أنماط العمل الحديثة في قانون العمل الجديد: بين الاعتراف التشريعي والتحديات التطبيقية

لقراءة الورقة بصيغة PDF

توطئة

تأتي هذه الورقة البحثية في لحظة فارقة يشهد فيها سوق العمل المصري تحولات جوهرية مع صدور قانون العمل الجديد في مايو 2025. ولأول مرة، يتضمن القانون اعترافًا صريحًا بأنماط العمل الحديثة، ومنها العمل عبر المنصات الرقمية، وهو ما يثير تساؤلات عديدة حول مدى قدرة النصوص الجديدة على حماية حقوق هذه الفئة المتنامية من العمال.

تقدّم الورقة قراءة نقدية لموقع العمالة المنصاتية داخل القانون الجديد، وتبيّن أوجه القصور التي قد تُبقي العاملين في وضع هش، مع طرح مقترحات عملية لسد هذه الفجوات بما يضمن حماية الحقوق الأساسية للعمال في سياق الاقتصاد الرقمي المتسارع.

مقدمة

في مايو 2025، وقَّع الرئيس عبد الفتاح السيسي على قانون العمل الجديد. وقد تضمن القانون للمرة الأولى اعترافًا صريحًا بـ أنماط العمل الحديثة، بما في ذلك العمل عن بُعد والعمل عبر المنصات الرقمية، وهو ما قد يفتح الباب أمام إدخال فئات واسعة من العاملين، كانت مستبعدة سابقًا، تحت مظلة الحماية القانونية.

من الناحية النظرية، يمثّل هذا الاعتراف توسعًا مهمًا في تعريف “العامل”، خاصة أن إثبات علاقة العمل لا يقتصر على وجود عقد مكتوب، إذ استقر المشرّع المصري على إمكانية إثباتها بكافة طرق الإثبات، مثل شهادة الشهود. كما نص القانون على أحكام أولية تنظم العمل عن بُعد وتحدد الالتزامات المتبادلة بين العامل وصاحب العمل. غير أن المعضلة الحقيقية تظلّ في التطبيق، حيث تبقى الحماية الفعلية لحقوق العاملين مرهونة بآليات تنفيذ فعّالة، وإرادة سياسية جادّة، وتمثيل حقيقي للعمال في صياغة السياسات واللوائح التنفيذية.

تأتي هذه الورقة في هذا السياق لتسلط الضوء على العمالة المنصاتية. فمع التحولات الرقمية الجذرية في سوق العمل، برز ما يُعرف بـ “اقتصاد المنصات الرقمية” (Platform Economy) أو “اقتصاد المهام” (Gig Economy)، الذي أتاح فرص عمل مرنة ومتنوعة، لكنه في الوقت ذاته حمل تحديات كبيرة، أبرزها غياب الأمان الوظيفي والحماية الاجتماعية، وتدني الأجور إلى مستويات تُبقي العاملين في دائرة الفقر.

تشير تقارير دولية إلى أن نسبة كبيرة من العاملين في هذا القطاع، حتى في الاقتصادات الكبرى، يتقاضون أجورًا متدنية للغاية. ففي الولايات المتحدة، وصفت الأمم المتحدة أجور العاملين في بعض المنصات الرقمية بأنها “متدنية إلى حد يُعد انتهاكًا لحقوق الإنسان”. وإذا كان هذا هو الحال في الاقتصاديات القوية، فإن الوضع في الدول النامية، مثل مصر، يبدو أكثر هشاشة، مع محدودية الحماية القانونية وانخفاض مستويات الأجور.

من هنا، تسعى هذه الورقة إلى تحليل العلاقة بين العمالة المنصاتية وإعادة إنتاج الفقر عبر الوسيط الرقمي. كما تناقش كيفية تعامل قانون العمل الجديد مع هذا النمط، من خلال تحليل الإطار المفاهيمي والقانوني، والسياق المصري، وخصائص وآليات تشغيل المنصات، ودراسة الفجوات القانونية، وصولًا إلى تقديم توصيات عملية تضمن حماية حقوق العمال في الاقتصاد الرقمي.

التبعية الرقمية: واقع العمالة في اقتصاد المنصات

بدأ اقتصاد المنصات يفرض حضوره مطلع القرن الحادي والعشرين، مدفوعًا بثورة الاتصالات والإنترنت، في حين شكّلت الأزمات المالية العالمية بيئة خصبة لتسارع نمو هذا النمط الاقتصادي الجديد. يقوم هذا الاقتصاد على منصات رقمية وسيطة تربط بين مقدمي الخدمات وطالبيها عبر تطبيقات ذكية أو مواقع إلكترونية، وتشمل طيفًا واسعًا من الأنشطة: من النقل (مثل أوبر وكريم)، والتوصيل (مثل طلبات)، إلى التنظيف والصيانة (مثل تاسكتي وفي الخدمة)، والخدمات الحرة عبر الإنترنت مثل التصميم والبرمجة وكتابة المحتوى.

تتسم هذه العمالة بخصائص غير نمطية مقارنة بالعمل التقليدي. فالعامل لا يرتبط بعقد عمل أو ما يمكن أن يُصنف أنه علاقة عمل، بل يُصنّف كـ “مقدّم خدمة” أو “متعاقد مستقل”، يقدم خدماته لمستخدم نهائي عبر منصة تتحكم فعليًا في شروط العمل، لكنها تتنصل قانونيًا من اعتباره موظفًا تابعًا لها. وينتج عن ذلك نمط جديد من التبعية يُمكن تسميته بـ التبعية الرقمية، إذ يبدو العامل حرًا -ظاهريًا- لكنه يخضع فعليًا لسلطة المنصة عبر أنظمتها وخوارزمياتها التي تنظّم فرص وسير العمل، وتراقب الأداء، وتفرض العقوبات ومعدلات القبول، وتوقف الحسابات، في حين تصرّ على أن العامل ليس موظفًا لديها. يخلق ذلك الوضع منطقة قانونية رمادية تستغلها الشركات لتقليل التكاليف على حساب حقوق العمال.

وقد تنبّهت منظمات مثل منظمة العمل الدولية لهذه الإشكاليات، خاصة خلال جائحة كوفيد-19، ودعت إلى سد الفجوات في الحماية الاجتماعية وضمان تصنيف عمال المنصات بشكل صحيح داخل أنظمة العمل، ومدّ مظلة التأمينات الاجتماعية لتشملهم حتى في حال تصنيفهم عاملين لحسابهم الخاص.

تكشف هذه الأنماط الجديدة من العمل عن مزيج من استقلال ظاهري وتبعية رقمية فعلية، ما يستدعي إعادة النظر في معايير التبعية القانونية وتحديث قوانين العمل لتستوعب خصوصية علاقات العمل الرقمية المثلثة (عامل–منصة–زبون). ويبرز نموذج العمالة المنصاتية كأحد أكثر صور هذا التحول حدّة، إذ يعمل في سوق يبدو مرنًا لكنه يخضع عمليًا لأنظمة تشغيل رقمية تفرضها المنصات الكبرى، فتتحول علاقة العمل إلى علاقة عن بُعد تُعيد إنتاج أنماط التفاوت الاقتصادي بأدوات لا مرئية.

