سياسة البيانات المفتوحة في مصر: من الإطار الانتقالي إلى الحوكمة الفعّالة

تتضمن هذه الورقة ثلاثة ملاحق تفصيلية مكمّلة لمتنها، هي: مقترح بالمبادئ الناظمة للهيئة المصرية لحوكمة البيانات، ومعايير البيانات المفتوحة، ومقترح بالجهات الملزَمة بإتاحة بياناتها عبر البوابة الوطنية للبيانات المفتوحة. وإذ لا تسعى الورقة إلى إثقال المتن بالتفاصيل الفنية والإجرائية، فإن إحالة هذه الملاحق تضمن مسارًا مزدوجًا يجمع بين متنٍ يرسّخ المبادئ والاتجاهات العامة، وملاحقَ تمكّن من تحويلها إلى أدوات تنفيذ وإنفاذ عملية.
- مقترح بالمبادئ الناظمة للهيئة المصرية لحوكمة البيانات
- مقترح بالجهات الملزَمة بإتاحة بياناتها عبر البوابة الوطنية للبيانات المفتوحة
- معايير البيانات المفتوحة
أولًا: سياق مختصر
في 3 سبتمبر، أعلن المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي عن دخول سياسة البيانات المفتوحة حيّز التنفيذ باعتبارها إطارًا انتقاليًا يسبق صدور قانون حوكمة البيانات ولائحته التنفيذية. وتمثل هذه السياسة أول وثيقة وطنية شاملة تهدف إلى تنظيم إتاحة البيانات العامة غير الحساسة التي تحتفظ بها الجهات الحكومية.
وضعت الحكومة هذه السياسة في سياق التحولات العالمية المتسارعة نحو اعتماد نماذج الحوكمة القائمة على البيانات، وربطها بأهدافها المعلنة في تعزيز الشفافية والمساءلة وبناء الثقة العامة، ودعم الابتكار، وتحفيز الاقتصاد الرقمي، وتحسين جودة الخدمات الحكومية. كما قدمتها كأداة لتمكين المواطنين والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية من إعادة استخدام البيانات العامة وتوظيفها في تطوير تطبيقات وخدمات جديدة.
من الناحية المؤسسية، أسندت السياسة الإشراف العام إلى المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي، الذي أنشأ لجنة مشتركة لإتاحة البيانات تتولى مراجعة واعتماد المجموعات المقترحة للنشر من قبل الوزارات والهيئات، على أن تنتقل هذه الاختصاصات لاحقًا إلى الهيئة المصرية لحوكمة البيانات فور إنشائها بموجب القانون الجديد.
كما نصت السياسة على تعيين مسؤولين للبيانات المفتوحة داخل كل جهة حكومية، يكونون معنيين بتحديد وتصنيف ونشر مجموعات البيانات وضمان جودتها والتنسيق مع اللجنة الفنية. وألزمت بتطوير بوابة وطنية موحّدة (data.gov.eg) لتكون المنصة المركزية لإتاحة البيانات بصيغ مفتوحة قابلة للقراءة الآلية، ومدعومة ببيانات وصفية ومعايير موحّدة.
ورغم تقديم السياسة في الخطاب الرسمي كجزء من التزامات مصر الدولية وأجندتها الرقمية، فإنها تظل في جوهرها خطوة انتقالية مرتبطة بصدور الإطار التشريعي الكامل، الأمر الذي يثير تساؤلات جوهرية حول فعاليتها العملية في ظل السياق القانوني والتنظيمي القائم.
ثانيًا: المقدمة
تنطلق هذه الورقة من واقع يتمثل في إقرار الحكومة سياسة وطنية للبيانات المفتوحة في ظل غياب إطار تشريعي ينظّم بوضوح حق الحصول على المعلومات ويكفل آليات تنفيذه. فقد أُعلنت السياسة قبل صدور تشريع خاص بتداول المعلومات، ومن دون مشاركة حقيقية من منظمات المجتمع المدني أو النقابات المهنية أو المؤسسات الأكاديمية في صياغتها. وبهذا، تحوّلت فكرة إتاحة البيانات المفتوحة إلى مبادرة إدارية محدودة الصلاحية، لا إلى تجسيد لحق دستوري واجب النفاذ.
