التكنولوجيا الرقمية: إمكانيات جديدة وصعوبات قديمة في الدول الفقيرة والنامية

مقدمة

تغيرت طريقة تصنيف الدول بناءً على مستوى التنمية الاقتصادية التي حققها كل منها على مر الزمن. ففي فترة سابقة، اُستخدم مصطلح العالم الأول للإشارة إلى الدول ذات الاقتصاديات الأكثر تطورًا وثراءًا. ونُظر إلى دول المعسكر الشرقي باعتبارها تشكل العالم الثاني. واُعتبر أن مجموعة الدول هذه قد حققت قدرًا من التقدم الصناعي والتنموي، وإن لم تصل إلى نفس المعدلات التي حققتها دول العالم الأول من حيث المؤشرات الاقتصادية. في ظل هذا التصنيف سميت الدول الأقل تنمية، والتي اعتبرت اقتصادياتها متأخرة على مستويات مختلفة، بدول العالم الثالث.

أما في وقتنا الحالي فيسود تصنيف الدول من حيث التنمية إلى:

  • الدول الصناعية المتقدمة، أو بشكل حرفي، الدول تامة النمو Developed Countries.
  • الدول النامية Developing Countries، وفي أحيان كثيرة، يتم تمييز الدول الأكثر فقرًا في هذه المجموعة بالدول الأقل تنمية Least Developed Countries.

يُعد كل من إجمالي الناتج المحلي GDP أو إجمالي الناتج القومي GNP، هما المؤشران الاقتصاديان الرئيسيان الذان يعتمد تصنيف دول العالم من حيث مستوى التنمية عليهما. ولكن هذا التصنيف يعتمد على عدة مؤشرات أخرى تتعلق بكل من:

  • حجم السوق الداخلي.
  • مدى توازن القطاعات الاقتصادية الرئيسية، وخاصة حجم القطاع الصناعي مقارنة بالقطاع الزراعي التقليدي.
  • نسبة صادرات الدول من السلع تامة الصنع مقارنة بالمواد الخام والسلع الوسيطة.
  • مدى تطور القطاع المالي وبورصة تداول الأسهم والأدوات المالية.
  • مدى ما حققته الدولة من التحول الرقمي ومقدار تغلغل التكنولوجيا الرقمية في قطاعاتها الاقتصادية، وفي قطاعها الحكومي، وفي المجتمع بصفة عامة.

تمثل التكنولوجيا الرقمية اليوم المحرك الرئيسي لتطور ونمو الاقتصاد في جميع دول العالم. تقوم عديد من الأنشطة الاقتصادية على التكنولوجيا الرقمية وتتبناها في عملياتها لرفع كفاءتها وإنتاجيتها. لذلك، ينظر الجميع إلى التكنولوجيا الرقمية على أنها تمثل الأمل الرئيسي للاقتصاديات الأقل تطورًا لتجاوز مشاكلها لتلحق بالاقتصاديات الصناعية المتقدمة. ولكن هذا الأمل يبدو متعثرًا طيلة العقود الثلاث الماضية.

ينبغي ملاحظة أنه كما يؤكد الخبراء “ليس التحول الرقمي ثابتًا تكنولوجيا، ولا هو خطة تفصيلية، أو حدث يتم مرة واحدة ثم ينتهي، أو استراتيجية واحدة تناسب جميع الحالات.” علينا أن نفكر في استخدام التكنولوجيا الرقمية وفي التحول الرقمي على أنه عملية ديناميكية. تتفاعل هذه العملية مع بقية العمليات السارية في أي مجتمع. وتعتمد النتيجة على تفاعل هذه العمليات وليس على دور أي منها بشكل منفرد.

تسعى هذه الورقة إلى تقديم صورة مختصرة للعلاقة بين التكنولوجيا الرقمية وبين سعي اقتصاديات الدول الفقيرة والنامية إلى التطور والتخلص من معوقات لحاقها بالاقتصاديات الصناعية المتقدمة. توضح الورقة الدور المأمول للتكنولوجيا الرقمية في توسيع إمكانيات التنمية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية. كما تتناول الورقة التحديات التي تواجهها عملية نقل التكنولوجيا الرقمية، وهي العملية الضرورية لاستفادة الدول الفقيرة والنامية من هذه التكنولوجيا. وأخيرًا تتعرض الورقة لعدد من الطرق التي تعدل بها شروط التنافسية لغير صالح الاقتصاديات الفقيرة والنامية.

التكنولوجيا الرقمية وتوسيع إمكانيات التنمية

مر عالمنا بالعديد من موجات التطور التكنولوجي منذ بدأت الثورة الصناعية حوالي نهاية القرن الثامن عشر. أسهمت كل موجة من موجات التطور التكنولوجي في دفع النمو الاقتصادي لدول العالم بمعدلات كبيرة.

ما يميز التكنولوجيا الرقمية عما سبقها من التكنولوجيات هو توسيعها لإمكانيات التنمية والنمو الاقتصاديين بقدر غير مسبوق. يعود ذلك، في جانب أساسي منه، إلى تنوع صور الصناعات التي أنشأتها هذه التكنولوجيا. فعلى سبيل المثال، نشأت صناعات تتعلق بتصنيع المعدات الإلكترونية الضرورية لاستخدام التكنولوجيا الرقمية. 

