تقرؤون:
- مقدمة عن السياق التشريعي للدليل الجنائي الرقمي
- مظاهر القصور التشريعي في النصوص الحاكمة والمنظمة للدليل الجنائي الرقمي
- مدى التزام النيابة العامة بضوابط وشروط مشروعية الدليل الجنائي الرقمي
- مدى التزام المحاكم الاقتصادية بضوابط وشروط مشروعية الدليل الجنائي الرقمي
- الأثر التشريعي لعدم تطبيق ضوابط الدليل الجنائي الرقمي
مقدمة عن السياق التشريعي للدليل الجنائي الرقمي
حتى وقتٍ ليس ببعيد، لم تكن التشريعات المصرية تشمل تعريف محدد وواضح للدليل الإلكتروني. ولم يكن المشرِّع المصري يعترف بالدليل الإلكتروني باعتباره الوسيلة المشروعة ذات القيمة الثبوتية الأعلى في الإثبات الجنائي، والتي تحقق اليقين القضائي بطريقة يطمئن إليها القاضي. بينما اجتهد القضاء في إضفاء حجية على الأمر فتعامل معه في بعض الأحيان كقرينة أو كدلالة، حسب الأحوال.
استحدث المشرِّع المصري للمرة الأولى تعريفًا للدليل الإلكتروني في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات1، واطلق عليه “الدليل الرقمي”. عرَّف القانون الدليل الرقمي في المادة الأولى منه بأنه “أي معلومات إلكترونية لها قوة أو قيمة ثبوتية مخزنة أو منقولة أو مستخرجة أو مأخوذة من أجهزة الحاسب أو الشبكات المعلوماتية وما في حكمها، ويمكن تجميعها وتحليلها باستخدام أجهزة أو برامج أو تطبيقات تكنولوجية خاصة“. وأضفى القانون على الدليل الرقمي الحجية في الإثبات الجنائي للجرائم، وحدد له مجموعة من الشروط، والضوابط لمشروعيته، ولإضفاء حجية عليه ليعامّل معاملة الدليل الجنائي. كما حدد القانون مجموعة من المصادر يمكن تحصله منها؛ وذلك في المادة الحادية عشر منه، والتي نصت على أن “يكون للأدلة المستمدة أو المستخرجة من الأجهزة أو المعدات أو الوسائط أو الدعامات الإلكترونية أو من النظام المعلوماتي أو من برامج الحاسب، أو من أي وسيلة لتقنية المعلومات ذات قيمة وحجية الأدلة الجنائية المادية في الإثبات الجنائي متى توافرت بها الشروط الفنية الواردة باللائحة التنفيذية لهذا القانون“.
أعطى المشرِّع في هذا القانون للضوابط الإجرائية، وعلى رأسها الدليل الجنائي الرقمي عناية خاصة. وأشارت المذكرة الإيضاحية والتقارير البرلمانية المصاحبة لمناقشة قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات إلى فلسفة مشروع القانون والهدف منه في ست نقاط رئيسة، من بينهم2:
- ضبط الأحكام الخاصة بجمع الأدلة الإلكترونية وتحديد حجيتها في الإثبات.
- وضع تنظيم إجرائي دقيق ينظم إجراءات الضبط والتحقيق والمحاكمة المتعلقة
- تحديد حالات التصالح وإجراءاته وتنظيم عمل الخبراء المتخصصين العاملين في مجال جرائم مكافحة تقنية المعلومات، والقرارات والأوامر الجنائية المتعلقة بتنفيذ أحكام القانون.