  • تُسوَّق أنماط العمل عبر المنصات باعتبارها تمنح حرية اختيار وقت ومكان أداء العمل، إلا أن هذه المرونة الظاهرية تخفي غياب ضمانات الاستقرار المهني والدخل المنتظم، مما يضطر العديد من العاملين إلى العمل لساعات كثيرة وغير منتظمة لتأمين الحد الأدنى من متطلبات المعيشة.
  • تُدار علاقة العمل بواسطة أنظمة تشغيل خوارزمية تحدد المهام وتراقب الأداء وتتخذ إجراءات عقابية، وقد تؤدي إلى إنهاء التعامل دون إبداء أسباب واضحة، في غياب آليات مساءلة ورقابة فعّالة.
  • لا تتاح للعاملين فرصة حقيقية للتفاوض على الأجر أو شروط العمل، إذ تُفرض هذه الشروط من جانب واحد، ما يضعف قدرتهم على تحسين أوضاعهم المهنية أو إنشاء أطر تمثيلية فاعلة.
  • يتحمل العامل تكاليف الأدوات ووسائل العمل دون تعويض عن فترات الانتظار أو التوقف القسري، مما يؤدي إلى تآكل دخله الفعلي، لا سيما في ظل معدلات التضخم.
  • وفرة المعروض من الأيدي العاملة تجعل استبدال أي عامل أمرًا ميسورًا، وهو ما يضعف مركزه التفاوضي ويؤثر سلبًا على شروط العمل. كما أن العمل عبر المنصات مجزّأ إلى مهام قصيرة الأجل، دون مسار واضح للترقي أو الاعتراف بتراكم الخبرات، مما يحد من فرص التطوير الوظيفي ويضعف في الوقت نفسه قدرة العامل على بناء هوية مهنية مستقرة أو الانتماء لمجتمع مهني.
  • تعتمد المنصات توصيف العامل كمقدم خدمة وليس كموظف، بما يعفيها من الالتزامات القانونية المتعلقة بالأمان الوظيفي وظروف العمل رغم سيطرتها على بيئة العمل والأجر.
  • تفرض أنظمة المراقبة الرقمية ضغوطًا نفسية دائمة تدفع العامل إلى ضبط أدائه ذاتيًا لتفادي العقوبات أو خفض التقييم، مما قد يؤدي إلى بيئة عمل مرهقة وغير داعمة للصحة النفسية.

كل هذه العناصر تؤدي إلى خلق فئة من الأفراد الذين يعملون لساعات طويلة دون تحقيق استقرار مادي حقيقي، وتساهم في ترسيخ حالة من الجمود الاقتصادي. ولا تقتصر آثار هذا النموذج على العمالة المنصاتية فقط، بل تمتد لتضغط على سوق العمل التقليدي. بعض الشركات بدأت بالفعل بتقليد المنصات في تحميل العمال مزيدًا من الأعباء وتقليص حقوقهم القانونية، مما يؤدي إلى تراجع معايير العمل المتعارف عليها، وتضييق الفرص أمام العمال للحصول على وظائف مستقرة ومنصفة.

أنماط العمل الجديدة في قانون العمل المصري الجديد

جاء قانون العمل الجديد بتعديلات جوهرية لتنظيم علاقة العمل بين العامل وصاحب العمل في ضوء تطورات سوق العمل الحديثة، ومن أبرزها إدراج فصل خاص بـ أنماط العمل الجديدة، والتي تشمل أربع صور محددة: العمل عن بُعد، والعمل لبعض الوقت (جزئي)، والعمل المرن، والعمل المتقاسم.

يمثل هذا الإدراج استجابة تشريعية مهمة لتوسيع نطاق الحماية القانونية ليشمل أشكال التوظيف المستحدثة، إذ وسّع تعريف “العامل” ولم يشترط وجود عقد مكتوب تقليدي لإثبات العلاقة العمالية، وهو ما يتيح إدخال فئات كانت مستبعدة سابقًا تحت مظلة الحماية. كما وضع القانون أحكامًا أولية تنظم العمل عن بُعد من حيث الالتزامات المتبادلة بين العامل وصاحب العمل.

ورغم هذه الخطوة الإيجابية، فإن الفصل المخصص لأنماط العمل الجديدة جاء مقتضبًا للغاية، إذ لا يتجاوز خمس مواد من أصل نحو 298 مادة في القانون، ما يثير إشكاليات تتعلق بضعف البنية التشريعية وتضارب محتمل مع أحكام أخرى في القانون. على جانب آخر، تشير نصوص هذا الفصل إلى أن جميع الحقوق والواجبات المقررة للعاملين في الأنماط التقليدية للعمل تسري أيضًا على العاملين في الأنماط الجديدة، لكن دون تفصيل كافٍ لكيفية التطبيق العملي لهذه الحقوق في السياقات المستحدثة.

يكمن التحدي الأساسي في التطبيق؛ فالحماية الفعلية لحقوق العاملين، خاصة في الاقتصاد الرقمي، تظل مرهونة بآليات تنفيذ فعّالة، وإرادة سياسية جادة، ومستوى تمثيل حقيقي للعمال في صياغة السياسات. وفي بيئة يغلب عليها الميل نحو تشجيع الاستثمار وتخفيف القيود على الشركات، فقد تبقى هذه الحقوق حبرًا على ورق ما لم تترافق مع ضمانات مؤسسية تتيح الرقابة والتظلم، وتكفل حماية العاملين من الاستغلال والتهميش.

أولًا: تعريف “أنماط العمل الجديدة” في القانون

تمسّك المشرّع المصري في القانون الجديد بقاعدة جوهرية تتمثل في عدم وضع تعريف شامل لمفهوم “العامل“، واكتفى في المقابل بوضع تعريف هو في حقيقته توصيف لعلاقة العمل. فقد عرّف القانون العامل بأنه:

” كل شخص طبيعي يعمل لقاء أجر لدى صاحب عمل وتحت إدارته أو إشرافه”.

ويسمح هذا التعريف بإخضاع كل من ينطبق عليه هذا الوصف لمظلة الحماية القانونية الواردة بقانون العمل، بغضّ النظر عن توصيف صاحب العمل لتلك العلاقة أو عن وجود عقد مكتوب من عدمه.

ورغم هذا التوسع في تعريف العامل، إلا أن التطبيق العملي لهذا التعريف على العمالة المنصاتية لن يكون أمرًا يسيرًا، بل سيحتاج إلى جهودٍ تراكمية من العمال ومنظماتهم. فكثير من أصحاب الأعمال في أنماط العمل الجديدة يحرّرون عقودًا مع العاملين تتضمّن توصيفًا مغايرًا للعلاقة التي تجمعهم. على سبيل المثال، قد يُوصَف العامل بأنه مقدّم خدمة، وهو ما يحرمه من الحقوق المرتبطة بعلاقة العمل التقليدية، مثل التأمين الاجتماعي والتأمين الصحي.

لذلك، ومع انتشار أنماط العمل المرنة، والمنصات الرقمية، تزداد الحاجة إلى تعريف قانوني دقيق يحدد متى تُعتبر العلاقة بين العامل والمنصة الرقمية علاقة عمل تستوجب الحماية القانونية، وبالأخص في الحالات التي يغيب فيها صاحب العمل التقليدي بالمعنى المألوف. وغياب هذا التعريف الشامل يخلق ثغرات قد تسمح للشركات بتصنيف العاملين – مثل سائقي تطبيقات التوصيل أو العاملين على المنصات الحرة – كمتعاقدين مستقلين، رغم خضوعهم فعليًا لسلطة تنظيمية أو رقابية غير مباشرة توفر عناصر التبعية بطرق غير تقليدية.