أهم هذه الصناعات هو بالطبع صناعة الرقائق الإلكترونية وصناعات الحواسيب بصورها المختلفة وصولًا إلى الهواتف الذكية، ثم في مراحل تالية صناعات المعدات الضرورية للاتصال بشبكة الإنترنت وغير ذلك. تشبه هذه الصناعات في متطلباتها إلى حد كبير الصناعات التقليدية. ولكن في المقابل، أنشأت التكنولوجيا الرقمية صورًا أخرى من الصناعات التي تختلف كثيرًا عن الصناعات التقليدية، مثل صناعة البرمجيات. 

تعتمد هذه الصناعات على العنصر البشري أكثر مما تعتمد على العناصر المادية. يؤدي ذلك إلى حاجتها إلى قدر أقل من الاستثمار في الأصول المادية الثابتة، مثل المعدات والمنشآت، في حين تعتمد على توافر العمالة الماهرة والقادرة على الإبداع.


مميزات التكنولوجيا الرقمية بالنسبة للدول الفقيرة والنامية

ثمة عدد من الملامح التي تميز التكنولوجيا الرقمية عن غيرها من التكنولوجيات. بعض هذه الملامح تجعل التكنولوجيا الرقمية مرشحة للإسهام بقدر أكبر في دفع اقتصاديات الدول الفقيرة والنامية نحو النمو والتطور.

من بين هذه الملامح المميزة للتكنولوجيا الرقمية انتشارها بسرعة أكبر من أي تكنولوجيا سابقة عليها. أدى ذلك بالفعل إلى أن تنتشر تطبيقات هذه التكنولوجيا في الدول الفقيرة والنامية بسرعة كبيرة، خاصة مقارنة بالتكنولوجيات السابقة عليها. 

كذلك تتميز عديد من تطبيقات التكنولوجيا الرقمية بأن متطلباتها أقل كلفة وبأن هذه الكلفة تميل إلى مزيد من الانخفاض مع الوقت. ومن ثم، فإن جانبًا كبيرًا من تطبيقات التكنولوجيا الرقمية كان ولا يزال من السهل على الدول الفقيرة والنامية أن تتبناه وتستخدمه.

الميزة الأساسية الثانية للتكنولوجيا الرقمية بالنسبة للدول الفقيرة والنامية هي تغلغلها في مختلف الأنشطة الاقتصادية. المقصود بذلك أنه إلى جانب الأنشطة الاقتصادية القائمة على التكنولوجيا الرقمية نفسها، والتي تخدمها بشكل مباشر، فإن هذه التكنولوجيا لها العديد من التطبيقات التي يمكن تضمينها في القطاعات الاقتصادية الأخرى. 

يؤدي تضمين التكنولوجيا الرقمية في القطاعات الصناعية الأخرى إلى عديد من النتائج الإيجابية لهذه القطاعات، يشمل ذلك خفض تكلفة بعض العمليات ورفع كفاءتها. بالنسبة للدول الفقيرة والنامية، تفتح هذه الميزة للتكنولوجيا الرقمية آفاقًا أوسع لتجاوز عديد من المشاكل المزمنة في اقتصاديات هذه الدول. 

تعاني الاقتصاديات الفقيرة والنامية من صعوبة تخطي المشاكل المزمنة لقطاعاتها الاقتصادية المختلفة نظرًا لارتفاع كلفة إدخال التعديلات اللازمة لتجاوز هذه المشاكل. قدمت التكنولوجيا الرقمية في حالات عديدة بدائل منخفضة التكلفة للتعامل مع مثل هذه المشاكل، مما أسهم في تحرر بعض القطاعات الاقتصادية من العراقيل التي كانت تواجهها. تمكنت القطاعات الاقتصادية، التي أُتيح لها الاستفادة بقدر مناسب من استخدام التكنولوجيا الرقمية، من تحقيق معدلات نمو وتطور أعلى.

إمكانيات التنمية الاقتصادية

أتاحت التكنولوجيا الرقمية مجالات جديدة للنشاط الاقتصادي بعضها كما سبقت الإشارة لا يتطلب استثمارات كبيرة في بدايته. من النماذج الرئيسية لمثل هذه الأنشطة مجال البرمجيات، والذي يتيح مساحة واسعة للتميز بالابتكار دون الحاجة إلى قدر مبالغ به من الأصول المكلفة للعمل فيه.

توفر صناعة البرمجيات إمكانيات للمنافسة والوصول إلى السوق للكيانات الصغيرة في أي مكان بالعالم. أدى ذلك إلى نجاح هذه الصناعة في عدد من الدول الفقيرة والنامية بحيث أسهمت في دفع النمو الاقتصادي فيها ورفع معدلات الدخل لعديد من مواطنيها. النموذج الأبرز في هذا المجال هو الهند.

بحسب دراسة أجريت في عام 2019، أسهمت صناعة البرمجيات بنسبة 8% في إجمالي الدخل المحلي للهند. أنتجت هذه الصناعة حينها عائدات قدرها 117 مليار دولار أمريكي، وصدرت ما قيمته حوالي 135 مليار دولار أمريكي في السنة المالية 2018-19. كما خلقت صناعة تكنولوجيا المعلومات أكثر من أربعة ملايين وظيفة بشكل مباشر إضافة إلى 12 مليون وظيفة خلقتها بشكل غير مباشر.