وتأتي هذه السياسة أيضًا في إطار منظومة قانونية تُحاصر النشر وإعادة الاستخدام، من خلال تشريعات تتعلق بالأمن القومي، ومكافحة الإرهاب، وتنظيم الصحافة والإعلام، ومكافحة جرائم تقنية المعلومات، إضافة إلى الصلاحيات الواسعة الممنوحة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في احتكار نشر الإحصاءات الرسمية.
في المقابل، تؤكد المادة 68 من دستور 2014 أن المعلومات ملك للشعب، وتُلزم الدولة بالإفصاح عنها وتنظيم تداولها بقانون. غير أن غياب هذا القانون، إلى جانب اتساع نطاق الاستثناءات وغياب الرقابة المستقلة، يترك السياسة الجديدة في موقع هشّ، ويُفرغها من مضمونها كأداة لتحقيق الشفافية والمساءلة.
ثالثًا: إشكاليات البيانات المفتوحة في مصر
يمثل صدور سياسة للبيانات المفتوحة خطوة انتقالية في مسار إدارة البيانات العامة في مصر، غير أن هذه الخطوة لا يمكن قراءتها بمعزل عن الإشكاليات العميقة التي تحيط بها. فبدلًا من أن تؤسس هذه السياسة لحقّ واضح ومكفول في الوصول إلى المعلومات، جاءت محاطة بقيود وشروط تجعل فعاليتها موضع تساؤل.
وتتوزع هذه الإشكاليات على أربعة مستويات متداخلة؛ إجرائية تكشف عن غياب مسار تشاركي حقيقي، وحقوقية ترتبط بنصوص السياسة ذاتها وما تتيحه من ثغرات، وتشريعية تعكس البيئة القانونية الأوسع المقيدة للنشر وإعادة الاستخدام، وبنيوية تكمن في غياب قانون لتداول المعلومات يجعل كل الجهود الإدارية قابلة للتراجع.
1. غياب التشاور المُلزِم
تكشف عملية إعداد سياسة البيانات المفتوحة في مصر عن خلل جوهري يتمثل في غياب أي مسار تشاركي مُعلن أو ملزم. فقد أُقرت السياسة من خلال المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي ووزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، من دون أن تسبقها خطوات منهجية للتشاور العام مع الفاعلين الرئيسيين من منظمات المجتمع المدني، والنقابات المهنية، والجامعات، والأكاديميين، والمجتمعات المحلية، وغرف الصناعات المتخصصة، والصحفيين، وممثلين عن القطاع الخاص.
مثل هذا الغياب يشير إلى أن وثيقة يُفترض أنها تضع قواعد في واحد من أهم مجالات الشفافية والحقوق الأساسية، قد صيغت داخل دوائر بيروقراطية مغلقة، بعيدًا عن الانفتاح الضروري على الأطراف التي ستتأثر مباشرة بنتائجها.
عادةً ما تُبنى سياسات البيانات المفتوحة على آليات تشاركية واضحة تشمل رسم خرائط دقيقة لأصحاب المصلحة، وتنظيم جلسات استماع علنية تُوثَّق محاضرها، وإصدار وثائق رسمية توضّح كيف استجابت الحكومة للملاحظات والتوصيات المقدمة من مختلف الأطراف. تضمن هذه الممارسات أن تكون السياسة انعكاسًا لاحتياجات المجتمع ومصالحه، وغيابها يجعل من السياسة نصًا إداريًا يفتقر إلى الشرعية المجتمعية والقدرة على استقطاب ثقة الجمهور.
