مقدمة: التسويق الإلكتروني وأهميته في تشكيل صورة الإنترنت كما نعرفها
بالنسبة للغالبية العظمى من مستخدمي شبكة الإنترنت اليوم، تدور تجربتهم اليومية في تعاملهم مع الشبكة حول التفاعل مع الآخرين من خلال شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك Facebook وتويتر Twitter وتيك توكTikTok ، أو من خلال تطبيقات المحادثة مثل ميسينجر Messenger وواتساب WhatsApp وتيليجرامTelegram ، أو من خلال خدمات البريد الإلكتروني على الوب وفي مقدمتها جي-ميل Gmail. عند الحاجة إلى البحث عن المعلومات على الوب يتجه أغلب مستخدمي الإنترنت إلى محرك جوجل للبحث Google Search، والملايين منهم يفضلون البحث من خلال موقع مقاطع الفيديو يوتيوب YouTube. جميع هذه الخدمات وآلاف غيرها مجانية، برغم أن تكلفة تشغيلها وإدارتها باهظة. مع ذلك، مقدمي هذه الخدمات من شركات التكنولوجيا العملاقة مثل ميتا Meta الشركة الأم لكل من فيسبوك وإنستجرام Instagram، وجوجل ومايكروسوفت Microsoft التي تقدم خدمات محرك البحث بينج Bing المدعومة حاليًا بواحد من أقوى نماذج الذكاء الاصطناعي، تحقق جميعها عوائد وأرباح هائلة دون الحاجة إلى أن تتقاضى من مستخدمي خدماتها الأساسية هذه أي مقابل. الفضل في ذلك يعود إلى التسويق الإلكتروني.
التسويق الإلكتروني هو استخدام شبكة الإنترنت وغيرها من تكنولوجيات المعلومات والاتصالات مثل الهواتف الذكية كأدوات للترويج للسلع والخدمات. في أبسط صوره وأكثرها مباشرة يتم التسويق الإلكتروني من خلال نشر الإعلانات عن السلع والخدمات المختلفة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ورسائل البريد الإلكتروني وعلى صفحات مواقع الوب بمختلف أنواعها. في هذه الصورة المباشرة لا يكاد التسويق الإلكتروني يختلف كثيرًا عن سبل التسويق المستخدمة منذ زمن بعيد من خلال صفحات الصحف الورقية أو على موجات الإذاعة وشاشات التلفاز. ومن ثم فقد كان انتقال نفس النمط من الدعاية إلى الإنترنت بوصفها وسيطا إعلاميا أمرًا طبيعيا. وكما أسهمت الدعاية من خلال الوسائط الإعلامية التقليدية في جعلها متاحة أكثر بتعويض مقدمي خدمات هذه الوسائط عن تكاليفها الكبيرة من خلال عائد الإعلانات بحيث يكون بمقدورها أن تقدم خدماتها للمستخدم إما مجانًا أو بأسعار مخفضة، فقد أدت الدور نفسه بالنسبة لخدمات الإنترنت التي يحصل عليها مستخدموها مجانًا في معظم الأحيان لأن مقدميها يعتمدون في تحقيق الأرباح على بيع الخدمات التسويقية للمعلنين.
ما سبق كاف تمامًا لأن يكون التسويق الإلكتروني أحد أهم العوامل التي تشكل شبكة الإنترنت على صورتها التي نعرفها اليوم. هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار فقط إلى أي حد يشكل وجود خدمات مثل منصات التواصل الاجتماعي وماكينات البحث وغيرها خبرتنا اليومية بالشبكة. وجود هذه الخدمات هو إلى جانب ذلك عامل جذب رئيسي لاستخدام الشبكة بالأساس، ومن ثم فله دور رئيسي في تزايد عدد مستخدمي الإنترنت ليصل اليوم إلى أكثر من نصف سكان عالمنا. هذا التوسع الكبير لأعداد مستخدمي الشبكة، وبالتالي مستخدمي خدماتها الأكثر جاذبية، أدى بدوره إلى ازدياد أهميتها كوسيط إعلامي وإعلاني، مما أدى إلى تزايد نسبة ما يتم توجيهه من ميزانيات الدعاية إلى التسويق الإلكتروني على حساب الوسائط الإعلامية الأخرى التي لا يمكنها منافسة الإنترنت في حجم الجمهور الذي يمكن الوصول إليه من خلالها.