تتيح التكنولوجيا الرقمية فرصًا للتبني المبكر يمكن أن تستغلها الاقتصاديات الفقيرة والنامية لتحقيق قفزات اقتصادية كبيرة وفي وقت قصير نسبيًا. يستلزم ذلك مقاربة مختلفة حيث أن التبني المبكر للتكنولوجيا الرقمية يكون عادة أكثر تكلفة. تناسب هذه المقاربة التخصص في مجال له أهمية استراتيجية لمجمل الصناعات القائمة على التكنولوجيا الرقمية بحيث تتناسب العوائد والمزايا المستهدفة مع الاستثمار الكثيف المطلوب.

النموذج الأفضل لهذه المقاربة هو توجه تايوان إلى صناعة الرقائق الإلكترونية منذ وقت مبكر. وجهت الدولة استثماراتها نحو شركة واحدة هي شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات TSMC. تبلغ صادرات هذه الشركة من الرقائق الإلكترونية حوالي 184 مليار دولار أمريكي وتمثل ربع إجمالي ناتجها المحلي. تستحوذ TSMC على 55% من إجمالي سوق التعاقدات العالمي على الرقائق الإلكترونية. كما أنها تنفرد بصناعة عديد من نماذج الرقائق الإلكترونية عالية التكنولوجيا والتي لا ينافسها في إنتاجها أي طرف آخر.

إمكانيات التنمية الاجتماعية

ثمة ارتباط وثيق ومتبادل بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية. يمكن القول بأنهما يترافقان صعودًا وهبوطًا في أي مجتمع. ترتبط التنمية الاجتماعية بنمو قدرة المجتمع على توفير حياة ذات جودة أعلى لأفراده. 

بعض الخدمات المتاحة في أي بلد لها دور أساسي في تحديد جودة حياة الأفراد. في مقدمة هذه الخدمات كل من التعليم والرعاية الصحية. وقد ناقشت أوراق سابقة لمسار العلاقة بين التكنولوجيا الرقمية وبين هذه الخدمات من حيث كونها حقوق أساسية للمواطنين في أي بلد. تتعلق المقاربة التي تتخذها هذه الورقة بأثر التكنولوجيا الرقمية على دور التنمية الاجتماعية في دفع اقتصاديات الدول الفقيرة والنامية لتحقيق هدف التحول إلى اقتصاديات صناعية متقدمة.

تتيح التكنولوجيا الرقمية سبلًا جديدة أسهل وأوسع انتشارًا وأقل كلفة للوصول إلى المعلومات وخاصة من خلال شبكة الإنترنت. قدر كبير من المعلومات التي يمكن الوصول إليها بواسطة التكنولوجيا الرقمية يتعلق بهذه التكنولوجيا نفسها. 

يؤدي ذلك إلى إمكان حصول فئات كبيرة من الأفراد على معلومات متخصصة وتنمية مهارات تتعلق بالتكنولوجيا الرقمية. مثل هؤلاء الأفراد يمكنهم استغلال المعلومات والمهارات التي حصلوا عليها للعمل في أنشطة مختلفة ذات صلة بالتكنولوجيا الرقمية سواء بشكل مستقل أو كعاملين لدى كيانات بأحجام مختلفة.

على جانب آخر، تنتشر التكنولوجيا الرقمية بسرعة كبيرة في المجتمعات المختلفة، بما في ذلك مجتمعات الدول الفقيرة والنامية. هذا الانتشار لاستخدام الحواسيب الشخصية والهواتف الذكية على سبيل المثال ينشئ حاجة وطلبًا على عديد من الخدمات الداعمة لمستخدمي تطبيقات التكنولوجيا الرقمية.

بعض من هذه الخدمات لا يتطلب بالضرورة خبرة بالغة التخصص أو مهارات عالية. لذلك، يتاح لعديد من الأفراد الذين حصلوا على معلوماتهم وطوروا مهاراتهم بجهودهم الذاتية أن يقدموا خدمات الدعم البسيطة التي يتطلبها مستهلكو منتجات التكنولوجيا الرقمية. تتراوح مثل هذه الخدمات بين بيع المستلزمات الإضافية لتشغيل الأجهزة المختلفة، وبين مهمات الصيانة البسيطة لها، وكذلك تجميع أجهزة الحواسيب الشخصية من مكوناتها الأساسية.

يمكن اليوم ملاحظة أن أعدادًا كبيرة من الأفراد في الدول النامية والفقيرة ينخرطون في سوق غير رسمي لتقديم هذه الخدمات. هذا النمط من العمل لا يتاح عادة في الدول الصناعية المتقدمة نظرًا لطبيعة أسواق هذه الدول وصور الرقابة السائدة فيها. يوائم السوق غير الرسمي بين متوسطات الدخل السائدة في الدول الفقيرة والنامية وبين الطلب على الخدمات الضرورية لاستخدام التكنولوجيا الرقمية فيها في أبسط صوره.

على الرغم من أن التطورات المشار إليها سابقًا تتعلق بسبل معظمها غير رسمي وينحصر في الكيانات الاقتصادية متناهية الصغر، إلا أنه يشكل قاعدة اجتماعية للطلب على تطبيقات التكنولوجيا الرقمية وكذلك قاعدة للمعرفة والمهارات المتعلقة بها.

