
مقدمة
شهدت الأعوام الأخيرة طفرة كبيرة في عدد الدراسات البحثية التي تناولت آثار منصات التواصل الاجتماعي على الديمقراطية. انتمى كثير من هذه الدراسات إلى مجالات علمية تقليدية متعددة منها العلوم السياسية، وعلم النفس، والقانون، والاتصالات، وعلم الاقتصاد، إضافة إلى مجالات ناشئة مثل علم البيانات، والذكاء الاصطناعي. قاد هذه الطفرة تزايد المخاوف من الآثار السلبية لمنصات التواصل الاجتماعي على سلامة الممارسات الديمقراطية.
شهد عام 2016 تحولًا ملحوظًا في الدراسات المتعلقة بمنصات التواصل الاجتماعي والديمقراطية، حيث بدأت تُسلّط الضوء بشكل أكبر على التأثيرات السلبية مقارنةً بالتأثيرات الإيجابية. ففي ذلك العام برز بشكل واضح أثر ديناميكيات التفاعل على منصات التواصل الاجتماعي وإمكانيات استغلالها على مجريات كل من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ينطوي هذا التحول على مفارقة جديرة بالملاحظة، فالعمل البحثي حول أثر التكنولوجيا الرقمية والإنترنت في المراحل المبكرة لانتشارها كان في معظمه متفائلًا، إن لم يكن حالمًا. اعتبر كثير من الرواد الأوائل للإنترنت أنها تكنولوجيا تحررية تمثل صورة من صور التواصل الحر غير المحدود والذي من شأنه أن يعمل على إسقاط النظم السلطوية، وأن يدعم الحرية حول العالم.
برغم تراجع هذا التصور المتفائل على الأقل في صوره الأكثر راديكالية فقد ظل مستمرًا بقوة. دعم ذلك لبعض الوقت الدور الهام الذي كان لمنصات التواصل الاجتماعي في البدايات المبكرة لثورات الربيع العربي التي بدأت في نهاية عام 2010.
هل يمكن الحكم اليوم بأن التصورات الأولى للدور الإيجابي لشبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي في دعم ونشر الديمقراطية تبين أنها مجرد سراب بددته الحقائق على أرض الواقع بمرور الوقت؟ وهل يجب التسليم بأن هذه التطبيقات الأكثر بروزًا للتكنولوجيا الرقمية ربما تمثل تحديًا وجوديًا للديمقراطية في العالم الرقمي يهدد بتقويضها والقضاء عليها؟
تسعى هذه الورقة إلى طرح تصور مضمونه أن أثر منصات التواصل الاجتماعي على الديمقراطية لا يتعلق بالضرورة بالمفهوم الأساسي لأي منهما، بل بالطريقة التي يتم بها تطبيق هذا المفهوم. تناقش الورقة أولًا مفهوم الديمقراطية والحقوق الأساسية الضرورية لتحققه في الواقع ونقاط تقاطعه مع منصات التواصل الاجتماعي.
كما تتناول الورقة الظواهر التي تشجع منصات التواصل على نموها والتي تمثل معوقات للحياة الديمقراطية السليمة وربما أيضًا تهديدًا وجوديًا لها. وتستطلع أيضًا الورقة الإمكانيات المستقبلية لتغيير جذري لتطبيق مفهوم التواصل الاجتماعي في عالم رقمي يمكن معه مواجهة وتجاوز الظواهر السلبية الناشئة عن التطبيق الحالي له.
الديموقراطية والمشاركة السياسية
لا يستخدم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، مصطلح “ديمقراطية” في أي من موادهما. ولكن يرد في الوثيقتين (المادة 21 من الإعلان والمادة 25 من العهد) التأكيد على ثلاث عناصر رئيسية تشكل فيما بينها الشروط الضرورية لما يُسمى عادة بالحكم الديمقراطي.
هذه العناصر هي: الحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة سواء بشكل مباشر أو من خلال ممثلين يتم اختيارهم بحرية؛ والحق في انتخابات نزيهة تجرى دوريًا بالاقتراع العام دون تمييز بين الناخبين وبواسطة تصويت سري؛ والحق في تقلد المناصب العامة دون تمييز.
يمكن التوافق على أن هذه العناصر تمثل معًا الحد الأدنى الضروري من الضمانات لممارسة الديمقراطية. إضافة إلى ذلك، ثمة عدد من الحقوق التي تضمنها العهود والمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان وكذلك الدساتير الوطنية والتي تعد ضرورية لإقامة حياة ديمقراطية سليمة. من بين هذه الحقوق:
- الحق في حرية الضمير والرأي، والذي يعني حق كل إنسان في تشكيل آرائه دون تدخل أو ضغط خارجي ودون التعرض للإضرار به أو لمصالحه نتيجة لتبني أي رأي. يشمل هذا الحق بالضرورة الآراء والمواقف المتعلقة بالشأن العام وهو ما يجعله ضروريًا لتمكين الأفراد من المشاركة في إدارة الشؤون العامة. فلا يمكن لذلك أن يتحقق دون أن يشكل كل فرد آرائه بخصوص هذه الشؤون بحرية ودون تدخل أو ضغط خارجي.
- الحق في حرية التعبير، والذي يعني حق كل إنسان في استخدام أي وسيلة متاحة لصياغة ونشر الرسائل علانية للتعبير عن آرائه ومعتقداته ومواقفه. يمثل هذه الحق مكونًا أساسيًا من مكونات الديمقراطية، ويشمل الآراء والمعتقدات والمواقف المتعلقة بالشؤون العامة، وضمان حرية الصحافة والإعلام وغيرهما من سبل تعريف المواطنين بقضايا الشأن العام ومناقشتها. كذلك يشمل هذا الحق السبل الجماعية للتعبير عن الآراء والمواقف السياسية مثل التظاهرات والمسيرات والاعتصامات.