ويكشف هذا الخلل أيضًا عن توجه سياسي أوسع يعيد إنتاج نمط صنع القرار المركزي من أعلى إلى أسفل، حيث يتم التعامل مع قضايا ترتبط بحقوق المواطنين الأساسية والدستورية باعتبارها شأنًا إداريًا داخليًا، أكثر منها موضوعًا للنقاش العام. وبذلك تحد هذه الممارسات سلفًا من إمكانية أن تتحول البيانات المفتوحة إلى أداة للمساءلة والمحاسبة والتنمية، وترسم حدودًا ضيقة لاستخدامها، وتمنعها من أداء دورها كوسيلة لتمكين المواطنين ومساءلة الدولة.
يمكن قراءة هذا النمط بوصفه محاولة لإدارة صورة الدولة خارجيًا كمنخرطة في مبادرات الحداثة الرقمية والتزامات الشفافية، دون أن يقابله التزام داخلي فعلي بتوسيع الحقوق أو تعميق الممارسة الديمقراطية. وفي هذا السياق، تُقرأ سياسة البيانات المفتوحة كأداة علاقات عامة تُستخدم لتعزيز الخطاب الرسمي حول الإصلاح الرقمي، بدلًا من أن تكون خطوة حقيقية نحو تكريس حق أصيل في الحصول على المعلومات.
2. الاستثناءات وحدود الشفافية
استبعدت السياسة من النشر كل ما يندرج تحت مظلة الأمن القومي أو الدفاع، بالإضافة إلى البيانات الشخصية المحمية بموجب قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020، والمعلومات التعاقدية أو الخاضعة لاتفاقيات، فضلًا عن البيانات المحمية بأوامر قضائية. ورغم أن بعض هذه المجالات يستند إلى مبررات مشروعة، فإن غياب تعريفات دقيقة أو معايير واضحة يفتح الباب أمام توسيع غير مبرر لنطاق حجب البيانات.
فعلى سبيل المثال، يظل مفهوم “الأمن القومي” فضفاضًا إلى حد يسمح بتصنيف طيف واسع من البيانات الاقتصادية أو الخدمية أو البيئية باعتبارها حساسة، مما يؤدي إلى حجب معلومات ضرورية للرقابة العامة أو للتخطيط التنموي. وبالمثل، لا تُلزم السياسة بنشر العقود/سجلات الشراء الحكومية، ما يترك فراغًا في شفافية التعاقدات.
يتناقض هذا التوجه مع معايير الشفافية الدولية التي تجعل من نشر العقود العمومية، خاصة عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ركيزة أساسية للمساءلة. إن غياب الإفصاح عن تفاصيل التعاقدات يضعف قدرة المجتمع على مراقبة إدارة المال العام، ويجعل من المستحيل تقييم ما إذا كانت هذه التعاقدات تحقق المصلحة العامة.
3. الرقابة والضمانات المؤسسية
من أبرز نقاط الضعف في سياسة البيانات المفتوحة غياب أي آليات مستقلة للرقابة أو أجهزة ضامنة تُلزم الدولة بالشفافية. فقد وُزعت المسؤولية على لجان حكومية مرتبطة بالسلطة التنفيذية، مثل المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي واللجنة المشتركة التابعة له. هذه البنية تجعل عملية الإفصاح خاضعة بالكامل لتقدير الجهة التي تملك البيانات.
كما لم تنص السياسة بوضوح على تفعيل المادة 68 من دستور 2014، التي تكفل للمواطنين حق الحصول على المعلومات وتُلزم الدولة بالإفصاح عنها وتنظيم تداولها بقانون. غياب هذا الربط الدستوري يجعل السياسة في موقع هش، إذ تتحول إلى إجراء إداري قابل للتعديل أو التراجع بدلًا من أن تكون التزامًا راسخًا يستند إلى نص دستوري نافذ.
