مقدمة
ليس الفضاء السيبراني فضاءًا ماديًا. فلا يمكنك الدخول إليه بجسدك. ولكننا نختبره وكأنه مجرد فراغ آخر يمكننا الذهاب إليه ودخوله، وإمضاء الوقت فيه. ونحن نستخدم تعبيرات مثل “ذهبت إلى تويتر أو إنستجرام.” في خبرتنا، الفضاء السيبراني هو عالم مليء بالأماكن التي يمكننا زيارتها وملاقاة أناس آخرين في كل منها. في الواقع، كثير منا يمضي وقتًا أطول في الفضاء السيبراني مما يمضيه بأي مكان آخر. هذا ﻷن بإمكاننا أن نكون هناك في نفس الوقت الذي نكون فيه بأجسادنا في أي مكان في العالم الواقعي. وهذا أيضًا يعني أننا نعايش الآخرين في الفضاء السيبراني أكثر مما نفعل في أماكن العالم الواقعي، حتى هؤلاء الذين نعرفهم في العالم الواقعي من أفراد عائلاتنا، وزملاء العمل، والأصدقاء.
الفضاء السيبراني هو من ذلك النوع من اﻷماكن التي هي أيضًا فراغات اجتماعية، تمامًا مثل منزل اﻷسرة، والمدرسة أو مكان العمل. كل منا يلاحظ أنه في كل واحد من هذه اﻷماكن هو شخص مختلف، ربما قليلًا أو كثيرًا. نحن لا نتصرف في مكان عملنا كما نفعل بالبيت. سواء كان ذلك عن وعي أو بدونه، نحن نتنقل بين شخصيات مختلفة بينما نتنقل بين اﻷماكن المختلفة، أو لنكون أكثر دقة، بينما نتنقل بين فراغات اجتماعية مختلفة.
ما ندعوه “الشخصية” هو الواجهة المرئية لهويتنا. وبينما نتنقل بشكل سلس بين شخصيات مختلفة نقدم أو نؤدي هويات مختلفة. هذه الهويات كلها مجندرة (أي أن لها خواص جندرية)، حيث أن الجندر يشكل جزءًا ضخمًا مما نكون، أي مما نظن، ويظن اﻵخرون، أنه نحن، أو كيف ندرك ويدرك اﻵخرون هوياتنا. فاﻵخرون يدركون معظم إن لم يكن كل خواصنا المادية والاجتماعية، سلوكياتنا، طريقة تصرفنا، في كلامنا وإيمائاتنا وتعبيراتنا إلخ، من خلال عدسة الجندر الذي يعتقدون أنه يخصنا.
بقدر ما تبدو المناقشة السابقة بسيطة، فهي تتجنب كثيرًا من التفاصيل الخلافية. على سبيل المثال، في حين أن لا أحد سيجادل في أننا نقدم شخصيات مختلفة بينما نتحرك من مكان إلى اﻵخر، معظم الناس يعتقدون مع ذلك أننا بطبيعتنا أو في أعماقنا، كل منا هو الشخص نفسه. بعبارة أخرى، يعتقد معظم الناس أنه مهما كان عدد الشخصيات التي يمكن لأي منا أن يقدمه للآخرين، ثمة شخصية واحدة هي شخصيته الحقيقية. ومع ذلك، فالنظرة العلمية المقبولة بصفة عامة هي أن تصوراتنا الخاصة بهوياتنا الحقيقية هي نفسها مبنية اجتماعيًا. العملية التي من خلالها نكتسب هوايتنا، بما في ذلك هوياتنا الجندرية، تستمر طيلة حياتنا. وبقدر وزن العوامل المؤثرة للتفاعلات الاجتماعية التي ننخرط فيها، فالتغييرات الطارئة على هوياتنا قد تكون محدودة للغاية ومهمَلة، أو قد تكون هائلة.