وقد حددت المادة (96) من القانون مفهوم «أنماط العمل الجديدة»، معتبرة أنه يشمل كل عمل يؤديه العامل بطريقة غير تقليدية، أيًا كان شكل الأداء أو طريقة التنفيذ، متى كان لصالح صاحب عمل وتحت إدارته أو إشرافه، مقابل أجر. وأوردت المادة أمثلة لهذه الأنماط، وهي:

  • العمل عن بُعد: أداء العمل خارج المقر التقليدي للمنشأة باستخدام الوسائل التكنولوجية.
  • العمل بعض الوقت: أداء العمل بعدد ساعات أقل من الساعات الكاملة للعمل المماثل.
  • العمل المرن: تنفيذ العمل بنفس عدد ساعات العمل المعتادة ولكن في أوقات غير متصلة أو بمكان متغير وفقًا للاتفاق بين العامل وصاحب العمل.
  • تقاسم العمل: توزيع مهام عمل واحدة بين أكثر من عامل يتقاسمون الأدوار أو الأوقات والأجر.
  • صور أخرى: تُحدد لاحقًا بقرارات من الوزير المختص.

ورغم أن هذا التعريف يُعد خطوة أولى نحو الاعتراف القانوني بالتحولات التي يشهدها سوق العمل، فإنه لا يرقى إلى معالجة التعقيدات المرتبطة بالعمل على المنصات، ولا سيما تلك الخاضعة لإدارة ورقابة خوارزمية. فغياب تعريف جامع للعامل في القانون، مقترنًا بقصور المادة (96) عن استيعاب طبيعة الرقابة الرقمية وأشكال التبعية غير التقليدية، يفتح الباب أمام ثغرات قانونية تضع العاملين في الاقتصاد الرقمي – خصوصًا الفئات الأكثر هشاشة – خارج نطاق الحماية الفعلية. لذلك، تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة هذه المادة بما يعكس واقع العمل عبر المنصات الرقمية، ويضع معايير واضحة لاعتبار العلاقة بين العامل والمنصة علاقة عمل تترتّب عليها حقوق والتزامات متكاملة.

وبالإضافة إلى إدراج أنماط العمل الحديثة كفئة خاصة، أبقى القانون على التصنيفات التقليدية مثل: العمل المؤقت، والعمل العرضي، والعمالة غير المنتظمة ضمن مادة التعريفات، وعرّفها كالتالي:

  • العمل المؤقت: العمل ذو الطبيعة المؤقتة المحددة المدة أو المرتبط بإنجاز عمل معين ينتهي بانتهائه.
  • العمل العرضي: العمل الذي لا يدخل بطبيعته في نشاط صاحب العمل ولا يستغرق أكثر من ستة أشهر.
  • العامل غير المنتظم: من يقوم بعمل غير دائم بطبيعته أو يعمل في مهنة أو حرفة غير مُنظمة بقانون خاص، مثل الباعة الجائلين وموزعي الصحف وغيرهم.
  • العامل في القطاع غير الرسمي: من يؤدي عملًا داخل منشأة أو خارجها بشكل غير رسمي أو مستتر.

تتداخل هذه التعريفات التقليدية مع مفاهيم أنماط العمل الجديدة، مما قد يؤدي إلى إرباك في التكييف القانوني. فعلى سبيل المثال، قد يكون “العمل لبعض الوقت” – وهو أحد أنماط العمل الحديثة – عملًا دائمًا من حيث الاستمرارية الزمنية، لكنه أقل ساعات من العمل الكامل، وهو ما يجعله عرضة للتصنيف كعمل غير منتظم في ظل غياب معايير فاصلة.

وبالمثل، فإن العمل عبر المنصات الرقمية، الذي لا يتقيّد بمكان العمل التقليدي، قد يُدرج في بعض الحالات ضمن العمالة غير المنتظمة إذا كانت طبيعة أدائه حرة وغير مرتبطة بجدول زمني ثابت. ورغم أن القانون نصّ في الفصل الخاص بالأنماط الجديدة على انطباق القواعد العامة عليها، فإنه لم يضع بدقة الحدود الفاصلة بين هذه الفئات.

وفي السياق نفسه، احتفظ القانون الجديد باستثناء بعض الفئات من الخضوع لأحكامه، حيث نصت المادة الأولى (الفقرة الثالثة) على عدم سريان القانون على عمال الخدمة المنزلية ومن في حكمهم. ويعني ذلك أن شريحة العاملات والعاملين بالمنازل، بما في ذلك من يقدّمون خدماتهم عبر المنصات الرقمية، تظل خارج مظلة الحماية التي يوفرها قانون العمل، وهو ما يمثل فجوة كبيرة في الشمول التشريعي.

وقد واجه هذا الاستثناء انتقادات حقوقية لكونه تمييزًا ضد فئة هشة من العمالة التي تحتاج إلى حماية خاصة. فحرمان هؤلاء من الحقوق والضمانات المقرّرة لبقية العمال يكشف عن تناقض واضح بين توسيع مفهوم العامل من جهة، واستثناء بعض الفئات الضعيفة من جهة أخرى.

وإذا كان المشرّع في الماضي يبرّر هذا الاستثناء بعدم وجود علاقة عمل مباشرة بين عاملات المنازل وأصحاب المنازل، فإن الاعتراف القانوني الراهن بأنماط العمل الجديدة لم يعد يترك مبررًا لاستمرار هذا الحرمان. ففي حالة العمالة المنزلية عبر المنصات، يطلب صاحب المنزل الخدمة من المنصة، التي تقوم بدورها بإرسال العامل/العاملة، ليعمل تحت إشرافها وإدارتها ورقابتها الفعلية. وعليه، كان من الأجدر بالمشرّع أن يمدّ مظلّة الحماية القانونية لتشمل هذه الفئة، بما يضمن حقوق العمالة المنزلية في مواجهة أصحاب المنصات.

ثانيا: إشكالية إثبات علاقات العمل في الأنماط الجديدة وتعدد طرق الإثبات

تُعد مسألة إثبات علاقة العمل ووضوحها من أبرز التحديات التي يثيرها تنظيم أنماط العمل الحديثة. فالقانون لا يشترط عمومًا وجود عقد عمل مكتوب يحدد حقوق والتزامات الطرفين، إلا أنه في أنماط العمل الجديدة نص في المادة (99) على وجوب أن تكون علاقة العمل واضحة ومحددة في عقد عمل مكتوب ورقيًا أو إلكترونيًا، وهو ما قد يصعب تطبيقه أو لا يتحقق فعليًا في بعض أشكال العمل الحديثة، مثل العمل عبر تطبيقات الهاتف أو العمل الحر الجزئي.

وقد أدرك المشرّع هذه الإشكالية، فسعى إلى معالجتها عندما نص في ذات المادة (99)

“ويجوز للعامل إثبات علاقة العمل بكافة طرق الإثبات”.

ويؤكد هذا النص على ضرورة السعي إلى توثيق العلاقة سواء كانت بعقد مكتوب ورقيًا أوإلكترونيًا أو غير مكتوب.

كما أن المادة (99) لم تحِل إلى اللائحة التنفيذية تحديد الحد الأدنى من البيانات التي يجب أن يتضمنها عقد العمل في أنماط العمل الجديدة. هذا الفراغ التشريعي يفتح الباب أمام استخدام أصحاب العمل عقود مبتسرة أو صورية تفتقر إلى ضمانات الحماية الأساسية للعامل، مما يضعف من مركزه القانوني ويزيد من هشاشته أمام النزاعات.