- الحق في الوصول إلى المعلومات، والذي يعني حق كل إنسان في التماس المعلومات المتاحة وتبادلها مع الآخرين بشتى السبل. يتضمن هذا حق المواطنين في الوصول إلى المعلومات الحكومية المتعلقة بالشؤون العامة وسياسات وطرق إدارتها. ويمثل الوصول إلى هذه المعلومات شرطًا ضروريًا لتمكين المواطنين من تشكيل آرائهم ومواقفهم تجاه قضايا الشأن العام.
- الحق في التجمع، وهو يعني حق الأفراد في التجمع سويًا لتشكيل مجموعات بصور تنظيمية مختلفة لتحقيق أهداف مشتركة فيما بينهم. تشمل هذه الصور الأحزاب السياسية ومجموعات الضغط السياسي، والنقابات العمالية والمهنية، وجميع صور منظمات المجتمع المدني بمعناه الواسع. هذه التنظيمات ضرورية لتفعيل مشاركة المواطنين في إدارة الشؤون العامة وصنع وتوجيه سياسات الدول والوصول إلى حلول توافقية لتناقض المصالح الفئوية المختلفة داخل المجتمع.
حرية التعبير وصوت رجل الشارع
ارتبطت الممارسة الفعلية لحرية التعبير عبر التاريخ بالتكنولوجيات المتاحة للتواصل الجماعي بين البشر. فقد غير اختراع المطبعة وجه التاريخ بإتاحة إمكانية أوسع بأضعاف المرات لتوصيل الرسائل إلى أعداد غير مسبوقة من الناس.
كذلك كانت التطورات التكنولوجية التي أدت لظهور التلغراف والبث الإذاعي المسموع والبث التليفزيوني المرئي ثم إمكان نقل هذا البث من خلال الأقمار الصناعية. كل هذه الخطوات كانت بالغة الأهمية على طريق توسيع إمكانيات التواصل الجماهيري. ولكن القاسم الرئيسي المشترك بين جميع هذه التكنولوجيات كان دائمًا أنها أدت إلى اتساع قاعدة المتلقين بمعدل أكبر كثيرًا مما سمحت باتساع قاعدة منتجي ومرسلي الرسائل إلى الآخرين.
القفزة الأساسية التي حققتها التكنولوجيا الرقمية تمثلت في نشأة شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي. فقد اتسع نطاق إنتاج وإرسال الرسائل الجماهيرية بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية، ليصبح عدد المنتجين والمرسلين مساويًا تقريبًا لعدد المتلقين. كل شخص يمكنه الوصول إلى الإنترنت قادر على إنشاء حساب على أي من منصات التواصل الاجتماعي، وبالتالي لديه فرصة صناعة ونشر محتوى يصبح متاحًا لعدد غير محدود من الآخرين.
هذه الظاهرة في أحد جوانبها قد تعني اختفاء ما كان يسمى برجل الشارع. فأحد تعريفات هذا المصطلح هي أن رجل الشارع هو ذلك الذي لا يملك المقومات الضرورية لجعل صوته مسموعًا ومؤثرًا. لقد خفضت التكنولوجيا الرقمية من سقف هذه المقومات الضرورية إلى الحد الأدنى، خاصة مع انتشار الهواتف الذكية المتصلة بالإنترنت.
حسب أحدث الإحصاءات يوجد اليوم حوالي 3.07 مليار مستخدم نشط لمنصة فيسبوك للتواصل الاجتماعي. يمثل هؤلاء حوالي 37.8% من إجمالي سكان الكرة الأرضية. نظريًا، يمكن لأي محتوى ينشره أحد هؤلاء أن يكون متاحًا لجميع الآخرين.
بالنسبة لرواد الفكر الديمقراطي في عصر التنوير، تمثل منصة مثل فيسبوك تجسدًا لأكثر أحلامهم جموحًا. في نهاية المطاف، لقد رأى هؤلاء أن تمتع الأفراد في المجتمعات بحرية التعبير هو اللبنة الرئيسية لإقامة حياة ديمقراطية حقيقية. أن يكون صوت كل شخص مسموعًا من الآخرين يعني إمكانية تأثيره فيهم. يؤدي ذلك إلى أن تكون أصوات الأغلبية مسموعة بحيث لا يكون من الممكن تجاهلها.
في الواقع العملي اليوم، يعبر مصطلح مثل سلطة الإنترنت The power of the Internet عن تجسيد فعلي لهذا التصور. فيمكن تعداد آلاف الحالات التي أدى فيها اشتباك مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي مع قضايا بعينها إلى توجيه قرارات السلطات المعنية في دولهم تجاه هذه القضايا.
لقد دفعت قوة التعبير الجماهيري من خلال منصات التواصل الاجتماعي نحو صنع تشريعات وإسقاط وتجميد أخرى. كما أنها أبرزت قضايا خاصة وحولتها إلى قضايا رأي عام. يحدث ذلك بصفة يومية إلى حد أن مؤسسات الدول أصبحت تتابع عن كثب توجهات الرأي العام كما تبرزها منصات التواصل الاجتماعي وتستجيب لها من خلال تلك المنصات نفسها.
تتجاوز سلطة الإنترنت حدود الممارسات السياسية التقليدية. فيمكن للرأي العام كما تعبر عنه منصات التواصل الاجتماعي أن يكون مؤثرًا دون حاجة إلى المؤسسات الحزبية أو حجم تمثيلها في المجالس النيابية. ينعكس ذلك في مدى تأثير سلطة الإنترنت في دول غير ديمقراطية ولا تتمتع بحرية تشكيل الأحزاب ولا بالانتخابات الحرة والنزيهة.