تعتمد هذه الورقة على الدليل العلمي لتطرح أنه باعتبار أن باﻹمكان إثبات أن الفضاء السيبراني هو فراغ اجتماعي، فيمكن أن نفترض بشكل آمن أنه يؤثر على تشكيل الهويات الجندرية لمن يتفاعلون مع بعضهم البعض داخله. وهي أيضًا تعتمد على الدليل العملي من الأبحاث السابقة التي درست الممارسات الجندرية على اﻹنترنت، خاصة الأبحاث اﻷحدث التي ركزت على منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر. كما تتجه الورقة إلى فحص أمثلة مختلفة لممارسات وتقدمات جندرية بعينها بينما كانت تتطور عبر العقود الثلاثة اﻷخيرة. يلقي هذا الضوء على حقيقة أنه في ظل تأثير التواصل الذي يتوسط فيه الفضاء السيبراني، تغيرت الطريقة التي يعبر بها الناس عن جندريتهم على اﻹنترنت. وفي خاتمتها تناقش الورقة سؤال ما إذا كانت عمليات المعايشة في الفضاء السيبراني يمكن اعتبارها ممكنة للنساء أو العكس.
خلفية نظرية
الفراغ الاجتماعي هو أحد مفاهيم علم الاجتماع، وهو يسمح لنا بدراسة التفاعلات الاجتماعية الخاصة بجماعة من الناس تتوقف عضويتهم بهذه الجماعة على شروط بعينها، وهم كذلك مطالبون بالالتزام بحزمة من القواعد حتى يحصلوا على المزايا المتوقعة لانتمائهم إلى هذه الجماعة. أمثلة الفراغات الاجتماعية في العالم الواقع هي العائلة، المدرسة، مكان العمل، إلخ. هؤلاء الذين يشكلون عائلة، ومن ينتمون إلى مدرسة (الطلبة، المدرسون، وبقية العاملين بالمدرسة)، أو المنتمون إلى مكان عمل، هم أمثلة على الجماعات التي يمكن دراسة تفاعلاتها باستخدام مفهوم الفراغ الاجتماعي. مفهوم قريب للغاية وإن لم يكن مطابقًا هو مفهوم “الحقل الاجتماعي” كما قدمه عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي بيير بورديو. نظرية الحقول الاجتماعية لبورديو تتعمق أكثر في تحويل المواقع التي يتخذها الناس، والعلاقات التي يدخلون فيها مع بعضهم البعض داخل الحقل إلى موضوعات للدراسة. بعض من المناقشة التالية في هذه الورقة تعتمد على هذه النظرية.
مفهوم آخر له أهمية كبيرة للمناقشة التي تطرحها هذه الورقة هو مفهوم “المعايشة”، وهي العملية التي من خلالها يتعلم الفرد ويتمثل القواعد السلوكية والممارسات والقيم الثقافية لمجتمعه. من خلال المعايشة يكتسب الناس هويات يمكن التعرف عليها (فهمها ومن ثم قبولها) في مجتمعاتهم. هذه القابلية للتعرف ضرورية للعيش في مجتمع أو أي من الفراغات الاجتماعية الفرعية فيه. عمليات التعلم والتمثل في المعايشة تشكل هوية الفرد، أو على نحو أكثر دقة، هوياته. بين اﻷكثر أهمية من هويات الفرد هما هويتاه الجنسية والجندرية. مثل الهويات اﻷخرى، تتشكل الهوية الجندرية وكذلك يتشكل إدراك الفرد لها من خلال التفاعلات الاجتماعية في الفراغات الاجتماعية التي يتنقل فيما بينها خلال حياته.
كونها عملية تعلم يعني أن المعايشة هي عملية مستمرة لا تنتهي إلا بنهاية حياة الفرد. ولكنها لا تعني أن المعايشة هي عملية في اتجاه واحد. الدراسات الأحدث تتبنى في معظمها رؤية تعتبر المعايشة عملية تفاوض يلعب الفرد فيها دورًا نشطًا في مقابل جماعته. هذا منطقي حيث أن المعايشة هي عملية جماعية يقوم كل فرد فيها بكل من تعليم بقية أعضاء الجماعة والتعلم منهم. ويعتمد قدر أداء كل فرد لدور المعلم أو المتعلم على عوامل كثيرة ولكن الأقدمية وعلاقات السلطة التي تعرفها بنية الفراغ الاجتماعي ومواقعه تلعب الدور اﻷكثر أهمية في ذلك.