ولكن أثر التسويق الإلكتروني يذهب إلى ما هو أبعد من جعل أغلب خدمات الإنترنت الأكثر شعبية قابلة للوجود. فاعتماد هذه الخدمات لتحقيق عوائدها وأرباحها على التسويق الإلكتروني يجعل المنافسة على حيازة النسبة الأكبر من ميزانيته السنوية هي الدافع الأهم لتطور الطريقة التي تعمل بها هذه الخدمات. فرفع كفاءة التسويق الإلكتروني هو الدافع الأساسي لسعي خدمات الإنترنت إلى جمع أكبر قدر ممكن من البيانات الخاصة بمستخدميها وتطويرها لتكنولوجيات معالجة البيانات الضخمة Big Data وكذلك تطويرها لخوارزميات الذكاء الاصطناعي التي يقوم بعضها بتحليل بيانات المستخدمين ويستخدم الآخر نتائج هذا التحليل لتوجيه المحتوى الإعلاني إلى الفئات الأقرب لأن تتفاعل معها.
أخيرًا كان التسويق هو المحرك المباشر وراء نشأة اقتصاد إنتاج المحتوى Content Creation Economy، واقتصاد المؤثرين Influencer Economy. فبالرغم من أن إنتاج المحتوى قد رافق وجود شبكة الإنترنت منذ بدايتها وتطور بشكل كبير مع نشأة الإنترنت التفاعلي أو ما يسمى بالوب 2، وبالرغم من أن وجود مستخدمين أكثر تأثيرًا من غيرهم قد رافق وجود المدونات والمنتديات التي سبقت منصات التواصل الاجتماعي واستمر وتطور مع ظهور هذه المنصات ونموها السريع، فإن أيًا من النشاطين لم يكن نشاطًا اقتصاديًا بشكل مباشر. تنبه المتخصصون في التسويق الإلكتروني للفرص الكامنة في كلا النشاطين كقنوات لوصول الرسالة الإعلانية إلى فئات أوسع من مستخدمي الإنترنت، وبطريقة أكثر تأثيرًا وإقناعًا. كذلك تنبه مقدمو خدمات الإنترنت إلى تلك الفرص. من ثم بدأت تعاقدات العلامات التجارية مع صناع المحتوى والمؤثرين لتمرير رسائلهم الإعلانية من خلالهم. في المقابل، بدأ مقدمو خدمات الإنترنت في تنقيد المحتوى Monetization الذي يحصل على معدلات تفاعل مرتفعة. وبذلك تحول كل من صنع المحتوى والتأثير على الإنترنت إلى نشاطين اقتصاديين يمكن من خلالهما تحقيق دخل قد يكون في كثير من الأحيان كافيًا لأن يتحولا إلى عمل بدوام كامل أو مشروعًا اقتصاديًا كاملًا.
المقدمة السابقة كانت ضرورية لإدراك مدى أهمية التسويق الإلكتروني ومدى عمق أثره كعامل رئيسي في تشكيل خبرتنا على شبكة الإنترنت في كافة جوانبها بما في ذلك بالضرورة الجانب الجندري لهذه الخبرة. تقدم هذه الورقة قراءة تحليلية للسياسات الجندرية للتسويق الإلكتروني وأثر هذه السياسات في تشكيل التعبيرات الجندرية على الإنترنت وفي إعادة إنتاج الفجوة الجندرية والتمييز ضد النساء، وكذلك الأثر المباشر على الصحة النفسية والجسمانية للنساء والفتيات المعرضات للرسائل الإعلانية بصفة مستمرة من خلال اتصالهن بشبكة الإنترنت.
