
مقدمة
يمثّل الحق في حرية التعبير وحرية الصحافة والإعلام أحد الحقوق الأساسية التي يقوم عليها أي مجتمع يسعى إلى حماية الحريات العامة وتداول المعلومات. وقد أولى الدستور المصري الصادر عام 2014 عناية خاصة بهذه الحقوق، فنص في مواده (65، 70، 71، 92، 211) على كفالتها وضمان حمايتها، محددًا إطارًا تشريعيًا لا يجوز تجاوزه بما يمس جوهرها أو ينتقص من مضمونها.
ورغم هذه الضمانات الدستورية، أقر قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018 قيودًا واسعة على حرية النشر الرقمي. وتبرز بشكل خاص المادتان (6) و(105) من هذا القانون؛ إذ تشترط الأولى الحصول على ترخيص مسبق لإنشاء أو إدارة أي موقع إلكتروني، بينما تفرض الثانية عقوبات جنائية مشددة تصل إلى الغرامات المالية الباهظة، والغلق، والمصادرة لكل من يخالف ذلك.
تشكل هذه النصوص مساسًا مباشرًا بحرية الصحافة والإعلام، فهي تخالف النصوص الدستورية التي تحظر وقف أو غلق أو مصادرة وسائل الإعلام بأي صورة. كما يشوبها الغموض في تحديد الأفعال المجرّمة والمسؤولية الجنائية، إلى جانب عدم تناسب العقوبات المقررة مع طبيعة الأفعال محل التجريم، بما يجعلها موضع شبهة مخالفة لمبادئ الشرعية الجنائية والتناسب وحماية الحقوق والحريات الأساسية.
ومن هذا المنطلق، تهدف هذه المذكرة إلى بيان أوجه مخالفة المادتين (6) و(105)، من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، لأحكام الدستور المصري، وتوضيح الأسس الدستورية التي تحمي حرية التعبير والصحافة، مع استعراض موقف القضاء الدستوري في مصر إزاء القوانين المقيدة لهذه الحقوق.
محكمة ………………
الدائرة …………
مذكرة في شأن
الدفع بعدم دستورية نصي المادتين رقمي (6) و(105)
من قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018
مقدمة من:
السيد/ ………………………………. (متهم)
ضد
النيابــــــــة العامـــــــة (سلطة اتهام)
في الدعوى رقم …………… لسنة ………… ، المحدد لنظرها جلسة ………… الموافق ………………
وقائع الدعوى
أحالت النيابة العامة المتهم للمحاكمة في الدعوى الماثلة، بعد أن وجهت إليه الاتهام – على حد زعمها – بارتكاب جريمة إدارة موقع إلكتروني بدون ترخيص في جمهورية مصر العربية، وذلك على النحو المبين بالأوراق، وطلبت معاقبته بالمادتين 6 و 105 من القانون رقم 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وتحدد لنظر الدعوى جلسة اليوم أمام المحكمة الموقرة.
الدفاع
مع تمسك الدفاع الحاضر بأصل البراءة المفترض في المتهم الماثل، ومع تمسكه بكافة دفوعه وأوجه دفاعه الشكلية والإجرائية والموضوعية، فإنه يلتمس من المحكمة الموقرة وقف الدعوى تعليقيًا، وإحالة أوراقها إلى المحكمة الدستورية العليا، أو التصريح للدفاع بإقامة دعوى أمام المحكمة الدستورية للفصل في مسألة مدى دستورية نصي المادتين رقمي (6) و(105) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018، لمخالفتهما نصوص المواد أرقام (65، 70، 71، 92، 95، 96، 211) من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية، وذلك على النحو الآتي:
من الناحية الشكلية:
أولًا: السند القانوني للدفع بعدم دستورية النص القانوني
تنص المادة (192) من دستور جمهورية مصر العربية الساري على أن:
“تتولى المحكمة الدستورية العليا دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين، واللوائح، وتفسير النصوص التشريعية، والفصل فى المنازعات المتعلقة بشئون أعضائها، وفى تنازع الاختصاص بين جهات القضاء، والهيئات ذات الاختصاص القضائي، والفصل فى النزاع الذى يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين صادر أحدهما من أية جهة من جهات القضاء، أو هيئة ذات اختصاص قضائي، والآخر من جهة أخرى منها، والمنازعات المتعلقة بتنفيذ أحكامها، والقرارات الصادرة منها. ويعين القانون الاختصاصات الأخرى للمحكمة، وينظم الإجراءات التى تتبع أمامها”.
كما تنص المادة الثامنة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن:
“لكلِّ شخص حقُّ اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصَّة لإنصافه الفعلي من أية أعمال تنتهك الحقوقَ الأساسيةَ التي يمنحها إيَّاه الدستورُ أو القانونُ”.
وكذلك تنص المادة المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في فقرتها الأولى على أن :
“الناس جميعًا سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون”.
وتطبيقًا لذلك، نصت المادة (29) من القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا – وفقًا لآخر تعديل صادر في 15 أغسطس 2021 – على أن:
“تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح على الوجه التالى:
(أ) إذا تراءى لإحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائى أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص فى قانون أو لائحة لازم للفصل فى النزاع، أوقفت الدعوى وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى المسألة الدستورية.
(ب) إذا دفع احد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائى بعدم دستورية نص فى قانون أو لائحة ورأت المحكمة أو الهيئة أن الدفع جدى أجلت نظر الدعوى وحددت لمن أثار الدفع ميعادا لا يجاوز ثلاثة أشهر لرفع الدعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية العليا، فإذا لم ترفع الدعوى فى الميعاد اعتبر الدفع كأن لم يكن”.
كما تنص المادة (30) من القانون ذاته على أن:
“يجب أن يتضمن القرار الصادر بالاحالة إلى المحكمة الدستورية العليا أو صحيفة الدعوى المرفوعة اليها وفقا لحكم المادة السابقة بيان النص التشريعي المطعون بعدم دستوريته والنص الدستوري المدعى بمخالفته وأوجه المخالفة”.
وحيث أن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الرقابة على دستورية القوانين واللوائح من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلًا صون هذا الدستور وحمايته من الخروج على أحكامه، لكون نصوصه تمثل القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها، ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة.1
كما استقر قضاؤها على أن المصلحة الشخصية المباشرة، وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية، مناطها أن يكون الحكم في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع.2
ثانيًا: النص القانوني محل الطعن بعدم الدستورية
يطعن الدفاع الحاضر مع المتهم بعدم دستورية نص المادة رقم (6) من قانون تنظيم الصحافة الإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018، والتي تنص على الآتي:
“لا يجوز تأسيس مواقع إلكترونية في جمهورية مصر العربية، أو إدارتها، أو إدارة مكاتب أو فروع لمواقع إلكترونية تعمل من خارج الجمهورية، إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من المجلس الأعلى وفق الضوابط والشروط التي يضعها في هذا الشأن. ومع عدم الإخلال بالعقوبات الجنائية المقررة، للمجلس الأعلى في حالة مخالفة أحكام الفقرة السابقة اتخاذ الإجراءات اللازمة بما في ذلك إلغاء الترخيص، أو وقف نشاط الموقع أو حجبه، في حالة عدم الحصول على ترخيص سار. ولذوي الشأن الطعن على القرار الصادر بذلك أمام محكمة القضاء الإداري.”
ويطعن أيضًا بعدم دستورية نص المادة رقم (105) من قانون تنظيم الصحافة الإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018، والتي تنص على الآتي:
“يعاقب بالغرامة التي لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد على ثلاثة ملايين جنيه، كل من خالف أحكام المواد (6، 41، 59، 67) من هذا القانون، وتقضى المحكمة فضلا عن ذلك بالغلق ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استعملت في ارتكاب الجريمة. وفي حالة العود، تضاعف العقوبة في حديها الأدنى والأقصى”.
ثالثًا: النصوص الدستورية موضوع المخالفة
خالفت النصوص القانونية المطعون بعدم دستوريتها كل من نصوص المواد رقم (65 و70 و71 و92 و95 و96 و211) من دستور جمهورية مصر العربية الساري – المنشور بالجريدة الرسمية – العدد ٣ مكرر (أ) في ١٨ يناير سنة ٢٠١٤، والمعدل بموجب قرار الهيئة العليا للانتخابات رقم 38 لسنة 2019 – المنشور بالجريدة الرسمية – العدد 16 مكرر (و) في 23 إبريل 2019، الآتي بيانهم:
- المادة (65): “حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر”.
- المادة (70): “حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الإلكترونية”.
- المادة (71): “يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز إستثناء فرض رقابة محددة عليها في زَمن الحرب أو التعبئة العامة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فيحدد عقوبتها القانون”.
- المادة (92): “الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا إنتقاصًا. ولا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها”.
- المادة (95): “العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون”.
- المادة (96): “المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه…”.
- المادة (211): “المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الفني والمالي والإداري، وموازنتها مستقلة. ويختص المجلس بتنظيم شئون الإعلام المسموع والمرئى، وتنظيم الصحافة المطبوعة، والرقمية، وغيرها. ويكون المجلس مسئولاً عن ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام المقررة بالدستور، والحفاظ على استقلالها وحيادها وتعدديتها وتنوعها، ومنع الممارسات الاحتكارية، ومراقبة سلامة مصادر تمويل المؤسسات الصحفية والإعلامية، ووضع الضوابط والمعايير اللازمة لضمان التزام الصحافة ووسائل الإعلام بأصول المهنة وأخلاقياتها، ومقتضيات الأمن القومى، وذلك على الوجه المبين في القانون. يحدد القانون تشكيل المجلس، ونظام عمله، والأوضاع الوظيفية للعاملين فيه. ويُؤخذ رأي المجلس في مشروعات القوانين، واللوائح المتعلقة بمجال عمله.”
ولما كان ما تقدم؛ وحيث أن المحكمة الدستورية هي المختصة بالفصل في الطعن بعدم دستورية النص القانوني – محل الطعن – وقد تحققت المصلحة الشخصية المباشرة للمتهم في هذه الدعوى، وحيث أن الفصل في عدم دستورية هذا النص القانوني، له أثر مباشر على موقفه من الاتهام المسند إليه في الدعوى، وعلى طبيعة العقوبة الجنائية التي عسى أن يحكم عليه بها، وعلى حديها الأدنى والأقصى، إن ثبت للمحكمة الموقرة صحة ما أسند إليه من اتهامات، ورأت أن تقضي بإدانته؛ من ثم يكون الدفع بعدم دستورية نصي المادتين رقمي (6) و (105) من قانون تنظيم الصحافة الإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018 مقبول من ناحية الشكل.
ومن الناحية الموضوعية:
نوجز أوجه الدفع بعدم دستورية النصين المطعون عليهما في الآتي:
- الوجه الأول: عدم دستورية نص المادة (105) من القانون فيما تضمنه من توقيع عقوبتي الغلق ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استعُملت في ارتكاب الجريمة،كعقوبتين تكمليتين وجوبيتين، وذلك لمخالفته نص الفقرة الأولى من المادة (71) من الدستور، التي تحظر صراحة مصادرة أو وقف أو إغلاق الصحف ووسائل الإعلام المصرية بأي وجه.