تُمثل منصات التواصل الاجتماعي اليوم أداة لجعل إرادة الجماهير تعبر عن نفسها مباشرة ودون وسيط. تظل بالطبع أدوات المراقبة الجماعية والرقابة على المحتوى مؤثرة بقوة بحيث ترسم حدودًا لما يمكن ولا يمكن التعبير عنه من خلال هذه المنصات. لكن الالتفاف حول هذه الأدوات يظل ممكنًا. كما أنها لا يمكنها بأي حال أن تمحو بشكل كامل مساحة ما يمكن التعبير عنه والتي تظل سلطة الإنترنت مؤثرة فيها بقوة.
يوجد بالتأكيد عدد لا نهائي من الإشكاليات التي تحيط بالممارسة الفعلية للحق في حرية التعبير من خلال منصات التواصل الاجتماعي، والتي ستناقش بعضها الأقسام التالية. ما لا يمكن إنكاره أن هذه المنصات تتيح في الحد الأدنى إمكانية أوسع ولو نظريًا لممارسة عدد أكبر من الأفراد لحقهم في التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم ومواقفهم. ما لا يمكن إنكاره أيضًا هو أن ذلك بالضرورة يؤثر على ممارسة الديمقراطية في أي مجتمع.
ما يظل معلقًا هو إجابة السؤال عما إذا كان هذا التأثير إيجابي بالضرورة أو أنه تأثير تختلط فيه الإيجابيات بالسلبيات. كذلك ثمة سؤال ما إذا كان أثر منصات التواصل الاجتماعي يدعم الصور القائمة لتطبيق الديمقراطية أم أنه على العكس من ذلك يهدد بتقويضها. وإن كان الأمر كذلك فلصالح أي بديل؟ هل لصالح بديل أكثر تعبيرًا عن روح الديمقراطية، أم لصالح بديل غير ديمقراطي تمامًا؟
الحق في التجمع ومساحات النشاط السياسي
ظلت الممارسة الفعلية للحق في التجمع، بمعنى الانخراط في فعل جماعي، مقيدة بعديد من العوائق. أغلب هذه العوائق يتعلق بإمكانية التواصل مع أوسع قاعدة ممكن من الناس. فكلما أمكن التواصل مع عدد أكبر من الناس كلما أمكن الوصول إلى من يتشاركون في نفس الأهداف والمصالح. يوجد أيضًا عوائق عملية لتحويل التشارك في الأهداف والمصالح إلى قدرة فعلية على الفعل المشترك للتعبير عن هذه الأهداف والمصالح والسعي لتحقيقها والدفاع عنها.
لا شك أن تطور تكنولوجيا الاتصالات خلال القرنين الماضيين كان قوة دافعة نحو تجاوز هذه العوائق. فقد ارتبط ظهور الأحزاب السياسية الجماهيرية الضخمة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بالتطور المتسارع لوسائل الاتصالات.
نشأة ما يسمى اليوم بالفضاء السيبراني أدت إلى وجود عالم افتراضي يكاد يكون خاليًا من عوائق التواصل التقليدية. يعني ذلك نظريًا أن هؤلاء الذين يتشاركون في الأهداف والمصالح نفسها يمكنهم اليوم أن يتواصلوا بحرية لم تكن متاحة في أي عصر سابق. كمل يمكنهم أن ينشؤوا أدوات رقمية للتجمع والتنسيق للفعل الجماعي. ضاعف ظهور منصات التواصل الاجتماعي من فعالية ممارسة حق التجمع في العالم الافتراضي السيبراني. فهذه المنصات تتيح جمهورًا محتملًا قد يصل إلى مئات الملايين.
بالنسبة لبعض الدول تكاد تكون مجتمعاتها حاضرة بكاملها على هذه المنصة أو تلك من منصات التواصل الاجتماعي. يتيح هذا للتجمعات والتنظيمات المختلفة فرصًا لمخاطبة قاعدة غير محدودة من جمهورها المحتمل. يعني ذلك إمكانية أكبر لضم المزيد من الأفراد إلى صفوفها وإلى التنسيق فيما بينهم لإحداث أثر أكبر في السياسات العامة المتصلة بأهدافها ومصالحها.
أحد أسس المجتمع الديمقراطي كما تصوره المدافعون عن الديمقراطية طوال أكثر من قرنين هو إمكانية تمثيل الأهداف والمصالح المختلفة لفئات المجتمع بشكل يعبر عن أوزانها الصحيحة. هذا بالضبط ما يجعل الحق في التجمع أحد الشروط الضرورية لحياة ديمقراطية سليمة. ومن ثم، يمثل إسقاط العوائق التقليدية للحق في التجمع قفزة إيجابية هامة بالنسبة للوصول إلى تطبيق أكثر عدالة للديمقراطية.
لكن يوجد العديد من الإشكاليات التي تحيط بالممارسة الفعلية للحق في التجمع من خلال منصات التواصل الاجتماعي. في نهاية المطاف، يمكن للناس أن تتجمع حول عدد لا حصر له من الانتماءات، وليست جميع هذه الانتماءات متوافقة بشكل مثالي أو حتى متوافقة بأي شكل مع مبادئ الديمقراطية. لا يمكن إنكار تأثير منصات التواصل الاجتماعي على الديمقراطية من خلال أدواتها التي تتيح ممارسة الحق في التجمع. ومع ذلك، فإن تحديد ما إذا كان هذا التأثير إيجابيًا أم سلبيًا أمر معقد للغاية ويتطلب مراعاة العديد من العوامل.
ممارسات تقليدية وأدوات جديدة
إذا ما تم استخدام تعريف واسع وأقل صرامة لمفهوم السياسي ليشمل كل من يمارس السلطة السياسية أو يسعى لممارستها في مجتمع ما، فيمكن القول بأن السياسيين قد وُجدوا في المجتمعات البشرية ربما منذ نشأتها الأولى. لم يحدث في أي وقت أن فوت السياسيون فرصة استخدام أي وسيلة من وسائل التواصل الجماعي أو الجماهيري دون استخدامها في مساعيهم. منذ حلقات الحكائين في المجتمعات البدائية وصولًا إلى وسائل الإعلام الجماهيرية الحديثة، سعى السياسيون إلى صياغة رسائل للدعاية السياسية ونشرها بين أوسع قاعدة جماهيرية يمكن الوصول إليها.