السياسات الجندرية للتسويق الإلكتروني وأثرها في تشكيل التعبيرات الجندرية على الإنترنت
السياسات الجندرية للتسويق الإلكتروني هي امتداد لهذه السياسات في إطار صناعة التسويق ككل، والتي تنطوي في مجملها تحت عنوان “التسويق الجندري”. المقصود به هو بناء استراتيجيات وسياسات التسويق على أساسين، الأول هو التصور التقليدي السائد لثنائية الجندر، أو وجود صورتين فقط للهوية الجندرية هما الرجل/الذكر، والمرأة/الأنثى. فبالرغم من أن بعض خبراء صناعة التسويق يعترفون بأن مفهومي السيولة الجندرية والحق في اختيار الهوية الجندرية قد حققا في العقود الأخيرة قدرًا كبيرًا من الانتشار واكتسبا اعترافا واسعا، إلا أن هؤلاء الخبراء أنفسهم لا زالوا يروجون للتسويق الجندري الذي يتعامى تمامًا عن وضع تعددية الهوية الجندرية في اعتباره. الأساس الثاني لمبدأ التسويق الجندري هو الاعتقاد في وجود اختلافات أساسية بين النساء والرجال في كل من توجهاتهم الاستهلاكية والطريقة التي يتخذون بها قرارات الشراء ومن ثم المقاربات التسويقية التي يمكن أن تنجح مع أي من الجنسين.
ربما تكون صناعة التسويق، وبالتبعية صناعة التسويق الإلكتروني، هي أكثر الصناعات تمسكًا بالصور النمطية الجندرية التقليدية. وفي حين أنها كغيرها من الصناعات لا زالت بعيدة عن تحقيق التوازن بين الرجال والنساء من حيث نسب شغل النساء للمواقع القيادية، إلا أن هذا في حالة صناعة التسويق ليس السبب الرئيسي لميلها إلى الذكور بوضوح أكثر من غيرها، ولكن الحقيقة هي أن هذه الصناعة قد بنت نجاحها طوال عقود على استخدام سياسات جندرية مبنية على الصور النمطية التقليدية للرجل والمرأة.
تراكم الخبرات عبر زمن طويل في صناعة التسويق أنشأ قائمة طويلة من المبادئ المعتمدة للتسويق لكل جندر على حدة وبنى استراتيجيات وتكتيكات تستثمر جميعها في الفصل بين الرجال والنساء في أنواع السلع والخدمات المروجة لكل منهما وفي بناء الرسالة الإعلانية على أساس صورة نمطية جندرية حول الطريقة التي يفكر بها أفراد كل جندر عند اتخاذ قرارات الشراء. محاولة تغيير ذلك لا تعني ما هو أقل من إعادة بناء الصناعة من جديد. بخلاف ذلك، صناعة التسويق هي صناعة وسيطة، بمعنى أنها تعتمد على ما تطرحه الصناعات الأخرى من سلع وخدمات ترغب في ترويجها، وكثير من هذه الصناعات، وربما أكبرها حجمًا من حيث ميزانيات الدعاية السنوية هي صناعات تخصصت بدورها لزمن بعيد في تقديم سلع موفقة للاحتياجات المفترضة المختلفة لكل جندر على حدة. ولذلك فقرار تعديل السياسات الجندرية لصناعة التسويق ليس أمرًا يقع بكامله بيد القائمين عليها، والمغامرة به تعرض الصناعة لخسائر ضخمة إن لم يكن التغيير شاملًا لأغلب الصناعات التي تمثل العملاء الأكثر أهمية بالنسبة لصناعة التسويق.
كيف تؤثر سياسات التسويق الجندري في التعبيرات الجندرية السائدة على الإنترنت
تؤثر السياسات الجندرية للتسويق الإلكتروني في التعبيرات الجندرية السائدة على الإنترنت من خلال أكثر من سبيل، فهي أولًا تؤثر بشكل مباشر من خلال إنتاج تعبيرات جندرية متضمنة في الرسائل الإعلانية. الأثر الإجمالي للتعبيرات الجندرية المتضمنة في جميع الرسائل الإعلانية التي يتعرض لها مستخدمو شبكة الإنترنت بمعدل كبير وبصفة يومية هو بالتأكيد الأكبر مقارنة بأي مصدر آخر للتعبيرات الجندرية، وذلك يتعزز باعتبار أن الغالبية الساحقة من هذه التعبيرات متسقة مع بعضها البعض حيث يغلب عليها سياسات جندرية يتبناها الغالبية الساحقة من صناع المحتوى الإعلاني.
