إعادة النظر في الجريمة الإلكترونية: هل هي جرائم جديدة أم تقنيات جديدة لجرائم قديمة

مقدمة

مع التوسع المتزايد في استخدام التكنولوجيا والإنترنت، استُحدث مصطلح “الجريمة الإلكترونية” في محاولة لوصف ما نتج عن هذه التحولات من أنماط جديدة للسلوك الإجرامي تُرتكب باستخدام التقنيات الحديثة. وقد دخل هذا المصطلح سريعًا إلى التداول العام حتى أصبح مألوفًا في الخطاب الإعلامي والتشريعي.

ورغم شيوع هذا المصطلح، فإن المفهوم الدقيق للجريمة الإلكترونية لا يزال موضع جدل ونقاش بين الخبراء القانونيين والتقنيين على حد سواء. فما زالت الآراء تختلف حول ما إذا كانت الجرائم الإلكترونية تمثل نوعًا جديدًا كليًا من الجريمة يستدعي إطارًا قانونيًا خاصًا، أم أنها الجرائم نفسها والذي تغير هو أدوات ووسائل ارتكابها فقط.

في هذا السياق، تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة في الجدل القائم حول مفهوم “الجريمة الإلكترونية”. تعرض الورقة الحجج المؤيدة لفكرة استحداث تصنيف خاص يسمى “الجريمة الإلكترونية”، وما يقابلها من ردود تدافع عن أن الجريمة في جوهرها ثابتة، وإن التكنولوجيا لا تعدو كونها أداة جديدة لتنفيذ الجرائم التقليدية.

كما تتناول الورقة الإشكاليات العملية والمخاطر المترتبة على توسيع مفهوم الجريمة الإلكترونية، مع بحث سبل بديلة تستوعب التطورات في أساليب ارتكاب الجرائم، دون الانزلاق إلى التوسع في التجريم تحت مظلة مصطلح الجريمة الإلكترونية.

التشريع في مواجهة التكنولوجيا

يواجه النظام القانوني تحديًا متزايدًا في مواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة، حيث تميل بعض السلطات التشريعية إلى إصدار قوانين جديدة مع كل ابتكار تقني. غير أن هذا النهج يؤدي إلى تضخم النصوص القانونية وتضاربها، مما يضعف من فعالية المنظومة القانونية وقدرتها على الاستجابة للتغيرات التقنية بمرونة وكفاءة.

تتجلى هذه الإشكالية في العديد من الأنظمة القانونية التي تتبنى نهجًا تفاعليًا، إذ تُسارع إلى سن تشريعات موجهة للتقنيات الناشئة دون إجراء تحليل معمق لتأثيراتها القانونية والمجتمعية. ونتيجة لذلك، يواجه القضاة والمحامون نصوصًا متعارضة، بينما يشعر المطورون والمستخدمون بالقلق من أن تعيق القيود القانونية أنشطتهم المهنية واليومية.

تستلزم معالجة هذه الإشكالية إعادة النظر في طبيعة التشريع القانوني المتعلق بالتكنولوجيا، والانتقال من المنظور العقابي إلى المنظور التنظيمي والإجرائي. فينبغي أن يُكتفى بوضع أطر عامة ومبادئ قانونية قادرة على ضبط استخدام التكنولوجيا، دون الحاجة إلى تحديد جرائم وعقوبات منفصلة لكل تقنية جديدة.

يُسهم هذا التحول في تعزيز مرونة النظام القانوني وضمان توافقه مع التطورات المستمرة، مع الحفاظ على حماية الحقوق والحريات الأساسية. ويمكن الاسترشاد بتجارب ناجحة في هذا المجال، مثل قوانين حماية البيانات الشخصية أو التشريعات المنظمة للذكاء الاصطناعي، والتي تضع معايير عامة لحماية الخصوصية دون فرض قيود مبالغ فيها على المطورين والمستخدمين.

إن الإفراط في النهج العقابي يعد انعكاسًا لرؤية تعتبر التكنولوجيا مصدرًا دائمًا للجرائم. يترتب على ذلك العديد من النتائج السلبية، منها: تحويل الابتكار إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر القانونية، وجمود النصوص وعجزها عن مواكبة التطور التقني، وتقليص دور القضاة في تفسير القوانين بما يتلاءم مع المتغيرات، وهو ما يضعف قدرتهم على تحقيق العدالة.

لذلك، ينبغي أن يتبنى النظام القانوني نهجًا تشريعيًا مرنًا قائمًا على تنظيم استخدام التكنولوجيا من خلال ضوابط عامة قابلة للتحديث، دون الحاجة إلى سن تشريعات جديدة مع كل تطور. ويعتمد هذا النهج على مبادئ قانونية يمكن للقضاة والمحامين والممارسين في المجال القانوني تفسيرها وتطبيقها بما يتناسب مع الظروف المتغيرة. كما أنه يُمكِّن المشرّعين من تعديل المعايير والاشتراطات بصورة مستمرة، بما يضمن مواكبة التشريعات للتطورات التقنية دون الوقوع في فخ التناقض القانوني.