انتهجت الدعاية السياسية لوقت طويل طريقًا مختلفًا عن الدعاية التجارية. لكن مع ظهور وسائل التواصل الجماعي الحديث، بداية بالصحافة ثم الإذاعة والتلفزة، تلاقى طريقا الدعاية السياسية والتجارية وأصبح من الصعب التمييز بينهما. من ثم، عندما ظهرت الإنترنت ولحقت بها منصات التواصل الاجتماعي لم يكن هناك ما يحول دون أن يلحق السياسيون بالشركات التجارية في مسعى استغلال القدرات الفائقة للإنترنت في التسويق الموجه.
إضافة إلى تضخيم وتكثيف فعالية الدعاية السياسية المباشرة خلقت منصات التواصل الاجتماعي ظواهر جديدة لم يتأخر السياسيون في استغلالها لدعم أجنداتهم. من بين الظواهر الجديرة بالاهتمام في هذا السياق ظاهرة المؤثرين Influencers. تستغل الشركات والعلامات التجارية الكبرى حول العالم المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي بشكل مكثف للدعاية لمنتجاتها. كذلك يسعى السياسيون لاستقطاب وتوظيف المؤثرين لخدمة أهدافهم الدعائية.
ما يختلف بين الجانبين هو أن ثمة شيء مشترك بين المؤثر وبين السياسي؛ فكلاهما قبل أي شيء آخر يسوق لنفسه قبل أن يسوق لسلعة أو لتوجه سياسي. فتح هذا التشابه الباب أمام أن تتلاشى الحدود بين المؤثر وبين السياسي بسهولة. فعديد من السياسيين اليوم يقدمون أنفسهم كمؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي.
النموذج البارز في هذا السياق هو دونالد ترامب الرئيس الأمريكي الحالي. لتوضيح مفهوم تقديم السياسي نفسه كمؤثر على منصات التواصل الاجتماعي، يمكن مقارنة المحتوى الذي يقدمه ترامب عبر حساباته بتلك التي يقدمها سياسي تقليدي مثل الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن على المنصات ذاتها.
غلبة الطبيعة التسويقية التجارية على الدعاية السياسية كان معناه منذ البداية أن تبتعد الأخيرة تدريجيًا عن مخاطبة عقول جمهورها وتتجه نحو التلاعب بانحيازاتهم غير العقلانية والعاطفية. ساعد على ذلك أن أغلب القضايا السياسية ذات التأثير الحقيقي على حياة الناس أصبح التعامل معها مهمة طبقة التكنوقراط، أي الخبراء المتخصصين في الاقتصاد والصناعة والأمن والدفاع.
هذا التوجه نحو الاعتماد على الخبرة التقنية المتخصصة أدى بطبيعة الحال إلى إبعاد النقاش العام وصنع القرار السياسي عن متناول المشاركة الشعبية الواسعة. كما أنه أفسح المجال بشكل أكبر أمام تأثيرات الدعاية القائمة على الترويج العاطفي بدلاً من التحليل المنطقي والحوار العقلاني.
من ثم فمناط المنافسة السياسية قد تحول منذ عدة عقود بالفعل إلى ما يمكن تسميته بسياسات الهوية، أي تسييس الاختلافات الثقافية والإثنية والدينية. وقد أظهرت التجربة خلال السنوات الماضية أن منصات التواصل الاجتماعي تُعمّق هذه الاختلافات من خلال استغلالها لرفع معدلات التفاعل داخل المنصة.
الإشكالية التي تواجهها الديمقراطية في هذا السياق هو أنها تقوم أساسًا على إشراك المواطنين في إدارة الشأن العام عبر الحوار والمنافسة على تقديم الحلول الأكثر توافقًا للقضايا المشتركة. لكن عندما تُستبعد هذه القضايا المشتركة أو تتحول لمجرد واجهة لانحيازات لا ترتبط بها تتحول الديمقراطية نفسها إلى مجرد واجهة تخفي الصراعات الهوياتية.
معوقات الديمقراطية على منصات التواصل الاجتماعي
المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة
المعلومة هي أي رسالة يمكن صياغتها في جملة تقريرية، أي ليست في صيغة الاستفهام أو الأمر. لا يوجد في هذا التعريف أي ضمانة لصحة المعلومة والتي تتعلق عادة بمطابقتها للواقع. يمكن صياغة عدد لا نهائي من الجمل التقريرية غير المطابقة للواقع بل وحتى المخالفة للمنطق. ويمكن للمعلومات أن تكون مضللة إذا ما كانت غير صحيحة وقادت من يصدقها إلى نتائج لم يكن ليصل إليها بدونها.
على جانب آخر، تمثل الأخبار نوعًا خاصًا من المعلومات، فهي معلومات تخبر عن حدوث شيء عادة مع تحديد زمن حدوثه. على سبيل المثال، عندما نقول أن كتلة لتر من الماء المقطر هي كيلوجرام واحد فهذه معلومة لا تصلح خبرًا. ولكن عندما نقول أن عشرة أشخاص لقوا حتفهم نتيجة لحادث تصادم وقع صباح اليوم، فهذه معلومة وخبر. وكأي معلومة، يمكن للخبر ألا يكون صحيحًا عندما يخبر عن حدث لم يقع بالفعل. ويمكن لأي خبر غير صحيح أن يكون مضللًا عندما يتعمد أحدهم صياغته ونشره.