- الوجه الثاني: عدم دستورية نصي المادتين (6) و(105) من القانون لما شابهما من غموض وإبهام في تحديد نطاق المسؤولية الجنائية، ومخالفتهما مبدأ شرعية التجريم والعقاب، ومبدأ شخصية العقوبة المنصوص عليه في المادة (95) من الدستور.
- الوجه الثالث: عدم دستورية العقوبات الجنائية المنصوص عليها في المادة (105) من القانون لما انطوت عليه من مغالاة في الجزاء الجنائي، وقسوة في العقوبات المقررة، وانتفاء الضرورة وعدم التناسب مع السلوك المجرّم.
الوجه الأول: عدم دستورية نص المادة (105) من القانون فيما تضمنه من توقيع عقوبتي الغلق ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استعُملت في ارتكاب الجريمة،كعقوبتين تكمليتين وجوبيتين، وذلك لمخالفته نص الفقرة الأولى من المادة (71) من الدستور، التي تحظر صراحة مصادرة أو وقف أو إغلاق الصحف ووسائل الإعلام المصرية بأي وجه.
خالف النص القانوني المطعون عليه حظرًا دستوريًا يتمثل في حظر مصادرة أو وقف أو إغلاق أو فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية بأي وجه، وبأي صورة. وفي شأن المصادرة والوقف والإغلاق على سبيل الحصر؛ فقد جاء هذا الحظر مطلقًا من أي قيد، أو استثناء، ومن غير الجائز توقيعه كعقاب جنائي في جميع الأحوال، سواء في الظروف الطبيعية أو في زمن الحرب أو التعبئة العامة أو في غيرهم.
كما جاء النص مناقضًا ومخالفًا ما نص عليه المشرّع العادي في القانون ذاته في المادتين (2، 3) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام؛ حيث تنص المادة (2) من القانون على أن :
“تكفل الدولة حرية الصحافة والإعلام والطباعة والنشر الورقي والمسموع والمرئي والإلكتروني”.
كما تنص المادة (3) على أن :
“يحظر، بأي وجه، فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية، ويحظر مصادرتها، أو وقفها، أو إغلاقها. ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة. وفي هذه الحالة للمجلس الأعلى أن يصدر قرارا بضبط نسخ الصحيفة الورقية أو حذف أو حجب المادة المخالفة لتعليمات الرقابة في حالة نشرها في صحيفة إلكترونية أو موقع إلكتروني، أو وقف إعادة بثها في الوسيلة الإعلامية، ولذوي الشأن الطعن على القرار الصادر بذلك أمام محكمة القضاء الإداري”.
وهذا الموقع الذي شابه عدم الدستورية في النص المطعون عليه، هو ما تضمنه من عقوبتين تبعيتين وجوبيتين، هما: الغلق والمصادرة، المقررتين للجريمة المبينة في النص المطعون عليه، وذلك على النحو الآتي:
أولًا: طبيعة العقوبة المقررة قانوناً للجريمة
قرر المشرّع في الفقرة الأولى من النص المطعون عليه عقوبة الغرامة التي لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد على ثلاثة ملايين جنيه، كعقوبة رئيسة، وعقوبات الغلق ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استعملت في ارتكاب الجريمة، كعقوبة تبعية وجوبية تلحق بها، وذلك كجزاء جنائي على مخالفة أحكام المواد (6، 41، 59، 67) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام.
وفي سياق موضوع هذا الطعن، تنص الفقرة الأولى من المادة (6) من القانون على أن :
“لا يجوز تأسيس مواقع إلكترونية في جمهورية مصر العربية، أو إدارتها، أو إدارة مكاتب أو فروع لمواقع إلكترونية تعمل من خارج الجمهورية، إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من المجلس الأعلى وفق الضوابط والشروط التي يضعها في هذا الشأن”.
ثانيًا: أثر توقيع عقوبتي الغلق والمصادرة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية
لا يقتصر أثر توقيع النص المطعون عليه على مجرد عقوبة الغرامة المالية الباهظة حال إدانة المتهم بحكم قضائي، بل يمتد إلى ما يجاوز ذلك؛ فيترتب عليه غلق الموقع الإلكتروني، وربما أيضًا تمتد العقوبة لمقره الإداري لكون محل توقيع تلك العقوبة شابه الغموض والإبهام في بيان محل توقيعها، دون تحديد قاطع ودقيق من المشرّع في صياغة النص المطعون عليه لمحل توقيعها إذا كان الموقع الإلكتروني المؤسس أو المدار دون الحصول على ترخيص أم مقره الإداري، أم كلاهما.
إضافة لما تقدم، توقع أيضًا عقوبة مصادرة جميع المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استعملت في إدارته وتشغيله، وهو ما يترتب عليه امتداد العقوبة الجنائية إلى جميع العاملين في الموقع الإلكتروني نتاج هاتين العقوبتين، فيترتب عليه إهدار حقهم الدستوري في العمل وما يترتب عليه من حقوق أخرى تعسفًا، وحقهم القانوني أيضًا المنصوص عليه في المواد (13، 14، 15، 16) من ذات القانون).
كما تمتد العقوبة أيضًا إلى الملاك والمساهمين في رأسماله، فيترتب عليه إهدار حقهم الدستوري في الملكية الخاصة تعسفًا، والتي يفترض أنها مصونة لا تمس، وحقهم القانوني المنصوص عليه في المادتين (33، 34) من ذات القانون؛ ذلك كله بغض النظر عن المسئولية الجنائية لأي منهم، والتي جاءت غامضة ومبهمة دون تحديد قاطع ودقيق من المشرّع في صياغة نصوص وأحكام نصي المادتين (6) و (105) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام.
ثالثًا: الأساس الدستوري ومناقشات لجنة الخمسين لإعداد مشروع الدستور، ومبادئ المحكمة الدستورية العليا، والأساس القانوني لمبدأ حظر مصادرة أو وقف أو إغلاق وسائل الإعلام المصرية بأي وجه
نص الدستور الساري لجمهورية مصر العربية الصادر في 2014 وتعديلاته، في المادة (57) على أن :
“تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، ولا يجوز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها، بشكل تعسفى”.
كما نص في المادة (65) على أن :
“حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر.”
ونص في المادة (67) على أن :
“حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها،”
ونص في المادة (70) على أن :
“حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعى والمرئى والصحف الإلكترونية”.
ونص في المادة (71) على أن :
“يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز إستثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فيحدد عقوبتها القانون.”
ونص في المادة (92) على أن :
“الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا إنتقاصًا. ولا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها.”
ونص في المادة المادة (211) على أن :
“المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الفني والمالي والإداري، وموازنتها مستقلة. ويختص المجلس بتنظيم شئون الإعلام المسموع والمرئى، وتنظيم الصحافة المطبوعة، والرقمية، وغيرها. ويكون المجلس مسئولاً عن ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام المقررة بالدستور، والحفاظ على استقلالها وحيادها وتعدديتها وتنوعها، ومنع الممارسات الاحتكارية، ومراقبة سلامة مصادر تمويل المؤسسات الصحفية والإعلامية، ووضع الضوابط والمعايير اللازمة لضمان التزام الصحافة ووسائل الإعلام بأصول المهنة وأخلاقياتها، ومقتضيات الأمن القومى، وذلك على الوجه المبين في القانون. يحدد القانون تشكيل المجلس، ونظام عمله، والأوضاع الوظيفية للعاملين فيه. ويُؤخذ رأي المجلس في مشروعات القوانين، واللوائح المتعلقة بمجال عمله.”
كما نص في المادة (227) على أن :
“يشكل الدستور بديباجته وجميع نصوصه نسيجاً مترابطاً، وكلاً لا يتجزأ، وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة.”
وحيث أنه من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن نصوص الدستور لا تنفصل عن بعضها وتكمل بعضها بعض، فلا تتعارض أو تتهادم أو تتنافر فيما بينها، ولكنها تتكامل في إطار الوحدة العضوية التي تنظمها من خلال التوفيق بين مجموع أحكامها وربطها بالقيم العليا التي تؤمن بها الجماعة في مراحل تطورها المختلفة. ويتعين دومًا أن يعتد بهذه النصوص بوصفها متآلفة فيما بينها لا تتماحى أو تتآكل بل تتجانس معانيها وتتضافر توجهاتها ولا محل بالتالي لقالة إلغاء بعضها البعض بقدر تصادمها، ذلك أن إنفاذ الوثيقة الدستورية وفرض أحكامها على المخاطبين بها يفترض العمل بها في مجموعها، وشروط ذلك اتساقها وترابطها والنظر إليها باعتبار أن لكل نص منها مضمونًا ذاتيًا لا ينعزل به عن غيره من النصوص وينافيها أو يسقطها، بل يقوم إلى جوارها متساندًا معها مقيدًا بالأغراض النهائية والمقاصد الكلية التي تجمعها.3
كما أن من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا، الذي أكدته مرارًا وتكرارًا في أحكامها في شأن حماية حرية الصحافة، استنادًا لتلك النصوص الدستورية سالفة البيان، أن الدستور كفل بموجب المادة (65) حرية الرأي والحق في التعبير. كما صان بمقتضى نص المادتين (70، 71) منه للصحافة حريتها، وحظر رقابتها، إلا استثناء في زمن الحرب أو التعبئة العامة. كما حظر مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، بما يحول كأصل عام دون التدخل في شئونها، أو إرهاقها بقيود ترد رسالتها على أعقابها، أو إضعافها من خلال تقليص دورها في بناء مجتمعها وتطويره، متوخيًا دومًا أن يكرس بها قيما جوهرية، يتصدرها أن يكون الحوار بديلًا عن القهر والتسلط، ونافذة لإطلال المواطنين على الحقائق التي لا يجوز حجبها عنهم، ومدخلًا لتعميق معلوماتهم فلا يجوز طمسها أو تلوينها، بل يكون تقييمها عملًا موضوعيًا محددًا لكل سلطة مضمونها الحق وفقًا للدستور، فلا تكون ممارستها إلا توكيدًا لصفتها التمثيلية، وطريقًا إلى حرية أبعد تتعدد مظاهرها وتتنوع توجهاتها· بل إن الصحافة تكفل للمواطن دورًا فاعلًا، وعلى الأخص من خلال الفرص التي تتيحها معبرًا بواسطتها عن تلك الآراء التي يؤمن بها individual self- expression ويحقق بها تكامل شخصيته self – realization. بيد أن هذا الحق وتلك الحرية، وهما من نسيج واحد، لا يتأبيان على التنظيم التشريعي.4
ومن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أيضًا بشأن شرعية العقوبات الجنائية أن الجزاء الجنائي كان عبر أطوار قاتمة في التاريخ أداة طيعة للقهر والطغيان، محققًا للسلطة المستبدة أطماعها، ومبتعدًا بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية. وكان منطقيًا وضروريًا أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة في جوانبها الموضوعية والإجرائية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الجماعة في تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها. وكان لازمًا – في مجال دعم هذا الاتجاه وتثبيته – أن تقرر الدساتير المعاصرة القيود التي ارتدتها على سلطان المشرّع في مجال التجريم تعبيرًا عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافًا منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها تفرض نظامًا متكاملًا يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون في إطار أهدافه حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويهًا لأغراضها.5
وإضافة لما تقدم، فمن جماع ما انتهت إليه مناقشات لجنة الخمسين لإعداد الدستور الساري، وعلى نحو خاص في اجتماعها الخامس عشر المؤرخ 31-10-2013 بشأن إعداد نص المادة (71) من الدستور، قد اتفق جميع الأعضاء على مبدأ حظر الدستور مصادرة أو وقف أو إغلاق أو فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية بأي وجه. واقتصرت مناقشاتهم فقط فيما يتعلق بالاستثناء الوحيد بشأن فرض الرقابة دون غيرها، وذلك في حالتي الحرب أو التعبئة العامة ونطاق كل منهما، بينما لم يرد من الأعضاء اقتراحات لوضع أي استثناء بشأن المصادرة أو الغلق.6
ويتبين من النصوص الدستورية سالفة البيان، وما انتهت إليه مناقشات لجنة الخمسين لإعداد الدستور، وما قررته المحكمة الدستورية العليا من مبادئ – تطبيقًا لتلك النصوص – أن المشرّع الدستوري قد أكد أن الأصل الدستوري العام هو حق الأفراد في في التعبير عن آراءهم بأي وسيلة من وسائل التعبير والنشر العلني أو غير العلني، وهو القاعدة العامة المنظمة للتعبير والنشر بجميع صورهم، والتي أضفى عليها الحماية الدستورية، وأن ما يرد خلاف ذلك من قواعد دستورية أخرى في ذات الدستور، يكون محض استثناء في حدود ضيقة، لا يجوز التوسع فيها. ولمزيد من الحماية الدستورية على تلك الحريات، فقد أضفى المشرّع الحماية الدستورية على الحق في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، وحظر التعسف في حرمان المواطنين من استخدامها، أخذًا في الاعتبار أن وسائل الاتصال العامة التقليدية والمستحدثة بكافة أشكالها وصورها، قد أصبحت الوسيلة الأهم للتعبير عن الرأي بالإذاعة أو النشر أو بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير.