بالإضافة إلى ذلك، فإن شرط وجود علاقة تبعية واضحة لصاحب العمل من خلال الإدارة أو الإشراف المباشر يُعد معيارًا تقليديًا بات غير كافٍ في ظل الواقع العملي الحالي، وبالأخص بالنسبة للعاملين عبر منصات رقمية، مثل أوبر وكريم وطلبات. فلا يخضع النشاط الفعلي لهؤلاء العاملين لإدارة مباشرة بالمعنى التقليدي، وإنما لسلطة خوارزمية وتقييمات العملاء التي تتحكم في توزيع المهام وتحديد الأداء واستمرار علاقة العمل من عدمها. وتزداد هذه الإشكالية تعقيدًا مع انتشار نماذج التعاقد غير المباشر، حيث تتدخل جهات وسيطة، بينما تبقى السيطرة الفعلية بيد المنصة دون تحمّل مسؤوليات قانونية مباشرة، الأمر الذي يجعل مساءلة الأطراف عن الانتهاكات مسألة شائكة.

وتضاعف أنماط الإدارة الخوارزمية من هذا التعقيد؛ إذ لم تعد الرقابة والإشراف تتجسد في حضور مدير مباشر، بل من خلال أنظمة تشغيل تعتمد على الذكاء الاصطناعي، تتحكم في قبول الطلبات أو رفضها أو إيقاف الحسابات، وفق معايير غير شفافة قد تنطوي على تحيزات أو أخطاء تصميم.

هذه الطبيعة المعقدة لأنماط العمل الجديدة تجعل تتبع وقائع العمل أكثر صعوبة مقارنة بالوضع التقليدي. ففي حالة العمل عن بُعد، قد ينكر صاحب العمل وجود علاقة عمل، مما يفرض على العامل عبء تجميع الأدلة (مثل المراسلات، سجلات المهام، التحويلات المالية) لإثبات التبعية وأداء العمل تحت إشرافه. وبالمثل، في العمل المرن أو تقاسم العمل، قد يثور خلاف حول عدد ساعات العمل المؤداة أو توزيعها، مما يعقّد إثبات الأجر المستحق.

كما أنه غالبًا ما لا تُبرم عقود عمل بالمعنى التقليدي في بيئات العمل عبر المنصات الرقمية، والتي تعتمد بدلًا من ذلك على اتفاقيات استخدام إلكترونية تصف العامل بأنه “مستخدم مستقل” وليس موظفًا. هذه الصيغة الشكلية تخفي في كثير من الأحيان تبعية اقتصادية وإدارية حقيقية، إذ تتحكم المنصة في توزيع المهام، وتحديد الأجور، وإدارة الأداء، ووقف التعامل من جانب واحد. وفي ظل هذا الواقع، يصبح العامل في موقع قانوني ضعيف تُستخدم فيه هذه الاتفاقيات كأداة لنفي علاقة العمل وحجب الحقوق المرتبطة بها.

علاوة على ذلك، لا يعني تعدد طرق إثبات علاقة العمل المتاحة نظريًا سهولة الإثبات عمليًا. قد يتطلب الإثبات خبرة تقنية لاستخراج سجلات إلكترونية أو الاستعانة بشهادات، وهو ما قد لا يتوفر للعامل المنعزل الذي يعمل بمفرده أو من المنزل.

على جانب آخر، نصت المادة (100) على أن تُحدد اللائحة التنفيذية أو القرارات الوزارية نماذج استرشادية لعقود ولوائح العمل وطرق الإثبات في الأنماط الجديدة. قد يوفر ذلك حلولًا عملية مثل إلزام المنصات بحفظ بيانات التعاقد وسجلات الأداء، أو اشتراط احتفاظ صاحب العمل بسجلات إلكترونية يوقّع عليها العامل دوريًا. إلا أن هذه التدابير ما زالت في إطار التوجهات الارشادية غير الملزمة أو غير المضمونة التطبيق.

كما أن النص لم يتناول الإشكالية الخاصة بالمنصات الرقمية الأجنبية التي تمارس نشاطًا فعليًا داخل مصر دون أن يكون لها كيان قانوني محلي، مما يصعّب من تطبيق مقتضيات القانون وإلزام هذه المنصات بحقوق العمال. تمكنت بعض الدول من معالجة هذه الفجوة بشكل صريح، إذ ألزم “قانون رايدرز” الإسباني (2021) المنصات بإنشاء كيانات قانونية محلية لضمان حقوق السائقين. وأكدت كذلك أحكام قضائية في المملكة المتحدة أن توصيف العلاقة في اتفاقيات الاستخدام لا يحجب التبعية الاقتصادية والتنظيمية الفعلية للعامل، وأن الواقع العملي لظروف العمل هو المعيار الحاسم في تحديد طبيعة العلاقة القانونية. كان من الممكن للمشرع المصري الاستفادة من هذه النماذج لإقرار التزامات مماثلة تحمي العمال الرقميين من الإفلات التشريعي.

ثالثًا. غياب التمييز بين أنماط العمل المختلفة

لا يميز تعريف قانون العمل الجديد بشكل واضح بين “العامل المستقل” (Freelancer) و”العامل عبر المنصة الرقمية” (Platform Worker)، رغم أن الفارق بينهما جوهري في الممارسة العملية.

العامل الحر المستقل، مثل مصمم الجرافيك أو كاتب المحتوى، قد يحصل على عملائه من خلال معارفه الشخصية، أو عبر إعلانات تنشرها الشركات، أو باستخدام منصات رقمية كوسيط. يتمتع هذا العامل بحرية نظرية في التفاوض على الأجر، وقبول أو رفض العمل، واختيار العملاء، وإن كانت هذه الحرية كثيرًا ما تتقيد عمليًا بضعف الطلب أو ضغط الظروف الاقتصادية، ما يدفع كثيرين إلى قبول شروط مجحفة لضمان مصدر دخل.

في المقابل، يخضع العامل عبر المنصة الرقمية، مثل سائقي أوبر أو عمال التوصيل، لرقابة دائمة عبر تقييمات العملاء وخوارزميات توزيع المهام التي تحدد أيضًا مستويات الأجور. المنصة تدير العمل بشكل مباشر وغير مرئي في الوقت نفسه، وتحتفظ بسلطة وقف الحسابات دون إنذار، وهو ما يجعل وضع هذا العامل أقرب إلى علاقة العمل التقليدية، ولكن دون أن يحظى بالحماية القانونية المقررة لتلك العلاقة.

كما يتغاضى القانون عن معالجة ما يمكن تسميته بـ”العلاقة الاقتصادية الهجينة”، وهي وضعية لا يكون فيها العامل موظفًا رسميًا خاضعًا لإشراف مباشر، ولا مستقلاً يتمتع باستقلال كامل. ففي هذا النموذج، يعتمد العامل على منصة رقمية واحدة كمصدر شبه حصري للدخل، دون تمتع بحرية تفاوض حقيقية أو قدرة فعلية على رفض المهام أو تغيير الوسيط.

في مثل هذه الحالات، تُدار أنشطة العمل عبر أنظمة خوارزمية تُوزع المهام وتقيّم الأداء، وقد تنهي العلاقة من طرف واحد دون تدخل بشري أو ضمانات قانونية. وبهذا يتحمل العامل أعباء العمل الحر من حيث التكاليف والمخاطر، دون أن يتمتع بميزاته كالتعددية في فرص الدخل أو المرونة الحقيقية.