انطلاقًا من أن الأصل العام في كل سلوك هو الحرية والإباحة، إلا أن حماية الحرية الفردية اقتضت منح المشرِّع وحده سلطة التجريم والعقاب، والتي تمثل قيدًا استثنائيًا على الحقوق والحريات، ونظرًا لخطورة هذا القيد، ولكونه استثناءًا على الأصل العام، فقد أحاطه المشرِّع الدستوري بضمانتين. تتخلص الأولى في شرعية التجريم والعقاب، التي عبر عنها المشرِّع الدستوري في المادة 95 من الدستور الساري والتي تنص على أن “العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون“. وهذه هي القاعدة الحاكمة للقوانين الجنائية العقابية، التي تحدد ماهية الجرائم والعقوبات المقررة لها. بينما تتخلص الضمانة الثانية في أصل البراءة، باعتباره الأصل العام المفترض، والذي عبر عنه المشرِّع الدستوري في الفقرة الأولى من المادة 96 من ذات الدستور والتي تنص على أن “المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه“. وهذه هي القاعدة الحاكمة للقوانين والقواعد الإجرائية المنظمة لإجراءات الاستدلال، والتحقيق، والمحاكمة، والطعن على الأحكام، وتنفيذ العقوبة والتي وتشكل غالبيتها مجموعة من الإجراءات الماسة بالحقوق والحريات التي كفلها الدستور. ونظرًا لخطورة المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم التي كفلها الدستور، جُرِّم كل اعتداء يقع عليها.
تضمن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات مجموعة من الأحكام والقواعد الإجرائية الخاصة، التي لها ذاتيتها واستقلالها، وتسري على الجرائم المؤثمة بموجبه، وتتناسب مع طبيعتها، وذلك باعتباره قانونًا خاصًا، يسري على طائفة خاصة من الجرائم – التي أصبحت بموجبه تسمى بجرائم تقنية المعلومات – فلا يرجع في تفسير هذه الأحكام والقواعد إلى قانون الإجراءات الجنائية باعتباره القانون العام، وذلك استنادًا لكون القانون الخاص يقيد القانون العام ويعتبر استثناءًا عليه وقيدًا وإطارًا في تفسيره وتأويله3، وإذا وجد تعارض بين مسألة أو إجراء ورد في القانونين، فتكون أولوية التطبيق لأحكام وقواعد قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، باعتبارها القواعد القانونية الحاكمة لهذه المسألة أو هذا الإجراء.
ويفهّم من ذلك أن إرادة المشرِّع قد اتجهت بوضوح إلى الاقتصار على مواده فيما تضمنته من أحكام وقواعد إجرائية، دون أي يحيل تنظيم كل أو بعض منها إلى أي قانون آخر، وعلى نحو خاص فيما استحدثه من أحكام وقواعد تتعلق بالأدلة الرقمية والضبط القضائي للجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكامه، وإجراءات إصدار الأوامر القضائية المؤقتة وتنفيذها، وإجراءات وقرارات حجب المواقع الإلكترونية، والتظلم منها، والمنع من السفر والخبراء المختصين.
ويؤكد ذلك بصورة أكثر وضوحًا اتجاه المشرِّع إلى وضع تعريف آخر للدليل الرقمي، غير المنصوص عليه في هذا القانون حينما أقر قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020. حيث تنص المادة الحادية عشر منه على أن “يكون للدليل الرقمي المستمد من البيانات الشخصية طبقًا لأحكام هذا القانون ذات الحجية في الإثبات المقررة للأدلة المستمدة من البيانات والمعلومات الخطية متى استوفت المعايير والشروط الفنية الواردة باللائحة التنفيذية لهذا القانون” دون أن يحيل تعريفه لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات أو قانون الإجراءات الجنائية أو غيرهما من قوانين.
مظاهر القصور التشريعي للنصوص الحاكمة والمنظمة للدليل الجنائي الرقمي
يمكننا استنتاج بعض مظاهر القصور التشريعي في النصوص الحاكمة والمنظمة للدليل الجنائي الرقمي التي أقرها المشرِّع في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، سواء المتعلقة بفلسفة ها القانون، أو المتعلقة بمخالفة القواعد الدستورية، وكذلك نستعرض أهم المبررات لأحد هذه المظاهر، وذلك على النحو الآتي:
أولًا: قصر القواعد الإجرائية الماسة بالحريات والمتعلقة بالبحث والحصول على الدليل الرقمي على قانون خاص دون غيره
شاب فلسفة المشرِّع المصري في صياغة قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات قدر كبير من الازدواجية، والقصور الشديد، والتناقض مع الدستور الساري بصورة عامة في أكثر من موضع، وجاء أهمها في الباب الثاني منه، الخاص بالأحكام والضوابط الإجرائية؛ التي قصر تطبيقها على الجرائم الواردة فيه فقط دون أن تمتد إلى غيرها من الجرائم في أي قانون آخر.