نشأة مصطلح “الجريمة الإلكترونية” وتطوره التاريخي

قبل أن يصبح مصطلح “الجريمة الإلكترونية” شائعًا، كانت تُستخدم تعبيرات مثل “جرائم الحاسوب” أو “الجريمة بالحاسوب” لوصف إساءة استخدام التكنولوجيا، وظلت هذه المصطلحات منتشرة حتى عام 2000. ومع بداية الألفية الجديدة، ظهر مصطلح “الجريمة الإلكترونية” (Cybercrime)، تزامنًا مع انتشار كلمة “سايبر” في سياق الجرائم والأفعال السلبية الأخرى كالتنمر الإلكتروني. ومنذ ذلك الحين، بات مفهوم الجريمة الإلكترونية مظلة جامعة لأنواع متعددة ومختلفة من الجرائم التي تشترك في استخدام تقنية المعلومات أو التكنولوجيا بشكل عام عند ارتكابها.

ورغم مرور أكثر من عقدين على ظهور المصطلح، لا تزال مناقشات تعريف “الجريمة الإلكترونية” مستمرة، إذ لم يتحقق حتى الآن إجماع محدد حول معناها الدقيق. وقد تباينت التعريفات المطروحة؛ فبعضها ركّز على الجرائم التي تستهدف أنظمة الحاسوب أو الشبكات، بينما توسّع بعضها الآخر ليشمل أي جريمة تُرتكب باستخدام الحاسوب أو التكنولوجيا كأداة.

نظرًا لهذا التباين، فإن حصر الجرائم الإلكترونية في قائمة نهائية أمرًا صعبًا، فهي تشكِّل مفهومًا عامًا يشمل طيفًا واسعًا من الأفعال غير المشروعة. فكلما تطورت التكنولوجيا ظهرت أساليب جديدة لإساءة استخدامها، وفي ظل هذا الاتساع والتطور المستمر، يظل الاتفاق على تعريف دقيق للجريمة الإلكترونية تحديًا مستمرًا أمام المشرعين.

الحجج المؤيدة لاستحداث تصنيف “الجريمة الإلكترونية” والرد عليها

يهدف هذا القسم إلى تحليل الحجج التي تُطرح لتبرير استحداث تصنيف “الجريمة الإلكترونية” كفئة مستقلة عن الجرائم الجنائية التقليدية، مع تقديم ردود نقدية على هذه الحجج.

ظهور أنماط إجرامية جديدة غير مسبوقة

يجادل أنصار استحداث تصنيف للجريمة الإلكترونية بأن التطورات الرقمية أفرزت أنماطًا من الجرائم لم يكن لها وجود في السابق، الأمر الذي يقتضي سن نصوص قانونية جديدة لتجريمها. فعلى سبيل المثال، يُعدّ الاختراق الإلكتروني لأنظمة المعلومات، ونشر البرمجيات الخبيثة أو الفيروسات، وشنّ هجمات الحرمان من الخدمة (DDoS) أنشطة إجرامية فريدة نشأت مع انتشار الشبكات وتقنيات الاتصال الحديثة. ولا يسهل إدراج هذه الأفعال تحت التصنيفات التقليدية للجرائم، مثل السرقة أو الإتلاف، نظرًا لأنها تستهدف أصولًا غير مادية كالمعلومات أو توافر الخدمات.

ومن ثمّ، يرى المؤيدون أن هناك حاجة إلى تشريعات خاصة تُجرّم الاعتداءات الموجهة ضد أنظمة المعلومات أو البيانات، باعتبارها تمثل مصالح قانونية مستحدثة، مثل سرية البيانات وسلامتها وتوافرها. وقد تبنت العديد من الدول هذا المنطق، فأدرجت مواد جديدة في قوانينها الجنائية أو أصدرت تشريعات متخصصة بجرائم تقنية المعلومات تتضمن تعريفات لجرائم مثل الدخول غير المشروع إلى الأنظمة، أو اعتراض البيانات، أو تزوير المعلومات الإلكترونية.