كما أكد على ذلك مرة أخرى من خلال تأكيده على كفالة وضمان الحريات المتفرعة من ذلك الحق، ومنها حرية الإبداع الفني والأدبي، وحرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني، وحظر التعدي عليهم بأي صورة من الصور.
وإضافة لما تقدم، و لإضفاء المزيد من الحماية على حرية الصحافة باعتبارها أحد الحريات المتفرعة عن الحق في التعبير؛ فقد وضع المشرّع الدستوري قيدًا على مبدأ التجريم والعقاب، يضمن من خلاله ألا تكون العقوبة الجنائية أداة قامعة للحرية تعصف بالحقوق والحريات الدستورية؛ فحظر على المشرّع العادي تشريع أي نص قانوني ينطوي على تقرير مصادرة أو وقف أو إغلاق أو فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية بأي وجه، وبأي صورة، واستثنى فقط حالة وحيدة، هي فرض الرقابة عليها، وذلك في حالتين استثنائيتين على سبيل الحصر هما: زمن الحرب أو التعبئة العامة.
أما في شأن المصادرة والوقف والإغلاق على سبيل الحصر؛ فقد جاء هذا الحظر مطلقًا من أي قيد، أو استثناء، ومن غير الجائز توقيعه كعقاب جنائي في جميع الأحوال، سواء في الظروف الطبيعية أو في زمن الحرب أو التعبئة العامة أو في غيرهم؛ حماية للأفراد المخاطبين بأحكام الدستور من أي استبداد أو طغيان أو ترهيب أو تهديد لحرياتهم الشخصية قد يتعرضوا له من جانب السلطة التنفيذية، أو التشريعية، نتيجة للتعبير عن آرائهم أو نتيجة لاستعمال حقهم الدستوري في استخدام وسائل الاتصالات بجميع صورها، وحماية لحرية الصحافة من القهر والتسلط باعتبارها أحد الحريات المتفرعة عن الحق في التعبير.
وفي سياق التشريعات القانونية، نجد أن قانون تنظيم الصحافة والإعلام ذاته قد نص على حظر مصادرة أو وقف أو إغلاق الصحف ووسائل الإعلام المصرية بأي وجه؛ فتنص المادة (3) من القانون على أن :
“يحظر، بأي وجه، فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية، ويحظر مصادرتها، أو وقفها، أو إغلاقها. ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة. وفي هذه الحالة للمجلس الأعلى أن يصدر قرارا بضبط نسخ الصحيفة الورقية أو حذف أو حجب المادة المخالفة لتعليمات الرقابة في حالة نشرها في صحيفة إلكترونية أو موقع إلكتروني، أو وقف إعادة بثها في الوسيلة الإعلامية، ولذوي الشأن الطعن على القرار الصادر بذلك أمام محكمة القضاء الإداري”.
خامسًا: أثر مخالفة النص المطعون عليه لمبدأ حظر مصادرة أو وقف أو إغلاق وسائل الإعلام المصرية بأي وجه
لما كان من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الدستور ليس مجرد تنظيم إجرائي يحدد لكل سلطة تخوم ولايتها وقواعد الفصل بينها وبين غيرها من السلطات، وإنما يبلور الدستور أصلًا قيمًا وحقوقًا لها مضامين موضوعية كفل حمايتها وحرص على أن يرد عنها كل عدوان حتى لاتفقد قيمتها أو تنحدر أهميتها. ولا تنفصل هذه القيم والحقوق عن الديمقراطية في أشكالها الأكثر تطورًا، ولكنها تقارنها وتقيم أسسها وتكفل إنفاذ مفاهيمها.7 ولا يجوز في إطار هذه المفاهيم مصادرة الحقوق أو تهميشها أو انتقاصها من أطرافها أو الهبوط بمستوياتها إلى حدود لا تقبلها الدول الديمقراطية.8
وانطلاقًا من ذلك؛ وجب الحرص في إعداد التشريعات على أن تراعي أحكامها الحقوق الأساسية للإنسان دون الاقتصار في شأن هذه الحقوق ورصدها على ما هو منصوص عليه في الدستوري منها، بل يتجاوزها إلى ما استقر منها في المواثيق الدولية وفي مفاهيم الدول الديمقراطية، وهي الحقوق التي عبرت عنها المحكمة الدستورية العليا في مصر بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها، وخاصة تلك التي تنطلق من إيمان الدول المتحضرة بحرمة الحياة الحياة ووطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية. ومن ثم، يجب أن تكون هذه الحقوق بالمعنى الواسع المشار إليه الذي يستوعب ما كان ورادًا منها في الدستور وما استقر في المواثيق الدولية وفي مفاهيم الدول الديمقراطية بمنأى عن أي انتهاك تشريعي.9
ولما كان المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن تقدير العقوبة وتقرير أحوال فرضها هو مما يدخل في نطاق السلطة التقديرية التي يمارسها المشرّع في مجال تنظيم الحقوق وفق الأسس الموضوعية التي يراها أصون لمصالح الجماعة وأحفظ لقيمها، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور، ويندرج تحتها ألا يكون آمر التجريم مفرطًا.10
ومن ثم، فإن توقيع عقوبتي الغلق والمصادرة كعقوبتين تكمليتين وجوبيتين قررهما المشرّع في الفقرة الأولى من النص المطعون عليه، كجزاء جنائي على مخالفة أحكام المواد (6، 41، 59، 67) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، يعد مخالفة صريحة لنصوص الدستور، وعدوان على حريات الأفراد، وعلى وجه خاص حرية الفكر والرأي والتعبير المنصوص عليها في المادة (65) من الدستور، وحرية الصحافة المنصوص عليها في المادتين (70 و71) من الدستور. كما أنه تعطيلًا وانتقاصًا وتقيدًا يمس أصل وجوهر الحقوق اللصيقة بشخص المواطن المنصوص عليها في المادة (92) من الدستور، وهو ما يجعل النص المطعون عليه مشوبًا بعدم الدستورية، بما يوجب عرضه على المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستوريته إعمالًا للسلطة المخولة لها وفقًا للدستور والقانون.
الوجه الثاني: عدم دستورية نصي المادتين (6) و(105) من القانون لما شابهما من غموض وإبهام في تحديد نطاق المسؤولية الجنائية، ومخالفتهما مبدأ شرعية التجريم والعقاب، ومبدأ شخصية العقوبة المنصوص عليه في المادة (95) من الدستور.
شابت النصين القانونيين المطعون بعدم دستوريتهما حالة من الغموض والإبهام في موضع رئيس يمثل ركنًا لا تقوم الجريمة إلا بتوافره، ويؤدي انعدامه إلى انتفاء الجريمة وخروج السلوك من دائرة التجريم إلى دائرة الإباحة باعتبارها الأصل العام. ويتمثل هذا الموضع الذي شابه الغموض في النص المطعون عليه في السلوك محل التجريم، أحد عناصر الركن المادي للجريمة. كما شاب الغموض والإبهام موضع رئيس آخر يمثل بدوره ركنًا لا تقوم الجريمة إلا بتوافره، ويتمثل هذا الموضع الثاني في شخص الجاني، وذلك على النحو الآتي بيانه من أسباب في هذا الوجه.
أولًا: مظاهر الغموض في النص المطعون عليه
الغموض والإبهام في شأن تحديد السلوك الإجرامي في نص المادة (6) من القانون
نصت الفقرة الثانية من المادة (105) من القانون على أن : “كل من خالف أحكام المواد (6، …، ..،…) من هذا القانون” , ومن ثم أحال المشرّع بيان السلوك الإجرامي محل المخالفة في شأن جريمتي تأسيس وإدارة المواقع الإلكترونية في جمهورية مصر.
العربية إلى نص المادة (6) من هذا القانون، والتي نصت على أن :
“لا يجوز تأسيس مواقع إلكترونية في جمهورية مصر العربية، أو إدارتها، أو إدارة مكاتب أو فروع لمواقع إلكترونية تعمل من خارج الجمهورية، إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من المجلس الأعلى وفق الضوابط والشروط التي يضعها في هذا الشأن”.
واستنادًا إلى هذا النص، أصبح محظورًا ممارسة أي من سلوكي التأسيس أو الإدارة لموقع إلكتروني في مصر إلا بعد الحصول على ترخيص من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وتحول هذا الحظر إلى تجريم جنائي بعد أن قرر المشرّع في المادة (105) من ذات القانون عقوبة الغرامة، فضلًا عن الغلق والمصادرة، كجزاء جنائي على مخالفة أحكام المادة (6).
