
مقدمة
صار التحول الرقمي واقعًا يتطور يوميًا على نحو تلقائي في معظمه، ولم يعد الاندماج في عصره مرهونًا بقرار سيادي، أو استراتيجيات تضعها الدول، أو سياسات تنتهجها الشركات الكبرى. على العكس من ذلك، بات التحول هو من يقود الاستراتيجيات والسياسات التي تسعى إلى ملاحقته وتنظيمه واستغلاله في الوقت نفسه.
أدركت أغلب دول العالم أن تطوير أداء مؤسساتها الحكومية لملاءمة متطلبات العصر الرقمي ليس رفاهية، بل ضرورة لاستمرارها والإيفاء بدورها في الحاضر والمستقبل. ومن ثم نشأ مفهوم الحكومة الإلكترونية، ليُعبِر عن التوجه نحو استخدام التكنولوجيا الرقمية في عمليات ووظائف المؤسسات الحكومية، وفي مقدمتها توفير الخدمات للمواطنين.
لم تكن مصر بأي حال بعيدة عن هذا التوجه العالمي. فبدأت مصر خطواتها الأولى نحو التحول الرقمي وتطوير حلول الحكومة الإلكترونية خلال العقدين الأخيرين. حسب مؤشر الأمم المتحدة للجاهزية للحكومة الإلكترونية (EGDI)، جاءت مصر في عام 2024، في المركز 95 من بين 193 دولة رصد المؤشر درجة توافر شروط عمل وفاعلية تطبيقات الحكومة الإلكترونية فيها.
لا يعد هذا المركز متقدمًا بالقدر الكافي قياسًا إلى ما أحرزته مصر خلال السنين الأولى من الألفية الجديدة. إذ شغلت مصر المرتبة 140 عند ظهورها لأول مرة على المؤشر في عام 2003، ثم استطاعت بلوغ المرتبة 86 في عام 2010، قبل أن تتراجع إلى المركز 107 في عام 2012. شهدت الأعوام التالية لذلك تذبذبًا لموقع مصر على المؤشر، حتى استقر أداؤها المتقدم في الأعوام الأخيرة، وتحولت من المركز 111 إلى 103، قبل أن تبلغ مركزها الحالي 95.
يعتمد ذلك المؤشر في تقديراته على ثلاثة محاور، هي: كفاءة توفير الخدمات من خلال الإنترنت؛ ورأس المال البشري؛ والبنية التحتية لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. يتضح من ذلك أن المؤشر يعتد بالجانب التقني لتوفير خدمات الحكومة الإلكترونية للمواطنين. في المقابل، لا يعتد المؤشر بالأطر التنظيمية التشريعية والإدارية، وتقييم مستوى فاعلية حلول الحكومة الإلكترونية في تقليص الفجوات والمساواة بين فئات المجتمع من حيث إمكانية الوصول إلى خدماتها.
بالإضافة إلى ذلك، لا يتعرض المؤشر إلى قياس درجة مراعاة حلول الحكومة الإلكترونية لحماية الحقوق الأساسية للمواطنين، وفي مقدمتها الحق في الخصوصية، والحق في الوصول إلى المعلومات، والحق في الإنصاف في حال وقوع أضرار.
تسعى هذه الورقة إلى تناول مجمل مشهد تطور الحكومة الإلكترونية في مصر من خلال استعراض جوانبه المختلفة مع التركيز على الجانب الحقوقي. فتناقش الورقة مفهوم الحكومة الإلكترونية، والأدوار المنوطة بها في تطوير تقديم الخدمات، ومعالجة التحديات المختلفة التي تواجه القطاع الخدمي الحكومي.
كما تتناول الورقة المتطلبات المختلفة للحكومة الإلكترونية، والتي تشمل المتطلبات التنظيمية والحقوقية، وتلك الخاصة بتوفير العدالة في وصول الفئات المهمشة إلى خدماتها. تقدم الورقة أيضًا تقييم لتجربة الحكومة الإلكترونية في مصر، وتطرح مجموعة من التوصيات والمقترحات التي يمكن أن تساعد على تطوير حكومة إلكترونية فعالة تراعي الحقوق في السياق المصري.
الحكومة الإلكترونية ومعايير تقييمها
يناقش هذا القسم مفهوم الحكومة الإلكترونية والمتوقع منها، ومتطلباتها المختلفة في السياق المصري. كما يخرج القسم بعدد من المعايير التي يمكن بواسطتها تقييم تجربة الحكومة الإلكترونية.
مفهوم الحكومة الإلكترونية
ظهر مفهوم الحكومة الإلكترونية (e-government) بشكل مستقل منذ وقت مبكر. لكنه بات يشكل اليوم أحد جوانب ظاهرة أكثر شمولًًا، هي التحول الرقمي (Digital Transformation). فقد أدت مساعي تحقيق التحول الرقمي إلى تطوير مفهوم الحكومة الإلكترونية، ليصبح أكثر شمولية بدوره.