ويضاعف الأمرَ خطورةً أن السياسة لم تضع آليات تقاضٍ تمكّن الأفراد أو المؤسسات من الطعن في قرارات حجب البيانات، مما يعني أن أي نزاع يظل حبيس الدوائر الإدارية دون وصول إلى قضاء مستقل.
4. الخصوصية وحماية الحقوق الفردية
على الرغم من أن السياسة استثنت البيانات الشخصية من النشر استنادًا إلى قانون حماية البيانات الشخصية، فإنها لم تحدد معايير تقنية دقيقة وملزِمة تضمن حماية الأفراد بشكل فعلي. ورغم الإشارة إلى إمكانية استخدام أدوات مثل الخصوصية التفاضلية أو ما يُعرف بإضافة ضوضاء رقمية، فإن هذه الإشارات جاءت عامة وغير مُلزمة.
والمقصود بالضوضاء الرقمية هو إدخال تغييرات صغيرة وعشوائية على البيانات المنشورة، بحيث تظل الاتجاهات العامة صحيحة لكن من المستحيل تتبّع بيانات شخص بعينه. أما الخصوصية التفاضلية فهي إطار أكثر تطورًا يضيف مثل هذه التغييرات وفق قواعد رياضية دقيقة، ليضمن أن النتائج الكلية للتحليل تبقى مفيدة، وفي الوقت نفسه يستحيل معرفة ما إذا كانت بيانات شخص معين مدرجة في القاعدة أم لا. لكن غياب إلزام حكومي بتطبيق هذه الأدوات يجعل المخاطر قائمة ويترك الباب مفتوحًا لإعادة التعرف على الأفراد أو استنتاج معلومات حساسة عنهم.
ويزداد هذا الخلل عمقًا في ظل عدم تفعيل قانون حماية البيانات الشخصية ذاته حتى الآن، بسبب غياب لائحته التنفيذية التي عطّلت إنشاء الجهة الرقابية المفترض أن تشرف على إنفاذه. هذا الفراغ التشريعي يضاعف المخاطر الناتجة عن غياب أدوات مثل تقنيات الأمن الرقمي وإخفاء الهوية القابلة للتحقق، أو الخصوصية التفاضلية، أو إلزام الجهات الحكومية بإجراء تقييمات أثر على الخصوصية قبل النشر، وهو ما يبقي احتمالات تسرب البيانات أو إساءة استخدامها قائمة.
5. الوصول والرسوم والاستخدام العملي للبيانات
لا تكمن أهمية البيانات المفتوحة في مجرد نشرها، بل في قدرتها على أن تكون قابلة للاستخدام العملي واليومي. غير أن السياسة المصرية تفتقر إلى ضمانات حقيقية في هذا المجال، ما يجعل الإفصاح أقرب إلى إعلان شكلي منه إلى ممارسة فعليّة.
فيما يتعلق بالبيانات الديناميكية، لا تُلزم السياسة الجهات الحكومية بتوفير بيانات في الزمن الحقيقي أو بوضع اتفاقيات مستوى الخدمة (SLAs). وهذه الاتفاقيات هي تعهدات أو عقود تقنية تحدد كل كم من الوقت يجب تحديث البيانات، وما هي درجة الدقة والشفافية المطلوبة، وما الذي يحدث إذا انقطعت الخدمة أو تأخر التحديث.
الاكتفاء في السياسة بعبارة عامة مثل “التوقيت المناسب” يفتح الباب أمام تفاوت كبير بين جهة وأخرى، وقد يؤدي إلى نشر بيانات قديمة أو غير مكتملة، وهو ما يقوض فعاليتها في دعم القرارات العاجلة أو تطوير تطبيقات تعتمد على بيانات حيّة.