يمكن لكيانات اقتصادية ناشئة ذات أحجام أكبر أن تستغل القاعدتين، سواء للاستجابة للطلب المتوسع على الخدمات ذات الصلة بالتكنولوجيا الرقمية، أو لتوافر المعرفة الأساسية بسبل التعامل مع هذه التكنولوجيا. انتشار الحواسيب والهواتف الذكية يسمح بتطور الاقتصاد الرقمي، كما يسمح بتقديم خدمات أكثر تطورًا لمن يرغب في الحصول عليها. بالتالي، نمو اقتصاد وسوق غير رسمي حول تطبيقات التكنولوجيا الرقمية قد يكون أحد عوامل نمو الاقتصاد والسوق الرسمي لهذه التطبيقات.


تحديات نقل التكنولوجيا الرقمية

نشأة التكنولوجيا الرقمية ترتبط بما سبقها من مراحل التطور التكنولوجي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. تتفاوت هذه المراحل بين الدول المختلفة لأسباب تاريخية عدة. ولذلك، فقد كان طبيعيًا أن تنشأ التكنولوجيا الرقمية في دول بعينها دون غيرها.

بالنسبة للدول الأكثر فقرًا والنامية، فقد اعتمدت إمكانية استغلالها للتكنولوجيا الرقمية على مدى قدرتها على نقل هذه التكنولوجيا من الدول التي نشأت وتطورت فيها. يعتمد نقل التكنولوجيا إلى أي بلد على عوامل عدة بعضها خارجي وبعضها داخلي.

على الرغم من أن التكنولوجيا الرقمية تتميز عن التكنولوجيات السابقة عليها بسهولة وسرعة نقلها، إلا أن إمكانية تبنيها واستخدامها لدفع النمو الاقتصادي يواجه عديدًا من التحديات في الاقتصاديات الفقيرة والنامية. تستعرض الورقة في هذا القسم بعضًا من التحديات الرئيسية لنقل التكنولوجيا الرقمية إلى الدول الفقيرة والنامية.

الضعف الهيكلي لاقتصاديات الدول الفقيرة والنامية

تتفاوت الدول الأكثر فقرًا والدول النامية من حيث مواردها الطبيعية والبشرية بشكل كبير. لكن اقتصادياتها مع ذلك تشترك في كونها تعاني من العديد من المشاكل الهيكلية. المقصود بتلك المشاكل الهيكلية هو ذلك النوع من المشاكل الكامنة في الطريقة التي يتركب ويعمل بها الاقتصاد في أي بلد. تؤثر هذه المشاكل على إمكانية نشأة واستمرار ونمو أي نشاط اقتصادي.

من بين المشاكل الهيكلية التي تعاني منها أغلب الاقتصاديات الفقيرة والنامية أنها تميل في تركيبها إلى غلبة القطاعات التقليدية، مثل الزراعة، على القطاعات الأكثر مرونة وحيوية، مثل الصناعة والقطاع المالي. تميل البلدان ذات القطاعات الصناعية الأكبر من حيث الحجم والأكثر تطورًا من حيث التكنولوجيا المستخدمة فيها إلى أن تتبنى التكنولوجيات الأحدث بسرعة أكبر وكفاءة أعلى. يعود ذلك إلى أن الأساس الاجتماعي لعلاقات العمل في القطاع الصناعي أكثر مرونة.

يؤدي ذلك إلى أن يكون الانتقال من مجال عمل إلى غيره في القطاع الصناعي أكثر سهولة من انتقال من يعمل بالزراعة إلى غيرها. كذلك يعتمد القطاع الصناعي على توافر مستويات من المهارة التخصصية تعتمد بدورها على مستويات تعليمية أعلى من تلك التي تتطلبها ممارسة الزراعة بشكلها التقليدي المتوارث عبر آلاف السنين. هذا يعني أن نمو القطاع الصناعي في أي بلد يمثل حافزًا على انتشار حد أدنى من التعليم الذي يؤهل الأفراد للعمل فيه.

لا شك أن التكنولوجيا الرقمية تتعلق بالأنشطة الصناعية بالأساس. فبرغم أنها تختلف عن الأنشطة الصناعية التقليدية السابقة عليها فهي تعتمد على نفس الأسس التي تنبني عليها هذه الأنشطة. وبالتالي، فإن البلدان التي لديها قطاع صناعي كبير لديها فرصة أفضل لاستيعاب التكنولوجيا الرقمية واستخدامها بكفاءة أكبر. ونظرًا لضعف القطاعات الصناعية وصغر حجمها في معظم الاقتصاديات الفقيرة والنامية فهي تواجه تحديات كبيرة في تبني التكنولوجيا الرقمية. 

يكون هذا التحدي أكبر عندما يتعلق باستخدام التكنولوجيا الرقمية في دفع التنمية الاقتصادية في هذه الاقتصاديات. فيمكن لبلد ما أن يتبنى التكنولوجيا الرقمية بشكل استهلاكي وبين الفئات الأكثر دخلًا فيه. كذلك يمكن للقطاعات الحكومية في هذا البلد أن تعتمد على معونات ومشروعات تعاون مع جهات دولية لتبني التكنولوجيا الرقمية في عملياتها. 