في البداية، تعلق المصطلح باستخدام التكنولوجيا الرقمية لتطوير الخدمات الحكومية المقدمة إلى المواطنين. كان نطاق هذا التطوير آنذاك محدود بالقدرات التكنولوجية المتاحة بصفة عامة، وبإمكانية وصول المواطنين أنفسهم إلى أدوات تلك التكنولوجيا. ويعني ذلك أن توفير الخدمات الحكومية عبر التطبيقات الرقمية كان مجرد بديل اختياري ثانوي موازٍ للسبل التقليدية لتقديم هذه الخدمات.
غير أن العالم شهد تطورات تكنولوجية متسارعة خلال العقدين الأخيرين، كان أبرزها التوسع الهائل في استخدام الإنترنت وظهور الهواتف الذكية. أدت هذه التطورات إلى نشأة مفهوم التحول الرقمي الذي يضع التكنولوجيا الرقمية في صميم حياة المجتمعات البشرية.
عند النظر إلى مفهوم الحكومة الإلكترونية اليوم، يتبين أنه لم يعد يُنظر إليه على أنه مجرد مجموعة من التطبيقات الرقمية المساعدة في تقديم بعض الخدمات الحكومية، أو كمسار ثانوي موازٍ للطرق التقليدية لتوفيرها. لقد تطور هذا المفهوم ليشمل الرقمنة الشاملة للخدمات الحكومية، بحيث تصبح التطبيقات الرقمية هي السبيل الرئيسي للوصول إلى تلك الخدمات.
وفي حين يحمل هذا التطور في مفهوم الحكومة الإلكترونية مزايا عديدة، فإنه في المقابل يوسع من نطاق الأدوار المتوقعة منها. كما يطرح هذه المفهوم عددًا من التحديات الجوهرية أمام تطبيق الرؤية الطموحة للحكومة الإلكترونية على أرض الواقع.
لفهم التطور الذي شهده المفهوم ينبغي النظر إلى المسار الطبيعي لتبني التكنولوجيا الجديدة بصفة عامة، والذي يمر غالبًا بمرحلتين رئيسيتين. تُستخدم التكنولوجيا الجديدة في المرحلة الأولى كأداة مساعدة لتحسين الطرق التقليدية القائمة. يعني ذلك عادة محاولة تطويعها لأداء الأمور بالشكل المعتاد. بينما في المرحلة الثانية تفرض التكنولوجيا الجديدة نفسها، ما يستدعي التخلي عن الأساليب القديمة، وابتكار طرق متقدمة لأداء المهام والوظائف بشكل يلائم استخدام تلك التكنولوجيا.
إن التطور الذي يجري حاليًا في ظل ما يُعرف بالتحول الرقمي يتمثل في عملية الانتقال بين هاتين المرحلتين. يقتضي ذلك، في سياق الحكومة الإلكترونية، إعادة تصميم الخدمات الحكومية وتطويرها، لتتلاءم مع متطلبات البيئة الرقمية.
أدوار الحكومة الرقمية في السياق المصري
تعد البيروقراطية الحكومية المصرية من بين الأقدم والأكبر على مستوى العالم. وفي حين تتفاوت درجات تدني الكفاءة في البيروقراطيات الحكومية الأخرى، وصلت البيروقراطية المصرية، لأسباب تاريخية (سياسية واقتصادية واجتماعية)، إلى حدودها الدنيا من الترهل وتدني الكفاءة مع نهاية القرن الماضي.
غير أن منحنى التراجع شهد خلال العقد الأخير تغيرًا بطيئًا ومحدود النطاق، ما أسهم في تحسن ملموس لأداء عدد من القطاعات الحكومية. تزامن هذا التحسن مع بدء دخول التكنولوجيا الرقمية بالتدريج إلى عدد من القطاعات الحكومية المصرية. يؤكد ذلك أن ثمة أدوار إيجابية يمكن للحكومة الإلكترونية أن تلعبها في السياق المصري، وفيما يلي تعرض الورقة بعض هذه الأدوار بدءًا من أبسطها وصولًا إلى أشملها تأثيرًا.
رفع الكفاءة الداخلية للوحدات الحكومية
تعد رقمنة العمليات الداخلية للوحدات الحكومية من أولى المهام التي يمكن أن تنهض بها الحكومة الإلكترونية. يعتمد ذلك على تحويل البيانات التي تتعامل معها هذه الوحدات إلى صيغ رقمية، إلى جانب رقمنة عمليات حفظها، ونقلها، واسترجاعها، ومعالجتها لأغراض متعددة. من شأن ذلك أن يسهم في تقليص الوقت اللازم لإنجاز العديد من الوظائف، وتقليل احتمالات وقوع الأخطاء البشرية الناتجة عن النسخ اليدوي للبيانات في أثناء تداولها بين الإدارات والوحدات الحكومية المختلفة.