الفراغ الاجتماعي هو السياق الحاكم الذي في إطاره تتم عملية المعايشة. ولذلك تتعرف هذه العمليات بهذا الفراغ الاجتماعي الذي تتطور فيه.
الفضاء السيبراني كفراغ اجتماعي
الفضاء السيبراني له شروط عضوية أو دخول متساهلة. بصفة عامة، لا يتطلب أكثر من إمكانية الوصول إلى شبكة اﻹنترنت. في أيامنا هذه لا يخبرنا ذلك بالكثير عن الشخص. أغلب سكان العالم اليوم يمكنهم الوصول إلى الإنترنت. وبالتالي الفضاء السيبراني هو أقرب إلى المجتمع ككل عندما ننظر إليه كفراغ اجتماعي، أي أنه أقرب إلى حاوية للفراغات الاجتماعية المتفرعة عنه والتي لها عمليات معايشة أكثر تحددًا ومن ثم قابلة لأن تكون موضوعات للدراسة بسهولة أكبر. مع ذلك، مثل مجتمعات العالم الواقعي يظل للفضاء السيبراني خواص عامة مشتركة بين كل فراغاته الفرعية، والتي تسمح بنوع من الخبرة الموحدة عبرها جميعًا.
الخاصية اﻷولى للفضاء السيبراني هي أن كل الاتصالات والتفاعلات بين الناس فيه يتوسط فيها الحاسوب. ونعني بالحاسوب هنا أي جهاز له قدرات معالجة للبيانات ويمكن أن يتصل بشبكة اﻹنترنت. بذلك التعريف، الحواسيب الشخصية (حواسيب سطح المكتب، الحواسيب المحمولة، والحواسيب اللوحية)، وكذلك الهواتف وأجهزة التلفاز الذكية هي جميعًا حواسيب. الدخول إلى الفضاء السيبراني يتطلب امتلاك أو إمكانية الوصول إلى واحد على اﻷقل من هذه الأجهزة. وكما ذكر سابقًا، لم يعد هذا يشكل عائقًا بالنسبة لغالبية سكان العالم من حيث القدرة المالية. ولكن الخبرة الفنية في استخدام الحواسيب تتفاوت بشكل واسع، وهي تؤثر بشكل كبير على كيف يمكن للأفراد التجوال بين الفراغات الفرعية المختلفة للفضاء السيبراني، وكيف يمكنهم التفاعل مع اﻵخرين في هذه الفراغات. على وجه خاص، مع تحول الفضاء السيبراني إلى الاعتماد المتزايد على الوسائط المتعددة، أي سماحه باستخدام وسائط تواصل غير النص المكتوب، أصبحت الأجهزة المتصلة باﻹنترنت أكثر تعقيدًا أكثر فأكثر. وأصبح تحكم الشخص في حضوره على اﻹنترنت عملية أكثر تطلبًا. هذا يتناقض مع الرؤية اﻷكثر شعبية وهي أن الحواسيب قد أصبحت أكثر سهولة في التعامل معها بالنسبة لمستخدميها. وفي الواقع، تحافظ البرمجيات ونظم التشغيل بصفة خاصة على هذه الواجهات الأكثر سهولة التي يتعامل المستخدم من خلالها مع حاسوبه وأجهزته بإخفاء التفاصيل المعقدة على حساب حرمان المستخدم من السيطرة الحقيقية على الجهاز.
هذا الجانب، الذي عادة ما يتم إغفاله، من خبرة الناس بالفضاء السيبراني هي مهمة للغاية في مناقشتنا هنا. ففي حين أن الفجوة الجندرية من حيث إمكانية الوصول إلى اﻹنترنت قد أغُلِقت في مساحات واسعة من العالم، وهي تنغلق بسرعة في مناطق أخرى، فالفجوة الجندرية من حيث الخبرة الفنية هي أبعد ما تكون عن الانغلاق. مع إضافة حقيقة أن الحفاظ على اﻷمن الرقمي لا يزال يعتمد على وعي المستخدم وخبرته الفنية، يكون هذا في الواقع عامل خفي لم تتم دراسته بشكل كاف من بين العوامل التي تؤدي إلى أن يظل الفضاء السيبراني غير أمن بقدر كاف لأغلب الفتيات والنساء.