في المقابل، وعلى الرغم من أن التكنولوجيا أوجدت وسائل جديدة لارتكاب الأفعال المجرّمة إلا أن جوهر تلك الأفعال ليس جديدًا تمامًا.فجرائم مثل اختراق نظام معلوماتي يمكن تشبيهها قانونيًا بالتعدي على ملكية الغير أو انتهاك حرمة الملكية (المتمثلة هنا في النظام أو البيانات). وإتلاف البيانات أو تعطيلها هو شكل رقمي من جريمة الإتلاف التقليدية، وسرقة معلومات البطاقة الائتمانية عبر التصيد الإلكتروني (Phishing) امتداد لجرائم النصب والاحتيال. حتى نشر الفيروسات يمكن النظر إليه كمزيج من الإتلاف والإيذاء لكن عبر وسيط إلكتروني.
بالتالي، يمكن معالجة معظم هذه الأفعال التقنية من خلال تفسير مرن للنصوص القائمة أو تعديل محدود للقوانين التقليدية، دون الحاجة إلى ابتكار تصنيف تجريمي مستقل. هذا النهج يحافظ على وحدة النظام القانوني ويمنع تكرار التجريم لنفس الفعل، بينما النهج المعاكس الذي تتبناه بعض الدول – حيث تُجرَّم الجريمة الأصلية واستخدام التقنية فيها كجريمة منفصلة – يؤدي إلى مضاعفة التوصيف القانوني للفعل الواحد، وهو تكرار غير ضروري قد يربك العدالة بدلًا من خدمتها.

قصور الأطر التقليدية والحاجة إلى ردع خاص

يرى مؤيدو سنّ تشريعات خاصة بالجرائم الإلكترونية أن القانون الجنائي التقليدي وُضع في بيئة ما قبل رقمية، الأمر الذي يجعل كثيرًا من نصوص التجريم الكلاسيكية غير ملائمة للتعامل مع الأفعال السيبرانية المستجدة. فعلى سبيل المثال، جرائم انتحال الهوية الرقمية أو استغلال البيانات الشخصية على الإنترنت تطرح تحديات لم تكن في الحسبان عند وضع قوانين العقوبات القديمة. لذلك يرى المؤيدون أنه لا بد من استحداث جرائم جديدة بالقوانين لضمان عدم إفلات المجرمين من العقاب بذريعة الفراغ التشريعي.

بالإضافة إلى ذلك، يعتقد المؤيدون أن تخصيص تصنيف مستقل للجرائم الإلكترونية، مقرونًا بعقوبات مشددة، يعد ضروريًا لتحقيق الردع، خصوصًا مع تزايد خطورة الجرائم التي تستهدف البنى التحتية المعلوماتية أو الأمن القومي السيبراني. كما أن وجود تصنيف خاص -في نظرهم- يسهم في توجيه موارد إنفاذ القانون بصورة أكثر فاعلية؛ إذ أدى الاعتراف بارتفاع معدلات الجرائم الإلكترونية في عدد من الدول إلى إنشاء وحدات شرطية متخصصة، مثل “الإدارة العامة لتكنولوجيا المعلومات” بوزارة الداخلية المصرية، إلى جانب تمويل برامج تدريب في مجالات الأدلة الرقمية وجرائم الإنترنت.

ومع ذلك، فإن القوانين الجنائية العامة، مثل قانون العقوبات، كافية في معظم الحالات لمعاقبة الأفعال الإجرامية حتى لو ارتُكبت عبر الإنترنت. وتقتصر الحاجة في هذه الحالات على بعض التحديثات الإجرائية أو التوضيحات القضائية، لا على استحداث نصوص جديدة بالكامل. فمبدأ “لا جريمة إلا بنص” لا يستلزم بالضرورة سن تشريع مستقل لكل وسيلة مستحدثة لارتكاب الجريمة، بل يمكن تكييف القواعد القائمة – مثل قوانين السرقة أو الاحتيال أو الابتزاز – لتشمل الأفعال المقابلة في الفضاء الرقمي، مع الحفاظ على حياد النصوص تقنيًا بحيث تركز على الفعل المجرَّم لا على الوسيلة.

بالإضافة إلى ذلك، إنشاء قوانين خاصة بكل وسيلة جديدة قد يقوّض مبدأ الشمولية القانونية، والتي تعني أن القوانين يجب أن تكون عامة وقابلة للتطبيق على جميع أنواع الجرائم، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة. ووفقًا لهذا المبدأ فإن الجرائم الإلكترونية ليست استثناءً، بل هي جرائم يمكن التعامل معها ضمن الأطر القانونية التقليدية. قد يؤدي أيضًا التوسع في إنشاء قوانين جديدة إلى ازدواجية في التشريع، مما يعقد المنظومة القانونية ويخلّ بالاستقرار التشريعي. وبناءً عليه، فإن الفاعلية الحقيقية تكمن في تطوير قدرات التحقيق والإنفاذ ضمن الإطار القانوني القائم، لا في إغراق المنظومة بنصوص متفرقة لكل نمط تقني جديد.

تسهيل جمع الأدلة والإجراءات الجنائية

يجادل بعض المؤيدين بأن سنّ قوانين خاصة بالجرائم الإلكترونية يسهّل تطوير إجراءات قانونية ملائمة للتعامل مع الأدلة الرقمية. إذ إن القانون الإجرائي التقليدي نشأ في سياق الأدلة المادية كالوثائق الورقية أو الشهادات، بينما يتسم الدليل الإلكتروني – مثل سجلات الخوادم أو عناوين IP أو بيانات الاتصالات – بخصائص تقنية تستلزم نصوصًا إجرائية خاصة، كالأوامر الموجهة لمزودي الخدمة عبر الحدود أو القواعد التي تضمن سلامة الأدلة الرقمية وعدم الطعن فيها.