تُتيح رقمنة البيانات، بمرور الوقت، إمكانية إنشاء قواعد بيانات موحدة ومركزية. ومع اعتماد الرقم القومي الموحد كوسيلة تعريف رئيسية لكل مواطن، يصبح من الممكن ربط جميع البيانات الحكومية الخاصة به ضمن نظام واحد. يُسهّل ذلك من الوصول إلي البيانات ويُقلّل من احتمالات الخطأ، مثل حالات الخلط بين أشخاص يحملون أسماء متشابهة.
على جانب آخر، لا يمكن أن تقضي رقمنة البيانات نهائيًا على جميع الأخطاء البشرية. كما أنها لا تضمن بالضرورة تجنب الأخطاء الناتجة عن خلل المعدات أو البرمجيات. بالإضافة إلى ذلك، يثير جمع البيانات وتخزينها ومعالجتها رقميًا محاذير ومخاوف ومشاكل تتعلق بالخصوصية وحماية البيانات الشخصية، وهو ما ستتطرق إليه الورقة في أقسام تالية.
التوسع في تمكين الوصول إلى الخدمات الحكومية
يظهر الدور الثاني الرئيسي للحكومة الرقمية، والأكثر وضوحًا للمواطنين، في تقديم الخدمات الحكومية عبر سبل التكنولوجيا الرقمية. يتطلب هذا تبسيط الإجراءات وأتمتة بعض العمليات الأساسية لتقديم الخدمات. يمكن تحقيق ذلك بتوفير واجهات استخدام سهلة عبر الأجهزة الرقمية في مواقع تقديم الخدمة، أو في الأماكن العامة التي يرتادها المواطنون مثل الأسواق التجارية ومحطات النقل العام، أو من خلال تطبيقات الهواتف المحمولة.
لقد شرعت مصر بالفعل في تنفيذ العديد من هذه الإجراءات، حيث شهدت السنوات الأخيرة توسعًا ملحوظًا في رقمنة الخدمات الحكومية. فبالإضافة إلى إطلاق بوابة مصر الرقمية، التي توفر حزمة واسعة من الخدمات إلكترونيًا، تم تفعيل ميكنة خدمات التوثيق والشهر العقاري.
يؤدي ذلك إلى تيسير حصول المواطنين على الخدمات الحكومية من خلال توفير كثير من الوقت والجهد المطلوبين للوصول إلى الخدمة. كما أنه يقلل من الضغط على أماكن العمل المختصة بتقديم هذه الخدمات حيث يقل عدد المواطنين المترددين عليها.
إتاحة خدمات جديدة
تستطيع الحكومة الإلكترونية الاستفادة مما توفره التكنولوجيا الرقمية من إمكانيات لتحسين الخدمات القائمة، أو تقديم خدمات جديدة لم يكن من الممكن توفيرها عبر الأساليب التقليدية. يكمن جانب كبير من هذا الدور في قدرة التكنولوجيا على إتاحة معلومات أوفر للمواطنين عن الخدمات المتاحة، ومتطلبات الحصول عليها.
من أمثلة هذه الخدمات توفير معلومات حول الخدمات الحكومية عبر المواقع الإلكترونية و/أو تطبيقات الهواتف الذكية. يمكن لهذه الخدمة، على سبيل المثال، إبلاغ المستخدم بأقرب المستشفيات والوحدات الصحية الحكومية والخاصة المتوفرة في منطقة جغرافية محددة بناءً على موقعه الحالي.
وعلى الرغم من توفر خدمات شبيهة عبر خرائط جوجل والتطبيقات الأخرى المثيلة، فإن الحكومة الإلكترونية، عن طريق البيانات المتاحة لها، تستطيع أن تقدم للمستخدم معلومات تفصيلية مهمة لا يمكن للتطبيقات المستقلة إتاحتها، كما أن معلوماتها ستكون أكثر موثوقية.
بصفة عامة، يمكن لمقاربة تعتمد على تصور الإمكانيات التي تتيحها التكنولوجيا الرقمية، وخاصة تكنولوجيات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، أن تنتج عددًا لا حصر له من الأفكار المبدعة، التي تسمح للحكومة الإلكترونية بأداء دور إيجابي في الحياة اليومية للمواطنين.
رفع مستوى الشفافية والحد من الفساد الحكومي
تتيح رقمنة عمليات تقديم الخدمات الحكومية التوثيق المستمر لهذه العمليات في مراحلها المختلفة بصورة آلية ودون الحاجة إلى تدخل بشري في أغلب الأحيان. كما أنها تحتفظ ببيانات العمليات في صورة رقمية يمكن استعادتها وعرضها بسهولة.
