنتج الثقافي في إطار عالم رقمي. إنطلاقًا من هذه التعريفات ناقشت الورقة أهم التحديات والتهديدات التي تواجهها حماية الحقوق الثقافية في ظل التطور المتسارع للتكنولوجيا الرقمية ومع هيمنة حياة ثقافية عالمية موحدة من خلال الفضاء السيبراني. سعت الورقة أيضًا إلى تقديم تصور لما ينبغي أن يكون عليه فهمنا للحقوق الثقافية في عالم رقمي وما ينبغي أخذه في الاعتبار لتوفير ضمانات كافية لحماية الحقوق الثقافية للأفراد والمجتمعات في هذا العالم الجديد.
ختامًا، ينبغي ملاحظة أن الحقوق الثقافية لها وجه جماعي بالغ الأهمية؛ بمعنى أنها على خلاف معظم حقوق الإنسان هي في جوهرها تتعلق بالمجتمعات ومستقبلها. في عالم يزداد توحدًا مع التلاشي التدريجي للحدود التقليدية بين شعوبه فإن هوية ثقافية بشرية جامعة تبزع مع الوقت.
طبيعة هذه الهوية الجامعة هي ما سيحدد كيف يمكن للجنس البشري أن يمضي في مساعيه لتحقيق حياة أفضل لأفراده في ظل تحديات كبرى ربما تهدد وجوده ذاته. وفي حين أن عالمنا يتحول إلى عالم رقمي وكذلك تتحول حياته الثقافية لتصبح رقمية بدورها فإن الحقوق الثقافية في صورتها الرقمية ينبغي أن تكون حجر الأساس لتصور مستقبلنا المشترك.