وغالبًا ما تكون العقود في هذه السياقات — إن وُجدت — أحادية الجانب، تُفرض من قبل المنصة دون أي تفاوض مسبق، مما يخل بتوازن القوة التعاقدية. وفي حالات أخرى، قد لا يوجد عقد مكتوب على الإطلاق، ويكون التعامل قائمًا فقط على اتفاقيات الاستخدام العامة التي تُقرها المنصة.

رابعًا: الحقوق المقررة للعاملين في أنماط العمل الجديدة

حددت المادة (97) من قانون العمل المصري الجديد أن علاقات العمل في أنماط العمل الجديدة تسري عليها نفس الأحكام التي تسري على علاقات العمل التقليدية، مع مراعاة طبيعة كل عمل وطريقة أدائه. كما أكدت المادة على أن العاملين في هذه الأنماط يتمتعون بكافة الحقوق والواجبات المنصوص عليها في القانون، مثل الحماية الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، والحد الأدنى للأجر، وضمان الحصول عليه، بالإضافة إلى حقوق التدريب المهني، وتنمية المهارات، والمواطنة الجماعية، والعدالة الاجتماعية، وفقًا لقانون المنظمات النقابية العمالية.

ورغم أن هذه المادة تمثل من حيث المبدأ خطوة إيجابية نحو الاعتراف القانوني بحقوق العاملين في الاقتصاد الرقمي، وتؤكد مبدأ المساواة بينهم وبين العمال في القطاعات التقليدية، إلا أن القراءة التحليلية للنص تكشف عن عدد من الثغرات المفاهيمية والتطبيقية التي تضعف أثرها العملي وتقلل من فاعلية الحماية التي يُفترض أن توفرها.

1. هشاشة الإطار القانوني لحماية الحقوق في بيئات العمل الرقمية

إن عبارة “مع مراعاة طبيعة كل عمل وطريقة أدائه” تفتقر إلى التحديد القانوني الدقيق، وتفتح الباب أمام تفسيرات مرنة قد تُستخدم للانتقاص من الحقوق الأساسية للعاملين في أنماط العمل الجديدة. إذ يمكن للمنصات أن تتحجج بخصوصية العمل الرقمي لتقليص الالتزامات المتعلقة بالإجازات أو ساعات العمل أو الضمان الاجتماعي. وقد يؤدي هذا الأمر إلى تفاوت في التطبيق وتمييز بين عمال يؤدون نفس المهام.

كما أن غياب الإرشادات والمعايير القانونية التي تحدد الحدود الدنيا لحقوق العمل، بصرف النظر عن طبيعة الأداء، يسهل على المنصات الالتفاف على الالتزامات القانونية. ويزداد الأمر تعقيدًا مع طبيعة العمل عبر المنصات الذي لا يقوم غالبًا على علاقة مباشرة ومستقرة بين العامل وصاحب عمل محدد، بل على أنماط تعاقدية مرنة ومؤقتة وغير مباشرة، غالبًا ما تتوسط فيها شركات أو كيانات تعهيد. هذا النموذج يطرح صعوبات عملية في تحديد الطرف المسؤول عن الالتزامات العمالية.

بالإضافة إلى ذلك، فأن التصنيف الشائع للعاملين كـ “مستقلين”، رغم خضوعهم الفعلي لسياسات رقابية، يُتيح للمنصات التهرب من الواجبات المتعلقة بالتأمينات والحد الأدنى للأجر والإجازات المدفوعة، ويُعمق من ظاهرة “الاستقلال الزائف”. فضلًا عن ذلك، يتجاهل القانون التعدد الكبير في أنماط العلاقات القانونية التي تنشأ في بيئات العمل الرقمي، بين عمال مستقلين، ومقاولين، وعمال منصات، مما يؤدي إلى تفاوت كبير في الحقوق الممنوحة لكل فئة بحسب تفسير المنصة أو الجهة الوسيطة.

ورغم الإقرار النظري بحقوق العمل، لا تنص المادة على آليات رقابية وإدارية تضمن تنفيذ تلك الحقوق، مثل إلزام المنصات بتقديم تقارير دورية أو الخضوع لتفتيش رقمي. كما أن الطبيعة الرمادية للعمل الرقمي تجعل من الصعب التحقق من الامتثال للضمانات العمالية دون أدوات تنظيمية جديدة تتناسب مع العمل عن بُعد والتوزيع الجغرافي الواسع للعمال.

2. ضعف الإطار القانوني للتنظيم النقابي والإضراب

تُعد الشروط الواردة في قوانين التنظيم النقابي غير قابلة للتطبيق عمليًا في سياق العمل الرقمي، نظرًا لانعدام أماكن العمل المادية المشتركة وافتقار العمال إلى بيئة تجمعهم مهنيًا أو جغرافيًا. ويُضاف إلى ذلك التحديات العامة التي يواجهها الحق في التنظيم النقابي في مصر، بما في ذلك القيود القانونية والإجرائية على تأسيس النقابات والانضمام إليها، ما يضاعف من عزلة العمال عبر المنصات ويحد من قدرتهم على بناء شبكات تضامن مستدامة.

كما أن العديد من المنصات الرقمية تتبنى سياسات تحد من العمل النقابي، مثل حجب بيانات التواصل بين العاملين أو حصر التفاعل في قنوات خاضعة لرقابة المنصة. يحد ذلك من قدرة العمال على التواصل بحرية أو تنظيم أنفسهم خارج إطار سيطرة المنصة.

ورغم أن قانون العمل الجديد يشير إلى الحق في الإضراب، إلا أن النص يفتقر إلى إطار تنظيمي عملي يُمكّن العمال الرقميين من ممارسة هذا الحق بشكل فعال. فالمفهوم التقليدي للإضراب يقوم على تجمع مادي في مكان العمل وتعليق جماعي للعمل يمكن رصده، وهو ما لا ينطبق على بيئة العمل الرقمية.

لذلك، فإن تفعيل هذا الحق في السياق الرقمي يستلزم الاعتراف بأشكال جديدة من التنظيم، بما في ذلك أشكال مبتكرة للتنظيم النقابي وطرق التضامن الرقمي والتحركات الجماعية عبر الإنترنت، مع توفير إطار قانوني يعترف بشرعيتها ويحميها.

3. إشكالية تطبيق آليات تسوية فعّالة للنزاعات

على الرغم من النص الصريح على مساواة حقوق العاملين في أنماط العمل الجديدة مع نظرائهم في العمل التقليدي، إلا أن تسوية النزاعات في بيئات العمل الرقمي تمثل تحديًا كبيرًا. فالمنظومة التقليدية لتسوية النزاعات، المعتمدة على مكاتب العمل والمحاكم العمالية والنقابات، لم تُصمم للتعامل مع الطبيعة اللامركزية وغير المادية للاقتصاد الرقمي.

في العديد من الحالات، لا تمتلك المنصات الرقمية كيانًا قانونيًا مسجلًا داخل الدولة، مما يعقد إجراءات التقاضي ويجعل من الصعب على العامل الوصول إلى جهة واضحة للمساءلة. كما أن نماذج التعاقد غير المباشر – مثل التوظيف عبر وسطاء أو شركات تعهيد – تزيد من تفتيت العلاقة القانونية وتضعف إمكانية تحميل المسؤولية لأي طرف بعينه.

بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب مكان عمل فعلي وهيكل تنظيمي تقليدي يجعل الوسائل المعتادة لرصد الانتهاكات أو تقديم الشكاوى أو تنفيذ الأحكام غير فعالة. فالآليات مثل لجان فض المنازعات أو الزيارات التفتيشية أو جلسات الاستماع الجماعية تصبح بلا جدوى في بيئة رقمية تدار عبر واجهات إلكترونية وتقييمات خوارزمية.