تتيح الرقمنة أيضًا الوصول إلى البيانات عند الحاجة إلى مراجعتها في حال وقوع أخطاء، أو شكوى من متلقي الخدمة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن جمع بيانات إحصائية توضح معدلات تقديم الخدمة، ومعدلات وقوع الأخطاء أو المشاكل، وهو ما يساعد على تدارك المشاكل المتكررة، وتحسين مستوى أداء الخدمة، ويسمح بقدر أكبر من الشفافية.
على صعيد آخر، تحد أتمتة عمليات تقديم الخدمات الحكومية الرقمية من الفساد الحكومي، وتجعل عملية كشفه أسهل. فمن جانب، تحد الخدمات الرقمية من فرص تلقي الرشاوى، ومن آخر يؤدي تسجيل عمليات تقديم الخدمات بشكل تلقائي إلى تيسير إمكانية كشف أي صور للتلاعب.
المتطلبات التنظيمية للحكومة الإلكترونية
تعمل الحكومة الإلكترونية في إطار بيئة تنظيمية (تشريعية وإدارية) تحدد ما يمكنها وما لا يمكنها القيام به. تتشكل هذه البيئة من التشريعات واللوائح التنفيذية والقرارات الإدارية، التي تنظم مختلف الجوانب المتصلة بعمل الحكومة الإلكترونية. يتطلب عمل الحكومة الإلكترونية بأفضل شكل ممكن تطوير البيئة التنظيمية التي تعمل من خلالها، عبر ثلاث مسارات رئيسية، تناقشها النقاط التالية.
تذليل العوائق والعقبات الإجرائية
أُعدت الأطر التنظيمية القائمة للتعامل مع بيئة غير رقمية، تعتمد بالأساس على الوثائق الورقية وحفظ البيانات في ملفات، ومباشرتها من خلال العمل اليدوي للموظفين. تفرض هذه البيئة إجراءات معقدة لضمان تلافي الأخطاء البشرية، والتوثق من هوية مقدمي البيانات، والمتعاملين معها. كما أنها تستلزم أحيانًا مركزية مادية لبعض العمليات، لضمان وجود نسخة واحدة موثقة للمعلومات التي تعتمد عليها.
يؤدي الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية إلى انتفاء الحاجة إلى العديد من هذه الإجراءات، وكذلك استبدال بعضها بإجراءات تعتمد على وسائل رقمية. لكن في كثير من الحالات، تشكل القوانين واللوائح الإدارية القائمة عائقًا أمام التحول من الإجراءات التقليدية إلى الجديدة، نظرًا لما يترتب على تجاوزها أو مخالفتها من مسؤولية قانونية.
ينعكس هذا الأمر على شكل فجوات في عمليات تنفيذ الإجراءات عبر تطبيقات الحكومة الإلكترونية؛ فبينما يمكن إنجاز بعض خطوات الحصول على الخدمة بوسائل رقمية، يظل من الضروري استكمال خطوات أخرى عبر الوسائل التقليدية. يؤثر ذلك سلبًا على فعالية الرقمنة، كما أنه يفرغها من معناها.
إنشاء أطر ملائمة للتكنولوجيا الرقمية
يطرح استخدام التكنولوجيا الرقمية في تقديم الخدمات الحكومية للمواطنين بدائل وابتكارات متجددة، سواء لإتاحة خدمات تقليدية، أو أخرى جديدة. تحتاج بعض هذه البدائل إلى أطر تنظيمية مغايرة تنظم عمليات وإجراءات إدارتها، وسبل وشروط الوصول إليها.
بعض الأطر التنظيمية الأكثر شمولًا، مثل التشريعات، يمكنها التعامل مع متطلبات عامة، يسهل تطبيقها على جميع الخدمات الحكومية. كمثال، يمكن لتشريع واحد أن ينظم متطلبات التوثق من الهوية رقميًا لجميع المعاملات الحكومية المتاحة رقميًا. بالإضافة إلى ذلك، توجد حاجة إلى أن تُنظم تشريعات عامة -ولوائحها التنفيذية كذلك- العمليات المشتركة التي يمكن أن تتطلبها جميع، أو معظم، الخدمات الحكومية الرقمية.
فإلى جانب ضرورة وضع معايير واضحة وكافية لهذه العمليات، يجب أيضًا توحيد آليات تنفيذها. إذ يُتيح ذلك للمواطنين فهم المتطلبات المتوقعة منهم بشكل مسبق، دون الوقوع في إرباك ناتج عن اختلاف الإجراءات بين خدمة وأخرى، أو بين القطاعات المختلفة. كما يُسهم توحيد العمليات في تسهيل الرقابة والمساءلة، بما يضمن التزام الجهات الحكومية كافة بالمعايير المقررة في تنفيذ العمليات الأساسية لتقديم الخدمات.