المحتوى الإعلاني كغيره مما يٌنشر على الشبكة هو دائمًا عرضة لإعادة الإنتاج بصور مختلفة، من خلال إعادة النشر، والتعديل والاجتزاء. ونظرًا لأن المحتوى الإعلاني بطبيعته يسعى لأن يكون مثيرًا للاهتمام وذو جاذبية عالية وكذلك لأن المحتوى الإعلاني، سواء كان موجهًا للتسويق الإلكتروني تحديدًا أو موجهًا لوسائط أخرى، قد تأثر كثيرًا في الآونة الأخيرة بالصور المبتكرة للتعبير التي أنتجها مستخدمو الإنترنت، فهو في المجمل مرشح أكثر من غيره لإعادة التدوير والتي يمكن أن تبرز التعبيرات الجندرية بصفة خاصة.
أخيرًا تؤدي جاذبية المحتوى الإعلاني إلى أن يميل المتعرضون له لمدة طويلة إلى محاكاته بشكل واع أو بدون وعي منهم. هذه المحاكاة تنشر التعبيرات الجندرية في المحتوى الإعلاني على نطاق أوسع، كما أنها بهذه الصورة تنفصل إلى حد كبير عن الإطار الإعلاني الذي يدرك كثيرون أنه غير واقعي، ومن ثم قد يكون لهذه المحاكاة أثر أعمق.
النساء والفتيات الهدف الأول للتسويق الإلكتروني
واحدة من أهم الصور النمطية السائدة حول النساء والفتيات والتي يسود تصديقها في صناعة التسويق هي أنهن الجنس صاحب الميول الاستهلاكية الأكثر قوة. إضافة إلى ذلك تتبنى صناعة التسويق صورة نمطية أخرى تعكس التقسيم الجندري الوظيفي التقليدي للأدوار في إطار الأسرة، والذي فيه يكون من الأدوار الأساسية للمرأة/الزوجة والأم وربة المنزل الراعية للزوج والأبناء أن تتابع كافة الاحتياجات الأساسية لهم، وهو ما يجعلها المسؤول الأساسي الأول عن عمليات الشراء التي يتطلبها الوفاء بهذه الاحتياجات، وفي مقدمتها المسؤولية عن توفير الغذاء، التي تشمل كل ما يتعلق بالمواد والأدوات الداخلة في إعداد الطعام. وإذا أضفنا إلى ذلك كافة السلع التي تعتبر نسائية حصرًا، فالنساء والفتيات هن الفئة المستهدفة الأولى للقطاع الأوسع من المعلنين. تتم ترجمة ذلك إلى أن تكون المساحات الإعلانية الموجهة إلى النساء والفتيات هي الأعلى قيمة والتي يتنافس المعلنون على حيازتها.
تقدم خدمات الإنترنت للمعلنين فرصة الوصول إلى فئات بعينها من مستخدميها من خلال عرض المساحات الإعلانية الموجهة إلى هذه الفئات في مزايدة بحيث يفوز بها من يقدم أعلى سعر. يعني ذلك أنه بالنسبة للنساء فمن يفوز بفرصة وصول رسالته الإعلانية إليهن هو من يتوقع الحصول على أعلى عائد من هذه الرسالة، ولذلك تحظى العلامات التجارية الكبيرة بالنصيب الأكبر من هذه المساحة. وفي النهاية لا يترك ذلك للرسائل الإعلانية غير الاستهلاكية، مثل فرص التوظيف وتنمية المهارات وغير ذلك فرصة للوصول إلى النساء، أو على أقل تقدير تكون هذه الفرصة بالغة الضآلة مقارنة بما يصل إلى الرجال من مثل هذه النوعية من الرسائل الإعلانية. وينعكس ذلك سلبًا على المستخدمات كونهن لا يجدن في المعتاد رسائل إعلانية تستجيب لاهتماماتهن إذا كانت تلك الاهتمامات خارج الإطار الضيق الذي تفترضه سياسات التسويق الجندري التي تحصر المرأة في دور الزوجة والأم وربة المنزل.