وحيث إن مفهوم “التأسيس” المشار إليه كسلوك إجرامي يستوجب العقاب الجنائي متى تحقق نموذج الجريمة وتوافرت أركانه قد جاء منطويًا على غموض وإبهام، دون تحديد ماهيته في إطار ضيق، فقد خرج بذلك عن مبدأ شرعية التجريم والعقاب، وبات مخالفًا لأحكام ونصوص الدستور ومبادئ المحكمة الدستورية العليا، وبوجه خاص ما نصت عليه المادة (95) من الدستور.
ويعود ذلك إلى أن التأسيس ذاته للموقع الإلكتروني يُعد شرطًا لازمًا للتقدم بطلب الترخيص، وهو مرحلة سابقة على التقدم بهذا الطلب إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وفقًا لما نصت عليه مواد القانون ولائحته التنفيذية؛ حيث نصت الفقرة الأولى من المادة (40) من القانون على أن:
“على من يرغب في إصدار صحيفة أن يخطر المجلس الأعلى بكتاب موقع منه أو من ممثله القانوني، يشمل اسم الصحيفة أو الموقع الإلكتروني، واسم مالكه ولقبه وجنسيته، ومحل إقامته، واللغة التي تنشر بها الصحيفة أو الموقع الإلكتروني، ونوع المحتوى، والسياسة التحريرية، ومصادر التمويل، ونوع النشاط، والهيكل التحريري والإداري، وبيان الموازنة، والعنوان، واسم رئيس التحرير، وعنوان المطبعة التي تطبع بها الصحيفة، ومكان بث الموقع الإلكتروني”.
كما نصت الفقرة الأولى من المادة (60) من ذات القانون على أن:
“يقدم طلب إنشاء أو تشغيل الوسيلة الإعلامية أو الموقع الإلكتروني إلى المجلس الأعلى على النماذج التي يضعها، مستوفيًا البيانات التي يحددها”.
وبناءً على ذلك، أصبح تأسيس الموقع الإلكتروني شرطًا لازمًا للتقدم بطلب الترخيص على النماذج المعدّة من جانب المجلس لهذا الغرض؛ فلا يُتصور التقدم بطلب الترخيص مع ذكر اسم الموقع الإلكتروني والرابط الخاص به دون تأسيسه من الناحية الفنية.
وفي الوقت ذاته، استخدم المشرّع في مواد أخرى من القانون لفظي “الإنشاء” و”التشغيل“؛ فحظر إنشاء الموقع الإلكتروني قبل استيفاء كامل بيانات الإخطار، كما هو الحال في نص الفقرة الثانية من المادة (41) من القانون التي نصت على أنه:
“وفي جميع الأحوال، لا يجوز إصدار الصحيفة أو إنشاء الموقع الإلكتروني قبل استيفاء كامل بيانات الإخطار”.
وكذلك في نص الفقرة الأولى من المادة (59) التي نصت على أنه:
“مع عدم الإخلال باختصاص الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات في إصدار تراخيص إنشاء أو تشغيل شبكات الاتصالات أو تقديم خدمات الاتصالات، لا يجوز إنشاء أو تشغيل أي وسيلة إعلامية أو موقع إلكتروني أو الإعلان عن ذلك قبل الحصول على ترخيص من المجلس الأعلى، ويحدد المجلس الأعلى شروط ومتطلبات الترخيص”.
وذلك كله دون أن يبيّن تعريفًا واضحًا لكل من “التأسيس” و”الإنشاء” و”التشغيل”، بما يمكّن القائمين على تطبيق وإنفاذ هذا القانون من التفرقة بين هذه السلوكيات، وعلى وجه الخصوص سلوك “التأسيس”، الذي أصبح مفهومه وتعريفه غامضًا إلى حد يستحيل معه التمييز بينه وبين غيره من السلوكيات، فضلًا عن كونه سلوكًا لازمًا لمقدم طلب الترخيص حتى يتمكن من استيفاء البيانات المطلوبة، ومن بينها اسم الموقع الإلكتروني ورابطه على شبكة الإنترنت.
الغموض والإبهام في شأن تحديد شخص الجاني في نص المادة (105) من القانون
جاءت الفقرة الثانية من المادة (105) من القانون متضمنة عبارة “كل من خالف أحكام المواد (6، …، ..،…) من هذا القانون”، ومن ثم فقد بسط المشرّع نطاق التجريم على كل شخص تحقق في شأنه النموذج القانوني لجريمتي إدارة وتأسيس موقع إلكتروني داخل مصر، دون أي تحديد دقيق ومحدد لطبيعة شخص الجاني، سواء كان شخصًا طبيعيًا، أو اعتباريًا، أو ممثلًا قانونيًا للشخص الاعتباري، أو مسئولًا عن الإدارة الفعلية للشخص الاعتباري.
ولما كان هذا القانون قد نظم ملكية الوسيلة الإعلامية والمواقع الإلكترونية وتأسيسها في الفصل الأول من الباب الرابع، فجاءت المادة (49) تنص على أن “للمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، الحق في تملك الوسائل الإعلامية أو المواقع الإلكترونية الإعلامية وفقا لأحكام هذا القانون”.
ونصت المادة (51) على أن :
“يشترط في مالك الوسيلة الإعلامية التي تزاول البث أو إعادة البث المسموع أو المرئي أو الإلكتروني أو الرقمي على شبكة المعلومات الدولية أن تتخذ شكل شركة من شخص واحد أو أكثر”.
ونصت الفقرة الأولى من المادة (54) على أن :
“يشترط ألا يقل رأسمال الشركة المرخص به عن خمسين مليون جنيه للقناة التليفزيونية الإخبارية أو العامة، وثلاثين مليون جنيه للقناة التليفزيونية المتخصصة، وخمسة عشر مليون جنيه للمحطة الإذاعية الواحدة، واثنين ونصف مليون جنيه للمحطة أو القناة التليفزيونية الإلكترونية أو الرقمية على الموقع الإلكتروني”.
ونصت المادة (55) على أن :
“يعد المجلس الأعلى نموذجا لترخيص ممارسة العمل الإعلامي للوسيلة الإعلامية أو الموقع الإلكتروني. ويجب أن يحدد في النموذج أغراض الوسيلة الإعلامية أو الموقع الإلكتروني، والفئة المستهدفة من الجمهور، والسياسة التحريرية، وأسماء رئيس وأعضاء مجلس الإدارة، ونظامها الأساسي، وذلك طبقا لطلب الترخيص”.
ونصت المادة (56) على أن :
“تعين الوسيلة الإعلامية مديرا لبرامج القناة المرئية أو المسموعة أو الرقمية يكون مسئولا عن المحتوى، ويشترط فيه أن يكون مصريا مقيدا في جدول المشتغلين بنقابة الإعلاميين أو الصحفيين، وألا يكون ممنوعا من مباشرة حقوقه السياسية، وألا يكون قد صدر ضده حكم في جناية أو جنحة مخلة بالشرف أو الأمانة ما لم يكن قد رد إليه اعتباره”.
ونصت المادة (57) على أن :
“تعين الوسيلة الإعلامية مسئولا عن البث، يشترط أن يكون متفرغا لعمله، وأن يتمتع بالأهلية القانونية الكاملة”
كما نصت المادة (58) على أن :
“تتحمل الوسيلة الإعلامية والمواقع الإلكترونية المسئولية القانونية عن أي خطأ في ممارسة نشاطها، وكذا عن مخالفة القيم أو المعايير المهنية التي يضعها المجلس الأعلى”.
ويفهم من جماع ما تقدم من مواد هذا الفصل أن المشرّع قد اشترط أن يباشر حق تملك المواقع الإلكترونية التي يقدم من خلالها محتوى إعلامي أو إعلاني من خلال شخص اعتباري ممثلًا في شكل قانوني لشركة شخص واحد أو أكثر، وألا يقل رأسمال المرخص به لهذه الشركة عن اثنين ونصف مليون جنيه، وأن يتضمن نموذج الترخيص الصادر عن المجلس الأعلى للإعلام تحديد وأسماء رئيس وأعضاء مجلس الإدارة لهذه الشركة، ونظامها الأساسي. كما اشترط أن تعين مديرًا للبرامج الرقمية ليكون مسئولًا عن المحتوى وكذلك مسئولًا عن البث. وتلتزم تلك الشركة المالكة للموقع الإلكتروني المسئولية القانونية عن أي خطأ في ممارسة نشاطها.
ولما كان هذا القانون قد نظم ملكية المؤسسات الصحيفة وتأسيسها في الفصل الأول من الباب الثالث، فنصت المادة (39) على أن :
“يضع المجلس الأعلى نموذجا لنظام أو عقد تأسيس الصحيفة ونظامها الأساسي، على أن يحدد نظام أو عقد التأسيس أغراض الصحيفة، وأسماء رئيس وأعضاء مجلس الإدارة المؤقتين من بين الملاك أو المساهمين، وتكون مدة هذا المجلس ستة أشهر على الأكثر من تاريخ استكمال إجراءات التأسيس، يشكل خلالها مجلس الإدارة وفقا لما يحدده عقد أو نظام التأسيس”.
كما نظم أيضًا مزاولة المؤسسة الصحيفة لنشاطها في الفصل الثاني من الباب الثالث، فجاءت الفقرة الأولى من المادة (40) تنص على أن :
“على من يرغب في إصدار صحيفة أن يخطر المجلس الأعلى بكتاب موقع منه أو من ممثله القانوني، يشمل اسم الصحيفة أو الموقع الإلكتروني، واسم مالكه ولقبه وجنسيته، ومحل إقامته، واللغة التي تنشر بها الصحيفة أو الموقع الإلكتروني، ونوع المحتوى، والسياسة التحريرية، ومصادر التمويل، ونوع النشاط، والهيكل التحريري والإداري، وبيان الموازنة، والعنوان، واسم رئيس التحرير، وعنوان المطبعة التي تطبع بها الصحيفة، ومكان بث الموقع الإلكتروني”.
ونصت الفقرة الثالثة من المادة (41) على أن :
“ويشترط أن يكون لكل صحيفة أو موقع إلكتروني رئيس تحرير مسئول يشرف إشرافا فعليا على ما ينشر بها، وعدد من المحررين المسئولين، يشرف كل منهم إشرافا فعليا على قسم معين من أقسامها”.
ويفهم من مواد هذين الفصلين أن المشرّع قد اشترط أن يباشر حق تملك المواقع الإلكترونية التي يقدم من خلالها محتوى صحفي أو إعلاني من خلال شخص اعتباري ممثلًا في شكل قانوني لشركة يبين في عقد تأسيسها أو نظامها الأساسي أغراضها وأسماء رئيس وأعضاء مجلس الإدارة من بين الملاك أو المساهمين. وأن يتضمن الإخطار اسم الموقع الإلكتروني، ومكان بثه، وبيان الموازنة، والهيكل التحريري والإداري، و واسم رئيس التحرير. كما اشترط تعيين رئيس تحرير يكون مسئولًا فعليًا عما ينشر، وكذلك عدد من المحررين للإشراف الفعلي على أقسامه.