مواجهة المحاذير والأخطار المستحدثة
على الرغم مما تتيحه التكنولوجيا الرقمية من فرص كثيرة وغير مسبوقة للتطور وتحسين الأداء، وتيسير متطلبات الحياة اليومية للمواطنين، فإن استخدامها يستحدث محاذير وأخطارًا تختلف عن تلك المتعلقة بالطرق التقليدية لتقديم الخدمات الحكومية. المثال الأبرز هو حماية البيانات من أخطار الوصول غير المصرح به، وما يترتب عليه من مشاكل متعددة.
تتيح الوسائل الرقمية سبلًا جديدة للاستغلال والتحايل والفساد. ويتطلب التطبيق السليم للحكومة الإلكترونية أطر تنظيمية تأخذ في اعتبارها هذه المحاذير والأخطار، وتضع سياسات واضحة لمواجهتها، وتجنب آثارها الضارة.
بصفة خاصة ثمة حاجة إلى وجود معايير واشتراطات واضحة للبنية التحتية التكنولوجية التي تعتمد عليها الحكومة الإلكترونية. كذلك يجب تنظيم إجراءات متابعة ورقابة عمليات تقديم الخدمات، لمواجهة إمكانيات الاستغلال والاحتيال والفساد. وبالإضافة إلى تحديد الإجراءات المطلوبة، تضع الأطر التنظيمية أيضًا حدود مسؤوليات الجهات والمواقع الإدارية المختلفة، وسبل التحقيق والمحاسبة في حالات ارتكاب أخطاء، أو مخالفات، أو أفعال إجرامية.
المتطلبات التكنولوجية للحكومة الإلكترونية
يناقش هذا القسم المتطلبات التكنولوجية الضرورية لعمل الحكومة الإلكترونية بشكل فعال. وتشمل المتطلبات المادية، مثل البنية التحتية، والتجهيزات، والمعدات. والمتطلبات غير المادية، مثل الموارد البشرية، والمهارات، ومواصفات تصميم البرمجيات المستخدمة.
المتطلبات المادية
البنية التحتية لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات:
تعد تطبيقات الحكومة الإلكترونية نموذجًا للمنظومات المعلوماتية الأكثر ضخامة والتي تتطلب موارد تكنولوجية كبيرة للغاية. فمن حيث المبدأ، يتطلب جمع وتخزين ومعالجة البيانات الضرورية للحكومة الإلكترونية مراكز بيانات ضخمة، ذات قدرات حوسبة عالية.
وتؤدي الرغبة في توفير الخدمات الحكومية الرقمية لأكبر عدد من المواطنين إلى الضغط على البنية التحتية الموجودة، ما يتطلب رفع مستوى البنية التحتية لشبكات الاتصالات بصفة عامة، إلى جانب تطوير مراكز بياناتها، وسعتها التخزينية، وقدراتها الحوسبية.
التجهيزات والمعدات في أماكن العمل للتواصل مع الجمهور:
على الرغم من اعتماد الحكومة الإلكترونية على وسائل رقمية، مثل الإنترنت، للوصول مباشرة إلى المواطنين لتقديم الخدمات إليهم، فإن جزءًا هامًا وكبيرًا من الوظائف والعمليات الضرورية لأداء هذه الخدمات سيظل معتمدًا دائمًا على كفاءة العمل داخل مكاتب المصالح والهيئات الحكومية.
لذلك، يمثل توفير التجهيزات والمعدات الضرورية للعمليات التي تعتمد على التكنولوجيا الرقمية داخل أماكن العمل مطلبًا رئيسيًا. كما يعتمد استمرار مثل هذه المعدات والتجهيزات على إجراء التحديثات وعمليات الصيانة الضرورية بصفة دورية، فضلًا عن ضرورة مراعاة إمكانية التوسع والنمو المستمر.
ومع تزايد اعتماد تقديم الخدمات الحكومية على الوسائل الرقمية، ينبغي أن يوضع في الاعتبار أيضًا إن نسبة كبيرة من المواطنين لن يكون بإمكانهم الوصول إلى تلك الخدمات في منازلهم، لأسباب مختلفة. بالتالي، ينبغي توفير معدات وأجهزة مخصصة لإتاحة الخدمة رقميًا، سواءً في أماكن العمل المعتادة، أو في الأماكن التي يتوقع تردد عدد كبير من المواطنين عليها.