كما لم تُحدد السياسة قائمة مُلزِمة لما يُعرف بـ البيانات عالية القيمة (High Value Datasets)، وهي مجموعات البيانات التي يحتاج إليها المجتمع والاقتصاد بشكل مباشر، مثل بيانات النقل العام التي يعتمد عليها المواطنون يوميًا، أو بيانات الطقس والبيئة التي تُفيد المزارعين والصحفيين والباحثين، أو بيانات المالية العامة التي تكشف عن كيفية إنفاق المال العام، بالإضافة إلى الإحصاءات الرسمية التي تُستخدم في التخطيط.
ورغم أن السياسة أشارت إلى هذه المجالات كأولويات عامة، فإن الاكتفاء بذكرها دون إصدار قائمة رسمية مُلزمة مع جداول زمنية واضحة للنشر والتحديث يجعل من الصعب محاسبة الجهات التي تتقاعس عن الإفصاح، ويفرغ السياسة من أدواتها الرقابية.
وفي السياق ذاته، تُشكّل قضية الرسوم عائقًا إضافيًا. إذ لم تعتمد السياسة قاعدة “التكلفة الحدية ≈ صفر” أو تحدد سقفًا واضحًا للتسعير، مما يسمح بفرض رسوم قد تكون عائقًا أمام الباحثين أو الصحفيين أو منظمات المجتمع المدني. بينما تُظهر التجارب الدولية أن فرض رسوم رمزية فقط لتغطية تكاليف النسخ أو التوزيع هو ما يضمن العدالة في الوصول ويحفز الاستخدام المجتمعي الواسع.
6. الملكية الفكرية والاحتكار
تفتح سياسة البيانات المفتوحة الباب أمام توظيف استثناءات الملكية الفكرية بطريقة تقوّض الغاية الأساسية من الإتاحة. فالسياسة تنص على أن بعض البيانات العامة قد تُستثنى من نظام التراخيص المفتوحة بدعوى أنها محمية بحقوق ملكية فكرية تابعة لأطراف ثالثة، حتى في الحالات التي تكون فيها هذه البيانات قد أُنتجت بتمويل عام أو من خلال مؤسسات الدولة. وقد يؤدي هذا التوجه إلى تحويل البيانات والمعرفة الممولة من المال العام إلى مورد محتكر بدلًا من أن تكون متاحة للجميع.
كما تفتقر السياسة إلى نص صريح يحظر الاتفاقات الحصرية التي قد تُبرمها جهات حكومية مع شركات أو أطراف خاصة لمنحها امتيازًا في الوصول إلى مجموعات بيانات محددة. هذه الاتفاقات، إن وُجدت، تعني حرمان بقية الفاعلين من حق النفاذ المتساوي، وتحوّل البيانات إلى أصل اقتصادي مخصص لفئة بعينها.
رابعًا: السياق التشريعي المُقيِّد وتأثيره المباشر على فاعلية البيانات المفتوحة
لا يمكن تقييم سياسة البيانات المفتوحة بمعزل عن الإطار التشريعي الذي يحكم تدفق البيانات والمعلومات في مصر، إذ يكشف هذا السياق عن قيود عميقة تجعل الإتاحة أقرب إلى استثناء منها إلى قاعدة عامة.
- أولًا، ينص الدستور في مادته 68 على أن المعلومات ملك للشعب، ويُلزم الدولة بالإفصاح عنها وتنظيم تداولها بقانون. غير أن هذا النص يظل معلقًا بسبب غياب قانون تداول المعلومات، ما يجعل الحق الدستوري غير قابل للنفاذ عمليًا.
- ثانيًا، ينص قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 في مادته 35 على فرض غرامات مالية باهظة ضد نشر أو إذاعة أخبار عن العمليات الإرهابية إذا خالفت البيانات الرسمية. الأثر المباشر لهذا النص هو خلق حالة ردع ذاتي تمنع الباحثين أو الصحفيين من استخدام البيانات المفتوحة إذا مسّت رواية الدولة حول قضايا الأمن.