ثمة علاقة وثيقة بين ما يتلقاه الناس من معلومات وبين الدور الذي يلعبونه في التأثير على إدارة الشؤون العامة. في نهاية المطاف، يشكل الناس تصوراتهم وآرائهم ومواقفهم بناء على ما يتوافر لديهم من معلومات، سواء كانت صحيحة أو زائفة أو كاذبة. عادة ما تؤدي المعلومات الزائفة أو الكاذبة إلى تضليل الناس بحيث لا تؤدي مشاركتهم في إدارة الشؤون العامة إلى نتائج إيجابية.
ومن المثير للاهتمام أن الديمقراطية غير معنية من حيث المبدأ بمدى صحة المعلومات التي يبني الناس عليها مواقفهم السياسية. الديمقراطية معنية فقط بأن يكون للناس الحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة. لكن حياد الديمقراطية كمبدأ تجاه صحة أو زيف المعلومات لا يعني أن المعلومات الزائفة والكاذبة لا تمثل تهديدًا لها. على العكس تمامًا، فهو يجعل الديمقراطية بالغة الضعف أمام أثر المعلومات الزائفة بحيث تهدد وجودها نفسه.
عندما تعتمد مشاركة الجماهير في إدارة شؤونها على المزيد من المعلومات المضللة ينتهي الأمر إلى مزيد من السياسات الخاطئة وربما الكارثية. يؤدي ذلك في النهاية إلى فقدان الثقة في الديمقراطية نفسها كمنظومة للحكم. قد تفترض الجماهير أن النتائج الكارثية التي تهدد مصالحهم كانت نتيجة لممارسة الديمقراطية؛ ومن ثم يمكن إقناعهم بأن حكم الأقلية أو الفرد يمكنه تجنب ما يبدو أنه من مساوئ المشاركة الواسعة في إدارة شؤونهم.
في الآونة الأخيرة كانت الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي الساحة الرئيسية لنشر المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة بطريقة غير مسبوقة تاريخيًا. يمكن للوصول الحر إلى المعلومات أن يكون منحة أو محنة بالنسبة للديمقراطية. فكثير من الأفراد، لأسباب عديدة، أميل إلى تصديق صحة معلومات في مقابل أخرى بناء على تحيزات مسبقة غير موضوعية.
أحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك هو أن صياغة المعلومات الكاذبة تعتمد بشكل كبير على استغلال الانحيازات المعرفية والعاطفية لدى الفئات المستهدفة. عندما يتم تقديم معلومة كاذبة بطريقة تتوافق مع معتقدات أو رغبات الجمهور المستهدف، يصبح من الأسهل تصديقها وإعادة نشرها دون تدقيق.
هذه الآلية ليست حصرية على منصات التواصل الاجتماعي، بل تنطبق على أي وسيلة تواصل جماهيري تسعى للتأثير على الرأي العام. ومع ذلك، تتميز منصات التواصل الاجتماعي بكونها وسيلة تواصل أكثر فعالية وسرعة وانتشارًا من الوسائل التقليدية. فهي تتيح للمعلومات، سواء كانت صحيحة أو كاذبة، الوصول إلى أعداد هائلة من المستخدمين في وقت قياسي.
تعتمد منصات التواصل الاجتماعي على استغلال تحيازات المستخدمين وتفضيلاتهم وميولهم لتوصيل الرسائل الدعائية لهم بشكل موجه وبالغ الكثافة والتركيز. الهدف من ذلك هو تحقيق أكبر قدر ممكن من التفاعل والأرباح بناء على فعالية آليات الدعاية التجارية للترويج للسلع والخدمات. ولكن كنتيجة غير مخطط لها، تؤدي نفس الآليات إلى تضخيم انتشار ونفاذية المعلومات الكاذبة والمضللة، حيث أنها تعتمد على نفس الأسس النفسية التي تعتمد عليها آليات الدعاية التجارية.
تأجيج الاستقطاب ودعم التطرف
من شبه المستحيل تصور وجود مجتمع لا يحتوى على قدر من التنوع من حيث العقيدة الدينية أو الإثنية أو التراث الثقافي. ولكن تتفاوت المجتمعات في الأوزان النسبية لعناصرها المختلفة عن بعضها البعض. ثمة مجتمعات عالية التنوع إلى حد تمثل فيه عناصر هويات بعينها كتلًا سكانية كبيرة لا يمكن تجاهلها.
في بعض هذه المجتمعات قد يصل الاستقطاب حول اختلاف الهوية خاصة الإثنية أو الدينية إلى حد يهدد تماسك المجتمع ودولته. يصعب للغاية إقامة مجتمع ديمقراطي في مثل هذا الوضع. تتطلب الديمقراطية حدًا أدنى من قدرة عناصر المجتمع على إيجاد أرضية مشتركة من التعاون والحوار المستمر.
على الجانب الآخر، يقود الافتقار إلى التنوع بعض المجتمعات التي تغلب عليها وحدة الثقافة والعقيدة والإثنية إلى الانعزالية والتشكك المرضي في الآخر المختلف. يشكل ذلك بيئة تميل إلى قبول السلطوية وحكم الفرد. مثل هذه المجتمعات أيضًا لا تجد الديمقراطية فيها فرصة كافية للازدهار.
عانت كثير من المجتمعات عبر قرون طويلة من تأجج الصراعات الداخلية والخارجية نتيجة الاستقطاب المفرط وتزايد حدة التطرف في الانتماء إلى هوية بعينها في مواجهة غيرها. يقود كل من الاستقطاب المفرط والتطرف إلى بيئة غير مواتية لازدهار الديمقراطية؛ من ثم فالعوامل المساعدة عليهما هي دائمًا تهديد للديمقراطية في الدول التي تتبناها وتهديد لفرص إقامة حكم ديمقراطي في الدول التي تفتقر إليها.
تعتمد كلا الظاهرتين (الاستقطاب والتطرف) على سيادة خطابات بعينها في المجتمعات إضافة إلى مظاهر التفاوت الفئوي والقهر والاضطهاد والتمييز. ويمثل الانغلاق على الذات أحد العوامل الرئيسية المساعدة على إنتاج خطابات تؤجج الاستقطاب وتدعم التطرف.