المتطلبات غير المادية
الموارد البشرية والتدريب
رقمنة الخدمات الحكومية، وأتمتة بعض عملياتها، لا يعني بأي حال الاستغناء عن العنصر البشري الضروري لتقديم هذه الخدمات. في الواقع، تفرض الرقمنة متطلبات مختلفة تتعلق بالموارد البشرية، إذ تقتضي اكتساب مهارات جديدة للتعامل مع التكنولوجيا الرقمية. كما تستلزم الرقمنة موارد بشرية متخصصة في التكنولوجيا الرقمية لأغراض عدة، تتراوح بين تصميم وتطوير الأنظمة المعلوماتية، إلى نشرها وتشغيلها وتحديثها وصيانتها. لذلك، ينبغي أن يشمل التدرج في التحول الرقمي للخدمات الحكومية عمليات تدريب وتأهيل العاملين بالمصالح والهيئات الحكومية، لضمان قدرتهم على أداء مهامهم بكفاءة.
تصميم البرمجيات:
يتطلب نجاح تطبيق الحكومة الإلكترونية الاعتماد على برمجيات مصممة خصيصًا للوفاء بمتطلباتها. فنظرًا لحساسية العمليات التي تؤديها الحكومة الإلكترونية، ينبغي أن تكون البرمجيات المستخدمة فيها آمنة إلى أقصى حد ممكن، وخالية من أي ثغرات قد تسمح باختراق أنظمتها. كما ينبغي أن تخلو برمجيات الحكومة الإلكترونية من الأخطاء الكودية، التي قد تؤدي إلى نتائج غير صحيحة، أو غير متوقعة للعمليات التي تجريها.
من جانب آخر، يتطلب إتاحة واجهات تعامل مع جمهور عام، عابر لفئات المجتمع المختلفة، تصميم واجهة تلبي الاحتياجات المختلفة لهذه الفئات. بصفة خاصة ينبغي لواجهات الاستخدام أن تتميز بالوضوح والبساطة، وألا تفترض امتلاك المستخدم أي مهارات رقمية خاصة.
كما يجب تقديم توجيهات وإرشادات للمستخدم تساعده على إدخال البيانات المطلوبة منه على نحو مبسط وواضح، وأن تستجيب لأي أخطاء يرتكبها بطريقة توضح المطلوب لتصحيح البيانات المقدمة، مع تجنب الحاجة إلى إعادة الخطوات من البداية.
المتطلبات التصميمية الخاصة
تُعد مراعاة الظروف الخاصة لبعض الفئات الاجتماعية من المتطلبات الأساسية عند تصميم خدمات الحكومة الإلكترونية. وتشمل هذه الفئات، على سبيل المثال، الأشخاص ذوي الإعاقة، وغير المتعلمين، وذوي الدخل المحدود. يترتب على ذلك عدد من الالتزامات، أبرزها تنويع وسائل تقديم الخدمة، بما في ذلك إتاحة الدعم البشري عند الضرورة.
من ناحية أخرى، لا بد من الانتباه إلى أن بعض فئات المجتمع تفتقر إلى القدرة على الوصول إلى الخدمات الرقمية، سواء عبر الإنترنت، أو الهواتف الذكية، وذلك لأسباب اقتصادية. ومع التوسع في التحول الرقمي للخدمات الحكومية يصبح من الضروري توفير بدائل تُمكِّن هذه الفئات من الاستفادة من الخدمات ضمن الإطار الرقمي. ومن أبرز هذه البدائل إتاحة أجهزة لتقديم الخدمات الرقمية في أماكن تجمع المواطنين، إلى جانب توفير دعم بشري لمساعدة من يحتاج إلى الإرشاد في استخدام تلك الأجهزة.
المتطلبات الحقوقية للحكومة الإلكترونية
تتقاطع الخدمات الحكومية، بصفة عامة، مع عدد كبير من الحقوق الأساسية. وتعد هذه الخدمات شرطًا ضروريًا لتمتع مواطني الدولة بتلك الحقوق، بما في ذلك الحقوق السياسية والمدنية، والاقتصادية والاجتماعية. لذلك يعتبر الوصول إليها في حد ذاته أحد الحقوق المدنية الأساسية، التي ينبغي أن تلتزم الدولة بتحقيقها لجميع مواطنيها، بشكل عادل، ومن دون تمييز بينهم.
تعتبر الحكومة الإلكترونية أداة فعالة لوفاء الدول بهذا الالتزام، حيث توفر إمكانية تجاوز العراقيل التقليدية التي كانت تحول دون إمكانية وصول جميع المواطنين إلى الخدمات الحكومية من دون تمييز.
من جهة أخرى، يطرح استخدام التكنولوجيا الرقمية في توفير الخدمات الحكومية عددًا من المتطلبات الإضافية التي تتعلق بطبيعة هذه التكنولوجيا، والتحديات التي تستحدثها. فقد تشكل هذه التحديات تهديدًا لعدد من الحقوق الأساسية.
يناقش هذا القسم المتطلبات ذات الصلة بحقوق الإنسان، التي ينبغي توافرها في تطبيق الحكومة الإلكترونية لضمان حماية هذه الحقوق، وتطوير وتحسين تمكين المواطنين من ممارستها.