كما أنهم يشيروا إلى أن العديد من تشريعات الجرائم المعلوماتية تشتمل على أبواب إجرائية تنظم آليات تفتيش الأجهزة وضبط البيانات وحفظ الاتصالات، وهي أمور كان من الصعب إدراجها ضمن القوانين التقليدية دون الاعتراف بخصوصية الجرائم الإلكترونية.

غير أن هذا الهدف يمكن تحقيقه من خلال تحديث القوانين الإجرائية العامة، دون الحاجة إلى إنشاء إطار تشريعي مستقل يحمل مخاطر توسع التجريم أو التضييق على الحقوق الأساسية. فالمسألة تتعلق بتطوير أدوات الإثبات والإجراءات الجنائية لتلائم البيئة الرقمية، لا بإحداث تصنيف جديد للجريمة.

كما أن منح سلطات إنفاذ القانون صلاحيات استثنائية في إطار قوانين خاصة قد يفتح الباب أمام ممارسات تمسّ الخصوصية، خاصة إذا صيغت النصوص بعبارات فضفاضة تتيح جمع البيانات خارج نطاق القضايا الجادة، أو دون رقابة قضائية فعالة. فعلى سبيل المثال، تُلزم المادة الثانية من قانون مكافحة الجريمة الإلكترونية المصري شركات الاتصالات بحفظ وتخزين سجل النظام المعلوماتي أو أي وسيلة لتقنية المعلومات لمدة 180 يوما متصلة. يعني ذلك أن جميع أنشطة المستخدمين تصبح متاحة للجهات الأمنية عند الطلب، حتى من دون وجود شبهة أو جريمة.

مخاطر التوسع غير المحسوب في التجريم

إنشاء فئة جديدة واسعة مثل “الجريمة الإلكترونية” ينطوي على مخاطر تتعلق بالتوسع غير المحسوب في التجريم. إذ يمكن أن يشمل هذا التصنيف أفعالًا لا تستدعي العقوبات الجنائية الصارمة، بل وحتى أنشطة مشروعة. فعلى سبيل المثال، يحتوي قانون الجريمة الإلكترونية في مصر على مادة تعاقب “الاعتداء على قيم الأسرة المصرية” وهي المادة التي استُخدمت لملاحقة العديد من صانعي المحتوى على تطبيق تيكتوك. مثل تلك العبارات غير الواضحة قد يؤدي إلى تقييد حرية التعبير أو انتهاك خصوصية المواطنين تحت ذريعة مكافحة الجريمة.

بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي الصياغات العامة لبعض النصوص القانونية إلى تجريم أنشطة تقنية مفيدة مثل بحوث الأمن السيبراني أو التحقيقات الصحفية في القضايا التقنية، وذلك بسبب غياب استثناءات واضحة لهذه الأغراض. على سبيل المثال، على الرغم من أن تجريم صنع أو حيازة أدوات الاختراق (مثل برامج اختبار الاختراق أو توليد كلمات المرور) يهدف إلى منع الجرائم السيبرانية، إلا أن غياب اشتراط وجود نية إجرامية صريحة أو عدم استثناء الاستخدام البحثي يعني أن الباحث الذي يستخدم نفس الأدوات لأغراض الاختبار قد يقع تحت طائلة التجريم. وبالمثل، يمكن أن تطال بعض نصوص الجرائم الإلكترونية الصحفيين الاستقصائيين الذين يعتمدون على تحليل البيانات المسربة أو التحقيق في الجرائم التقنية، حيث قد يُتهم الصحفي بـ”الوصول غير المشروع” لمجرد تعامله مع بيانات مُسربة خدمةً للصالح العام.

كما أن القوانين الخاصة بالجرائم الإلكترونية قد تخلق تمييزًا غير مبرر بين مرتكبي الجرائم الإلكترونية ونظرائهم في الجرائم التقليدية، بحيث تختلف العقوبات لمجرد اختلاف الوسيلة المستخدمة، وهو ما يتعارض مع مبدأ المساواة أمام القانون. بناءً على ذلك، فإن النهج الأمثل هو تعديل القوانين الجنائية والإجرائية القائمة لتستوعب الجرائم ذات الطبيعة الرقمية، بدلًا من سن قوانين خاصة تحمل في طياتها احتمالات التوسع في التجريم أو الإخلال بضمانات العدالة والمساواة.

المعالجة التشريعية المصرية لمفهوم الجريمة الإلكترونية

استمرت المحاولات التشريعية لإصدار قانون “الجريمة الإلكترونية” عقب صدور الدستور لما يقارب ثلاثة أعوام، وانتهت هذه الجهود في عام 2018 بإصدار قانون “مكافحة جرائم تقنية المعلومات”. خلال هذه الفترة، سعت السلطة التنفيذية إلى صياغة مقترح يعالج مفهوم الجريمة الإلكترونية، فصدرت ثلاث مسودات عن جهات مختلفة، من بينها وزارة العدل ووزارة الاتصالات.