ومن ثم، فقد اشترط المشرّع في جميع الأحوال وجود كيان اعتباري (شركة مؤسسة وفقًا لأحكام القوانين المنظمة للشركات) في حال الرغبة في الإخطار أو طلب الترخيص – حسب الأحوال – بتأسيس أو إدارة موقع إلكتروني من داخل مصر، سواء لتقديم محتوى صحفي أو إعلامي أو إعلاني أو الجمع بينها أو بين بعضهم.
وحيث إن شخصية العقوبة تتجلى من خلال النص التشريعي والتطبيق القضائي؛ ففي النص التشريعي الذي يحدد التجريم والعقاب يجب أن يكون واضحًا أن العقوبة هي جزاء من اعتبر مسؤولًا عن ارتكاب الجريمة، فلا تضامن في العقوبات ولا مسؤولية عن فعل الغير. ومن ناحية أخرى، تأخذ شخصية العقوبة من خلال التطبيق القضائي بُعدًا إضافيًا يتمثل في شخصية المجرم، التي ترتبط بالأهداف النهائية المراد تحقيقها من وراء توقيع العقاب، لا بمجرد النص عليه. ومن خلال هذه الشخصية يتحدد المركز القانوني للمتهم، وعلى ضوء هذا المركز يمارس القاضي سلطته التقديرية.11
كما أن المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية ذات طبيعة خاصة، فهي مسؤولية مباشرة وغير مباشرة في آن واحد، وقد سماها البعض “مسؤولية عن الفعل الشخصي بالإنابة”. ويتأكد الطابع الشخصي للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في ضرورة أن تقع الجريمة بواسطة جهاز أو ممثل لهذا الشخص المعنوي، ولو لم تُرفع الدعوى الجنائية على الشخص الطبيعي. ولا يشترط لانعقاد مسؤولية الشخص المعنوي تحديد شخصية ممثله أو الجهاز الذي وقعت منه الجريمة. وتُعد المسؤولية الجنائية غير المباشرة للشخص المعنوي مشوبة بعدم الدستورية إذا أُسست على مجرد مسؤولية الشخص الطبيعي العامل به، من دون أن يثبت أنه ارتكب الفعل باسمه أو نيابة عنه؛ إذ يجب أن يثبت صدور فعل مادي من الشخص المعنوي من خلال من يعمل باسمه أو نيابة عنه، وإلا كانت المسؤولية عن فعل الغير.12
ولما كان المشرّع في نطاق تحديد المسئولية الجنائية للشخص الاعتباري أو الممثل الفعلي للإدارة في الشخص الاعتباري في تشريعات معاصرة لإقرار وسريان أحكام هذا القانون قد التزم بجميع ضوابطه على خلاف الغموض والإبهام اللذان أنطوى عليهما النص المطعون فيه بعدم دستوريته؛ فعلي سبيل المثال لا الحصر، نص المشرّع في القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات في المادة (36) منه على أن :
“في الأحوال التي ترتكب فيها أي من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون باسم ولحساب الشخص الاعتباري، يعاقب المسئول عن الإدارة الفعلية إذا ثبت علمه بالجريمة أو سهل ارتكابها تحقيقا لمصلحة له أو لغيره بذات عقوبة الفاعل الأصلي. وللمحكمة أن تقضي بإيقاف ترخيص مزاولة الشخص الاعتباري للنشاط مدة لا تزيد على سنة، ولها في حالة العود أن تحكم بإلغاء الترخيص أو حل الشخص الاعتباري بحسب الأحوال، ويتم نشر الحكم في جريدتين يوميتين واسعتي الانتشار على نفقة الشخص الاعتباري”.
كما نصت المادة (37) أيضًا على أن :
“في تطبيق أحكام هذا القانون، لا يترتب على تقرير مسئولية الإدارة الفعلية للشخص الاعتباري استبعاد المسئولية الجنائية للأشخاص الطبيعيين الفاعلين الأصليين أو الشركاء عن ذات الوقائع التي تقوم بها الجريمة”.
ويتضح من هذين النصين أن المشرّع في قانون معاصر لقانون تنظيم الصحافة والإعلام قد التزم الضوابط التشريعية والدستورية اللازمة لتقرير المسؤولية الجنائية، وميّز بصورة قاطعة بين مسؤولية الشخص الطبيعي، والشخص الاعتباري، والمسؤول عن الإدارة الفعلية. وهو ما خلا منه النص المطعون بعدم دستوريته؛ إذ انطوى الأخير على غموض وإبهام جعلا من المستحيل بيان المسؤولية الجنائية للشخص المعني، سواء كان طبيعيًا أو اعتباريًا أو مسؤولًا عن الإدارة الفعلية، فأطلق نطاق التجريم وجعله محلاً لتعدد التأويلات، وخاضعًا لمعايير شخصية من جانب القائمين على تطبيق القانون، تخالطها الأهواء، فتنال من الأبرياء، لافتقاره إلى الأسس الموضوعية اللازمة لضبطه.
ثانيًا: الأساس الدستوري والقانوني لمبدأ شرعية التجريم والعقاب وشخصية العقوبة
لما كانت الجريمة الجنائية هي كل سلوك غير مشروع، صدر عن إرادة إجرامية، قرر له الشارع جزاءًا جنائيًا في صورة عقوبة أو تدبير احترازي.13 وقد نص المشرع الدستوري في المادة (95) من الدستور الساري على أن “العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون”. وتنص أيضًا المادة (96) من الدستور على أن :
“المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه…”.
وحيث إن مبدأ الشرعية الجنائية، باعتباره إحدى ضمانات حماية الحريات الفردية وضمانًا لحقوق الأفراد في مواجهة تحكّم السلطات العامة واستبدادها، قد أوجد لنفسه أساسًا في مبدأ الفصل بين سلطتي التشريع والقضاء، فأصبحت السلطة التشريعية وحدها صاحبة الاختصاص التشريعي الأصيل، مما أدى إلى وحدة القانون ووضوحه، دون أن يطلق العنان للقضاء في مجال التجريم والعقاب؛ فتتعدد اتجاهات المحاكم بالنسبة للواقعة الواحدة، وتختلف في تكييفها، فتعتبر إحداها جريمة جنائية، بينما تعتبرها الأخرى فعلاً مشروعاً، وتتضارب أحكامها، فيترتب على ذلك عدم المساواة بين الأفراد أمام ذات القاعدة القانونية الواحدة.14
وانطلاقًا من ذلك، وجب الحرص عند إعداد التشريعات على أن تراعي أحكامها الحقوق الأساسية للإنسان، دون الاقتصار في شأن هذه الحقوق ورصدها على ما هو منصوص عليه دستوريًا، بل يجب أن يمتد ليشمل ما استقر منها في المواثيق الدولية وفي مفاهيم الدول الديمقراطية، وهي الحقوق التي عبرت عنها المحكمة الدستورية العليا في مصر بأنها حقوق طبيعية لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها، وبخاصة تلك التي تنبع من إيمان الدول المتحضرة بحرمة الحياة ووطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية. ومن ثم، يجب أن تكون هذه الحقوق، بالمعنى الواسع المشار إليه، الذي يستوعب ما ورد منها في الدستور وما استقر في المواثيق الدولية ومفاهيم الدول الديمقراطية، بمنأى عن أي انتهاك تشريعي.15
كما يجب عند وضع الأحكام العقابية أن تتم صياغة الأفعال المجرّمة على نحو ضيق ومحكم؛ فلا ينبغي أن تكون الصياغة فضفاضة في بيان الفعل المجرّم، ولا أن يشوبها إبهام أو إجمال أو تمييع أو تداخل مع صور أفعال مشروعة. ومن ثم، يتعين صياغة الأحكام العقابية بأعلى درجات الحرفية والدقة، بحيث تكون جلية، محددة، وقاطعة، بما يمكّن المخاطب بها من إدراك ما جُرّم من أفعال دون الحاجة لإعمال تقديره الشخصي، وبما يتيح للقاضي استخلاص أركان الجرم المقترف بيُسر ووضوح.16
ويتعين أن تراعى في إعداد نصوص وأحكام التشريعات الجزائية خاصية الوضوح واليقين، وأن يتم الركون في إعداد التشريع الجنائي على مناهج دقيقة في الصياغة لا تنزلق إلى التعبيرات الفضفاضة أو المتعمية المحملة بأكثر من معنى، بما يوقع المحاكم الجزائية في محاذير تخل بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة التي تنص عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، و تكفلها الدساتير. كما يجب أن يتجنب المشرع الجنائي تقييد سلطة القاضي في اختيار بدائل للجزاءات والتدابير، وفي استعمال موجبات الرأفة، وأن تكون أحكام التشريعات الجنائية في هذا النطاق في حدود مبدأ المساواة أمام القضاء لا تتخطاه، ممتثلة مبدأ تكافؤ الفرص لا تتجاوز تخومه.17
وحيث أن النص القانوني إذا كان بالغ الغموض، وينقصه التحديد، فيجعل مهمة القاضي في التفسير مستحيلة. وفي هذه الحالة لا نكون بصدد مجرد شك في تحديد إرادة القانون، وإنما نكون حيال تعذر كامل في تحديد هذه الإرادة. وأمام غموض النص وعدم تحديده لا يمكن نسب الجريمة إلى المتهم أو الحكم عليه بعقوبة ما، لأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص؛ وهذا المبدأ يفترض الوضوح والتحديد في النص، حتى يكون مصدرًا للتجريم والعقاب. ويسري ذات المبدأ إذا كان النص متعلقًا بإجراء ماس بالحرية؛ فإن عدم تحديد إرادة المشرّع حول المساس بالحرية يتطلب إهدار إرادة هذا المساس، تأكيدًا للأصل العام في الإنسان وهو البراءة.18
ومن المقرر والمستقر عليه فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن القيود التى تفرضها القوانين الجزائية على الحرية الشخصية تقتضي أن تصاغ أحكامها بما يقطع كل جدل فى شأن حقيقة محتواها ليبلغ اليقين بها حدًا يعصمها من الجدل، وبما يحول بين رجال السلطة العامة وتطبيقها بصورة انتقائية ، وفق معايير شخصية ، تخالطها الأهواء، وتنال من الأبرياء لافتقارها إلى الأسس الموضوعية اللازمة لضبطها.19
ومن المقرر أيضًا أن غموض النصوص العقابية يعنى انفلاتها من ضوابطها وتعدد تأويلاتها، فلا تكون الأفعال التى منعها المشرّع أو طلبها محددة بصورة يقينية، بل شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع متصيدًا باتساعها أو خفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها.20
وحيث أن تجريم المشرع لأفعال بذواتها حال وقوعها في مكان معين، مؤداه: أن تعيين حدود هذا المكان بما ينفى التجهيل بأبعاده شرط أولى لصون الحرية الفردية التي أعلى الدستور قدرها، واعتبرها من الحقوق الطبيعية التى تكمن فى النفس البشرية ولا يتصور فصلها عنها أو انتهاكها (inherent, inalienable and inviolable right) إذ هى من مقوماتها، وكانت القيود التى تفرضها القوانين الجزائية على تلك الحرية سواء بطريق مباشر أو غير مباشر تقتضي أن تصاغ أحكامها بما يقطع كل جدل فى شأن حقيقة محتواها ليبلغ اليقين بها (legal certainty) حدًا يعصمها من الجدل، وبما يحول بين رجال السلطة العامة وتطبيقها بصورة انتقائية وفق معايير شخصية تخالطها الأهواء وتنال من الأبرياء لافتقارها إلى الأسس الموضوعية اللازمة لضبطها.