وذلك نظرًا لأن الدليل الرقمي يفترض وجوده في أي جريمة بشكل عام، ولا يقتصر فقط على جرائم تقنية المعلومات المنصوص عليها في القانون دون غيرها؛ فيجوز قبوله في أي من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات أو أي من القوانين العقابية الخاصة، كما أن جرائم تقنية المعلومات يجوز إثباتها بالدليل التقليدي، سواء كان دليل مادي أو قولي، ولا يوجد ما يمنع ذلك.4
ومن المسلم به أن القواعد والضمانات الإجرائية يجب أن تكون عامة بشأن الجرائم المعاقب عليها، إعمالًا للحق في المحاكمة العادلة، والمساواة بين المواطنين أمام القانون؛ حيث ينص الدستور الساري في المادة (53) على أن “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر” كما ينص في المادة (٩٥) على أن “العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون” وفي المادة (٩٦) على أن “المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه“.
لذلك فلا يتصور أن يدان شخص في جريمة ما لوجود دليل مشروع على ارتكابه لها، بينما ذات الدليل يكون غير مشروع في جريمة اخرى فلا يصلح كسند يقيني لإدانة شخص آخر؛ نظرًا لأن مفهوم الدليل الجنائي يستقل عن الجريمة التي يستخدم لإثباتها.
ثانيًا: مخالفة القواعد الدستورية من خلال تفويض السلطة التنفيذية في المساس بالحريات الشخصية
أحال المشرِّع شروط وضوابط مشروعية الدليل الرقمي في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والتي تضفي عليه ذات حجية الدليل المادي في الإثبات الجنائي، إلى اللائحة التنفيذية للقانون التي اختص رئيس مجلس الوزراء بإصدارها خلال ثلاثة أشهر من تاريخ العمل به. وقد جاء ذلك على خلاف القواعد الدستورية، وعلى رأسها مبدأ الشرعية الجنائية، فبموجب هذه القواعد اختص البرلمان وحده، دون غيره بسلطة التشريع وإقرار القوانين5. وعلى الرغم من الاختصاص الدستوري لرئيس مجلس الوزراء بإصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين6، فإن القوانين الجنائية هي قوانين منظمة للحريات. ومن المسلم به أنها المنظمة لكافة القواعد الإجرائية منذ تحريك الدعوى الجنائية حتى صدور حكم بات فيها، وهي التي تنظم إجراءات التنفيذ العقابي بوصفها المجال الطبيعي للمساس بالحرية تنفيذًا للحكم القضائي. وبالإضافة إلى ذلك، أن القواعد الإجرائية في حقيقة الأمر تعتبر من المبادئ العامة التي تحكم القوانين العقابية، فلا يمكن تطبيق قواعد العقابية بغير قواعد إجرائية، وإذا كانت المبادئ العامة للقوانين العقابية تحكم نطاق الجرائم والعقوبات، فإنها تخضع كذلك حتمًا لمبدأ الشرعية؛ ولذلك فلا يجوز للمشرع أن يتنازل عن اختصاصه بتحديد قواعد الإجراءات الجنائية بجميع أنواعها، وذلك لاتصالها بالحرية الشخصية للأفراد، فإذا جاء القانون وفوض السلطة التنفيذية المكلفة بتنفيذ القانون أو تطبيقه في وضع قواعد إجرائية معينة، فإنه يكون مخالفًا للدستور.7
وعلى الرغم من تبني البعض لوجه نظر تحاول في ظاهرها إيجاد تبريرًا لتفويض المشرع السلطة التنفيذية في وضع ضوابط وشروط مشروعية الدليل الرقمي، استنادًا إلى القول بأننا أمام تطور تكنولوجي هائل في السنوات الأخيرة وسيستمر تطوره مستقبلًا بوتيرة أسرع بكثير مما هو عليه الآن، وهو ما ينتج عنه فرض تغييرات تقنية كبيرة بين الحين والآخر، فيصعب معه وضع ضوابط فنية ثاتبة، من ثم يكون تفويض رئيس مجلس الوزراء في وضع ضوابط الدليل الرقمي ضمن مواد اللائحة التنفيذية للقانون أيسر في إدخال أي تعديلات عليها.