واجهت هذه المسودات عدة إشكاليات، أبرزها غياب وضوح الفلسفة التشريعية التي بُني عليها مشروع القانون. تجلّى ذلك في الميل إلى التوسع في صور التجريم دون مبرر كافٍ، نتيجة الخلط بين الجرائم المستحدثة بفعل التطور التكنولوجي وبين الأبعاد الجديدة للجرائم التقليدية المنصوص عليها في القوانين العقابية، وتطور الوسائل التي تُرتكب بها. كما شابت هذه المسودات مشكلات تتعلق بعدم دقة وضوح المصطلحات التقنية المستخدمة، وغياب التحديد الدقيق للمقاصد التشريعية لعدد من نصوصها.

أحد هذه المحاولات كان في مايو 2016 حين تقدمت لجنة الدفاع والأمن القومي بمقترح قانون لمكافحة الجريمة الإلكترونية مكون من 29 مادة. وفي سبتمبر من نفس العام، وافقت اللجنة العليا للإصلاح التشريعي على مشروع قانون جديد بشأن جرائم تقنية المعلومات، وفى مقدمتها الجرائم المتعلقة بالإرهاب.

تضمن المقترح الذي تم إرساله إلى مجلس الوزراء 59 مادة. نصت المواد على معاقبة كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًا أو بريدًا إلكترونيًا، بغرض إنشاء كيان أو عصابة إرهابية، أو الترويج لأفكارها، أو لتبادل الرسائل وإصدار التكليفات بين الجماعات الإرهابية أو المنتمين إليها، وكذلك إتاحة أو نشر بيانات أو معلومات أو تحركات القوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية، أو عن أي من العاملين بهذه الجهات، أو الأعضاء بأي سلطات الدولة، بغرض ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة من جرائم الإرهاب.

وبصدور المسودة الأخيرة من مشروع القانون، حاول المُشرِّع أن يتفادى الإشكاليات التي وقعت فيها المسودات السابقة. وجاء بتقرير اللجنة المشتركة من لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ومكتبي لجنة الشئون الدستورية والتشريعية، والدفاع والأمن القومي، أن الفلسفة والهدف من مشروع القانون هو الآتي:

  • مكافحة الاستخدام غير المشروع للحاسبات وشبكات المعلومات وتقنيات المعلومات، وما يرتبط بها من جرائم، مع التزام الدقة في تحديد الأفعال المعاقب عليها، وتجنب التعبيرات الغامضة بوضع تعاريف دقيقة لها، وتحديد عناصر الأفعال المجرَّمة بكثير من العناية، ومع مراعاة الاعتبارات الشخصية للمجنى عليهم.
  • ضبط الأحكام الخاصة بجمع الأدلة الإلكترونية وتحديد حجيتها في الإثبات.
  • وضع القواعد والأحكام والتدابير اللازم اتباعها من قبل مقدمي الخدمة لتأمين خدمة تزويد المستخدمين بخدمات التواصل بواسطة تقنية المعلومات، وتحديد التزاماتهم في هذا الشأن.
  • حماية البيانات والمعلومات الحكومية، والأنظمة والشبكات المعلوماتية الخاصة بالدولة أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة، من الاعتراض أو الاختراق أو العبث بها، أو إتلافها، أو تعطيلها بأي صورة كانت.
  • حماية البيانات والمعلومات الشخصية، من استغلالها استغلالًا يسيء إلى أصحابها، وخاصة في ظل عدم كفاية النصوص التجريمية التقليدية المتعلقة بحماية خصوصيات الأفراد وحرمة حياتهم الخاصة في مواجهة التهديدات والمخاطر المستحدثة باستخدام تقنية المعلومات.
  • وضع تنظيم إجرائي دقيق ينظم إجراءات الضبط والتحقيق والمحاكمة المتعلقة، بالإضافة إلى تحديد حالات التصالح وإجراءاته وتنظيم عمل الخبراء المتخصصين العاملين في مجال جرائم مكافحة تقنية المعلومات، والقرارات والأوامر الجنائية المتعلقة بتنفيذ أحكام القانون.

يتضح من التقرير أن الهدف الأساسي من القانون هو “حماية خصوصيات الأفراد و حرمة حياتهم الخاصة”. ورغم ذلك، فإن القانون في صورته الأخيرة قد صدر معيبًا، ومحملًا بعيوب موضوعية وإجرائية تنتقص بشكل مباشر من الضمانات التي نص عليها الدستور المصري. كما أنه يتضمن جرائم غير واضحة أو محددة، وهو النهج الذي حذر منه المناهضين لفكرة إقرار قانون منفصل تحت مسمى “الجريمة الإلكترونية”.