ولكن إضافة إلى ذلك، تؤدي محدودية الرسالة الإعلانية المتاحة للنساء إلى ترسيخ شعورهن بأن الصورة النمطية المقدمة للمرأة من خلال هذه الرسالة الإعلانية هي تحديدًا ما ينبغي لهن أن يكن عليه، حتى وإن كن لا يعتقدن ذلك في البداية، ولكن تواتر الرسائل الإعلانية التي تعيد إنتاج الصور النمطية يشكل هجومًا مستمرًا على قناعة أي امرأة بأن بإمكانها أن تكون مختلفة إن أرادت ذلك. في المحصلة لا تجد المرأة الراغبة في تحدي الصور النمطية الجندرية نفسها في الرسائل الإعلانية المتاحة لها، بل على العكس تجد فيها دائمًا تحد لقناعاتها واستقلاليتها.
توسيع مجال الوصول للنساء والفتيات بتطوير اقتصادي إنتاج المحتوى والتأثير
شهد اقتصادا إنتاج المحتوى والتأثير قفزة ضخمة في السنوات الأخيرة في أعقاب تفشي جائحة كوفيد-19 حول العالم. كان ذلك نتيجة لاتجاه نسبة متزايدة من مستخدمي الإنترنت إلى شراء احتياجاتهم الأساسية من خلال خدمات البيع بالتجزئة المتاحة على الشبكة، وأدى ذلك إلى نمو كبير لنصيب التسويق الإلكتروني من مجمل ميزانيات التسويق بصفة عامة. لم تكن القنوات المعتادة للتسويق الإلكتروني كافية لاستيعاب هذا النمو ومن ثم توجه المسوقون إلى تخصيص مزيد من استثماراتهم لاجتذاب صناع المحتوى والمؤثرين ليكونوا أداة توصيل الرسائل الإعلانية إلى متابعيهم.
توصيل الرسائل الإعلانية من خلال صانعات المحتوى والمؤثرات له مزايا متعددة مقارنة بالسبل التقليدية المباشرة. فهو أولًا يستثمر الشعبية التي حققتها هؤلاء بنفسهن دون أي تكلفة إضافية من جانب المعلنين. ثانيًا تقوم شعبية صانعات المحتوى والمؤثرات على تكوين رابطة شبه شخصية مع متابعاتهن. تنبني هذه الرابطة على مفهوم التماثل مع الآخر Identification، ويعني ذلك أن المتابعة تستشعر أن صانعة المحتوى أو المؤثرة تمثلها. وتوفر هذه الرابطة إمكانية لوصول الرسالة الإعلانية على مستو أكثر عمقًا عندما تقدمها صانعة محتوى أو مؤثرة. ثالثًا تقدم صانعات المحتوى والمؤثرات الرسالة الإعلانية في إطار المحتوى الذي تقدمنه بصورة اعتيادية وهو عادة محتوى مرتبط بحياتهن الشخصية واهتماماتهن، ويؤدي ذلك إلى أن تكون الرسالة الإعلانية جزءًا متكاملًا مع صورة الحياة اليومية التي تقدمها صانعة المحتوى أو المؤثرة، ومهما كانت تلك الرسالة ذات حدود واضحة يظل أثرها جزءًا من الأثر العام لمجمل الرسائل التي تقدمها صانعة المحتوى أو المؤثرة ومن ثم أكثر قبولًا لدى متابعتها.
توجيه إنتاج النساء والفتيات للمحتوى على الإنترنت لخدمة التسويق الإلكتروني
مع اكتساب صناعة المحتوى والتأثير صفة اقتصادية يصبح لدى من يمارسنهما دوافع قوية للنجاح في تقديم ما يحافظ على ما يحققنه من دخل. يتمثل ذلك أولًا في الحرص على أن يقدمن الرسائل الإعلانية التي يكلفن بتقديمها بصورة جذابة إلى أقصى حد ممكن، مع الحفاظ في نفس الوقت على قدر من الحياد الوهمي الذي يحمي مصداقيتهن لدى متابعاتهن. ولكن الأمر بالضرورة لا يقتصر على ذلك. فصانعات المحتوى والمؤثرات يجدن أنفسهن مطالبات بألا يكون ما يقدمنه وما يعكسنه في محتواهن عن شخصياتهن واهتماماتهن متناقضًا مع الرسائل الإعلانية التي يقدمنها. أكثر من ذلك يصبح عليهن لتعظيم إمكانية الحصول على مزيد من التعاقدات من الجهات المعلنة أن يشكلن لأنفسهن الصورة التي تصلح كإطار لتقديم الرسالة الإعلانية بشكل طبيعي أكثر ومن ثم تحقيق نجاح أكبر في توصيلها إلى متابعاتهن. ومن ثم تميل كثيرات من صانعات المحتوى والمؤثرات على الإنترنت إلى تقديم الاهتمامات المرتبطة بالسلع والخدمات التي يعلن عنها على أنها شغفهن الرئيسي أو أنها على الأقل جزء مهم من حياتهن اليومية.