وعليه، فإن ضمان المساواة الحقيقية بين أنماط العمل يتطلب تطوير بنية تشريعية جديدة تراعي خصوصية الاقتصاد الرقمي. يشمل ذلك وضع آليات متخصصة لتسوية النزاعات الرقمية، مثل إنشاء نظام وطني موحد لتلقي شكاوى العمال الرقميين، وإلزام المنصات بالاحتفاظ بسجلات عمل إلكترونية وإتاحتها عند الحاجة.

خامسًا: الحاجة إلى تعديل القوانين ذات الصلة

يكشف إدخال أنماط العمل الجديدة والتعديلات التي تضمنها قانون العمل المصري عن وجود تعارضات محتملة مع القوانين الأخرى المنظمة لسوق العمل، وعلى رأسها قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات رقم 148 لسنة 2019. فالعلاقة بين القانونين وثيقة ومتكاملة، إذ يحدد قانون العمل الحقوق والواجبات بما في ذلك الأجر وساعات العمل وأنواع العقود، بينما ينظم قانون التأمينات الحماية الاجتماعية والمعاشية للعامل وفق وضعه الوظيفي. ومن ثم، فإن التطبيق الفعّال لأحكام قانون العمل الجديد يتطلب اتساقًا تشريعيًا أو تعديلات على القوانين ذات الصلة لضمان الاتساق وحماية الحقوق.

ينص قانون العمل الجديد على أن العمال في أنماط العمل الجديدة يتمتعون بذات الحقوق التي يحصل عليها العاملون في الأنماط التقليدية، بما فيها الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي، وهو ما يستلزم شمولهم في منظومة التأمين الاجتماعي. غير أن التطبيق الفعلي لهذا المبدأ قد يواجه تحديات، خاصة بالنسبة لفئات مثل العاملين لبعض الوقت، الذين قد يتقاضون أجورًا تقل عن الحد الأدنى للأجر التأميني الشهري المنصوص عليه في قانون التأمينات.

وفي حال إلزام صاحب العمل والعامل باستيفاء الحد الأدنى للأجر التأميني دون مراعاة لطبيعة أنماط العمل الجديد، فقد يؤدي ذلك إلى أعباء مالية إضافية على العامل أو إلى تهرب أصحاب الأعمال من تسجيل هذه الفئة في التأمينات. لذلك من الضروري إدخال تعديلات على اللائحة التنفيذية لقانون التأمينات بما يسمح باحتساب الاشتراكات على أساس نسبي يتناسب مع ساعات العمل أو طبيعة الدوام.

كما أن إجازة قانون العمل الجديد للعامل بالعمل لدى أكثر من صاحب عمل في الوقت نفسه تثير إشكاليات أخرى، أهمها كيفية تحصيل وسداد اشتراكات التأمين الاجتماعي وتوزيع المسؤوليات بين جهات العمل المختلفة. فبينما يسمح قانون التأمينات الحالي بالجمع بين أكثر من وظيفة وسداد الاشتراك عنها جميعًا ضمن حدود معينة، فإن التطبيق العملي في حالة أنماط العمل الجديدة قد يظل معقدًا، خاصة إذا تعرض العامل لإصابة عمل أثناء أداء مهامه لدى إحدى المنشآت وهو مسجل أيضًا لدى أخرى. وفي غياب تنظيم واضح لهذه الحالات، قد تنشأ نزاعات بين صناديق التأمين أو أصحاب العمل حول الطرف المسؤول عن تغطية العامل، وهو ما يستلزم إدخال نصوص أو ضوابط تنظم هذه المسائل بشكل صريح.

إلى جانب ذلك، استحدث قانون العمل الجديد منحة نهاية خدمة للعاملين بعقود محددة المدة تُصرف إذا بلغت مدة العقد أو التجديد خمس سنوات فأكثر، وأقر أحقية العامل في المعاش عند بلوغ سن الستين متى استوفى اشتراكات التأمين المطلوبة. وتصبح هذه الشروط غير مناسبة لأنماط العمل الجديدة، إذ قد تتسم العقود بالمرونة أو التقطّع الزمني، ما يجعل استيفاء شروط التأمينات الاجتماعية، مثل مدة الاشتراك البالغة 180 شهرًا لاستحقاق المعاش عند بلوغ سن الشيخوخة، أمرًا أكثر تعقيدًا.

سادسًا: تضارب النصوص المتعلقة بإنهاء علاقة العمل وإنهاء الخدمة

فيما يخص إنهاء العقد محدد المدة، نص القانون على انتهائه تلقائيًا بانقضاء مدته، مع إتاحة حق للعامل – إذا امتد أو جُدِّد العقد لأكثر من خمس سنوات – في إنهائه دون تعويض بعد انقضاء هذه المدة، بشرط إخطار صاحب العمل قبلها بثلاثة أشهر. وبالمقابل، إذا بادر صاحب العمل بإنهاء العقد بعد أكثر من خمس سنوات خدمة، وجب عليه دفع مكافأة تعادل أجر شهر عن كل سنة خدمة.

ورغم أن هذا يوفر حماية مقبولة في بيئات العمل التقليدية، فإنه يفقد فعاليته في سياق أنماط العمل الجديدة والعمل عبر المنصات. فتتسم العقود في هذه الأنماط بالقِصر وكثرة التجديدات المتقطعة، مما يمنح المنصات أو أصحاب العمل فرصة للتحايل عبر إبقاء مدة التعاقد أقل من خمس سنوات متصلة لتفادي الالتزامات المالية. ويُعد العقد غير محدد المدة فقط إذا استمر التنفيذ بعد انتهاء مدته دون تجديد مكتوب، أو إذا لم يكن مكتوبًا أساسًا، الأمر الذي يجعل تتابع العقود القصيرة أداة شائعة في بيئات العمل الرقمية لتجنب استحقاقات إنهاء الخدمة.

أما فيما يتعلق بحظر الفصل التعسفي ودور المحكمة، فقد أكد القانون أنه لا يجوز فصل العامل إلا إذا ارتكب خطأ جسيم محدد على سبيل الحصر، مثل الانتحال أو التزوير أو التسبب بضرر جسيم أو إفشاء الأسرار أو المنافسة غير المشروعة أو حالات السكر والاعتداء الجسيم. وجعل توقيع جزاء الفصل من اختصاص المحكمة العمالية المختصة حصريًا، بما يعني من الناحية النظرية إلزام صاحب العمل باللجوء إلى المحكمة قبل الفصل.

إلا أن التطبيق العملي، خاصة في بيئات أنماط العمل الجديدة ، يُظهر أن أصحاب العمل أو إدارات المنصات الرقمية لن يلتزمون بهذه الآلية، حيث تُنهى الخدمات بشكل مباشر أو من خلال قرارات خوارزمية مؤتمتة تتحكم في استمرار العامل على المنصة أو إقصائه دون تدخل بشري. يقوض ذلك فعالية الحماية المفترضة في النصوص ويكشف عن فجوة واضحة بين الضمانات القانونية والممارسات الفعلية في بيئات العمل الرقمية.