خاصية أخرى للفضاء السيبراني هي أن الناس عندما يتفاعلون فيه يكون لديهم سيطرة أكبر على الطريقة التي يقدمون بها أنفسهم إلى اﻵخرين. يمكن للشخص أن يختار نشر هذه الصورة أو تلك له سواء كان ذلك مع تعديلها أو بدونه، كما يمكنه أن يسرد هذه أو تلك المعلومات الحقيقة أو المفبركة تمامًا عن نفسه، ويمكنه أن يعدل هذا الجانب أو ذاك لفيديو مسجل أو حي له، إلخ. هذه الخاصية لتفاعلات الفضاء السيبراني هي غاية في اﻷهمية عندما يتعلق اﻷمر بالخيارات المتاحة لسكانه لإنشاء وتقديم هوياتهم على اﻹنترنت وكذلك الطريفة التي ينعكس بها ذلك على كيف يتشكل إدراكهم لهوياتهم وكذلك لهويات الآخرين في إطار كل من الفضاء السيبراني وكذلك في العالم الواقعي.
تطور التعبير الجندري على اﻹنترنت
يمكن تعريف ثلاث مراحل رئيسية لتطور التعبيرات الجندرية على اﻹنترنت وهي تقابل التطورات التي لحقت بتكنولوجيات اﻹنترنت واستخداماتها. المرحلة اﻷولى هي ما يمكن أن ندعوه بما قبل التاريخ أو اﻹنترنت العتيق. وهو ذلك الوقت الذي بدأ عندما لم يكون للإنترنت وجود بهذا الاسم ويستمر حتى نشأة الوب. شبكة أربانت وهي شبكة مملوكة لوزارة الدفاع اﻷمريكية لم يكد يكن يتصل بها أي نساء. ندرة النساء المتصلات بالإنترنت استمرت حتى أوائل التسعينات حيث شكلت النساء حوالي 5% فقط من مستخدمي اﻹنترنت. تغير هذا مع قدوم المرحلة الثانية والتي بدأت بالازدهار التجاري للإنترنت في منتصف التسعينات. في عام 2000، كانت النساء المتصلات باﻹنترنت في الولايات المتحدة أكثر من الرجال المتصلين بها. لم يكن هذا بالطبع هو الحال في المناطق اﻷخرى من العالم. تبدأ المرحلة الثالثة مع قدوم تكنولوجيات الوب-2.0 والمواقع التفاعلية، المدونات ومنصات التواصل الاجتماعي. هذا، إضافة إلى انتشار الهواتف المحمولة الذكية، يؤشر لبداية ثورة في التفاعلات الاجتماعية على اﻹنترنت.