وكان ماتقدم مؤداه: أن النصوص العقابية لا يجوز من خلال انفلات عباراتها أو تعدد تأويلاتها أو “انتفاء التحديد الجازم لضوابط تطبيقها” أن تعرقل حقوقاً كفلها الدستور كالحق فى التنقل، فقد تعين ألا تكون هذه النصوص شباكاً أو شراكاً يلقيها المشرع متصيداً باتساعها أو بخفائها المتهمين المحتملين ليكون تصنيفهم وتقرير من يجوز احتجازه من بينهم عبئاً على السلطة القضائية لتحل إرادتها بعدئذ محل إرادة السلطة التشريعية، وهو ما لا يجوز أن تنزلق إليه القوانين الجنائية باعتبار أن ما ينبغى أن يعنيها هو أن تحدد بصورة جلية مختلف مظاهر السلوك التي لا يجوز التسامح فيها على ضوء القيم التي تبنتها الجماعة واتخذتها أسلوباً لحياتها وحركتها، وركائز لتطورها، وبما يكفل دوماً ألا تكون هذه القوانين مجرد إطار لتنظيم القيود على الحرية الشخصية، بل ضماناً لفعالية ممارستها.21
ثالثاً: أثر غموض النص المطعون عليه ومخالفته لشرعية التجريم والعقاب وشخصية العقوبة
حيث أن القاضي الجنائي يلتزم باحترام قواعد الدستور أثناء تفسيره للقواعد الجنائية، حتى يكون تفسيره مطابقًا للدستور، ولا يقتصر الأمر على مجرد تحقيق هذه المطابقة، بل يتجاوزه إلى تحقيق مصداقية التفكير التي تعبر عن إرادة المشرّع الواعية المتطورة. فالحقوق والحريات تتلقى مظلة حمايتها من الدستور ذاته، وما التشريع إلا منظم لهذه الحماية؛ ولهذا فإنه من المقرر أن القاضي حين يطبق النصوص التشريعية يجب عليه تفسيرها وفقًا للمعنى المطابق للدستور، طالما أن نصوص التشريع تتسع لذلك. فإذا خلا نص تشريعي من ذكر ضمان أورده الدستور، فلا يفسر هذا الخلو بعيدًا عن النص الدستوري، بل يجب تطبيق نصوص الدستور مباشرة لتوفير هذا الضمان.22
كما أن النص القانوني يكون بالغ الغموض وينقصه التحديد مما يجعل مهمة القاضي في التفسير مستحيلة، ففي هذه الحالة لا نكون بصدد مجرد شك في تحديد إرادة القانون، إنما نكون حيال تعذر كامل في تحديد هذه الإرادة. وأمام غموض النص وعدم تحديده لا يمكن نسب الجريمة إلى المتهم أو الحكم عليه بعقوبة ما، لأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. وهذا المبدأ يفترض الوضوح والتحديد في النص حتى يكون مصدرًا للتجريم والعقاب. ويسري ذات المبدأ إذا كان النص متعلقًا بإجراء ماس بالحرية، فإن عدم تحديد إرادة المشرّع حول المساس بالحرية يتطلب إهدار هذا المساس، تأكيدًا للأصل العام في الإنسان وهو البراءة.23
ذلك أن دستورية النصوص الجنائية تحكمها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها ولا تزاحمها فى تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية؛ فقد أعلى الدستور قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدَا لقيمتها. وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية -بطريق مباشر أو غير مباشر- أخطر القيود وأبلغها أثرَا؛ وكان لازماً بالتالى ألا يكون النص العقابى محملاً بأكثر من معنى، مرهقاً بأغلال تعدد تأويلاته، مرناً مترامياً على ضوء الصيغة التي أفرغ فيها، متغولاً -من خلال إنفلات عباراته- حقوقاً أرساها الدستور، مقتحماً ضماناتها، عاصفاً بها، حائلاً دون تنفسها بغير عائق؛ ويتعين بالتالي أن يكون إنفاذ القيود التى تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية، رهناً بمشروعيتها الدستورية، ويندرج تحت ذلك، أن تكون محددة بصورة يقينية لا إلتباس فيها؛ ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم فى الحياة، وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التى تعكسها العقوبة؛ ومن ثم كان أمراً مقضياً، أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون إنسيابها أو تباين الآراء حول مقاصدها، أو تقرير المسئولية الجنائية فى غير مجالاتها عدواناً على الحرية الشخصية التى كفلها الدستور.24
ولما كان ضمان الدستور للحرية الشخصية في إطار دولة القانون، ووفق المفاهيم الديمقراطية، يفترض شخصية المسئولية الجنائية وشخصة العقوبة، وألا يبتدع القاضي عقوبة بطريق القياس، وألا يجعل المشرع أشخاصاً بذواتهم مسئولين عن فعل أو أفعال لا شأن لهم بها، وألا يتخذ من القرائن القانونية التحكمية سبيلًا على إعفاء النيابة من إثبات ركن في الجريمة لا تقوم إلا به، أو من توافر أحد الظروف المشددة لعقوبتها، وألا يقرر المشرّع جزاءًا جنائيًا رجعيًا، وألا يعطل سريان قانون اصلح للمتهم منذ صدوره، ولم لم يحن وقت العمل به، وألا يقيد الحرية الشخصية بغير الوسائل القانونية السليمة وألا يعاقب على الفعل الواحد أكثر من مرة، وألا يفرض عقوبة من شأنها الحط من قدر الإنسان سواء بالنظر إلى قسوتها أو منافتها للقيم الخلقية، وألا يحدد عقوبة الجريمة بما يفقدها تناسبهما معاً، وألا يخل كذلك بحق الدفاع، أو يؤثر بوجه عام في الشروط الموضوعية والإجرائية التي تتوافر بها لكل محاكمة منصفة متطلباتها، حتى لا تختل موازينها؛ فإذا أغفل في دائرة الجريمة والعقاب سيئاً مما تقدم، أخل ها القانون بنطاق الضمانة التي أحاط بها الدستور الحرية الشخصية التي ارتقى بها إلى حد وصفها بأنها من الحقوق الطبيعية، وصار ذلك القانون بالتالي مخالفاً للدستور، وباطلاً.25
ومما تقدم، يكون النصان القانونيان المطعون عليهما قد لحق بهما عوار تشريعي، إذ شابهما الغموض والإبهام والتجهيل في تحديد السلوك الإجرامي (التأسيس) وكذلك في تحديد شخص الجاني، فأضحى غير مفهوم ما يرمي إليه المشرّع القانوني ومقصده منه، وأصبح تطبيق النص مرتبطًا بالأهواء والتفسيرات الشخصية النابعة من الفهم الخاص للقائمين على تطبيقه، على النحو المبيّن سلفًا. وجاء بذلك مخالفًا للدستور من حيث إن الأصل في النصوص العقابية أن تصاغ في حدود ضيقة (narrowly tailored) تعريفًا بالأفعال التي جرمها المشرّع، وتحديدًا لماهيتها، ضمانًا لئلا يكون التجهيل بها مدخلًا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين.26
وقد خالف بذلك النصان المطعونان عليهما ما نص عليه الدستور الساري في المادتين (95)، (96)، وما نصت عليه المادتان (11)، (29) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما استقرت عليه الدساتير السابقة، ودساتير ومفاهيم الدول الديمقراطية، وكافة المواثيق الدولية، فضلًا عن ما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا بشأن الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها؛ لذلك فقد صار مرجحاً القضاء بعدم دستوريته، لما شابه من عوار تشريعي، جعله مخالفًا للدستور.
الوجه الثالث: عدم دستورية العقوبات الجنائية المنصوص عليها في المادة (105) من القانون لما انطوت عليه من مغالاة في الجزاء الجنائي، وقسوة في العقوبات المقررة، وانتفاء الضرورة وعدم التناسب مع السلوك المجرّم.
شاب النص القانوني المطعون عليه بعدم دستوريته قدر مبالغ فيه من المغالاة في الجزاء الجنائي وقسوة في العقوبات المقررة، انطوت على انتفاء الضرورة اللازمة لها وعلى انعدام تناسب مع السلوك الإجرامي. وجاء ذلك في ثلاثة مواضع: الأول متمثلًا في تعارض العقوبات التبعية الوجوبية مع مبدأ تفريد العقوبة، والثاني في جمع المشرع لثلاث عقوبات معًا كجزاء جنائي هم الغرامة المالية والغلق والمصادرة، والثالث في شأن المغالاة في مقدار الغرامة المالية كعقوبة أصلية، وذلك على النحو الآتي بيانه:
مظاهر قسوة العقوبة والمغالاة في الجزاء الجنائي
تعارض العقوبات التكميلية الوجوبية مع مبدأ تفريد العقوبة
قرر المشرّع في نص المادة عقوبتين: أولهما الغرامة المالية، التي حُدِّد حدها الأدنى بمليون جنيه، والأقصى بثلاثة ملايين جنيه، وجعل تفريدها لمحكمة الموضوع إعمالًا للحق الدستوري المخوّل للسلطة القضائية في التفريد العقابي، تحقيقًا لمبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة وما نجم عنها من ضرر، وارتباطها بشخص المحكوم عليه، بالنظر إلى دوره فيها، ونواياه التي قارنتها، باعتبار أن المجرمين ليسوا بطبيعتهم نمطًا ثابتًا، إنما يتمايزون من حيث تعليمهم وثقافتهم، وقدر ذكائهم واستقلالهم، وتدرج نزعتهم الإجرامية بين اللين والاعتدال والغلو.
وعلى الجانب الآخر، جاءت العقوبة الثانية متمثلة في ثلاث عقوبات مجتمعة: الغلق، ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استُعملت في ارتكاب الجريمة. وقد اعتُبرت هذه العقوبات تكميلية وجوبية – وذلك على الفرض الجدلي بدستوريتها، وهي في حقيقتها محل شبهة عدم الدستورية على نحو ما تقدم في الوجه الأول من أوجه هذا الطعن – إذ صار تطبيقها واجبًا على القاضي دون أن يمنح أي سلطة تقديرية في جواز توقيعها على المتهم المدان. وبذلك، حرم المشرّع السلطة القضائية من حقها في التفريد العقابي فيما يتعلق بهذه العقوبات الثلاث، ومن تقدير مدى التناسب بين الجريمة المرتكبة والعقوبات المقررة لها، رغم أن هذه العقوبات الثلاث أشد قسوة وأثرًا من عقوبة الغرامة المالية؛ إذ يتجاوز أثرها شخص المجرم ليمتد إلى الشخص الاعتباري وجميع العاملين فيه. ومن ثم، كان لزامًا على المشرّع أن يُطلق يد السلطة القضائية في إعمال سلطتها في تفريد هذه العقوبات، بحيث تقضي بها مجتمعة أو ببعضها إذا رأت فيها عقابًا متناسبًا مع الجريمة المرتكبة، أو تكتفي بالغرامة المالية دون غيرها.