في بدايتها بدا الإنترنت، بوصفها وسيلة تواصل منفتحة، نقطة تحول تاريخية لإتاحة التواصل المتكافئ بين المجتمعات والهويات المتنوعة. وقد سمح ذلك بانفتاح أوسع على التنوع والاختلاف، وذلك بفضل إمكانية التعرف على الآخر خارج نطاق السرديات التقليدية التي تصوره دائمًا كعدو وجودي.
لكن أثبتت التجربة العملية أن تحقيق الفضاء السيبراني لوعد الانفتاح على التنوع يظل مشروطًا بعوامل يصعب تحقيقها على أرض الواقع. وفي المقابل كان صعود منصات التواصل الاجتماعي خطوة في عكس ذلك الاتجاه نتيجة لنموذج عملها الذي يقوم بالأساس على استغلال الانحيازات الهوياتية والانتفاع بها لزيادة الأرباح.
يقوم نموذج أعمال منصات التواصل الاجتماعي على معرفة المستخدم على أعمق مستوى ممكن لتسهيل تسويق السلع والخدمات له، ولاستخدامه لاجتذاب وتجميع أكبر عدد ممن يشبهونه. يهدف ذلك إلى رفع معدلات التسويق بالاستهداف الجماعي بتكلفة أقل.
يستغل هذا النموذج بشكل غير مقصود ما يسمى بالانحياز التوكيدي، وهو ظاهرة نفسية تدفع الناس إلى تفضيل الرسائل التي تؤكد ما يصدقونه مسبقًا. ونظرًا لأن من يشبهونهم هم عادة مصدر مستمر لمثل هذه الرسائل يميل الناس إلى التجمع مع بعضهم على أساس أوجه التشابه بينهم.
ينتج عن ذلك إلى نشأة ظواهر مثل غرف الصدى، وهي بيئات مغلقة ومنعزلة عن بعضها البعض يتداول المنخرطون فيها المعلومات بناء على مدى تأكيدها وتعميقها لانحيازاتهم المسبقة. يأتي في مقدمة هذه الانحيازات تلك المستمدة من الهوية الدينية أو الأيديولوجية أو الإثنية.
وفي المحصلة، تسهم آلية عمل منصات التواصل الاجتماعي في انقسام الفضاء السيبراني إلى فضاءات متعددة مغلقة على ذاتها ومنفصلة عن غيرها، بل وتتبادل فيما بينها الشك وسوء النية. تعكس هذه الفضاءات المختلفة صورة انقسامات الهوية داخل كل مجتمع وعبر المجتمعات التي تفصلها على أرض الواقع الحدود السياسية.
يؤدي دور منصات التواصل الاجتماعي في تأجيج الاستقطاب والتطرف داخل الفضاء السيبراني إلى نتائج كارثية على أرض الواقع. أحد أهم أمثلة ذلك مسؤولية منصة فيسبوك عن دعم العنف ضد أقلية الروهينجا المسلمة في ميانمار، واستغلال منصات التواصل الاجتماعي بصفة عامة في سياق الحرب الأهلية في إقليم تيجري في إثيوبيا. في المقابل، يهدد تصاعد الاستقطاب، الذي تؤججه منصات التواصل الاجتماعي، في واحدة من كبرى ديموقراطيات العالم وهي الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة بتقويض الحكم الديمقراطي فيها لأول مرة في تاريخها.
التلاعب المتعمد بالرأي العام
ناقش قسم (ممارسات تقليدية وأدوات جديدة) أثر منصات التواصل الاجتماعي على تطور الدعاية السياسية وأثر ذلك على الديمقراطية. ما يناقشه القسم الحالي يبدو شبيهًا بالدعاية السياسية ولكنه في الواقع أمر مختلف. لفهم ذلك ينبغي ملاحظة عبارة “ممارسات تقليدية” في عنوان القسم المشار إليه.
في نهاية المطاف، أضافت منصات التواصل الاجتماعي زخمًا إضافيًا مؤثرًا إلى مسار كانت الدعاية السياسية تمضي عليه بالفعل. ربما لم يكن هذا المسار ليمثل قدر الخطورة الحالية على الديمقراطية دون القدرات الهائلة التي منحتها إياه التكنولوجيا الرقمية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تستخدمها هذه المنصات. لكنه في النهاية لم يكن مسارًا جديدًا خلقته هذه التكنولوجيا. ما هو جديد في المقابل هو الاستغلال المخطط مسبقًا لقدرات وطريقة عمل منصات التواصل الاجتماعي لتحقيق هدف سياسي محدد من خلال التلاعب المحسوب بالرأي العام.
كشفت فضيحة كامبريدج أناليتيكا في عام 2018 عن إمكانية جمع منصات التواصل الاجتماعي بيانات شخصية لملايين الأفراد دون عملهم واستخدامها للاستهداف النفسي لفئات بعينها، بهدف التأثير على قراراتهم، بما في ذلك تصويتهم في الانتخابات. ثبت استغلال هذه المنهجية بنجاح في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، وكذلك بقدر أقل في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في نفس العام.
بغض النظر عما اتُخذ من إجراءات بعد كشف هذه الفضيحة فالحقيقة أنها تمثل إثباتًا لإمكانية نجاح الفكرة، مما يجعل تطويرها وتكرارها أمرًا واردًا. وعلى خلاف الدعاية السياسية بأشكالها المختلفة، فليست هذه بأي حال أدوات لتوصيل رسائل إلى الجمهور تستغل انحيازاته الواعية. ما تنطوي عليه هذه الأدوات هو استلاب كامل للإرادة من خلال التأثير النفسي المباشر على الأفراد بطريقة يصعب عليهم إدراكها.