تميزت التعبيرات الجندرية على اﻹنترنت عبر هذه المراحل بكونها تكرار واستمرار ﻷغلب التصنيفات المضخمة stereotypes المتعلقة بالجندر والسائدة في مجتمعات العالم الواقعي. في المرحلة الأولى، وفق تجارب معدة سلفا، هيمن الرجال على التفاعلات في مجموعات النقاش، حتى مع الحفاظ على مجهولية هويات المشاركات/المشاركين1. وجد عديد من الأبحاث والتجارب المجراة في ذلك الحين أن الرجال كانوا يميلون لأن يكونوا عدائيين خاصة تجاه النساء. وشملت الفروق الجندرية بخلاف ذلك ميل الرجال إلى نشر رسائل أطول وإلى تحدي الآخرين. في المقابل، نشرت النساء رسائل أقصر وانحزن إلى الآخرين بدلا من تحديهم. على جانب آخر، لوحظ أن الأغلبية كان لها أثر على السلوك. في المجموعات المختلطة التي كان فيها أغلبية واضحة للرجال، مالت النساء إلى أن يكن أكثر عدائية. على الجانب المعاكس، في المجموعات المختلطة التي كان فيها أغلبية واضحة من النساء، مال الرجال إلى توفيق توجهاتهم مع الآخرين بدلًا من تحديهم.2
الدراسات التي أجريت في المرحلة الثانية وجدت تغيرًا محدودا في الاختلافات المبنية على الجندر. استمر الرجال في الهيمنة في الفراغات المختلطة على الإنترنت.3 مع ذلك، النساء المهنيات على المواقع المتخصصة في مجالهن المهني وجد أنهن يبادلن في سلوكهن بين الخطاب المتحدي والمنحاز.4 في دراسة لاحظت التفاعلات الاجتماعية في غرفتي دردشة للمراهقين، وجد الباحثون أن الفتيات كن واثقات جنسيًا في حين ظللن يملن إلى استخدام تعبيرات جنسية ضمنية مقارنة بالأولاد الذين كانوا أكثر صراحة5. مالت النساء إلى استخدام الأيقونات-الشعورية emoticons وعلامات التعجب بمعدل أكبر كثيرًا من الرجال.
شهدت المرحلة الثالثة التحرك نحو سيادة الاتصالات متعددة الوسائط في الفضاء السيبراني. إضافة إلى ذلك، أصبحت الإنترنت وسيط التواصل المهيمن ونشأ جيل جديد من الشابات والشباب في عالم أصبحت الإنترنت فيه جزءًا من الحياة اليومية، وشكل هذا الجيل أغلبية بين مستخدمي الإنترنت. أدت هذه العوامل إلى تغييرات ملحوظة في التعبيرات الجندرية على الإنترنت. يميل الناس بصفة عامة إلى الإفصاح عن المزيد من المعلومات الشخصية علنًا من خلال الفراغات الاجتماعية. مع ذلك، تميل الفتيات والنساء إلى نشر معلومات شخصية على حساباتهن على منصات التواصل الاجتماعي أكثر مما يفعل الرجال. الصور، ومقاطع الفيديو أصبحت الأدوات المهيمنة ليقدم الناس أنفسهم من خلالها على الإنترنت. مرة أخرى، تميل القتيات والنساء إلى نشر المزيد من الصور ومقاطع الفيديو الشخصية أكثر من الرجال.
لوحظ توجه خاصة على فراغات الألعاب على الإنترنت والتي يمثل المستخدمون فيها أنفسهم بشخصيات ثلاثية الأبعاد، حيث فضلت الإناث استخدام بل وتصميم شخصيات بملامح جسدية جنسية بارزة ومبالغ فيها6. يتوافق ذلك مع دراسات بحثية أخرى أوردت توجهًا بين النساء نحو استخدام صورًا محملة-جنسيا لأنفسهن على صفحاتهن الشخصية7. لوحظ أن التحميل-الجنسي للذات، وتسليع الذات قد أصبحا نوع من القاعدة المعتادة للفتيات والنساء على الإنترنت. الفتيات والشابات ينشرن بشكل متزايد صورًا ومقاطع فيديو شخصية يرتدين فيها ثيابا مكشوفة، يتحدثن، ويسلكن أو يرقصن بطريقة مثيرة جنسيًا. حقيقة أن هذا التوجه يصحبه الحركة في اتجاه تحويل خلق المحتوى على الإنترنت إلى مصدر للدخل يؤكد على تفسيره بتسليع الذات.
يمكن مع ذلك طرح أن التحميل-الجنسي-للذات الذي يكسر القواعد السائدة للحشمة القسرية المفروضة على الفتيات والنساء يمكن النظر إليه كممارسة لتمكين-الذات. يدعم ذلك تعبيرات جندرية أخرى تكسر أيضًا قواعد الحشمة دون أن تكون في الواقع مشكوك في إثارتها الجنسية مثل الحديث الصريح عن الدورة الشهرية واستخدام مفردات عامية صريحة عند الإشارة إلى الأعضاء الجنسية. مثل هذه التعبيرات الجندرية هي ممكنة للنساء من حيث أنهن لم يعدن يجدن من المقبول أن يكن مستخفيات بأنوثتهن كما لو كانت شيئا ينبغي إخفاؤه خجلًا منه. أن تكن صريحات حول جنسهن وجنسانيتهن يمكن أن يقع ضمن التعبيرات الجندرية الممكنة-ذاتيًا بهذا المعنى.