يفسر ذلك ظواهر مثل أن يكون التجمل، والعناية بالبشرة والشعر إلخ عنصرًا ثابتًا في المحتوى الذي تقدمه بعض صانعات المحتوى والمؤثرات بغض النظر عن موضوع المحتوى الأصلي. فقد تحكي إحداهن حكاية أو تناقش قضية ما في الوقت الذي تقوم فيه بالتبرج أو تصفيف شعرها إلخ. تشكل هذه الظواهر تعبيرات جندرية غير تقليدية ذات جاذبية خاصة في الوقت الذي لا تخرج فيه بأي حال عن الصور النمطية الجندرية التقليدية السائدة في المجتمع. وهي تختلط في نفس المحتوى مع تعبيرات قد لا تكون تقليدية، فقد تقدم صانعة المحتوى أو المؤثرة محتوى يدور حول تمكين النساء، ولكن ذلك يختلط مع صورة المرأة الجميلة الجذابة، فتكون الرسالة المتشكلة في لا وعي متابعاتها هو أن تمكين المرأة يتحقق من خلال كونها جميلة وجذابة حسب المواصفات والمعايير السائدة التي تحددها وتروج لها العلامات التجارية لمستحضرات التجميل والعناية بالبشرة والشعر إلخ.
توجيه المؤثرات من النساء والفتيات لتعكسن صورة نمطية استهلاكية غير تقليدية
تقدم صانعات المحتوى والمؤثرات أنفسهن كنساء قويات ومستقلات صنعن لأنفسهن سبيلًا للاستقلال الاقتصادي كرائدات أعمال يستثمرن في قدراتهن على صنع المحتوى وصناعة وتوجيه الرأي العام من خلال تواجدهن البارز على شبكة الإنترنت. هذه الصورة بالطبع صحيحة وهي تجتذب المتابعات وتشكل كثيرًا من قناعاتهن حول إمكانية أن يصبحن هن أيضًا نساء قويات وينلن استقلالهن الاقتصادي. ومن ثم فصانعات المحتوى والمؤثرات الأكثر شهرة هن قدوة لغيرهن من النساء اللائي يتطلعن إلى حياة أكثر اشباعًا وأكثر استقلالية.
هذا الجانب من صورة المرأة كما تقدمها صانعات المحتوى والمؤثرات يمثل خروجًا عن الصور النمطية الجندرية التقليدية. ومن ثم يُنتظر منه أن يسهم بشكل إيجابي في مواجهة هذه الصور النمطية التقليدية. ولكن في المقابل كلما كانت صانعة المحتوى أو المؤثرة أكثر نجاحًا كلما ازداد اعتمادها في استمرار نجاحها وتنميته على العلامات التجارية لتقدم لها الرعاية والمقابل المادي لتقديم رسائلها الإعلانية. وفي حين أن هذه العلامات التجارية تسعى لاختيار صانعات المحتوى والمؤثرات اللاتي لهن أكبر جمهور ممكن من المتابعات فهذا ليس هو المعيار الوحيد أو الأساسي.
هذه العلامات التجارية تهتم بأن تكون من تختارهن لتسويق سلعها وخدماتها يعكسن الصورة المثالية للمرأة كما تقتضي رسائلها الإعلانية. هذه الصورة المثالية تتبنى بشكل كامل الصور النمطية الجندرية التقليدية للمرأة. ولا يمكن أن تعكس من تقدم الرسالة الإعلانية أية صورة متناقضة مع هذه الصورة المثالية للمرأة حسب معايير التسويق الجندري. ومن ثم تجد صانعات المحتوى والمؤثرات الراغبات في إنجاح عملهن وتحقيق عائد مجز منه أنفسهن مضطرات إلى أن يعكس الصورة المثالية التقليدية للمرأة سواء كان ذلك يعكس حقيقة شخصياتهن أو لا، فهو هنا يتحول إلى جزء من العمل.