التجربة التشريعية المصرية في إعداد قانون “مكافحة جرائم تقنية المعلومات” تمثل نموذجًا لغياب الوضوح في الفلسفة التشريعية. فقد اتسمت المسودات الأولى بخلط واضح بين التوسع في التجريم وابتكار جرائم جديدة دون مبرر كافٍ، وبين معالجة الأبعاد التقنية لجرائم تقليدية قائمة، ما أدى إلى إدراج نصوص موسّعة وغير ضرورية للتجريم. وقد نتج عن هذا الخلط غياب إطار فلسفي متماسك يحدد هوية التشريع: هل الهدف هو ردع الجرائم التقنية بعقوبات صارمة، أم إدارة الفضاء الرقمي عبر قواعد تنظيمية أشمل؟ إن وضوح فلسفة التشريع منذ البداية ينعكس على دقة تعريف المصطلحات، ونطاق التجريم أو التنظيم، وكذلك على تحديد الجهات المكلّفة بالتنفيذ والرقابة.

التشريع العقابي مقابل التشريع التنظيمي

تتمثل إشكالية قوانين الجريمة الإلكترونية في كيفية الاستجابة التشريعية للتطورات التكنولوجية. وتنطلق هذه الورقة من مقاربة بديلة للتعامل مع الجرائم المرتبطة بالتكنولوجيا، تقوم على التركيز على أدوات وإجراءات إنفاذ القانون بدلًا من سن المزيد من القوانين العقابية. فالتحدي الأساسي الذي فرضته التقنية لا يتمثل في ظهور جرائم جديدة كليًا، بقدر ما يتمثل في الحاجة إلى آليات مبتكرة للتحقيق والإثبات، إلى جانب تحسين جودة القوانين ذات الطابع التنظيمي التي تحدد القواعد العامة الحاكمة للأنشطة التقنية.

عند سن القوانين المتعلقة بالتقنية، يمكن للمشرّع تبني أحد نهجين رئيسيين أو الجمع بينهما: التشريع العقابي والتشريع التنظيمي أو الإجرائي، ولكل منهما طبيعة وأهداف مختلفة. وقد جرى سابقًا تناول الإشكاليات المرتبطة بالتوسع في القوانين ذات الطابع العقابي، مما يستدعي التوقف أيضًا عند النهج التنظيمي وإبراز مزاياه، خصوصًا في بيئة تقنية تتسم بالتغير السريع. ويتميز التشريع التنظيمي بمرونة عالية وقدرة على التكيف مع المستجدات، إلى جانب مزايا جوهرية تجعله خيارًا مفضلًا في عصر التحول الرقمي، ويمكن تلخيص أبرز هذه المزايا فيما يلي:

  • المرونة والقابلية للتحديث: التشريعات التنظيمية غالبًا ما تفوّض تفاصيل تقنية إلى لوائح تنفيذية أو سلطات إدارية، مما يُسهِّل تعديل القواعد الفرعية بسرعة نسبيًا عند ظهور تطورات جديدة. كما أنها تعتمد على معايير مرنة (“مرونة القاعدة القانونية”) بدلًا من تحديدات صارمة قد تصبح غير ملائمة.
  • توجيه السلوك قبل وقوع المخاطر: من خلال وضع ضوابط مسبقة (مثل متطلبات ترخيص، ومعايير أمن سيبراني إلزامية، ومدونات سلوك مهني)، يسهم التشريع التنظيمي في منع المشاكل قبل حدوثها. فهو أشبه بالنظام الوقائي الذي يرشد الجهات الفاعلة تقنيًا نحو الممارسات الصحيحة، بدلاً من الانتظار لوقوع الانتهاك ثم إنزال العقوبة.
  • إقامة هيكل مؤسسي متخصص: غالبًا ما يصاحب التشريع التنظيمي إنشاء هيئات رقابية وتنظيمية متخصصة تمتلك الخبرة التقنية، مما يضمن إنفاذ القانون بطريقة أكثر فعالية وديناميكية. مثل هذه الكيانات تستطيع إصدار قرارات وتوجيهات تفصيلية بشكل أسرع من السلطة التشريعية، وبالتالي معالجة المسائل المستجدة فور ظهورها. يُضاف إلى ذلك أن التواصل المباشر بين الجهات التنظيمية والصناعات التقنية يخلق قناة تفاعل مستمرة تسمح بتحديث سياسات التنظيم من خلال الحوار مع أصحاب المصلحة، بدلاً من الانتظار لدورات تشريعية طويلة الأمد.