دور الخوارزميات
مسح المحتوى على أحد منصات التواصل الاجتماعي على الإنترنت خلال فترة زمنية لعزل التعبيرات الجندرية قد يكشف بشكل دقيق عن توزيع هذه التعبيرات عبر الفئات المختلفة لها مثل التصنيفات التضخيمية في مقابل الحيود عنها أو تحديها. هذا التوزيع مع ذلك لن يعكس الخبرات الحقيقية لمستخدمي المنصة حيث أن المحتوى الذي يتعرض كل منهم له يعتمد على عديد من العوامل الأخرى بخلاف مجمل التعبيرات الجندرية المنتجة. من بين هذه العوامل الحسابات التي يختار المستخدم متابعتها، ولكن عاملًا آخر أصبح له نفوذ متزايد هو سياسات إدارة المحتوى التي تتبعها الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي. يلعب هذا العامل دورًا حاسمًا في تحديد أي التعبيرات الجندرية سيكون المستخدم عرضة له أكثر من غيره. إضافة إلى ذلك فقد تحولت عمليات إدارة المحتوى والترويج له في معظمها إلى الأتمتة من خلال الخوارزميات. ونتيجة لذلك فقد أصبحت هذه الخوارزميات “تفرض تأثيرًا عميقًا على كيف يختبر الجندر، ويُحلل، ويعاد تدويره.”8
ثمة توجه نمت هيمنته بصفة خاصة منذ ظهور تطبيق تيك-توك للفيديوهات القصيرة وقد حول التركيز في المحتوى المقدّم للمستخدم من ذلك الذي ينشره الأشخاص والجهات التي يتابعها إلى المحتوى الذي تختاره لهم خوارزميات المنصة بناء على تحليلها لهوياتهم، وتفضيلاتهم، وتفاعلاتهم السابقة. هذه التوجه قد أدى في السنوات الأخيرة إلى أن يكون للخوارزميات تأثيرًا أكبر حتى مما كان لها سابقًا على المحتوى الذي من المتوقع أن يتعرض له المستخدمون.
واحدة من الدراسات المبكرة حول انحياز الخوارزميات أجرتها صفية أمية نوبل. في كتابها “خوارزميات القمع: كيف تدعم ماكينات البحث العنصرية” أظهرت نوبل أن خوارزميات البحث الخاصة بجوجل قد أعطت الأولوية للنتائج التي تعكس التصنيفات التضخيمية الجندرية والعنصرية التمييزية، ومن ثم فالبحث عن “النساء الملونات” قد أخرج في مقدمة نتائجه محتوى ذو طبيعة جنسية مبالغ فيها أو لمواقع إباحية. في تصور نوبل، انحياز الخوارزميات ناجم عن عمليات تصميهما وتدريبها والتي يقوم بها مطورو برمجيات في غالبيتهم العظمى من الذكور بيض البشرة. غياب النساء والملونين في المناصب ذات التأثير في شركات التكنولوجيا الكبرى يجعل من الصعب تلافي هذا الانحياز. وتنقل نوبل عن هيذر هيلز، وهي رئيسة سابقة لشركة تكنولوجيا قولها أن “النظام في سيليكون فالي هو نفسه غير معد لتطوير وتشجيع وخلق مسارات للسود واللاتينيين والنساء.”9