مع ذلك، لا يؤدي ذلك إلى أثر ذو أهمية على النمو الاقتصادي في هذا البلد. ذلك لأن القطاعات الإنتاجية فيه تظل غير قادرة على تبني التكنولوجيا الرقمية في عملياتها، ولعدم وجود المرونة الكافية لانتقال الاستثمارات المحلية إلى إنشاء وتطوير الصناعات المختصة بالتكنولوجيا الرقمية نفسها.

أحد المشاكل الهيكلية السائدة في الاقتصاديات الفقيرة والنامية أيضًا هو ضعف القطاع المالي فيها. يعود ذلك بداية إلى ضعف التراكم الرأسمالي في هذه الاقتصاديات. يؤدي ذلك قبل أي شيء إلى قلة الموارد المالية المتاحة للاستثمار بصفة عامة.

لكن ضعف القطاع المالي يتمثل أساسًا في تدني نسبة الإيداعات البنكية مقارنة بالنقود المتداولة في السوق. يجعل ذلك الاعتماد على الأدوات المالية أقل فعالية في الاقتصاد، وبالتالي إلى عدم تطور هذه الأدوات والتراخي في تبني الأدوات الأكثر مرونة وتقدمًا. كما يؤدي ضعف القطاع المالي إلى أن يكون الاقتصاد أقل مرونة بصفة عامة. ينعكس ذلك في صعوبة نقل الاستثمارات بين الأنشطة الاقتصادية المختلفة.

كلما تدنت المرونة المالية للاقتصاد أصبح من الأصعب بالنسبة له أن يتبنى التكنولوجيا الجديدة. يؤدي ذلك الضعف إلى عدم قدرة القطاع المالي على تمويل الصناعات الصغيرة ومتناهية الصغر لارتفاع معدل مخاطر الاستثمار فيها. ينعكس ذلك بصفة أساسية على قدرة الاقتصاد على تبني عدد كبير من الأنشطة المتخصصة في التكنولوجيا الرقمية والتي تتميز بالاعتماد على الكيانات الاقتصادية الصغيرة ومتناهية الصغر. لا تجد مثل هذه الكيانات دعمًا كافيًا من القطاع المالي في الاقتصاديات الفقيرة والنامية نظرًا لضعفه التمويلي وعدم كفاية الأدوات المالية المتوافرة لديه لدعمها.

ضعف البنية التحتية

تعاني الغالبية العظمى من الاقتصاديات الفقيرة والنامية من ضعف بالغ للبنية التحتية. يعود ذلك عادة إلى أن مشروعات البنية التحتية هي دائمًا عالية التكلفة بينما تحتاج إلى وقت طويل لتحقيق مردود اقتصادي ملموس. من ثم، فالدول الفقيرة والنامية تعاني عادة من قصور البنية التحتية فيها عن تغطية كامل مساحاتها الجغرافية. كذلك تعاني من تدني كفاءة هذه البنية، إما لعدم الإنفاق عليها بشكل كافي منذ البداية، أو لعدم القدرة على صيانتها وتطويرها بمعدل مناسب.

يمثل هذا الضعف عائقًا أساسيًا أمام تبني الدول الفقيرة والنامية للتكنولوجيا الرقمية بصفة خاصة. فعلى الرغم من أن عديد من الأنشطة ذات الصلة بالتكنولوجيا الرقمية لا تحتاج إلى استثمارات ابتدائية كبيرة إلا أنها في المقابل تعتمد على البنية التحتية التي يُتوقع توفرها، وفي مقدمتها مرافق الكهرباء وشبكات الاتصالات.

لا تزال عديد من الدول الفقيرة والنامية غير قادرة على توفير الكهرباء لجميع مواطنيها. إضافة إلى ذلك، تعاني كثير من هذه الدول من عدم استقرار شبكاتها الكهربائية، إما لعدم توافر الموارد اللازمة لتشغيل محطات التوليد، أو لتقادم هذه المحطات وعدم توفر التمويل الكافي لصيانتها وتطويرها.

ينطبق الأمر نفسه على شبكات الاتصالات، ولكن يضاف إلى ذلك حقيقة أن تكنولوجيا الاتصالات تتطور عالميًا بسرعة كبيرة. تحتاج عمليات تطوير شبكات الاتصالات إلى استثمارات كبيرة لتطويرها للحاق بأحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا الاتصالات. 

وفي المحصلة، يؤدي هذا الضعف في البنية التحتية إلى أن يكون من الصعب استغلال المزايا النسبية للتكنولوجيا الرقمية. تجد الكيانات الصغيرة ومتناهية الصغر في الدول الفقيرة والنامية صعوبة بالغة في العمل والمنافسة في أسواق الأنشطة المعتمدة على التكنولوجيا الرقمية.

يترتب على ذلك إهدار كثير من الوقت والجهد للتعامل مع مشاكل البنية التحتية. يحتاج عمل هذه الكيانات في حده الأدنى إلى طاقة كهربائية مستقرة لتشغيل الأجهزة والمعدات وعدم الإضرار بها. كما يحتاج إلى اتصال مستقر بشبكة الإنترنت بسرعة مقبولة وهو ما لا يزال غير متوفر في كثير من الدول الفقيرة والنامية حتى اليوم.