لكن هذا التبرير قائم على إنكار مبدأ الفصل بين السلطات، ويغفل عمدًا عن الاختصاص الأصيل للسلطة التشريعية وحدها بإقرار القوانين؛ فسرعة التطور التكنولوجي والتغيرات التقنية السريعة بالضرورة تجعل التشريعات في حاجة مستمرة إلى مراجعة وإدخال أي تعديلات عليها تتناسب مع ما يستجد من تطور، ولا يمكن إنكار ذلك، لكن السلطة المخول لها تعديل التشريعات القائمة واستحداث ما يلزم من تشريعات هي السلطة التشريعية وحدها دون غيرها، وعلى وجه خاص تحتكر وحدها كل تشريع يمس الحقوق والحريات الشخصية التي يكفلها الدستور، والتي من بينها القواعد الإجرائية للقوانين الجنائية، والتي تتضمن النصوص الحاكمة والمنظمة لضوابط وشروط مشروعية الدليل الجنائي الرقمي.
مدى التزام النيابة العامة بضوابط وشروط مشروعية الدليل الجنائي الرقمي
على الرغم من انقسام هذا القانون – كأحد القوانين الجنائية الخاصة – بشكل رئيس إلى قسمين: الأول يتضمن أحكام وقواعد إجرائية خاصة، والثاني يتضمن الجرائم والعقوبات، إلا أن النيابة العامة حرصت في السنوات الثلاث الأخيرة على تفعيل مواد التجريم والعقاب في القانون، دون غيرها من المواد الإجرائية التي هي الضمانة الرئيسة في هذا القانون لتنظيم وضبط مشروعية الإجراءات الماسة بالحقوق والحريات الدستورية، ومنها الحرية الشخصية، والحق في الخصوصية، وحرمة الحياة الخاصة، وحرمة المسكن، والحق في الحياة الآمنة، المنصوص عليهم في المواد 54 و57 و58 و59 من الدستور الساري.8
ومع صدور اللائحة التنفيذية للقانون9، التي تضمنت في مادتيها التاسعة والعاشرة شروط وضوابط حجية الدليل الرقمي، توسعت النيابة العامة – على غير المتوقع – توسعًا شديدًا في تطبيق مواد التجريم والعقاب، دون غيرها من المواد الإجرائية، وغضت الطرف عن شروط وضوابط حجية الدليل الرقمي، وإجراءات البحث والتفتيش والنفاذ إلى برامج الحاسب وقواعد البيانات وغيرها من الأجهزة، وضبط وسحب وتتبع والتحفظ على البيانات والمعلومات الموجودة بها أو بأي دعامة إلكترونية أو أي مكان موجودة فيه10. واستمرت تحقيقاتها وقرارت الإتهام الصادرة عنها في الاستناد إلى محاضر جمع الاستدلالات الصادرة عن الإدارة العامة لتكنولوجيا المعلومات التابعة لوزارة الداخلية بدلًا من تقارير جهة الخبرة الفنية المختصة وفقًا لأحكام القانون ولائحته التنفيذية.
وهذا النهج الذي تتبعه النيابة العامة، ليس مجرد توجه فردي يمكن حصره في بعض التحقيقات التي تتولاها، أو في إحدى النيابات على حدى، بل يبدو أنه نهج معمم في النيابة العامة، وقد انعكس ذلك بصورة واضحة في البيانات الصادرة عن النيابة العامة بشأن التحقيق في بعض القضايا ذات الشهرة الإعلامية، وخاصة منذ إنشاء النائب العام لإدارة “البيان والتوجيه” ووحدتها الأهم وهي وحدة “الرصد والتحليل”.
فقد توسعت النيابة العامة كثيرًا في إسناد الاتهام بارتكاب جرائم تقنية المعلومات، دون التحقق من وجود دليل رقمي مشروع لإسناد الاتهام، مكتفية بما تضمنته أوراق القضايا من محاضر جمع الاستدلالات الصادرة عن الإدارة العامة لتكنولوجيا المعلومات التابعة لوزارة الداخلية، وما يساندها من دليل قولي متمثل في أقوال المجني عليه أو المبلغ أو اعتراف المتهم، دون التطرق لمدى صحة أو مشروعية أي منهم؛ وأحالت للمحاكم الاقتصادية العديد من الدعاوى الجنائية المتضمنة اتهامات بارتكاب جريمة أو أكثر من جرائم تقنية المعلومات وفقًا لهذا السياق.