يتهم جوناثان شرودر في تعليق له خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي على الإنترنت بأنها تأخذ اتجاهًا مضادًا للتحولات الثقافية المتجهة نحو فهم للجندر يتحرر من ثنائية الذكر/الأنثى، وتعمل بدلًا من ذلك على إعادة تثبيت مفاهيم التصنيفات التضخيمية للجندر. وهو يقتبس عن دراسة ميدانية قامت بها كل من أنجا لامبريخت وكاثرين تاكر حيث نُشر إعلان عن فرص توظيف في مجالات العلوم، التكنولوجيا، الهندسة والرياضيات، مصمم خصيصًا ليكون محايدًا جندريًا على عدة منصات تواصل اجتماعي. ووجدت الدراسة أن الإعلان قد قدِّم للنساء أقل مما قدِّم للرجال بفارق كبير عبر جميع المنصات التي نشر عليها. لم يكن ذلك نتيجة لأن النساء كن أقل ميلًا للتفاعل مع الإعلان، فقد أثبتت الدراسة أن الأمر كان على العكس من ذلك وأن النساء كن أميل إلى التفاعل مع الإعلان من الرجال. ووجدت الدراسة أن السبب لأن الإعلان قد قدِّم للنساء أقل مما قدِّم للرجال هو أن النساء كمجموعة سكانية هن هدف أكبر قيمة للإعلانات على الإنترنت. ومن ثم فالمعلنون يتنافسون بقوة أكبر على مكان لإعلاناتهم على الخط الزمني للنساء مما يؤدي إلى أن الإعلانات المحايدة جندريًا تُستبّعد لعدم توافر مساحة لها.10
هل ساعد الفضاء السيبراني في الاقتراب من المساواة الجندرية؟
الإجابة الصريحة القصيرة هي “لا، لم يفعل ذلك.” ولكن إجابة أطول وأكثر تفصيلًا يمكن أن تكون أن الدليل هو بالأحرى مختلط، مع ميل معظمه إلى تأكيد أن التصنيفات-التضخيمية الجندرية أكثر استمرارية وربما تدّعم أكثر مما يتم تحديها على الإنترنت. التعبيرات الذكورية والمعادية للنساء لا تزال سائدة على الإنترنت. هذه في حد ذاتها هي تعبيرات جندرية تدعم اللا-مساواة الجندرية من خلال ترهيب النساء وفرض سلوك منصاع عليهن خوفًا من أن يستهدفن بالتنمر على الإنترنت، والتحرش والعنف الجنسيين.
عند أخذ التطورات الأخيرة في الفضاء السيبراني في الحسبان، يبدو أنه الآن أقرب لأن يكون قوة داعمة لإعادة إقامة التصنيفات التضخيمية التقليدية للجندر عن أن يكون نقيض ذلك. النفوذ الكبير الذي حصلت عليه الخوارزميات وحقيقة أنها مصممة بالأساس لخدمة تعظيم الأرباح يؤدي إلى الترويج للمحتوى الذي يعكس التصنيفات التضخيمية للجندر. يحدث ذلك لأن الشركات العملاقة يمكنها دائمًا أن تقدم العرض الأعلى لترويج إعلاناتها. وحيث أن هذه الشركات قد استثمرت طويلا في تطويع منتجاتها وفق الفصل الجندري مع تخصص كل صناعة أكثر في خدمة جندر دون الآخر، فهي تميل إلى إبراز التصنيفات التضخيمية للجندر في رسائلها الدعائية. هذه الشركات نفسها تستثمر اليوم في اقتصاد المؤثرين برعاية من يعكسون أكثر التصنيفات الجندرية التضخيمية.