نقص الخبرات والمهارات

تعرضت أوراق سابقة لمسار لمشاكل تدني الخدمات التعليمية في الدول الفقيرة والنامية. وتلقي هذه الورقة مزيدًا من الضوء على إشكالية نقص الخبرات والمهارات اللازمة لاستخدام التكنولوجيا الرقمية، ولكن من جانب علاقة هذه الإشكالية ببنية الاقتصاد في هذه الدول.

يؤدي عدم توازن بنية الاقتصاد في عديد من الدول الفقيرة والنامية وغلبة الأنشطة التقليدية على الأنشطة الصناعية إلى تدني الطلب على الخبرات والمهارات التي تتطلب مستويات أعلى من التعليم. من ثم، يوجد عاملان يتضافران معًا؛ وهما ضعف الخدمات التعليمية في الدول الفقيرة والنامية، وتدني الطلب على مخرجاتها. يؤدي ذلك إلى انخفاض عدد الأفراد الذين يتوافر لديهم الحد الأدنى الضروري من التعليم الذي يؤهلهم للتخصص في المجالات التخصصية، وفي مقدمتها المجالات ذات الصلة بالتكنولوجيا الرقمية.

تعديل شروط المنافسة

يقوم النموذج الاقتصادي السائد عالميًا اليوم على مبدأ المنافسة. مع ذلك، يقوم قدر كبير من الخطاب الدولي المستخدم، سواء من قبل منظمات دولية مثل الأمم المتحدة أو من قبل دول العالم الصناعية المتقدمة، على مفاهيم التعاون والتنمية المتوازنة. يتم الجمع بين المقاربتين من خلال توجيه التطبيق العملي لمفاهيم التعاون والتنمية المتوازنة إلى دعم قدرة الاقتصاديات الفقيرة والنامية على المنافسة.

يتجاهل ذلك التطبيق حقيقة أن من بين الأسباب الأساسية لضعف الاقتصاديات الفقيرة والنامية عدم مشاركتها في تحديد شروط المنافسة الاقتصادية. كذلك يتجاهل هذا التطبيق أن شروط المنافسة تتغير باستمرار. يعتمد هذا التطور بصورة أساسية على الظروف الاقتصادية السائدة في الدول الصناعية المتقدمة؛ فهو يتجه دائمًا نحو التوافق مع المستجدات الناشئة في هذه الدول، وفي مقدمتها التطور التكنولوجي. بعبارة أخرى، تنشأ شروط المنافسة الاقتصادية وهي منحازة منذ البداية لصالح الاقتصاديات المتقدمة.

تناقش الورقة في القسم التالي كيف غير تطور التكنولوجيا الرقمية من شروط المنافسة الاقتصادية، وأثر ذلك على قدرة الاقتصاديات الفقيرة والنامية على الدخول بشكل ناجح في هذه المنافسة.


أثر التكنولوجيا الرقمية على شروط المنافسة

أحد المميزات الرئيسية للتكنولوجيا الرقمية هو تغلغلها في كافة الأنشطة البشرية اليومية، وفي مقدمتها الأنشطة الاقتصادية. المقصود بذلك هو أن العمليات التي يقوم بها البشر في يومهم أصبحت تعتمد في حد ذاتها على استخدام التكنولوجيا الرقمية. وبالتالي، فقد أصبح مدى استيعاب التكنولوجيا الرقمية في أية نشاط اقتصادي عاملًا هامًا من عوامل القدرة على المنافسة في هذا النشاط. يخلق ذلك عددًا من الإشكاليات عندما تضيف الحاجة إلى استخدام التكنولوجيا الرقمية مزيدًا من المتطلبات التي يحتاج أي نشاط اقتصادي إلى توافرها حتى يكون لديه فرصة للمنافسة.

بالنسبة لعديد من القطاعات الاقتصادية اليوم لم يعد استخدام التكنولوجيا الرقمية في معظم عملياتها ترفًا. في عديد من الحالات أصبح ذلك ضرورة لاستمرار النشاط الاقتصادي، وفي بعض الأحيان لا يكون التحديث المستمر لتطبيقات التكنولوجيا الرقمية المستخدمة مجرد خيار بل ضرورة.

يضع ذلك ضغوطًا تتفاوت في وطأتها على الأنشطة المختلفة في الدول الفقيرة والنامية. وفي بعض الأحيان تكون هذه الضغوط أكبر من أن تتحملها الكيانات الاقتصادية المتوسطة أو الصغيرة. قد تكون الضغوط مالية عندما تستدعي الحاجة استخدام تطبيقات ذات كلفة مرتفعة، أو الحاجة إلى أجهزة ومعدات ومتطلبات أخرى مثل الاتصال بشبكة الإنترنت بمعدل كثيف. وكذلك قد يكون بعض هذه الضغوط عملي، مثل عدم توافر العمالة ذات الخبرة والمهارة الكافية للتعامل مع بعض تطبيقات التكنولوجيا الرقمية الأكثر تعقيدًا.