ولما كان من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الأصل في العقوبة هو تفريدها (Individualization of punishment) لا تعميمها (Generalization of punishment)، فإن تقرير استثناء من هذا الأصل – أيًّا كانت الأغراض التي يتوخاها – مؤداه التسليم بأن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم (Homogenous) وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها. وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة، وبصورة مجردة، لتجلب ألوانًا من المعاناة تختلط بآلام تفتقر إلى مبرراتها، بعد أن فقدت العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، بما يقيّد الحرية الشخصية دون مقتضٍ.27
كما استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية مناطها أن يباشر كل قاضٍ سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها وتقديرها في الحدود المقررة قانونًا، فذلك وحده السبيل إلى معقوليتها وإنسانيتها، جبرًا لآثار الجريمة من منظور موضوعي يتعلق بها وبمرتكبها.28
وقررت كذلك أنه، سواء أكانت العقوبة التي فرضها المشرّع – بالنظر إلى أهدافها الاجتماعية – غايتها تحقيق ردع خاص، أم كانت تعبيرًا عن مفهوم متطور للجزاء باعتباره عقابًا منصفًا لأشخاص ارتكبوا أفعالًا جرمها المشرّع، فإن تقديرها من خلال تفريدها يتعلق بعوامل موضوعية متصلة بالجريمة في ذاتها، وبعناصر شخصية تعود إلى مرتكبها. وبما مؤداه قيام علاقة حتمية بين سلطة القاضي في تفريد العقوبة وتناسبها مع الجريمة، وارتباطهما معًا بمباشرة الوظيفة القضائية اتصالًا بجوهر خصائصها. ولا يجوز بالتالي أن يقيد المشرّع نطاق هذه الوظيفة عن طريق التدخل في مكوناتها، تأسيسًا على أن الجرائم لا تتحد في خطورتها، ولأن المتهمين لا تتجانس خصائص تكوينهم (Heterogenous) ولا تتشابه بيئاتهم، بل يتمايزون – على الأخص – من حيث تعليمهم وثقافتهم، وقدر ذكائهم واستقلالهم، وتدرج نزعتهم الإجرامية بين اللين والاعتدال والغلو والإيغال.29
وإضافة إلى ذلك، فإن الاختصاص المقرر دستوريًا للسلطة التشريعية في مجال إقرار القوانين، وما يتصل بها من إنشاء الجرائم وتقرير عقوبتها، لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية واختصها بها؛ وإلا كان ذلك افتئاتًا على ولايتها. إذ إن اختصاص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات المطروحة عليها يقتضي تمكينها من مباشرة كل الحقوق التي يمكن ربطها عقلًا بالوظيفة القضائية، فلا تنفصل عنها باعتبارها من جوهرها. ومتى كان ذلك، فإن تعطيل السلطة التشريعية لهذه الوظيفة – ولو في بعض جوانبها – يعد تحريفًا لها واقتحامًا مخالفًا للدستور للحدود التي فُصل بها بينها وبين السلطة القضائية.30
وأضافت المحكمة أنه لا يجوز للدولة – في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صونًا لنظامها الاجتماعي – أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة تتم إنصافًا، غايتها إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة وفقًا لمتطلباتها التي بينتها المادة (67) من الدستور. وقد تقرر أن “شخصية العقوبة” و”تناسبها مع الجريمة محلها” مرتبطتان “بمن يكون قانونًا مسؤولًا عن ارتكابها” على ضوء دوره فيها، ونواياه التي قارنتها، وما نجم عنها من ضرر، ليكون الجزاء عنها موافقًا لاختياره بشأنها. ومتى كان ذلك، وكان تقدير هذه العناصر جميعها داخلًا في إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية باعتباره من مكوناتها، فإن حرمان من يباشرونها من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة بما يوائم “بين الصيغة التى أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها فى حالة بذاتها”، مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها ، فلا تنبض بالحياة ، ولا يكون إنفاذها ” إلا عملاً مجرداً يعزلها عن بيئتها” دالاً على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال ، جامداً فجاً منافياً لقيم الحق والعدل.31
واستنادًا إلى ما تقدم، فإن عقوبات الغلق ومصادرة المعدات والأجهزة ومكوناتها التي استُعملت في ارتكاب الجريمة، والتي أقرها المشرّع كجزاء جنائي باعتبارها عقوبات تكميلية وجوبية، قد جردت السلطة القضائية من إعمال سلطتها الدستورية في التفريد العقابي فيما يتعلق بهذه العقوبات الثلاث، لتقدير مدى التناسب بين الجريمة المرتكبة والعقوبات المقررة لها. وذلك على خلاف العقوبة الأصلية المتمثلة في الغرامة المالية، التي هي أقل إيلامًا وأثرًا من هذه العقوبات التي يتجاوز أثرها شخص الجاني إلى غيره. ومن ثم، فقد خالف المشرّع بذلك ما نص عليه الدستور الساري في المادة (95)، وما استقر في الدساتير السابقة، ومفاهيم الدول الديمقراطية، وكافة المواثيق الدولية، وما قررته المحكمة الدستورية العليا بشأن حق السلطة القضائية في تفريد العقوبة؛ لذلك فقد صار مرجحًا القضاء بعدم دستورية نص المادة، لما شابه من عوار تشريعي، جعله مخالفًا للدستور، إضافة إلى كونه في الأساس محلًا لشبهة عدم الدستورية على نحو ما تقدم في الوجه الأول من أوجه هذا الطعن.
المغالاة في الجمع بين أربع عقوبات كجزاء جنائي
إضافةً إلى ما سبق بيانه في هذا الوجه من النعي على نص المادة (105) من القانون بمخالفتها للدستور، فإن إقرار المشرّع لأربع عقوبات على جريمة واحدة – وهي في حقيقتها جريمة شابها الغموض والإبهام في بيان سلوكها الإجرامي وشخص الجاني، على النحو المبيَّن في الوجه الثاني من أوجه هذا الطعن – يُمثّل غلوًا في التجريم وإطلاقًا له دون قيود صارمة ومحددة تضبط نطاقه، فلا يصير عدوانًا على أصل البراءة المفترض في الكافة. كما انطوى على مغالاة شديدة في العقاب، فاختل التعادل بصورة جلية لا تقبل شكًا أو إنكارًا بين طبيعة الجريمة والعقوبة المقررة لها، متجاوزةً حدود الملاءمة التي يجب على المشرّع التزامها دون الخروج عليها. فأضحت العقوبة في هذه الصورة جزاءً جنائيًا بغضًا ومجافيًا لحدود التناسب، وأصبحت في حقيقتها قمعًا لحرية التعبير وحرية الصحافة بكل ما تتضمنه من حقوق دستورية تدخل في نطاقها، فعصفت بها وصارت عدوانًا عليها، بما يمثل اعتداءً على الحقوق والحريات الدستورية.
ولما كانت المحكمة الدستورية العليا هي من يقع عليها عبء مراقبة مشروعية الضرورة والتناسب في التضحيات التي تتحملها القيم التي يقوم عليها النظام الدستوري، فإذا أقدم المشرّع على إحداث عدم تناسب ظاهر لا يتفق مع الأهداف والمقاصد التي استهدفها الدستور من وراء حماية الحقوق والحريات وسائر القيم التي ينص عليها، تتدخل بالقضاء بعدم دستورية القاعدة التي أخلت بضوابط الضرورة والتناسب المطلوب. فالسلطة التقديرية للمشرّع في تحديد الضرورة والتناسب في التجريم والعقاب ليست مطلقة، وإنما تحدها الغايات التي استهدف الدستور تحقيقهاـ لأن السلطة التشريعية لا تمارس اختصاصها إلا في حدود الدستور.
فالضرورة والتناسب يُشكّلان معًا معيارًا دستوريًا يتعين الالتزام به. وواقع الأمر أن الدستور إمّا أن يعبّر عن أحكامه بقواعد محددة تتقيد بها إدارة المشرّع، وإمّا أن يلجأ إلى وضع مبادئ تحدد الغايات التي يجب تحقيقها من وراء نصوصه، وتستنبط هذه الغايات من مجمل نصوص الدستور. ومن واجب المحكمة الدستورية العليا أن تبلور المضمون القاعدي لهذه المبادئ التي تحدد مقاصد المشرّع الدستوري، وتراقب المشرّع العادي في ضوء احترامه لهذا المضمون. وبالتالي، فإن رقابة المحكمة الدستورية العليا على تقدير المشرّع للتناسب هي رقابة مشروعية دستورية وليست محض تدخل في سلطته التقديرية، باعتبار أن مقاصد الدستور وغاياته – وإن تجلت في ثنايا الدستور كمبادئ عامة – تضفي المحكمة الدستورية عليها مضمونًا قاعديًا يأخذ الوضع الأسمى في هرم القواعد القانونية المتدرج، فيتقيد به المشرّع العادي فيما يضعه من قواعد.
غير أن الإخلال يجب أن يكون واضحًا ظاهرًا جليًا يكشف بقوة هذا الوضوح عن انتفاء الضرورة أو عدم التناسب في التجريم والعقاب، بل وينطق به دون حاجة إلى مراجعة في السلطة التقديرية للمشرّع التي تقوم على اعتبارات الملاءمة في اختيار أفضل الوسائل لتحقيق المقاصد التي توخاها المشرّع الدستوري.32 ويُعد الإخلال بالتناسب ظاهرًا إذا كان من شأنه أن يُفقد الحقوق والحريات جوهرها ومحتواها لدى المشرّع، إذ في هذه الحالة يتضح جليًا مدى الإخلال بالمقاصد التي استهدفها الدستور.33
وكان من المستقر عليه في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن فى المجال الجنائي الأصل فى الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين بإرتكابها بإعتباره مسئولًا عنها وهي بعد عقوبة يجب أن تتوازن “وطأتها ” مع طبيعة الجريمة موضوعها بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها ولا ينال عقابها إلا من قارفها وأن ” شخصية العقوبة ” وتناسبها مع الجريمة ، مرتبطتان بالشروط التى يعد بها الشخص قانونًا “مسئولًا عن ارتكابها”. وهو ما يعنى أن الأصل فى العقوبة هو معقوليتها فلا يكون التدخل فيها إلا بقدر نأياً بها عن أن تكون إيلاماً غير مبرر يؤكد قسوتها فى غير ضرورة (Unnecessary cruelty and pain).