مدى التزام المحاكم الاقتصادية بضوابط وشروط مشروعية الدليل الجنائي الرقمي
على الرغم من اجتهاد الدوائر الجنائية للمحاكم الاقتصادية في تفسير مواد التجريم والعقاب في القانون، باعتبارها المحاكم المختصة بنظر جرائم القانون11، مما كان له أثر كبير على مواجهة توسع النيابة العامة في توجيه الإتهامات بارتكاب هذا القانون، إلا أن المحاكم لم تختلف كثيرًا عن النيابة العامة في موقفها من الأحكام والقواعد الإجرائية في هذا القانون، وعلى وجه خاص ما يتعلق بضوابط وشروط مشروعية الدليل الرقمي.
واستنادًا لمبدأ حرية القاضي الجنائي في تكوين عقيدته، وحريته في الإثبات في ضوء أي من الأدلة المشروعة المطروحة عليه في الدعوى12، ومحاولة من – هذه المحاكم – لإقامة الدليل الجنائي على ارتكاب جريمة من جرائم تقنية المعلومات، والحيلولة دون تحملها عبء التحقق من مشروعية وصحة إجراءات البحث والتفتيش والنفاذ إلى الأجهزة والبرامج وضبط وسحب وتتبع والتحفظ على البيانات والمعلومات، وعبء التحقيق من وجود الدليل الرقمي المشروع ومراعاة شروطه وضوابطه، فقد اكتفت هي الأخرى عند تسبيب أي من أحكامها الصادرة بالإدانة بارتكاب جريمة13، بما تضمنته أوراق الدعوى الجنائية من محاضر جمع الاستدلالات الصادرة عن الإدارة العامة لتكنولوجيا المعلومات، والاستعلام الوارد من شركات الاتصالات، وما يساندهما من دليل قولي متمثل في أقوال المجني عليه أو المبلغ أو اعتراف المتهم.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، أدانت محكمة القاهرة الاقتصادية أحد المتهمين بارتكاب جريمة الاعتداء على بريد إلكتروني خاص بآحاد الناس، واستندت في قضائها بالإدانة إلى أدلة إثبات قالت أنها استخلصتها من وقائع الدعوى واطمئنت إليها، وجاء من بين هذه الأدلة الآتي:
“ما جاء بتقرير الفحص الفني الصادر من الإدارة العامة لتكنولوجيا المعلومات أولًا: بفحص الهاتف المحمول الأول تبين أن مالكه مثبت تطبيق موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك ويمتلك عدد ثلاثة حسابات أحدهم مغلق ويحمل اسم ….. والثاني يحمل اسم ….. والثالث يحمل اسم …..
ثانيًا: بفحص الرسائل الخاصة بحساب ….. تبين قيام مالك الهاتف بإرسال العديد من الرسائل إلى حساب آخر يحمل اسم …… ووجود العديد من الرسائل التي يقوم فيها العديد من الأشخاص بالاستفسار من مالك الهاتف عن كيفية السفر إلى إيطاليا عن طريق شخص يدعى ….. وقيام مالك الهاتف بطمئنة هؤلاء الأشخاص من أنهم سيقوموا بالسفر“.14
ويعد هذا الحكم أحد الأمثلة الكاشفة عن نهج جهات التحقيق والمحاكمة، وموقفهما السلبي من الالتزام بحماية الحق الدستوري للمواطنين في حماية خصوصياتهم وحرمة حيواتهم الخاصة وحرمة مراسلاتهم الإلكترونية، وحظر الاطلاع عليها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وكذلك موقفهما السلبي من الالتزام القانوني بتطبيق الأحكام والقواعد الإجرائية في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، المنصوص عليها في المادتين الخامسة والسادسة من هذا القانون، والتي تنظم ضوابط وإجراءات البحث والتفتيش والنفاذ إلى المراسلات والحسابات الإلكترونية وبرامج الحاسب وقواعد البيانات وغيرها من الأجهزة، وضبط وسحب وتتبع والتحفظ على البيانات والمعلومات الموجودة بها، والتي اشترطت للقيام بأي من تلك الإجراءات أو غيرها، توافر أمر قضائي مسبب، لمدة لا تزيد على ثلاثين يومًا، قابلة للتجديد لمرة واحدة، لأحد مأموري الضبط المختصين – الذين منحوا صفة الضبطية القضائية وفقًا لأحكام المادة الخامسة من القانون. بالإضافة إلى موقفهما السلبي من الالتزام بشروط وضوابط حجية الدليل الرقمي، المنصوص عليها في مادته الحادية عشر، والمادتين التاسعة والعاشرة من لائحته التنفيذية.