عوائق تبني الاقتصاد الرقمي

المقصود بالاقتصاد الرقمي هنا هو أنشطة مثل التجارة الإلكترونية، والمعاملات البنكية الإلكترونية، ومنصات توفير الخدمات، ومنصات التوظيف والعمل الحر، وغيرها. يُعد الاقتصاد الرقمي اليوم بين أكثر القطاعات الاقتصادية نموًا في العالم. ولذلك فهو يتيح فرصًا واسعة النطاق لتحقيق النمو الاقتصادي بمعدل سريع بالنسبة للدول الأكثر حاجة إلى هذا النمو، وهي الدول الفقيرة والنامية.

لكن تبني الاقتصاد الرقمي يواجه عديدًا من العوائق في هذه الدول. أحد أهم العوائق هو ضعف القطاع المالي في الاقتصاديات الفقيرة والنامية. وقد أشارت الورقة في قسم سابق إلى أثر ضعف القطاع المالي على إمكانيات تبني التكنولوجيا الرقمية بصفة عامة.

فيما يتعلق بتبني الاقتصاد الرقمي، يتمثل ضعف القطاع المالي في الدول الفقيرة والنامية في محدودية اعتماد المواطنين العاديين على خدمات هذا القطاع. بعبارة أخرى، لا يزال أغلب الاقتصاديات الفقيرة والنامية يعتمد على التبادل النقدي المباشر في الأسواق لإتمام عمليات تبادل السلع والخدمات.

يؤدي ذلك إلى أن تكون عمليات بعض أنشطة الاقتصاد الرقمي أقل كفاءة لحاجتها إلى خطوات إضافية في دورة تبادل الأموال. وبالنسبة لعمليات أنشطة أخرى، مثل منصات العمل عن بعد والعمل الحر، يحول هذا العائق دون وقوع النشاط نفسه؛ حيث لا يتوافر بديل عن وسائل الدفع الإلكتروني لإتمام عمليات تبادل الأموال بالنسبة لهذا النشاط.

من بين عوائق تبني الاقتصاد الرقمي العوامل المتعلقة بتوافر حد أدنى من مهارات استخدام أدوات وتطبيقات التكنولوجيا الرقمية بين فئات كبيرة من المجتمع. تشمل هذه العوامل مستويات الدخل السائدة ومدى قدرة الأشخاص العاديين على اقتناء أدوات تكنولوجية، مثل الحواسيب والهواتف الذكية. كما تشمل مستويات التعليم، والتي تؤثر على مدى تمكن الأشخاص العاديين من التعامل مع الأدوات والتطبيقات الرقمية.

ولا شك أن الاقتصاديات الفقيرة والنامية تعاني بدرجات مختلفة من تدني متوسط الدخل المتاح للأفراد العاديين، وتدني المستويات التعليمية لقطاعات واسعة من المواطنين. بالإضافة إلى سيادة أنماط تعامل يومي قائمة على التواصل المباشر وشيوع عدم الثقة في وسائل التواصل غير المباشرة. 

وأخيرًا، يشيع في الاقتصاديات الفقيرة والنامية وجود ما يسمى بالاقتصاد أو السوق غير الرسمي، أي غير الملتزم بالقواعد القانونية الرسمية لممارسة الأنشطة الاقتصادية. يمتد الاقتصاد والسوق غير الرسمي إلى الممارسات الاقتصادية الرقمية في كثير من الأحيان مما يؤدي إلى غياب الرقابة الرسمية على هذه الممارسات. يترتب على ذلك تدني ثقة المستهلك أو متلقي الخدمة فيها وهو ما ينعكس بدوره على مدى الثقة في مجمل ممارسات الاقتصاد الرقمي.

احتكار ومركزية التكنولوجيا الرقمية

نشأت التكنولوجيا الرقمية وتطبيقاتها في الدول الصناعية المتقدمة. شارك في تطوير التكنولوجيا العديد من شركات القطاع الخاص التي استغلت تبنيها المبكر للتكنولوجيا وتطبيقاتها في النمو بسرعة والسيطرة على حصة كبيرة من السوق. يمكن ملاحظة أن الجوانب المختلفة للتكنولوجيا الرقمية وتطبيقاتها والصناعات القائمة عليها يوجد بكل منها نمط واضح للاحتكار.

فبداية من الصناعات الأساسية، مثل الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، وصولًا إلى خدمات شبكة الإنترنت ومنصات البحث والتواصل الاجتماعي، يوجد عدد محدود من الشركات الكبرى في كل مجال تحتكر النسبة الغالبة من السوق. أغلب الشركات ذات الاحتكارات الكبرى في هذه المجالات هي من بين الأضخم عالميًا اليوم، ومنها شركات مثل مايكروسوفت، وأمازون، وآبل، وميتا (مالكة فيسبوك وإنستجرام وواتساب)، وإنفيديا، وجوجل وغيرها.

تؤدي الاحتكارات في المجالات ذات الصلة بالتكنولوجيا الرقمية إلى تضييق إمكانية المنافسة في الأسواق أمام أية شركات تحاول الدخول أو النمو في هذه الأسواق. وحتى في حال تمكن شركات ناشئة من تحقيق نجاح ملحوظ نتيجة تقديم ابتكارات جديدة ينتهي الأمر عادة بأن تستحوذ إحدى الشركات الكبرى عليها.

هذه الظاهرة العالمية يتضاعف أثرها بالنسبة للكيانات الاقتصادية في الدول الفقيرة والنامية نظرًا لمحدودية مواردها وللظروف الصعبة التي تعمل في ظلها. من ثم، فطموح هذه الكيانات إلى المنافسة في أسواق مجالات التكنولوجيا الرقمية يكاد يكون مستحيلًا.