إلى جانب أثر ذلك على المتلقيات كما أوضح القسم السابق فهو يغير من طبيعة إنتاج المحتوى التي كانت حتى وقت قريب تعبير حر عن الذات غير مقيد باعتبارات الوظيفة أو تحقيق الربح. وإلى جانب افتقاد تلك الأصالة في المحتوى المنتج تفقد التعبيرات التي تقدمها صانعات المحتوى والمؤثرات وفي مقدمتها التعبيرات الجندرية تنوعها الناشئ عن التعبير الصادق لكل منهن عن ذاتها، وبدلًا من ذلك تصبح غالبية التعبيرات التي تقدمنها نسخًا متطابقة تعكس صورة نمطية جندرية وحيدة.
دور السياسات الجندرية للتسويق الإلكتروني في توسيع الفجوة الجندرية
تعمل التصورات الجندرية النمطية في الاتجاهين، بمعنى أنه بقدر ما توجه الصور النمطية السائدة السياسات التي تضع الهوية الجندرية في اعتبارها، تساهم هذه السياسات بدورها في إعادة إنتاج نفس الصور النمطية التي وجهتها، ومن ثم تساهم في ترسيخها واستمراريتها. ولذلك، فبينما تنبني السياسات الجندرية للتسويق الإلكتروني على الصور النمطية الجندرية تساهم أيضًا في إعادة إنتاج هذه الصور. وفي حين أن عددًا لا حصر له من الممارسات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية تساهم بنسب مختلفة في إعادة إنتاج الصور النمطية الجندرية فإن السياسات التسويقية بصفة عامة وسياسات التسويق الإلكتروني بصفة خاصة لها إسهام أكبر من غيرها وذلك لعدة عوامل منها:
- تقديم الصور النمطية بطريقة جذابة على خلاف الواقع: يرسم أي محتوى تسويقي صورة مثالية براقة لواقع متخيل، وتعد هذه الصورة المثالية المتلقية بتحقيق الذات أو الوصول إلى ما يسعدها من خلال الحصول على السلعة أو الخدمة المروج لها. وفي إطار التسويق الجندري يتلخص تحقيق المرأة لذاتها أو سعادتها في تحقيق الشكل المثالي لواحدة أو أكثر من الصور النمطية الجندرية التقليدية، فالسلعة ستجعلها أكثر جمالًا وجاذبية. أو قد تجعلها السلعة قادرة على أداء دورها كزوجة وأم وهو ما تتلخص فيه قيمة المرأة والغرض من وجودها بالأساس.
- تكرار الصور النمطية بمعدل أكبر وبطرق مختلفة: تتكرر الصور النمطية ذاتها في المحتوى الإعلاني بأنواعه ويتم تقديمها بطرق مختلفة تتنافس في جاذبيتها وسعيها للإقناع. يضاف إلى ذلك في حالة التسويق الإلكتروني ما يتميز به المحتوى المقدم من خلال الإنترنت كونه يُقدَّم دائمًا متداخلا مع غيره من الصور الأخرى للمحتوى في إطارين زمني ومكاني متقاربين وهو ما يؤدي إلى نتيجتين تبدوان متناقضتين، ولكنهما في الحقيقة تكمل كل منهما الأخرى. من جانب يؤدي إلى إبراز المحتوى الإعلاني المزخرف والبراق مقارنة بصور المحتوى الأخرى، ومن جانب آخر يجعل الحدود بين المحتوى الإعلاني وغيره أقل وضوحًا، وهو ما يؤدي إلى نوع من الخلط بين المحتوى المعلوماتي والخبري والواقعي وبين المحتوى الإعلاني. وفي الحالتين يجعل ذلك أثر المحتوى الإعلاني على لاوعي المتلقية أكبر من ذلك الذي تدركه بشكل واع، وهو ما يرسخ الصور الجندرية النمطية المقدمة من خلال المحتوى الإعلاني بصورة أكثر عمقًا.