ضمانات الخصوصية وحماية البيانات
يرتكز عمل الحكومة الإلكترونية على رقمنة قدر هائل من البيانات التي تحتفظ بها الدولة، ويشمل ذلك قسمًا كبيرًا من البيانات الشخصية عالية الحساسية. كما يتضمن نوعًا آخر من البيانات قد لا ينطبق عليه تعريف البيانات الشخصية، لعدم ارتباطها بأفراد محددين، لكنها تظل بيانات حساسة، سواءً بالنسبة إلى مؤسسات خاصة، أو جهات عامة.
بوجه عام، ينبغي النظر إلى البيانات الحكومية على أنها أكثر حساسية من نظيرتها التي قد تجمعها أو تعالجها الجهات غير الحكومية. لذلك، يجب فرض شروط صارمة على عمليات جمع، وتخزين، وإتاحة، ومعالجة، وتعديل، البيانات الحكومية.
يمثل الاحتفاظ بالبيانات الشخصية لعشرات الملايين من المواطنين في صيغة رقمية، ضمن قواعد بيانات موحدة، تحديًا بالغًا وتهديدًا جدي للحق في الخصوصية. وعلى الرغم من أن هذا الوضع يعد شرطًا ضروريًا لعمل الحكومة الإلكترونية، فإنه يستلزم عناية خاصة بحماية البيانات، وتوفير ضمانات لعدم تعرض حق المواطنين في الخصوصية للانتهاك من خلالها بأي شكل.
يشمل ذلك إجراءات تأمين نظم المعلومات المستخدمة لمهام الحكومة الإلكترونية، بكل من مكوناتها المادية والبرمجية، بدءًا من تحديد مواصفات معيارية للمعدات والأجهزة، ومرورًا باختيار البرمجيات المناسبة. وفي هذا السياق، تكتسب سيطرة الجهات الحكومية على تفاصيل عمل البرمجيات وتحديثها أهمية خاصة، ما يستدعي تفضيل البرمجيات مفتوحة المصدر على البرمجيات المغلقة.
وفي السياق نفسه، تتطلب حماية الحق في الخصوصية ضمانات تتعلق بعمليات تقديم الخدمات نفسها. يشمل ذلك حجم التدخل البشري في إجراءات تقديم الخدمات، ومسؤولية الأفراد المخولين بالوصول إلى البيانات، ومدى تدخلهم بالتعديل أو الحذف. تهدف هذه الضمانات إلى الحد من إمكانية استغلال أو إساءة استخدام تلك البيانات أو التلاعب بها.
لذلك، يجب على الحكومة الإلكترونية الالتزام بمبدأ توفير إمكانية الوصول إلى البيانات على حسب الضرورة، بحيث يمنح كل طرف صلاحية الاطلاع على القدر الضروري فقط من البيانات اللازمة لأداء وظيفته. ويشمل ذلك أيضًا تجهيل البيانات التي لا تتطلب الحاجة التعرف على هوية صاحبها.
ضمانات الحق في الوصول إلى المعلومات
تُعد الحكومة الإلكترونية واحدة من أدوات أداء السلطة التنفيذية لدورها والتزاماتها المختلفة كما ينظمها الدستور والتشريعات المختلفة. وتلزم المادة 68 من دستور عام 2014 الدولة بأن تكفل للمواطنين الحق في الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق، والإفصاح عنها، وتداولها.
يعد الإسهام في تحقيق هذا الالتزام أحد الأدوار الجوهرية للحكومة الإلكترونية، حيث ترتبط إتاحة الوصول إلى المعلومات بشكل وثيق بالتكنولوجيا الرقمية. بصفة خاصة، تسمح التكنولوجيا الرقمية بتذليل العقبات التقليدية التي يمكن أن تجعل إتاحة المعلومات والبيانات الحكومية عملية معقدة أو مكلفة.
من ناحية أخرى، يتطلب التحول الرقمي أن تكون البيانات الحكومية متاحة بصيغة رقمية، مما يسهل الوصول إليها عبر الوسائل الرقمية المتنوعة. كذلك يقتضي الحق في الوصول إلى المعلومات أن تتيح الجهات الحكومية جميع بياناتها ومعلوماتها، التي لا ينطبق عليها شروط السرية، أمام الجمهور. يمكن تحقيق هذا الهدف بسهولة من خلال قيام الجهات الحكومية بنشر البيانات والمعلومات التي تمتلكها بصيغة رقمية على مواقعها الإلكترونية، أو عبر بوابة موحدة مخصصة لذلك، بالتوازي مع توفير خدماتها الرقمية المتنوعة.