الجديد في القانون يتمثل في المادة (150)، التي تنص على آلية مستعجلة للفصل في نزاعات الفصل خلال ثلاثة أشهر، مع إمكانية الحكم للعامل بأجر عن فترة ما بعد الفصل بحد أقصى ستة أشهر إذا بدا ظاهر الأوراق في صالحه. إضافة إلى إلزام المحكمة بإعادة العامل المفصول لأسباب نقابية إذا طلب ذلك. ورغم أهمية هذه الضمانات، فإن استمرار السماح بإنهاء العقود بالإنذار حتى بدون خطأ من جانب العامل، مقابل دفع تعويض عن الفصل غير المشروع، يخلق تناقضًا مع مبدأ حظر الفصل التعسفي.

وتتضاعف خطورة هذا التناقض في بيئات أنماط العمل الجديدة، حيث يمكن لأصحاب العمل أو إدارات المنصات استخدام هذا النص للتحايل عبر إنهاء التعاقد فجأة أو بخطاب إنذار شكلي، أو عبر قرارات خوارزمية مؤتمتة تتذرع بأسباب عامة دون رقابة حقيقية على مشروعيتها.

ومن زاوية مقابلة، قد يُفهم من نص المادة (157) أن العامل مُقيد بعدم إنهاء العقد غير محدد المدة إلا لسبب مشروع، وإلا أصبح معرضًا لمطالبة صاحب العمل بالتعويض. تُمثل هذه المادة قيدًا غير متناسب، خاصة في بيئات أنماط العمل الجديدة، حيث تتسم العلاقات التعاقدية بعدم الاستقرار ويُفترض أن تكون للعامل حرية أكبر في إنهاء التعاقد تجنبًا للاستغلال أو تدهور الظروف. غير أن النص يعامل هذه الأعمال بنفس القيود المفروضة على العلاقات التقليدية، متجاهلًا خصوصية المخاطر والهشاشة التي يواجهها العمال الرقميون.

سابعًا: الالتزامات القانونية المؤجلة للقرارات التنفيذية وتأثيرها على تطبيق القانون

ترك قانون العمل الجديد العديد من التفصيلات الجوهرية للتنظيم عبر قرارات وزارية لاحقة، وهو نهج تشريعي شائع في السياق المصري، لكنه يضع عبئًا إضافيًا على السلطة التنفيذية لاستكمال البناء القانوني، ويجعل بعض الأحكام معطلة إلى حين صدور تلك القرارات. يخلق هذا الأمر حالة من عدم اليقين، خاصة في المجالات التي نص القانون على تنظيمها لاحقًا.

فعلى مستوى التطبيق العام، ألزمت المادة (11) من مواد الإصدار وزير العمل بإصدار القرارات اللازمة لتنفيذ أحكام القانون خلال 90 يومًا من تاريخ سريانه. كما ألزمت وزير العدل بإصدار القرارات المتعلقة بالمحاكم العمالية المتخصصة. ومع أن هذه المدة قصيرة نسبيًا، فإن أي تأخير في إصدار القرارات أو صدورها بصيغة غير واضحة قد يربك التنفيذ العملي، خصوصًا وأن العديد من النصوص جاءت عامة وتحتاج لتفصيل.

وفيما يخص أنماط العمل الجديدة، نصت المادة (100) على أن الوزير المختص، بعد التشاور مع منظمات العمال وأصحاب الأعمال، يُصدر خلال ستة أشهر من صدور القانون القرارات المنظمة لهذه الأنماط. يشمل ذلك تحديد صورها، ونماذج عقودها ولوائحها، وطرق إثبات علاقة العمل، وآليات ضمان الحقوق.

تُمثل هذه القرارات حجر الأساس لتفعيل الفصل الخاص بأنماط العمل الجديدة، إذ ستحدد مثلًا ما إذا كان سيتم إضافة صور أخرى للعمل، كالعمل الحر عبر التطبيقات، وكيفية صياغة عقود العمل عن بُعد أو المرن بما يتلاءم مع طبيعتهما، وآليات حفظ السجلات الإلكترونية وإثبات أداء المهام. ومن دون هذه القرارات، تظل النصوص الحالية غير كافية لحسم الإشكاليات العملية أو سد الثغرات في العلاقات التعاقدية المستحدثة.

كما أحال القانون في المادة (75) إلى قرار وزاري لتحديد القواعد المنظمة لعمل العمالة غير المنتظمة والعاملين بالقطاع غير الرسمي، وطرق حصولهم على حقوقهم بما يتناسب مع طبيعة عملهم المتقطع أو الموسمي. هذه الفئة تضم شريحة واسعة من العاملين، بينهم من يقدمون خدماتهم عبر المنصات الرقمية بشكل غير مستمر، ما يجعل صدور هذا القرار أمرًا حاسمًا لضمان استفادتهم من الحماية القانونية.

توجد كذلك العديد من القرارات الأخرى التي تركها القانون لجهات تنفيذية، مثل تشكيل المجلس القومي للأجور، وتحديد المهن التي تتطلب ترخيصًا أو قياس مهارة، وحصر الأعمال الخطرة المحظورة على الأطفال، وتنظيم تراخيص العمل للأجانب، ووضع قواعد عمل شركات إلحاق العمالة، وإدارة صناديق إعانات الطوارئ وخدمات العمالة غير المنتظمة.

في جميع هذه الحالات، يظل التطبيق الفعلي للقانون رهينًا بسرعة ووضوح القرارات التنفيذية. فأي تأخير، خاصة في القرارات المرتبطة بأنماط العمل الجديدة، قد يدفع الشركات أو المنصات إلى الامتناع عن تبني هذه الأنماط أو إلى تشغيلها في فراغ تنظيمي، بما يعرض حقوق العمال للخطر.

ثامنًا: تعددية العمل وحماية أسرار العمل

حددت المادة (98) من قانون العمل المصري الجديد أنه

“يجوز باتفاق الطرفين في أنماط العمل الجديدة أن يقوم العامل بالعمل لدى أكثر من صاحب عمل مع التزام العامل بعدم إفشاء أسرار العمل، أو أن يعمل لحساب نفسه إلى جانب عمله لدى الغير.”

ويبدو النص للوهلة الأولى كأنه يمنح العامل حرية اقتصادية أوسع، من خلال السماح له بالعمل لدى أكثر من جهة أو لحسابه الخاص، وهو ما يتناسب مع الطبيعة المرنة والمتغيرة لأنماط العمل الجديدة. ومع ذلك، يكشف التحليل الدقيق للنص عن عدد من الإشكاليات التي قد تفرغ هذا الحق من مضمونه العملي.

أولًا: يلقي النص عبء الالتزام بعدم إفشاء أسرار العمل على العامل دون أن يضع تعريفًا دقيقًا لهذا المفهوم أو يحدد معاييره وحدوده. هذا الغموض يفتح المجال لتفسيرات موسعة من قبل أصحاب العمل، تسمح بفرض قيود مفرطة على حرية العامل في التنقل أو العمل لحسابه الخاص، تحت ذريعة حماية المصالح التجارية.

ثانيًا: ربط حق العامل في التعددية المهنية بشرط اتفاق الطرفين، دون فرض معايير دنيا لحماية حرية العامل، يفتح المجال أمام ممارسات تعاقدية مجحفة. فقد يُجبر العامل على توقيع بنود تقيد نشاطه المهني خارج نطاق عمله الأصلي، بما في ذلك شروط عدم منافسة قد تمنعه من الاستفادة من فرص عمل أخرى، حتى في غياب تعارض فعلي في المصالح.