المقارنة بين التشريعات ذات الطابع الجزائي ونظيراتها ذات الطابع التنظيمي أو الإجرائي لا تعني بالضرورة الدعوة إلى التوسع في سن القوانين، بل تهدف أساسًا إلى الحد من آثار الشره التشريعي وتقييد هذه النزعة ضمن أطر واضحة ومنضبطة قدر الإمكان. فالمقصود هو تقليص المساحات التشريعية ذات الطبيعة الجزائية التي تترتب عليها – في الغالب – عقوبات سالبة للحرية، لما لهذه العقوبات من آثار جسيمة يصعب تداركها لاحقًا. ومن ثم، ينبغي أن تُفهم السمات المميزة لهذا النوع من التشريعات وتُفسَّر في أضيق نطاق ممكن.

سمات التشريع التقني الفعّال

عند تصميم تشريع فعال في مجالات التكنولوجيا لا بد للمشرّع من مراعاة مجموعة من السمات والمبادئ الأساسية التي تضمن قدرة القانون على تحقيق غايته في ظل بيئة سريعة التغيّر، وفي الوقت ذاته صون الحقوق والحريات الدستورية للمواطنين. ويمكن إيجاز أهم سمات التشريع التقني الفعّال على النحو التالي:

الشمول وحيادية التقنية

ينبغي أن تصاغ النصوص القانونية بأسلوب تقني محايد قدر الإمكان، بحيث لا تنحاز إلى تكنولوجيا محددة أو تُفصَّل حسب وضع قائم، بل يجب أن تركز على المبادئ العامة والمخاطر الجوهرية بغض النظر عن التفاصيل الفنية المتغيرة. فبدلًا من سن تشريع منفصل لكل تقنية جديدة – مثل المركبات ذاتية القيادة أو إنترنت الأشياء – يُفضل وضع إطار قانوني عام ينظم المسؤولية عن أنظمة القيادة الآلية أو حماية بيانات الأجهزة الذكية بوجه عام.

هذا النهج يمنح القانون قابلية للتطبيق على طيف واسع من التقنيات، ويطيل من عمره التشريعي بحيث يواكب أجيالًا متعاقبة من الابتكارات دون الحاجة إلى تعديلات متكررة. كما أن مراعاة حيادية التقنية في الصياغة تقلل من مخاطر التقادم، إذ يظل النص العام قادرًا على استيعاب التطورات المستقبلية في التطبيقات المختلفة.

المرونة وسرعة التكيّف

تُعد المرونة عنصرًا أساسيًا في التشريع التقني الفعّال، إذ تتيح للقانون التكيّف مع التطورات المتسارعة دون المساس بثوابته الأساسية. ويتحقق ذلك عبر تضمين آليات تسمح بتعديل اللوائح الفنية والتفاصيل الإجرائية بسهولة نسبية، من خلال تفويض الجهات التنفيذية أو الهيئات التنظيمية المختصة بإصدار قرارات تفصيلية قابلة للتحديث الدوري، أو من خلال النص على مراجعة دورية للقانون – مثلًا كل عامين – لتقييم مدى ملاءمته للمستجدات التقنية. وتشمل المرونة أيضًا اعتماد معايير أداء أو أهداف تنظيمية عامة – كحماية البيانات الشخصية وفق أحدث المعايير – بدلًا من فرض وسائل فنية جامدة قد تفقد فعاليتها بمرور الوقت.

ترسيخ حماية الحقوق والحريات الأساسية

لا بد أن يتسم أي تشريع تقني مع حقوق الإنسان والدستور، بحيث لا تُضحَّى الحقوق في سبيل تنظيم التقنية. فينبغي أن يتم إدماج اعتبارات حقوق الإنسان في التنظيم التقني، لضمان ألا يؤدي تطوير التكنولوجيا واستخدامها إلى انتهاك الحقوق الأساسية كحق الخصوصية وحرية التعبير وعدم التمييز.

يجب أن تتسق أي تشريعات تقنية مع حقوق الإنسان والمبادئ الدستورية، لضمان عدم المساس بالحقوق الأساسية تحت ذريعة تنظيم التكنولوجيا. ففي ظل التطور المتسارع للتكنولوجيا، أصبح من الضروري وضع أطر قانونية توازن بين الابتكار وحماية الحريات الأساسية للأفراد.

بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن يلتزم أي تشريع تقني التزامًا صارمًا بمبادئ حقوق الإنسان وبأحكام الدستور، بحيث لا يُضحَّى بالحقوق الأساسية تحت ذريعة تنظيم التقنية أو مواجهة مخاطرها. فالخبرة التشريعية الدولية تثبت أن القوانين التي تتجاهل هذا الاتساق قد تؤدي – ولو بحسن نية – إلى انتهاكات واسعة النطاق، مثل الإخلال بالحق في الخصوصية من خلال أنظمة المراقبة المفرطة، أو تقييد حرية التعبير عبر آليات رقابية فضفاضة. لذلك، ينبغي دمج اعتبارات حقوق الإنسان في جميع مراحل التنظيم التقني، بدءًا من صياغة النصوص، ومرورًا بآليات التنفيذ، وانتهاءً بآليات المراجعة والمساءلة، لضمان ألا يصبح التطوير التكنولوجي أو استخدامه مدخلًا لانتهاك هذه الحقوق.