هذه الأداة الجديدة للتلاعب العميق بالرأي العام لم يكن لها أن توجد دون التكنولوجيا الرقمية ودون منصات التواصل الاجتماعي على وجه التحديد. وما تشير إليه توجهات التطور التكنولوجي حاليًا هو أن التكنولوجيات التي تعتمد عليها أدوات التلاعب المخطط له بالرأي العام ستستمر في التطور بمعدلات متزايدة. يعني ذلك أن فعالية هذه الأدوات ستزداد وبالتالي سيصعب كشفها مع الوقت.
يمثل التلاعب العميق بالرأي العام تهديدًا فريدًا من نوعه. فهو لا يهدد بهدم الديمقراطية من خارجها بقدر ما يهدد بتقويضها من الداخل. ما يعنيه ذلك هو أنه تهديد بتفريغ الديمقراطية من مضمونها في حين يمكن لصورتها القشرية أن تظل قائمة. فيمكن لجميع مظاهر الحكم الديمقراطي أن تستمر بصورة مثالية تمامًا.
على سبيل المثال، يمكن للناخبين أن يذهبوا إلى صناديق الاقتراع ليدلوا بأصواتهم في انتخابات حرة ونزيهة تمامًا، ولكن نتائج هذه الانتخابات ستكون مقررة ومخطط لها سلفًا. ولن تكون الانتخابات هي الهدف الوحيد. فلا حدود لما يمكن تحقيقه بالتوجيه الدقيق للرأي العام، وليس ثمة حقوق حصرية لاستخدام هذه الأدوات، فهي ستكون متاحة لكل من يمكنه دفع الثمن المناسب.
مستقبل الديموقراطية في عالم رقمي
إمكانيات مواجهة معوقات الديمقراطية على منصات التواصل الاجتماعي
يتطلب تجاوز معوقات الديمقراطية في العالم الرقمي تغييرات جذرية في البنية الحالية للفضاء السيبراني. كخطوة مبدئية ضرورية ينبغي التخلي عن وهم عدم تسييس الفضاء السيبراني. هذا الفضاء مسيس بالفعل. الترويج لغير ذلك هو أحد أسباب تنامي استغلاله لأغراض سياسية تحت غطاء الزعم بأنه مجرد منتج لنشاط اقتصادي تحكمه قواعد السوق.
في جميع القضايا التي ناقشتها الأقسام السابقة في هذه الورقة تكررت الإشارة دائما إلى نموذج أعمال منصات التواصل الاجتماعي وطريقة عملها. في النهاية لا يمكن تجنب مسؤولية نموذج الأعمال المشار إليه عن الظواهر المختلفة التي تمثل تهديدًا للديمقراطية.
طالما كان الفضاء السيبراني هو مجرد منتج لنشاط اقتصادي فلا مجال للحديث عن تعديل نموذج أعمال إحدى مكوناته. ففي نهاية المطاف يحق لأي كيان اقتصادي ساع للربح أن يختار نموذج الأعمال الذي يمكنه من تعظيم أرباحه. ولكن الحقيقة هي أن الفضاء السيبراني هو اليوم عالم افتراضي يمتد بامتداد العالم الواقعي وهو مندمج معه بشكل كامل. فإذا كان لكل منهما قواعد مختلفة تحكمه فهذا يعني أن التنازع بين مجموعتي القواعد هاتين سيستمر حتى تتغلب إحداهما على الأخرى.
ما توحي به جميع المؤشرات اليوم هو أن القواعد الاقتصادية الحاكمة للفضاء السيبراني أقرب لأن تكون لها الغلبة على القواعد السياسية للواقع الفعلي. وما يعنيه ذلك هو أن يبتلع الفضاء السيبراني الواقع الفعلي فيكون العالم خاضع لحكم شركات التكنولوجيا الكبرى. لا شك أن مثل هذا العالم لا مكان فيه إلا لديمقراطية صورية أو لأنظمة حكم سلطوية تعمل في خدمة الرأسمالية العالمية.
الخطوة الأولى نحو تجنب هذا المصير هي رؤية الفضاء السيبراني على حقيقته. وهذه الحقيقة هي أن الفضاء السيبراني هو بعد إضافي للعالم الواقعي، يعيش فيه الأفراد من خلال وجودهم الرقمي. وإذا كانت القواعد السياسية هي ما يحكم تعايش البشر والمواطنين في العالم الواقعي، فهذه القواعد نفسها هي ما يجب أن يحكم الفضاء السيبراني.
بعبارة أخرى، ينبغي للفضاء السيبراني أن يخضع بدوره لنظام حكم ديمقراطي كشأن عام يسري عليه الحق المكفول لكل مواطن في المشاركة في إدارته إما بشكل مباشر أو من خلال ممثلين له يختارهم بحرية. عندما يتحقق ذلك يمكن إزاحة نموذج الأعمال المسؤول عن تضخيم ودعم استمرار معوقات الديمقراطية. سيسمح ذلك بالعمل على مواجهة هذه المعوقات وتحجيمها باستخدام ما تتيحه التكنولوجيا الرقمية نفسها من أدوات.
إذا تُركت حوكمة الإنترنت وإدارة منصات التواصل الاجتماعي والتحكم في تطور التكنولوجيات الرقمية في أيدي مجموعة من الشركات التي يحكمها دافع تعظيم أرباحها فهذا يعني أن تستمر معوقات الديمقراطية في التمدد. سيؤدي ذلك إلى هدم الديمقراطية وتفريغها من مضمونها والقضاء على إمكان أي تحول ديمقراطي في أي بلد لا يزال يخضع لحكم سلطوي.
العصر الرقمي وبدائل الديمقراطية التمثيلية
ثمة تناقضات لا يمكن إنكارها بين طبيعة أدوات العصر الرقمي وبين نموذج التطبيق السائد للديمقراطية. استبعاد الآثار السلبية المختلفة التي يضخمها نموذج الأعمال السائد حاليًا لمنصات التواصل الاجتماعي لن يؤدي بأي حال إلى اختفاء هذه التناقضات.