يؤدي ذلك إلى محدودية مجال العمل أمام الكيانات الاقتصادية الساعية إلى العمل في مجالات التكنولوجيا الرقمية. وتنحصر مساحات العمل المتاحة لهذه الكيانات في أداء أدوار الوكالة للشركات الكبري أو بناء خدمات وتطبيقات تعتمد على التكنولوجيات التي تطورها هذه الشركات؛ لذلك يظل عملها دائمًا معتمدًا على منتجاتها. كما يترتب على احتكار ومركزية التكنولوجيا الرقمية وجود سقف للنمو يصعب أو يستحيل تجاوزه للكيانات الناشئة التي تعمل في أسواقها.

نزوح الموارد المادية والبشرية

ربما يكون نزوح الموارد المادية والبشرية من الاقتصاديات الفقيرة والنامية إلى الاقتصاديات الصناعية المتقدمة هو حصيلة العوامل المختلفة التي سبق مناقشتها في الأقسام السابقة من هذه الورقة. تؤدي تحديات نقل التكنولوجيا الرقمية إلى الدول الفقيرة والنامية، وصعوبة التنافس فيها، إلى جعل عائد الاستثمار المتوقع في التكنولوجيا الرقمية أقل مقارنةً بما هو عليه في الدول الصناعية المتقدمة.

تتوافر للدول الصناعية المتقدمة مختلف العوامل الملائمة للاستثمار في مجالات التكنولوجيا الرقمية. من ثم، فإن الأفراد والجهات التي يتوافر لها تراكم رأسمالي مناسب في الدول الفقيرة والنامية تُفضِل توجيه رأسمالها إلى الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية خارج هذه الدول. 

يعني ذلك أنه حتى في حالات إصلاح المشاكل الهيكلية للاقتصاديات الفقيرة والنامية، وتحرير رؤوس الأموال فيها من الارتباط بالقطاعات التقليدية، فإن رؤوس الأموال هذه لا تتجه نحو تنمية قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات داخل البلد نفسه. بدلًا من ذلك، تهاجر رؤوس الأموال إلى الدول المتقدمة.

ليست رؤوس الأموال وحدها هي ما يميل إلى الهجرة من الدول الفقيرة والنامية إلى الدول الصناعية المتقدمة، ولكن المواد الخام الداخلة في الصناعات المغذية لمجالات التكنولوجيا الرقمية. بعض أكثر الدول فقرًا هي في نفس الوقت الأكثر ثراءً بمواد خام ضرورية للصناعات الأساسية لتكنولوجيا المعلومات. النموذج الأبرز هو دولة الكونغو الديموقراطية. ففي حين يتركز عديد من المعادن النادرة الضرورية لصناعة الرقائق الإلكترونية في الكونغو فإن عوامل عدة تحول دون قيام صناعات تستخدم هذه المعادن داخل الكونغو نفسها.

أخيرًا، يشمل نزوح الموارد من الدول الفقيرة والنامية إلى الدول الصناعية المتقدمة الموارد البشرية. لا تستطيع الأسواق المحلية استيعاب الأفراد ذوي الخبرات والمهارات المتطورة. كما أنها لا تقدم لهم فرص توظيف مرضية، لا من حيث العائد المادي ولا من حيث الأمان الوظيفي.

بالإضافة إلى ذلك، مستويات المعيشة السائدة في الدول الفقيرة والنامية والمشاكل السياسية والاجتماعية فيها تجعلها بيئة طاردة لكل من تتاح له فرصة الهجرة إلى خارجها. بالتالي، فإن أعدادًا غفيرة من المتخصصين في مجالات التكنولوجيا الرقمية في الدول الفقيرة والنامية يسعون إلى الهجرة إلى الدول الصناعية المتقدمة حيث يتاح لهم تحقيق نجاح مهني أكبر وحياة أفضل.


خاتمة

تمثل التكنولوجيا الرقمية سبيلًا واعدًا لدعم مسعى الدول الفقيرة والنامية إلى تجاوز مشاكلها الاقتصادية ومحاولة اللحاق بالدول الصناعية المتقدمة. ولكن هذا السبيل ليس ممهدًا كما يمكن أن يبدو للوهلة الأولى. تعاني الاقتصاديات الفقيرة والنامية من عديد من التحديات التي تعيق قدرتها على استغلال التكنولوجيا الرقمية لتحقيق مسعاها. قدمت هذه الورقة صورة عامة ومختصرة لهذه الإشكالية.

عرضت الورقة في قسمها الأول ما يمكن للتكنولوجيا الرقمية أن توفره من توسيع لإمكانيات التنمية في الدول الفقيرة والنامية. وتناولت الورقة في قسمها الثاني بعضًا من التحديات التي تواجه هذه الدول في سعيها لتبني واستخدام التكنولوجيا الرقمية. أخيرًا قدم القسم الأخير من الورقة عرضًا لعدد من مظاهر تعديل التكنولوجيا الرقمية نفسها لشروط المنافسة الاقتصادية وكيف يؤثر هذا التعديل بشكل سلبي على قدرة الاقتصاديات الفقيرة والنامية على المنافسة والنمو.