ويتجلى هذا الموقف السلبي في أن المحكمة – في المثال السابق – قد تجاوزت هذه الضوابط، واستندت إلى دليل غير مشروع في إدانة المتهم، على الرغم من أن القواعد الإجرائية غايتها الوصول للحقيقة دون عدوان على أي من الحقوق والحريات ويترتب البطلان على مخالفة أي منها، وكان واجبًا على المحكمة من تلقاء نفسها ألا تعول على هذا الدليل الناتج عن إجراء غير مشروع، حتى وإن لم يدفع بذلك أي من الخصوم، لتعلقه بالنظام العام، نظرًا لكون الحقوق والحريات التي كفلها الدستور وكل ما يتعلق بالتنظيم الدستوري لسلطات الدولة في قمة النظام العام، من ثم يعد البطلان المترتب على مخالفة أي منها متعلقًا بالنظام العام.15
ويضاف لذلك أن كل إجراء يترتب عليه المساس بأي من هذه الحقوق والحريات هو إجراء جوهري، وليس مجرد إجراء تنظيمي أو إرشادي، لذلك فكان على المحكمة أن تستخلص كل بطلان متعلق بالنظام العام سواء نص عليه المشرِّع أو لم ينص عليه، ما دامت الحقوق والحريات التي انتهكها الإجراء الباطل، الذي تولد عنه هذا الدليل غير المشروع، تستمد حمايتها من الدستور ذاته.16
وعلى الجانب الآخر، فمنذ سريان قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات يوجد تراجع كبير من جانب دفاع المتهمين بارتكاب إحدى جرائم هذا القانون في إثبات الدفوع الإجرائية بشكل عام، وبشكل خاص ما يتعلق منها بمدى مشروعية الدليل الرقمي وضوابطه، على الرغم من أنها الضامن للتطبيق الأمثل لأحكام هذا القانون والضامن لحماية المتهمين من أي محاولة للمساس التعسفي بحقوقهم وحرياتهم الدستورية. ويغلب على الدفاع اللجوء إلى الدفوع الموضوعية المتعلقة بنفي ارتكاب السلوك الإجرامي فقط أو استعمال الرأفة، دون التطرق إلى مدى مشروعية الأدلة والقرائن المطروحة في الدعوى محل المحاكمة.
الأثر التشريعي لعدم تطبيق ضوابط الدليل الجنائي الرقمي
وفقًا لما تقدم من محاولة لاستعراض السياق التشريعي للدليل الجنائي الرقمي، وبيان عدم التزام السلطة التشريعية المسئولة عن إقرار هذا القانون بضوابط التشريع الجنائي، وما نتج عن ذلك من المظاهر الواضحة للقصور التشريعي الشديد في صياغة النصوص الحاكمة والمنظمة للدليل الجنائي الرقمي، المتمثلة في قصر القواعد الإجرائية المتعلقة بالبحث والحصول عليه على قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات باعتباره قانون خاص دون غيره، ومخالفة القواعد الدستورية في تفويض السلطة التنفيذية في المساس بالحريات الشخصية والحق في الخصوصية وحرمة الحياة الخاصة من خلال جعل ضوابط وشروط مشروعية الدليل الرقمي بيد السلطة التنفيذية، وكذلك عدم التزام السلطة القضائية الممثلة في كل من النيابة العامة والمحاكم الاقتصادية بضوابطه وشروط مشروعيته، يتبين انعدام أي قيمة قانونية فعلية للدليل الجنائي الرقمي. والأمر لا يعدو كونه نصوص قانونية لا أثر إيجابي لها في الواقع، وكذلك في الجرائم التي يفترض أنها تضمن هذا الدليل الرقمي. استمرار هذا القانون يمثل في حقيقة الأمر إهدار لبعض الضمانات والحقوق الدستورية، ويجب على المشرِّع إعادة النظر في هذا القانون، وإلغائه، على أن يحل محله استحداث مواد جديدة تضاف لقانون الإجراءات الجنائية، وتضع تعريف أكثر وضوحًا للدليل الرقمي وضوابطه وشروطه دون إحالة إلى سلطة أخرى غير مختصة بتشريع القانون الجنائية الماسة بحريات الأفراد، حتى يتنسى امتداد الدليل الجنائي الرقمي للجرائم كافة، دون قصره على جرائم دون غيرها أو قوانين دون غيرها، مما يخل بعمومية الضمانات الإجرائية، وإهدار الحقوق والحريات الدستورية.