منح التوسع في ممارسة الحق في حرية التعبير عبر منصات التواصل الاجتماعي أصوات المواطنين قدرة تأثيرية كبيرة ومباشرة على سير الشؤون العامة. في أحيان كثير، تجد مؤسسات الدولة نفسها مطالبة أو ربما مضطرة إلى الاستجابة لما عبرت عنه غالبية من مستخدمي هذه المنصات من مواقف تجاه قضايا بعينها، أو أن تختار عدم الاستجابة وتتحمل عواقب ذلك.
وهذا في الواقع من شأنه أن يضعف هذه المؤسسات مع الوقت. فهو يجعلها إما أقل تأثيرًا أو يصمها بعدم الاستجابة للإراد الشعبية. وبصفة عامة فإن اعتبار صوت الناس من خلال منصات التواصل الاجتماعي تعبيرًا مباشرًا وصادقًا عن الإرادة الشعبية من شأنه أن يشكك في جدوى الديمقراطية التمثيلية أو النيابية.
على جانب آخر، تُعد منظومة الديمقراطية التمثيلية أكثر هشاشة في مواجهة ظواهر مثل المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة والتلاعب المخطط بالرأي العام. أحد أهم أسباب هذه الهشاشة هو اعتماد الديمقراطية التمثيلية بشكل رئيسي على الاستحقاقات الانتخابية. هذه الاستحقاقات تمثل نقاط تماس بالغة الأهمية، وهي فرص سانحة لتكثيف آثار معوقات الديمقراطية بحيث يمكنها أن تحدد ما تسفر عنه العملية الانتخابية من نتائج. كذلك تشكل المعارك الانتخابية عنصر ضغط في اتجاه التركيز على القضايا الأكثر إثارة في مقابل القضايا الأكثر تأثيرًا في حياة الناس.
ما سبق لا يعني مطلقًا أن منصات التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون بنمطها الحالي (بغض النظر عن نموذج الأعمال وراء إدارتها) بديلًا عن المجالس النيابية. وهو لا يعني أن هذه المنصات تُعبِر بدقة وصدق عن الإرادة الشعبية. لكنها في المقابل قد تلهم التصورات حول ما يمكن أن تكون عليه ممارسة الديمقراطية في عالم رقمي.
كما أنها تُذكِر بأن الديمقراطية التمثيلية هي فقط إحدى صور ممارسة الديمقراطية. اللجوء لهذه الصورة لم يكن لأنها الأكثر تمثيلًا للإرادة الشعبية، ولكن لأنها كانت الشكل القابل للتطبيق في ظل التكنولوجيا السائدة منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى وقت قريب. أما اليوم، فقد تغيّرت تلك الظروف جذريًا، وأصبحت التكنولوجيا الرقمية تتيح إمكانيات لا تشبه أي نموذج سابق عرفه العالم.
يمكن استغلال قدرات التكنولوجيا الرقمية لتعديل منظومة ممارسة الديمقراطية بحيث تقترب بشكل تدريجي من نموذج الديمقراطية المباشرة. يكون للمواطنين في هذا النموذج الحق في التصويت على القرارات السياسية (التشريعية والتنفيذية) التي تمس حياتهم.
التكنولوجيا المتاحة حاليًا تجعل تطبيق ذلك ممكن عمليًا في بعض الدول. كما أن هذه التكنولوجيا تتيح الأدوات اللازمة لتوفير ضمانات نزاهة ومصداقية عمليات التصويت. يمثل العمل على تطبيق مسار كهذا تحولًا جذريًا للوضع الراهن. فبدلًا من كون التكنولوجيا الرقمية مصدرًا لتحديات وجودية تهدد الديمقراطية، فإنها ستصبح عاملًا محفزًا لتطوير الديمقراطية وتعزيز قدرتها على التعبير عن إرادة المواطنين بشكل أوسع.
خاتمة
إذا طُرِح السؤال: هل تُعد منصات التواصل الاجتماعي منحة أم محنة للديمقراطية؟ فإن الإجابة البسيطة هي أنها قد تكون أيًّا من الخيارين. ولتوضيح ذلك، يمكن القول بأن إيجابية أو سلبية أثر منصات التواصل الاجتماعي على الديمقراطية تتوقف على عاملين أساسيين: شكل إدارة منصات التواصل الاجتماعي وحوكمة الإنترنت من جهة، وطبيعة تطبيق الديمقراطية من جهة أخرى.
وإذا ما التُزم بأن تكون الإجابة متعلقة فقط بالواقع الحالي، فإن منصات التواصل الاجتماعي حاليًا مصدر لعدد من التحديات الكبرى ولواحد أو أكثر من التهديدات الوجودية للديمقراطية ومستقبلها. وما يتطلبه تغيير ذلك هو في الوقت الحالي لا يزال فقط في إطار التصورات الطموحة أو ربما الجامحة، ولكنه يظل ممكنًا إذا ما توافرت الإرادة الكافية لتحقيقه.
قدمت هذه الورقة مقاربة لفهم العلاقة بين منصات التواصل الاجتماعي وبين الديمقراطية. ناقش القسم الأول منها مفهوم الديمقراطية والحقوق الضرورية لازدهارها، ثم ناقش تقاطع منصات التواصل الاجتماعي مع الديمقراطية.
تناولت أيضًا الورقة ثلاثة من الظواهر المتصلة بمنصات التواصل الاجتماعي والتي تمثل معوقات للديمقراطية. كما طرحت مقاربات يمكن أن تحول التكنولوجيا الرقمية إلى عامل أساسي لإعادة بعث الديمقراطية في صورة جديدة تستغل أدوات هذه التكنولوجيا لتحقق وعدها بتمكين المواطنين من المشاركة الحقيقة في إدارة الشؤون العامة.