- استخدام سبل غير مباشرة من خلال صانعات المحتوى والمؤثرات: اعتماد كثير من العلامات التجارية مؤخرًا على توجيه رسائلها الإعلانية من خلال صانعات المحتوى والمؤثرات يغلف هذه الرسائل في إطار الصورة التي تقدمها كل منهن لنفسها كنموذج للمرأة الناجحة أو الجذابة أو السعيدة. تتداخل عوامل النجاح والجاذبية والسعادة مع استهلاك السلع والخدمات إضافة إلى الملامح الشخصية الأخرى لصانعة المحتوى أو المؤثرة، وحيث أن هذه الملامح الشخصية تعكس بالضرورة صورًا نمطية جندرية، كما سبق أن أوضحت هذه الورقة، يرتبط نجاح وجاذبية وسعادة صانعة المحتوى أو المؤثرة بكونها تعكس هذه الصور النمطية وهو ما يدفع متابعاتها والمعجبات بها إلى تبني نفس الصور النمطية الجندرية.
تمثل الصور النمطية الجندرية التقليدية السائدة في المجتمع العامل الأكثر أهمية في إعادة إنتاج الفجوة الجندرية وكذلك إعادة إنتاج صور التمييز ضد النساء التي تبرر وجودها واستمرارها بهذه الصور النمطية. فعلى سبيل المثال، صور نمطية مثل لا عقلانية النساء وميلهن للحكم على الأمور بناء على مشاعرهن إلخ تستخدم كتبرير لفرض سلطة الذكور عليهن على اعتبار أنهن غير قادرات على اختيار ما هو مناسب لهن بصورة عقلانية. لذلك فإعادة إنتاج وترسيخ الصور النمطية الجندرية السائدة يؤدي إلى استمرارية الفجوة الجندرية والتمييز الجندري.
تسهم السياسات الجندرية للتسويق الإلكتروني بشكل متزايد في ترسيخ الصور النمطية الجندرية خاصة مع النمو المستمر لأثرها على مستخدمي شبكة الإنترنت الوسيط الأكثر أهمية لتلقي المعلومات بشكل واعي وغير واع في زمننا هذا وفي المستقبل المنظور.
الآثار النفسية لضغوط السعي لتحقيق الصورة النمطية المثالية
من بين أكثر الآثار خطورة للتعبيرات الجندرية النمطية التي تعيد الرسائل الإعلانية للتسويق الإلكتروني نشرها بشكل مستمر من خلال كافة قنواتها، الأثر النفسي الذي تتركه على كثير من الفتيات والشابات والنساء التي لا يمكنهن التماثل مع الصور المثالية للمرأة والأنثى كما ترسمها هذه التعبيرات. قد يتمثل ذلك الأثر في عدم رضا المرأة عن صورتها الخارجية وجسدها بشكل يدفعها إلى محاولة تغيير عاداتها ومظهرها. وقد يتمثل في الإصابة باكتئاب مزمن عندما يكون من المستحيل على المرأة أن تجد وسيلة تقترب بها من الصورة المثالية التي يفرضها المحتوى الإعلاني بصفة مستمرة.
خاتمة
ناقشت هذه الورقة العلاقة بين التسويق الإلكتروني وبين الفجوة الجندرية والتمييز الجندري ضد النساء. وقد عرضت أولًا مبررات الأهمية البالغة للتسويق الإلكتروني والدور الكبير الذي لعبه ولا يزال يلعبه في تشكيل صورة شبكة الإنترنت وخبرة مستخدميها. ثم تعرضت الورقة لسياسات التسويق الجندري، وركزت بصفة خاصة على مدى ارتباط هذه السياسات بالصور النمطية الجندرية التقليدية التي لا تعترف إلا بهويتين للجندر مع فصل حاسم بينهما دون أي اعتبار للسيولة الجندرية القائمة في الواقع. ثم ناقشت الورقة كيف تنعكس هذه السياسات في صورة آثار عميقة للرسائل الإعلانية على التعبيرات الجندرية السائدة على الإنترنت، وتعرضت الورقة أيضًا إلى ظاهرة اقتصاد صناعة المحتوى والتأثير وارتباطها بالتسويق الإلكتروني وأثر ذلك في توسيع وتعميق أثر السياسات الجندرية له على التعبيرات الجندرية السائدة على شبكة الإنترنت.