الهوامش
1 القانون رقم 175 لسنة 2018، في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، الجريدة الرسمية، العدد 32 مكرر (ج) في 14 أغسطس 2018.
2 تقرير صادر عن اللجنة المُشتركة من لجنة الاتصالات ومكتبي الشئون الدستورية والتشريعية والدفاع والأمن القومي، بتاريخ مايو 2018.
3 الطعن بالنقض رقم ٤٣٦٥ لسنة ٧٠ ق – الدوائر الجنائية – جلسة ٢٠٠٨/٠٧/١٩.
4 د. أشرف توفيق شمس الدين، الدليل الجنائي الإلكتروني دراسة مقارنة، ط1، 2021، ص67.
5 تنص المادة 101 من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية على أن “يتولى مجلس النواب سلطة التشريع، وإقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على النحو المبين فى الدستور”
6 تنص المادة 170 من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية على أن “يصدر رئيس مجلس الوزراء اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين بما ليس فيه تعطيل، أو تعديل، أو إعفاء من تنفيذها، وله أن يفوض غيره فى إصدارها، إلا إذا حدد القانون من يصدر اللوائح اللازمة لتنفيذه.
7 د. أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق، ط 2000، ص 422 وما بعدها.
8 تنص المادة 54 من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية دستور جمهورية مصر العربية، المعدل بموجب القرار الصادر عن الهيئة العليا للانتخابات رقم 38 لسنة 2019، الجريدة الرسمية، العدد 16 مكرر (و) في 23 إبريل 2019، على أن “الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق.
ويجب أن يُبلغ فورًا كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويُمكّن من الاتصال بذويه و بمحاميه فورًا، وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة من وقت تقييد حريته.
ولا يبدأ التحقيق معه إلا فى حضور محاميه، فإن لم يكن له محام، نُدب له محام، مع توفير المساعدة اللازمة لذوى الإعاقة، وفقًا للإجراءات المقررة فى القانون. ولكل من تقيد حريته، ولغيره، حق التظلم أمام القضاء من ذلك الإجراء، والفصل فيه خلال أسبوع من ذلك الإجراء، وإلا وجب الإفراج عنه فورًا.
وينظم القانون أحكام الحبس الاحتياطى، ومدته، وأسبابه، وحالات استحقاق التعويض الذى تلتزم الدولة بأدائه عن الحبس الاحتياطى، أو عن تنفيذ عقوبة صدر حكم بات بإلغاء الحكم المنفذة بموجبه.
وفى جميع الأحوال لا يجوز محاكمة المتهم فى الجرائم التى يجوز الحبس فيها إلا بحضور محام موكل أو مُنتدب”
وتنص المادة 57 منه على أن “للحياة الخاصة حرمة, وهى مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائى مسبب، ولمدة محددة، وفى الأحوال التى يبينها القانون. كما تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين فى استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها , ولا يجوز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها، بشكل تعسفى، وينظم القانون ذلك”
وتنص المادة 58 منه على أن “للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطـر، أو الاستغاثة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائى مسبب، يحدد المكان، والتوقيت، والغرض منه، وذلك كله فى الأحوال المبينة فى القانون، وبالكيفية التي ينص عليها، ويجب تنبيه من فى المنازل عند دخولها أو تفتيشها، وإطلاعهم على الأمر الصادر فى هذا الشأن”.