- ثالثًا، يضع قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، ولائحته التنفيذية صلاحيات واسعة للمجلس الأعلى للإعلام، تشمل الترخيص والحجب وفرض الجزاءات على المحتوى المنشور، بما في ذلك المحتوى الرقمي. هذه الرقابة قد تحد من قدرة الإعلام الاستقصائي على الاستفادة من البيانات المفتوحة خشية الوقوع تحت طائلة العقوبات.
- رابعًا، يحتكر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء سلطة نشر الإحصاءات الرسمية بموجب القانون 35 لسنة 1960 وتعديلاته، والقرار الجمهوري 2915 لسنة 1964. يؤدي هذا الاحتكار إلى إبطاء نشر البيانات الديناميكية ومنع ظهور مصادر بديلة، كما أنه يُجسّد منطق الاقتصاد السياسي للبيانات في مصر. فحين تكون الدولة وحدها هي المنتج والمالك والموزع للإحصاءات، فإنها تعيد إنتاج نمط احتكاري يعطّل إمكانات الابتكار القائم على البيانات، ويحرم الأكاديميين والمجتمع المدني والقطاع الخاص من تطوير أدوات بديلة للمعرفة.
- خامسًا، يضيف قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 طبقة أخرى من القيود، إذ يمنح السلطات صلاحيات واسعة لحجب المواقع، ويفرض عقوبات جنائية على أفعال يمكن تأويلها بمرونة. وفي غياب ضمانات واضحة للشفافية أو إشراف قضائي مستقل، يمكن أن تُستخدم هذه الصلاحيات لتقييد النفاذ إلى المنصات التي تنشر بيانات عامة أو تحليلات مبنية على البيانات المفتوحة، مما يعزز الرقابة المسبقة ويحد من حرية تداول المعلومات.
خامسًا: البيانات المفتوحة وقانون تداول المعلومات
تنص المادة 68 من الدستور على أن المعلومات ملك للشعب، وتُلزم الدولة بتنظيم تداولها بقانون، غير أن هذا القانون لم يصدر حتى اليوم. غياب هذا التشريع يُبقي النص الدستوري بلا قوة تنفيذية، ويجعل الحق في الحصول على المعلومات حقًا معلَّقًا لا يمكن إنفاذه عمليًا.
وفي ظل هذا الفراغ، ستتحكم السلطة التنفيذية في ما يُنشر عبر بوابة البيانات المفتوحة وفق أولوياتها، من دون التزام بمسارات قانونية للطعن أو آجال ملزمة للرد على الطلبات. وبدلًا من أن تكون البيانات المفتوحة حقًا عامًا قابلًا للنفاذ، تتحول إلى نشر استباقي وانتقائي تفرضه الجهة المالكة للبيانات.
تتعدد تداعيات هذا الغياب، وتشمل:
- سياسيًا: يعزز احتكار الدولة لتحديد ما هو متاح وما يُحجب، ويضعف الثقة في النص الدستوري ذاته.
- قانونيًا: يخلق بيئة من عدم اليقين تحول دون مساءلة الجهات الممتنعة عن الإفصاح أمام القضاء.
- اقتصاديًا: يقوّض قدرة القطاع الخاص والباحثين على الاستثمار في تطبيقات قائمة على البيانات، بسبب غياب الضمانات لاستقرار الإتاحة واستمراريتها.
ولتجاوز هذا الخلل البنيوي، لا يكفي إصدار قانون شكلي، بل قانون شامل يحدد آجالًا واضحة للاستجابة، ويستحدث مفوضًا مستقلًا للمعلومات، ويقر إعفاءات من الرسوم للباحثين والمجتمع المدني، ويضع عقوبات رادعة على الحجب غير المبرر أو التضليل. من دون هذه الخطوات، ستظل سياسة البيانات المفتوحة أو أي قانون أخرى مرتبط، هو مجرد إطارًا إداريًا هشًا، خاضعًا لمزاج السلطة التنفيذية، بدلًا من أن تكون أداة راسخة للشفافية والمساءلة.