لن يأتي الفضاء السيبراني بتقويض القواعد والتصنيفات-التضخيمية الجندرية بفضل خواصه كما بشر بذلك الحالمون الطوباويون في الأيام الأولى للإنترنت. مع ذلك، لا يزال الفضاء السيبراني يملك إمكانية أن يُستخدم كأداة لتحقيق هذه الغاية. سيتطلب ذلك قدرًا كبيرًا من النشاطية المنظمة على الإنترنت والتي لا ينبغي أن تسعى إلى إرشاد أو توجيه التعبيرات الجندرية للفتيات والنساء بل أن تسعى إلى استعادة ملكيتها بطريقة تمكينية للنساء. بعض التعبيرات الجندرية الذائعة على الإنترنت والتي تبدو داعمة للتصنيفات التضخيمية الجندرية قد استدعت ردود أفعال بالغة العنف من المجتمع ومؤسسات الدولة خاصة في دول العالم الثالث ذات التوجه المحافظ السائد. هذا لأنه في حين أن تلك التعبيرات تدعم التصنيفات التضخيمية حول التحميل الجنسي للنساء وتسليعهن فقد تحدت قواعد غائرة الجذور تتعلق بامتلاك النساء لأجسادهن. التركيز على هذا الجانب وما يشبهه لمثل تلك التعبيرات الجندرية على الإنترنت يمكن أن يشجع نقاشات حول الأعمدة المجتمعية المؤسسة للا-مساواة الجندرية، وتكشف عن تناقضاتها الداخلية.
خاتمة
سعت هذه الورقة إلى تقديم نظرة عامة حول كيفية تأثير الفضاء السيبراني على التفاعلات الاجتماعية والممارسات التي من خلالها ينشئ الأفراد ويدركون هوياتهم الجندرية وكذلك يتفاوضون حول إدراك الآخرين لها. أوضحت خلفية نظرية الأساس الذي بناء عليه يمكن للفضاء السيبراني كفراغ اجتماعي أن يؤثر في إنشاء الهويات الجندرية. قدمت الورقة أيضًا استكشافًا مختصرًا لنتائج البحث حول التعبيرات الجندرية على الإنترنت خلال المراحل الثلاث لتطور الإنترنت. أخيرًا تمت مناقشة السؤال حول ما إذا كان الفضاء السيبراني يساعد بالفعل أو يمكنه أن يساعد في تحقيق المساواة الجندرية.
المراجع
1 Selfe, Cynthia L., and Paul R. Meyer. 1991. “Testing Claims for Online Conferences.” Written Communication, 8(2): 163–192.
2 Herring, Susan C. 1993. “Gender and Democracy in Computer-Mediated Communication.” Electronic Journal of Communication, 3(2). At http://www.cios.org/EJCPUBLIC/003/2/00328.HTML
3 Koch, Sabine C., Barbara Mueller, Lenelis Kruse, and Joerg Zumbach. 2005. “Constructing Gender in Chat Groups.” Sex Roles, 53(1–2): 29–41.
4 Bucholtz, Mary. 2002. “Geek Feminism.” In Sarah Benor, Mary Rose, Devyani Sharma, Julie Sweetland, and Qing Zhang (eds.), Gendered Practices in Language, 277–307. Stanford: CSLI Publications.
5 Subrahmanyam, Kaveri, David Smahel, and Patricia M. Greenfield. 2006. “Connecting Developmental Constructions to the Internet: Identity Presentation and Sexual Exploration in Online Teen Chat Rooms.” Developmental Psychology, 42(3): 395–406.
6 Kolko, Beth. 1999. “Representing Bodies in Virtual Space: The Rhetoric of Avatar Design.” The Information Society, 15: 177 – 186.
7 Blair, Kristine, and Pamela Takayoshi. 1999. “Mapping the Terrain of Feminist Cyberscapes.” In Kristine Blair and Pamela Takayoshi (eds.), Feminist Cyberscapes: Mapping Gendered Academic Spaces, 1–18. Stamford, CT: Ablex.
8 Schroeder, Jonathan. “Reinscribing Gender: Social Media, Algorithms, Bias.” Journal of Marketing Management 37 (October 14, 2020): 1–3. https://doi.org/10.1080/0267257X.2020.1832378.
9 Noble, Safiya Umoja. Algorithms of Oppression: How Search Engines Reinforce Racism. New York: New York University Press, 2018.
10 Lambrecht, Anja, and Catherine E. Tucker. “Algorithmic Bias: An Empirical Study into Apparent Gender-Based Discrimination in the Display of STEM Career Ads.” SSRN Scholarly Paper. Rochester, NY, March 9, 2018. https://doi.org/10.2139/ssrn.2852260.