ذلك أن القانون الجنائي وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيم بعض العلائق التي يرتبط بها الأفراد فيما بينهم، أو من خلال مجتمعهم بقصد ضبطها، إلا أنه يغايرها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن ارتكابها. وهو بذلك يتغيا أن يحدد – ومن منظور اجتماعي – ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيًا ممكنًا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررًا إلا إذا كان مفيدًا من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزًا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريًا، غدا مخالفًا للدستور.
ولا يتصور، بالتالي، أن يكون الجزاء الجنائي منصرفًا إلى تقرير عقوبة تدل – بمضمونها أو مداها أو طرائق تنفيذها – على منافاتها للقيم التي ارتضتها الأمم المتحضرة، والتي تؤكد بمضمونها رقيّ حسها وتكون علامة على نضجها على طريق تطورها. وفي هذا الإطار، لا يجوز أن يكون الجزاء الجنائي بغيضًا (Obnoxious) أو عاتيًا؛ وهو يكون كذلك إذا كان بربريًا (Barbarous) أو تعذيبيًا (Torturous) أو قمعيًا أو متصلًا بأفعال لا يجوز تجريمها، وكذلك إذا كان مجافيًا – بصورة ظاهرة – للحدود التي يكون معها متناسبًا مع الأفعال التي أثمها المشرّع، بما يصادم الوعي أو التقدير الخلقي لأوساط الناس في شأن ما ينبغي أن يكون حقًا وعدلًا على ضوء مختلف الظروف ذات الصلة. ليتمحض الجزاء عندئذ عن إهدار للمعايير التي التزمتها الأمم المتحضرة في معاملتها للإنسان.
ولقد كان هذا الاعتبار ملحوظًا حتى في الوثائق القديمة لإعلان الحقوق؛ فالقاعدة التي تضمنتها “الماجنا كارتا” (Magna Carta – 1215) في هذا الشأن حاصلها أن الرجل الحر لا تفرض عليه – من أجل الجرائم التافهة – إلا غرامة تناسبها، فإذا كان ما أتاه يعد من الجرائم الخطيرة، تعيّن أن تناسبها عقوبتها، ولكن لا يجوز أن تصل قسوتها إلى حد الحرمان من سبل الحياة.34
ومن المقرر في قضائها أيضًا أن لكل جزاء جنائي أثرًا مباشرًا يرتد إلى طبيعته، يتمثل في حرمان الشخص من حقه في الحياة أو من حريته أو من ملكه. وكان من المنطقي، بالتالي، أن تقيم الدول المتحضرة تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة – سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية – لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية، تقمعها أو تقيدها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الدول الديمقراطية في ارتباطها بالمقاييس المعاصرة لمفهوم الجزاء، ومن خلال ما يعكسه من مظاهر سلوكها على اختلافها.
وكان لازمًا، على ضوء هذا الاتجاه، أن تقرر الدساتير التقدمية القيود التي ارتأتها على سلطة المشرّع في مجال التجريم، تعبيرًا عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها إلا في صيرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافًا منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة. كما أن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها تفرض نظامًا متكامل الملامح يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون – في إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية، بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة وتشويه أغراضها.
كذلك فإن العقوبة التي يفرضها المشرّع في شأن جريمة حدد أركانها، تبلور مفهومًا للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي تستهدفها، والتي لا يندرج تحتها رغبة الجماعة أو حرصها على إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها لأن يكون بطشها بالمتهم تكفيرًا عما أتاه. وإن أمكن القول، إجمالًا، بأن ما يعتبر جزاءً جنائيًا لا يجوز أن يقل في مداه عمّا يكون لازمًا لحمل الفرد على أن ينتهج طريقًا سويًا لا تكون الجريمة مدخلًا إليه، ولا يكون ارتكابها – في تقديره، إذا ما عقد العزم عليها – أكثر فائدة من تجنبها.35
كذلك من المقرر في قضائها أن الرقابة القضائية التي تباشرها هذه المحكمة في شأن دستورية النصوص الجنائية، تضبطها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها، ولا تزاحمها في تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية؛ ذلك أن هذه النصوص تتصل مباشرة بـالحرية الشخصية التي أعلى الدستور قدرها، وألحقها – دون غيرها – بـ الحقوق الطبيعية باعتبارها من جنسها، ليكون صونها إعلاءً لقدر النفس البشرية، متصلًا بأعماقها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل تأكيدًا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، مع مراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشر أو غير مباشر – أخطر القيود وأبلغها أثرًا، لتعطل ممارستها، أو ترهقها – دون ضرورة – بما ينافيها.36
واستنادًا لما تقدم، يكون إقرار المشرّع لأربع عقوبات على جريمة واحدة قد انطوى على مغالاة شديدة في العقاب؛ فصارت جزاءً جنائيًا بغيضًا ومجافيًا لحدود التناسب، وقمعًا لحرية التعبير وحرية الصحافة بكل ما تتضمنه من حقوق دستورية تدخل في نطاقها، وعصفت بها، وصارت عدوانًا عليها، بما يمثل عدوانًا على الحقوق والحريات الدستورية المنصوص عليها في المواد (70)، (71)، (92)، و(95)، وما استقرت عليه الدساتير السابقة، ودساتير ومفاهيم الدول الديمقراطية، وكافة المواثيق الدولية، وما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا بشأن ضرورة التناسب بين الجريمة والعقوبة الجنائية؛ لذلك فقد صار مرجحًا القضاء بعدم دستوريته، لما شابه من عوار تشريعي، جعله مخالفًا للدستور، إضافة إلى كونه في الأساس محلًا لشبهة عدم الدستورية على نحو ما تقدم في الوجهين الأول والثاني من أوجه هذا الطعن.
بناءًا عليه
مع تمسك الدفاع الحاضر بأصل البراءة المفترض في المتهم، وتمسكه بجميع دفوعه وأوجه دفاعه الشكلية والإجرائية والموضوعية، فإنه يلتمس وقف الدعوى تعليقًا وإحالة الدفع بعدم دستورية المادتين (6، 105) من القانون 180 لسنة 2018 إلى المحكمة الدستورية العليا، عملاً بالمادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا.
وكيل المتهم
………………….
المحامي
الهوامش
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 6 يونيو 2020، الدعوى رقم 248 لسنة 30 قضائية “دستورية”. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 6 يونيو 2020، الدعوى رقم 248 لسنة 30 قضائية “دستورية”. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 5 فبراير 1994، الدعوى رقم 23 لسنة 15 قضائية “دستورية” – حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 2 يناير 1999 الدعوى رقم 15 لسنة 18 قضائية “دستورية” – حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 8 يوليو 2000، الدعوى رقم 11 لسنة 13 قضائية “دستورية”. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 13 يناير 2018، الدعوى رقم 139 لسنة 29 قضائية “دستورية”. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 12 فبراير 1994، الدعوى رقم 105 لسنة 12 قضائية “دستورية” ↩︎
- محضر الاجتماع الخامس عشر للجنة الخمسين لإعداد المشروع النهائي للتعديلات الدستورية في 31 أكتوبر 2013، من ص 1 حتى ص 40. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 15 نوفمبر 1997، الدعوى رقم 56 لسنة 18 قضائية “دستورية” ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 3 يناير 1998، الدعوى رقم 132 لسنة 18 قضائية “دستورية” ↩︎
- القاضي د. سري محمود صيام، صناعة التشريع، الكتاب الأول، الهيئة العامة المصرية للكتاب، ط 2018، ص 151. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 12 فبراير 1994، الدعوى رقم 105 لسنة 12 قضائية “دستورية” ↩︎
- د. أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري، دار الأهرام، ط 2022/2021، ص 239 وما بعدها. ↩︎
- د. أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري، دار الأهرام، ط 2022/2021، ص 251 وما بعدها. ↩︎
- د.إبراهيم عيد نايل، قانون العقوبات، القسم العام، النظرية العامة للجريمة، 2013، ص 15. ↩︎
- د.إبراهيم عيد نايل، المرجع السابق، ص 36 وما بعدها – د. السعيد مصطفى السعيد، الأحكام العامة في قانون العقوبات، ص 89 ↩︎
- القاضي د. سرى محمود صيام، صناعة التشريع، الكتاب الأول، الهيئة العامة المصرية للكتاب، ط 2018، ص 151. ↩︎
- دليل جمهورية مصر العربية لإعداد وصياغة مشروعات القوانين، وزارة العدل، الإصدار الأول، يوليو 2018، ص51 ↩︎
- القاضي د. سري محمود صيام، المرجع السابق، ص 151. ↩︎
- د. أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق، ط 2000، ص 453. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 4 نوفمبر 2012، الدعوى رقم 183 لسنة 29 قضائية “دستورية. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 15 سبتمبر 1997، الدعوى رقم 48 لسنة 18 قضائية “دستورية. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 1 أكتوبر 1994، الدعوى رقم 20 لسنة 15 قضائية “دستورية”. ↩︎
- د. أحمد فتحي سرور، المرجع السابق، ص 447 – Crime,29 des.1990,siery,1901-1-108 Louis Favoreu; La constitutionnalisation du droit pénal et de la procédure pénale; Dorit penal contemporain, Melanges en I honnour dAndre Vitu, Edition cujas, 1989, p.201. ↩︎
- د. أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري، دار الأهرام، ط 2022/2021، ص 100. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 3 يوليو 1995، الدعوى رقم 25 لسنة 16 قضائية “دستورية”. ↩︎
- القاضي د. عوض الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية، مركز رينيه جان دبوي للقانون والتنمية، ص 1420 – القاضي د. عبد العزيز سالمان، الرقابة القضائية على قصور التنظيم التشريعي، 8 يونيو 2020، موقع منشورات قانونية، رابط https://manshurat.org/node/66837#_ftn4، تاريخ الزيارة 10 مارس 2022. ↩︎
- حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 3 يوليو 1995، الدعوى رقم 25 لسنة 16 قضائية “دستورية”. ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا – دستورية – القضية رقم 37 لسنة 15 ق | تاريخ الجلسة 3 / 8 / 1996 ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا – دستورية – القضية رقم 37 لسنة 15 ق | تاريخ الجلسة 3 / 8 / 1996 ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا – دستورية – القضية رقم 37 لسنة 15 ق | تاريخ الجلسة 3 / 8 / 1996 ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا – دستورية – القضية رقم 37 لسنة 15 ق | تاريخ الجلسة 3 / 8 / 1996 ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا – دستورية – القضية رقم 37 لسنة 15 ق | تاريخ الجلسة 3 / 8 / 1996 ↩︎
- أ. د. أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري، دار الأهرام، ط 2022/2021، ص 170 وما بعدها. ↩︎
- أ. د. أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري، دار الأهرام، ط 2022/2021، ص 171. ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا – دستورية – القضية رقم 33 لسنة 16 ق | تاريخ الجلسة 3 / 2 / 1996 ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا – دستورية – القضية رقم 2 لسنة 15 ق | تاريخ الجلسة 4 / 1 / 1997 ↩︎
- المحكمة الدستورية العليا – دستورية – القضية رقم 2 لسنة 15 ق | تاريخ الجلسة 4 / 1 / 1997 ↩︎