سادسًا: الجهات الملزَمة بإتاحة بياناتها عبر البوابة الوطنية للبيانات المفتوحة
كان ينبغي أن تنص السياسة على أن يمتد الالتزام بإتاحة البيانات إلى جميع الجهات العامة التي ترد ضمن الموازنة العامة للدولة، بما في ذلك وحدات الإدارة المحلية، والهيئات الاقتصادية والخدمية، والشركات القابضة والتابعة المملوكة كليًا أو جزئيًا للدولة، فضلًا عن الأجهزة الرقابية والهيئات المستقلة.
كما كان يجب أن تُلزِم السياسة كل مؤسسة أو كيان يتولى إدارة أو تقديم خدمة عامة، أو يدير أصلًا عامًا بموجب تكليف أو امتياز أو تمويل عام، بنشر البيانات غير الحساسة بصيغ مفتوحة قابلة لإعادة الاستخدام، مرفقة ببيانات وصفية موحّدة، ومصحوبة بآليات تحديث دورية وواجهات برمجة تطبيقات (APIs) تتيح التكامل والتشغيل البيني.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن يشمل الالتزام المتعاقدين والشركات صاحبة الامتياز، وكذلك مشروعات الشراكة مع القطاع الخاص، وذلك في كل ما يتصل بالخدمة العامة أو الأصل العام محل التعاقد. ويعكس هذا الامتداد مبدأين أساسيين: الأول أن “المال العام يولّد بيانات عامة”، والثاني أن “الانفتاح ينتقل مع الخدمة”، أي أن الطبيعة العامة للبيانات لا تنتفي بمجرد إسناد إدارتها إلى طرف خاص.
ملاحظة: مرفق مع هذه الورقة ملحق أولي بالجهات التي ينبغي إلزامها بإتاحة بياناتها عبر البوابة الوطنية للبيانات المفتوحة.
سابعًا: المبادئ المؤسِّسة للهيئة المصرية لحوكمة البيانات
نصت السياسة الوطنية للبيانات المفتوحة، كإطار انتقالي، على إنشاء «الهيئة المصرية لحوكمة البيانات (EDGA)» بوصفها الجهة التي يُفترض أن تنقل الإتاحة من وعود عامة إلى ممارسة قابلة للتنفيذ. وفي المرحلة الحالية، يشرف المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي على التنفيذ، على أن تنتقل المهام لاحقًا إلى الهيئة بعد إنشائها تشريعيًا. غير أن هذا التموضع الانتقالي يظل محاطًا بمخاطر واقعية، في مقدمتها احتمال انزلاق الهيئة إلى امتداد بيروقراطي تابع بدل تحولها إلى منظم مستقل يملك ولاية رقابية واضحة وأدوات ملزمة.
لذا تقترح هذه الورقة تصورًا تأسيسيًا يجعل من الهيئة المصرية لحوكمة البيانات رافعة لحق الجمهور في المعرفة وحماية الخصوصية، لا ذراعًا إدارية لإدارة التدفق من أعلى إلى أسفل. وينطلق هذا التصور من ثلاث مسلّمات:
- أولًا، لا معنى لهيئة حوكمة بيانات بلا استقلال مُحكَم، أي بشخصية اعتبارية وموازنة تُصرف مباشرة، وخضوع للمساءلة البرلمانية والقضائية لا للوصاية التنفيذية. كما يجب أن تمتد ولايتها الملزمة لتشمل الوزارات والهيئات والشركات المملوكة للدولة والكيانات الخاصة متى أنتجت بيانات ذات منفعة عامة بتمويل أو تكليف عام. بهذا فقط تصبح قرارات النشر والتصحيح ورفع القيود أوامر تُنفَّذ، لا توصيات تُؤجَّل.