الوضوح والدقة

يجب أن تصاغ أحكام التشريع التقني بلغة واضحة ودقيقة تجنبًا لأي غموض قد يُستغل للإفلات من الخضوع للقانون أو يُسبب تضاربًا في التطبيق. من الضروري تضمين تعريفات للمصطلحات التقنية المستخدمة في القانون، كتعريف “البيانات الشخصية” أو “مقدم الخدمة الرقمية” وما إلى ذلك، لضمان فهم موحد. غير أن الدقة لا تعني التفصيل المفرط؛ إذ ينبغي أن تبقى التعريفات مرنة وقابلة للتطوير. لذا، فسمات التشريع الجيد تشمل صياغة تعريفات واسعة بالقدر الكافي لاستيعاب الظواهر التقنية المستجدة، ولكن دون إطلاق مبهم قد يربك القضاء أو المعنيين بالتنفيذ.

إشراك الخبرات المتخصصة وآليات الحوكمة

التقنية مجال سريع التحول ويستلزم فهمًا عميقًا من خبراء متخصصين عند إعداد الأطر التشريعية لها. لذلك فإن من سمات التشريع التقني الفعال اتباع نهج تشاركي في الصياغة ووضع السياسات، بحيث يتم التشاور مع الأطراف المعنية كافة – من مهندسين وتقنيين وقانونيين ورواد أعمال ومجتمع مدني – خلال مراحل بلورة القانون. هذه الحوكمة التشاركية تضمن أن تكون القواعد المقترحة واقعية وقابلة للتنفيذ وتحقق التوازن بين مصالح جميع الأطراف.

تحديث الأطر الإجرائية

كثيرًا ما يُثار أن الأطر الإجرائية التقليدية لم تعد ملائمة للتعامل مع التطورات التقنية الحديثة، ورغم وجاهة هذا الطرح وأهميته في حماية الأفراد من تجاوزات جهات إنفاذ القانون، إلا أنه قبل الإقدام على أي توسع تشريعي إجرائي ينبغي تقييم مدى كفاية القواعد القائمة.

فعلى سبيل المثال، ينظم قانون الإجراءات الجنائية المصري تفتيش الأشخاص والمنازل وفق شروط واضحة: وجود واقعة مادية تشكل جريمة، ضرورة التفتيش لإثباتها، الحصول على إذن قضائي مسبب، وتحديد غرض التفتيش بدقة. هذه الشروط يمكن تطبيقها على النفاذ إلى الأجهزة أو الشبكات، إذ يظل جوهر التفتيش واحدًا. وإذا كانت القواعد الحالية كافية، فلا مبرر للتوسع، على أن تكون أي تحديثات إجرائية – إذا لزم الأمر – جزءًا من تشريع عام يضمن المساواة بين القواعد المنظمة للحالات التقليدية ونظيراتها الرقمية.

خاتمة

في ضوء ما سبق، يتضح أن الجدل الدائر حول مفهوم “الجريمة الإلكترونية” ليس مجرد خلاف نظري، بل هو انعكاس مباشر لصراع أعمق بين مناهج مختلفة في فهم العلاقة بين القانون والتكنولوجيا. فمن جهة، هناك من يرى أن التحولات الرقمية قد أفرزت أنماطًا سلوكية تستدعي تأسيس منظومة تشريعية جديدة بالكامل. في المقابل، يرى آخرون أن تلك الأفعال لا تخرج عن كونها امتدادًا لجرائم تقليدية أُعيد إنتاجها عبر وسائط حديثة، ما يجعل التكييف القانوني القائم كافيًا، إذا ما تم تحديثه إجرائيًا وتقنيًا بذكاء.

وقد بيّنت الورقة أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في وجود فراغ تشريعي بقدر ما يكمن في غياب الفلسفة القانونية الواضحة في كثير من التجارب التي تعاملت مع “الجريمة الإلكترونية”، مثل النموذج المصري. فقد طغت النزعة العقابية على المعالجة، دون أن يصاحبها بناء مؤسسي تنظيمي أو تطوير متوازن في أدوات إنفاذ القانون، الأمر الذي أفضى إلى نصوص فضفاضة، تُهدد الحقوق الأساسية بدلًا من حمايتها.

لذلك، ليس من الضروري تصنيف “الجريمة الإلكترونية” كفئة قانونية منفصلة. بدلاً من ذلك، ينبغي إعادة النظر في الإطار التشريعي الشامل، بتبني نهج أكثر تنظيمًا ومرونة. يركز هذا النهج على تحديث الإجراءات، وتحسين كفاءة جمع الأدلة، وتعزيز الشفافية في التعامل مع الأدلة الرقمية، وتطوير نظام العدالة ليواكب التغيرات التقنية، مع الحفاظ على مبادئ الشرعية والعدالة والمساواة أمام القانون.