وتنص المادة 59 منه على أن “الحياة الآمنة حق لكل إنسان، وتلتزم الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة لمواطنيها، ولكل مقيم على أراضيها”.
9 قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1699 لسنة 2020، بشأن إصدار اللائحة التنفيذية للقانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، الجريدة الرسمية، العدد 35 تابع (ج) في 27 أغسطس 2020.
10 تنص المادة (6) من القانون على أن “لجهة التحقيق المختصة، بحسب الأحوال، أن تصدر أمراً مسبباً لمأموري الضبط القضائي المختصين، لمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً قابلة للتجديد لمرة واحدة، متى كان لذلك فائدة في ظهور الحقيقة على ارتكاب جريمة معاقب عليها بمقتضى أحكام هذا القانون، بواحد أو أكثر مما يأتي:
1- ضبط أو سحب أو جمع أو التحفظ على البيانات والمعلومات أو أنظمة المعلومات أو تتبعها في أي مكان أو نظام أو برنامج أو دعامة إلكترونية أو حاسب تكون موجودة فيه، ويتم تسليم أدلتها الرقمية للجهة مصدرة الأمر، على ألا يؤثر ذلك على استمرارية النظم وتقديم الخدمة إن كان لذلك مقتض.
2- البحث والتفتيش والدخول والنفاذ إلى برامج الحاسب وقواعد البيانات وغيرها من الأجهزة والنظم المعلوماتية تحقيقا لغرض الضبط.
3- أن تأمر مقدم الخدمة بتسليم ما لديه من بيانات أو معلومات تتعلق بنظام معلوماتي أو جهاز تقني موجودة تحت سيطرته أو مخزنة لديه، وكذا بيانات مستخدمي خدمته وحركة الاتصالات التي تمت على ذلك النظام أو الجهاز التقني.
وفي كل الأحوال، يحب أن يكون أمر جهة التحقيق المختصة مسببا.
ويكون استئناف الأوامر المتقدمة أمام المحكمة الجنائية المختصة منعقدة في غرفة المشورة، في المواعيد ووفقا للإجراءات المقررة بقانون الإجراءات الجنائية
11 تنص المادة رقم 4 من القانون رقم 120 لسنة 2008 بإنشاء المحاكم الاقتصادية المعدل بالقانون رقم 146 لسنة 2019، الجريدة الرسمية، العدد 31 مكرر (و)، 7 أغسطس 2019 على أن “مع عدم الإخلال بالاختصاصات المقررة للمحاكم الاقتصادية المنصوص عليها في أي قانون آخر، تختص المحاكم الاقتصادية بدوائرها الابتدائية والاستئنافية، دون غيرها، نوعيا ومكانيا بنظر الدعاوى الجنائية الناشئة عن الجرائم المنصوص عليها في القوانين الآتية: … (21) قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات”.
12 تنص المادة رقم 302 من قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950، الوقائع المصرية، العدد 90، 15 أكتوبر 1951، وتعديلاته، على أنه “يحكم القاضى فى الدعوى حسب العقيدة، التى تكونت لديه بكامل حريته، ومع ذلك لا يجوز له أن يبنى حكمه على أى دليل لم يطرح أماه فى الجلسة. وكل قول يثبت أنه صدر من أحد المتهمين أو الشهود تحت وطأه الإكراه أو التهديد به يهدر ولا يعول عليه”
13 تنص المادة رقم 310 من ذات القانون السابق على أنه “يجب أن يشتمل الحكم على الأسباب التي بني عليها، وكل حكم بالإدانة يجب أن يشتمل على بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة، والظروف التي وقعت فيها، وأن يشير إلى نص القانون الذي حكم بموجبه.
14 حكم محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 19 إبريل 2022، الدعوى رقم 583 لسنة 2022 جنح اقتصادية.
15 د. أحمد فتحي سرور – الحماية الدستورية للحقوق والحريات – دار الشروق – ط2 – 2000 – ص 789 ما بعدها.
16 د. أحمد فتحي سرور – الوسيط في الإجراءات الجنائية – الكتاب الأول – دار النهضة العربية – ط 10 مطورة – 2016 – ص 636.