- ثانيًا، لا شفافية بلا قواعد تشغيل قابلة للقياس: مثل قوائم رسمية للبيانات عالية القيمة، وجداول تحديث ملزمة، واتفاقيات مستوى خدمة للبوابة وواجهات البرمجة، وسياسة تسعير تقوم على «التكلفة الحدّية شبه المعدومة»، كي لا يتحول الوصول إلى امتياز مالي. هذه العناصر ينبغي أن تتكامل مع المعايير الفنية والبيانات الوصفية المفتوحة التي ألمحت إليها السياسة، ولكن بوضعها في إطار تنظيمي نافذ لا إرشادي فقط.
- ثالثًا، لا حماية للحقوق بلا بنية اعتراض وتعويض وتعلّم مؤسسي: تبدأ هذه البنية بمسار تظلّم داخلي ميسّر ومتعدد القنوات، ثم لجنة طعون شبه قضائية مستقلة، ثم القضاء الإداري؛ إلى جانب «ساعة إسقاط» تراجع آليًا قرارات الحجب، وصندوق تعويضات للمضرورين، وآلية دمج مُلزِمة لدروس الطعون والأحكام في اللوائح والدلائل.
وتتجسد هذه المسلّمات في بناء مؤسسي متوازن يشمل مجلس إدارة مانع للهيمنة تُنتخب رئاسته من المستقلين، ويمثل المجتمع المدني والأكاديميين والنقابات والقطاع الخاص غير المتعاقد حديثًا مع الدولة، مع سقف صارم لتمثيل الحكومة لا يتجاوز الخُمس؛ ووحدة تنفيذية محترفة بإدارات متخصصة (وصول وانفتاح، معايير وتشغيلية، خصوصية، إنفاذ قانوني، شفافية تعاقدية، طعون، ابتكار ومشاركة، بنية رقمية وأمن)، تتصل بأنظمة الجهات عبر قنوات تكامل مؤمّنة وتُنشر لوحات امتثال شهرية.
وإلى جانب ذلك، تعمل لجان خبرة مستقلة، تقنية، وقانونية/أخلاقيات، ومجتمع مدني/مستخدمون، بمواثيق معلنة ومحاضر مُتاحة، بحيث يصبح أي عدول عن توصياتها مشفوعًا بتسبيب وأغلبية معززة.
هذا البناء المؤسسي يجعل من التشاور شرطًا إجرائيًا سابقًا على القرار، ويتبعه تصويت شفاف يُنشر علنًا بأسبابه ومصفوفته. ولا ينفصل ذلك عن السياق الانتقالي الذي أعلنته الحكومة: سياسةٌ دخلت حيز التنفيذ بانتظار الإطار التشريعي الكامل، وبوابة وطنية تُطور لتكون نقطة النفاذ الموحد.
غير أن التحول من «الإتاحة كإعلان» إلى «الإتاحة كحق» لن يُستكمل إلا حين تتأسس هيئة حوكمة البيانات كهيئة مستقلة قادرة على دمج واجبات الإفصاح والحماية في معادلة واحدة تشمل نفاذٌ متكافئ، وجودةٌ قابلة للتحقق، وخصوصيةٌ غير قابلة للمساومة.
ختامًا،
مرفق بهذه الورقة ثلاثة ملاحق تفصيلية تُكمل مضمونها وتُترجم مبادئها إلى أدوات عملية، هي:
- مقترح بالمبادئ الناظمة للهيئة المصرية لحوكمة البيانات
- مقترح بالجهات الملزَمة بإتاحة بياناتها عبر البوابة الوطنية للبيانات المفتوحة
- معايير البيانات المفتوحة
ويأتي إفراد هذه الملاحق في إطار الحفاظ على تركيز المتن على الاتجاهات والمبادئ العامة، مع توفير مراجع تنفيذية تفصيلية تدعم التطبيق العملي وتضمن قابلية الإنفاذ.