ثالثًا: لم تقدم المادة أي معالجة لمسألة التوفيق بين الالتزامات الزمنية والمهنية للعامل تجاه أصحاب العمل المختلفين. هذا الغياب قد يسمح لأصحاب العمل بوضع شروط صارمة تتعلق بالتفرغ، تمنع العامل من ممارسة أي نشاط إضافي، حتى إن لم يؤثر ذلك على عمله الأساسي، مما يُقيد فعليًا حقه في الكسب المشروع.

تتضاعف خطورة هذه الإشكاليات في بيئات العمل الرقمي، إذ يؤدي كثير من العمال الرقميين مهامًا متفرقة لصالح منصات متعددة. ودون حماية قانونية واضحة، قد تستخدم المنصات اتفاقيات عدم الإفشاء كذريعة لمعاقبة العامل أو إنهاء خدماته، حتى في غياب أي ضرر أو خرق فعلي للأسرار التجارية. كما أن غياب تعريف دقيق لمفهوم أسرار العمل في هذا السياق يفتح الباب أمام تقييد حق العامل في العمل المتعدد بذريعة حماية المصالح التجارية، بما يؤدي إلى فرض قيود غير مبررة على حرية العامل في تحسين دخله.

في ظل هذا الوضع، يصبح من الضروري أن يتضمن النص القانوني معايير دقيقة تُعرّف “أسرار العمل” تعريفًا ضيقًا ومحددًا، بحيث لا يُستخدم المفهوم كوسيلة لتقييد حرية العامل. كذلك يجب أن ينص القانون صراحة على حظر فرض قيود غير متناسبة على التعددية الاقتصادية، خاصة في القطاعات التي تُعد طبيعتها التعددية جزءًا من نموذج التشغيل نفسه، كحال العمل عبر المنصات. إن تحقيق التوازن بين حماية مصالح أصحاب العمل، وحقوق العمال في حرية النشاط الاقتصادي، يتطلب تبني إطار قانوني أكثر دقة ومرونة، يستجيب لطبيعة الاقتصاد الرقمي والعمل المرن، دون المساس بالحقوق الأساسية للعاملين.

خاتمة

ما تزال الفجوة القانونية في التعامل مع العمالة المنصاتية واسعة ومتشعبة، وتعكس غياب أطر تنظيمية متكاملة تستجيب للتحولات الجذرية التي يشهدها سوق العمل الرقمي. ويُقصد بهذه الفجوة غياب أو قصور القوانين القائمة في توفير الحماية الاجتماعية والاقتصادية للعاملين عبر المنصات، بما يفتح الباب أمام أشكال متعددة من الاستغلال والتحايل القانوني.

ورغم أن قانون العمل المصري الجديد قد خطا خطوة إيجابية عبر إدراج أنماط العمل الجديدة ومن ضمنها العمل عبر المنصات ضمن نطاقه، إلا أن الاعتراف القانوني المبدئي لم ينعكس بعد على مستوى التطبيق العملي أو في البنية المؤسسية الحاكمة لعلاقات العمل. فالتحديات تكمن في تحويل هذا الاعتراف إلى منظومة حماية فعلية تشمل الحقوق الأساسية مثل الحد الأدنى للأجر، وساعات العمل المنظّمة، والإجازات، وتعويضات نهاية الخدمة، وهو ما لا يزال غائبًا في كثير من الممارسات الواقعية، خاصة في ظل استمرار تصنيف كثير من العمال كمستقلين أو مقدّمي خدمات.

وتُفاقم الشركات الرقمية من هذا الوضع عبر التهرب من المسؤولية القانونية، من خلال استخدام عقود نمطية أو التعاقد غير المباشر عبر وسطاء. يزيد ذلك من تعقيد المساءلة القانونية، كما هو الحال مع بعض المنصات العاملة في السوق المصري التي تُحيل مسؤوليات التوظيف والتأمين لشركات طرف ثالث دون وضوح في المسؤولية.

بالإضافة إلى ذلك، تفتقر غالبية القوانين ذات الصلة بالعمال إلى نصوص تنظم العمالة الرقمية. ورغم وجود محاولات جزئية، مثل قانون النقل التشاركي، فإنها تظل محدودة ولا تغطي النماذج الجديدة للعمل الرقمي، خاصة في مجالات مثل البرمجة، التصميم، أو المحتوى الرقمي. كما تُهمّش هذه الفئة من الحق في التنظيم النقابي والمشاركة في الحوار الاجتماعي. فالنقابات العمالية القائمة لم تطور هياكلها لاستيعابهم، والقانون لا يعترف بهم كطرف في آليات التفاوض الجماعي.

على جانب آخر، تكشف الفجوة القانونية عن بطء الاستجابة التشريعية في مواجهة التسارع الكبير لنمو الاقتصاد الرقمي. فعدد العاملين عبر المنصات يتزايد سنويًا، بينما لا تزال القوانين مستندة إلى تصورات تقليدية لعلاقات العمل في الاقتصاد الصناعي. وعلى الجانب الرقابي، تبقى آليات التفتيش غير فعالة في متابعة بيئات العمل الرقمية، إذ تعتمد على مراقبة أماكن العمل المادية، بينما تفتقر إلى أدوات تقنية تُمكّنها من مراقبة شروط العمل عبر التطبيقات.

لقد أظهر هذا التحليل أن الحق في العمل اللائق – كما تنص عليه المواثيق الدولية – يواجه في ظل الاقتصاد الرقمي تحديات جذرية. فعلى الرغم من أن المنصات الرقمية قدمت نفسها كفرصة للخروج من البطالة، إلا أن واقع العمل كشف عن هشاشة جديدة. إذ يتسم العمل عبر المنصات بمرونة ظاهرية يقابلها غياب الأمان، وبتنظيم خوارزمي يحل محل العلاقة الإنسانية في العمل، وبتحميل العامل معظم كلفة التشغيل والمخاطرة.

يتطلب هذا الوضع تدخلًا تشريعيًا ومؤسسيًا عاجلًا يضمن توازن العلاقة بين المنصة والعامل. وأولى الخطوات هي تحديث القوانين القائمة كي تعترف بالعامل المنصاتي ضمن تعريف العامل في قانون العمل. ولا يكفي إصدار النصوص، بل يجب ضمان إنفاذها عمليًا من خلال آليات رقابية تراعي طبيعة العمل الرقمية.

كما أن اعتماد نماذج عقود موحدة وواضحة، بلغة قانونية عادلة، يمثل خطوة أساسية لتثبيت العلاقة القانونية، ومنع الشركات من التهرب من المسؤولية أو تحميل العامل وحده الكلفة. ومن الضروري أيضًا التفكير في آليات مرنة لدمج هؤلاء العمال في أنظمة التأمين والرعاية الصحية، تُحمّل المنصات جزءًا من المسؤولية.

ولا يمكن لأي إصلاح أن ينجح دون الاعتراف بحق هؤلاء العمال في التنظيم الذاتي والتفاوض الجماعي. فوجود كيانات تمثيلية – سواء نقابات أو تعاونيات – يُعزز قدرتهم على التفاوض وتحقيق تغييرات ملموسة. كذلك يجب إنشاء آليات لحل النزاعات، مثل مكاتب شكاوى أو لجان مستقلة، وفرض حد أدنى من الشفافية على الخوارزميات التي تدير العلاقة بين العامل والمنصة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورًا في رفع وعي العاملين، وتقديم الدعم القانوني، وتنظيم حملات ضغط من أجل تغيير السياسات العامة. كما أن جمع بيانات دقيقة عن عدد العاملين، ودخلهم، وظروفهم، يشكل شرطًا أساسيًا لبلورة سياسات قائمة على الأدلة.