ضمانات الحق في الشكوى والتظلم والإنصاف
هناك حالات متعددة يتعذر على المواطنين فيها الوصول إلى الخدمات الحكومية، أو لا تُقدَّم لهم الخدمة بالشكل الصحيح، أو وفقًا للتوقعات، أو أن يشوب تنفيذها أخطاء أو مشكلات قد تلحق الضرر بالأفراد، أو تمسّ مصالحهم. لذلك، ينبغي أن يتاح للمواطنين سبل للشكوى والتظلم في حال تعرضهم لأحد هذه الحالات. وفي ظل تقديم الخدمات الحكومية بصورة رقمية، يجب أن تتاح هذه السبل أيضًا من خلال الواجهات البرمجية الرقمية المستخدمة للوصول إلى الخدمة.
وبالإضافة إلى الحالات المعتادة، التي تستوجب تقديم الشكوى أو التظلم في أثناء عمليات تقديم الخدمات، هناك أيضًا شكاوى تتعلق بالوسائل الرقمية المستخدمة في تقديم الخدمة. فينبغي أن تتوفر للمواطنين آليات لتقييم أداء الخدمات عبر الوسائل الرقمية بمختلف أشكالها. كما يلزم أن تكون هذه الآليات متاحة بشكل واضح وسهل الوصول، مع ضمانة سهولة استخدامها لأوسع فئة ممكنة من المستخدمين. ينبغي أيضًا أن يُخطر المواطنون بنتائج شكواهم أو تظلمهم وما يترتب عليها في إطار زمني مقبول، وعبر وسائل تضمن وصولها إلى الأفراد المعنيين.
من جهة أخرى، يحق للمواطنين، في حال تعرضهم لأي ضرر، الإنصاف بجبر الضرر بالشكل الملائم، وتمكينهم من الحصول على التعويضات القانونية المستحقة لهم. لذلك، يجب أن تُصمم تطبيقات الحكومة الإلكترونية بحيث تدعم تحقيق هذا الإنصاف من خلال توفير ونشر ما يفيد ذلك من معلومات. كما يجب أن تكون هذه المعلومات وافية، وفي صورة تسمح بتقديمها للجهات المعنية، بما في ذلك جهات الادعاء، والتحقيق، والتقاضي الجنائي والمدني.
متطلبات توفير الخدمات للفئات المهمشة
يقصد بالفئات المهمشة الأفراد أو الجماعات الذين تؤدي ظروفهم الاقتصادية أو الاجتماعية المختلفة إلى حرمانهم من فرص متكافئة مع غيرهم في الوصول إلى الموارد والخدمات المتاحة. أحد الموارد الرئيسية الضرورية لجوانب عدة من الحياة اليومية للمواطنين هو إمكانية الوصول إلى الخدمات الحكومية. ويمثل التحول الرقمي فرصة لسد الفجوة القائمة في إمكانية وصول عديد من الفئات إلى الخدمات الحكومية.
يتناول هذا القسم الشروط الواجب توافرها لتؤدي الحكومة الإلكترونية دورًا فعالًا في سد هذه الفجوات أمام الفئات الأكثر فقرًا، وتجاوز التمييز ضد النساء.
توفير فرص وصول الفئات الأكثر فقرًا إلى الخدمات الحكومية
يتطلب تعزيز فرص وصول الفئات الأشد فقرًا إلى الخدمات الحكومية العمل على تقديم هذه الخدمات بأقل تكلفة ممكنة. ويمكن للاعتماد على التكنولوجيا الرقمية المساعدة على خفض تكاليف الخدمات الحكومية بقدر كبير.
غير أن تخفيض تكلفة الخدمة، في الواقع العملي، لا يضمن بالضرورة تمكين الفئات الأشد فقرًا من الوصول إليها؛ إذ إن ضعف القدرة المالية غالبًا ما يقترن بعوامل أخرى تعيق الوصول إلى الخدمة، كضعف المهارات الرقمية، أو نقص البنية التحتية، أو محدودية الوعي بوجود الخدمة من الأساس.
من بين هذه العوامل، ترتفع نسب الأمية والتسرّب من التعليم النظامي بشكل ملحوظ كلما انخفض متوسط الدخل. كما تسجل معدلات الفقر نسبًا أعلى في المناطق الريفية والنائية، وفي الأحياء المهمشة داخل المدن. ويترتب على ذلك أن توفير الخدمات للفئات الأكثر فقرًا يتطلب تجاوز العوائق المرتبطة بالأمية، وتدني مستوى التعليم من جهة، وكذلك العوائق الجغرافية والمعمارية من جهة أخرى.
ومن بين السبل الممكنة لتخطي هذه العوائق إتاحة الخدمات الحكومية من خلال مراكز خدمية ثابتة أو متنقلة، يمكن توزيعها في المناطق الأشد فقرًا، والمحرومة من الخدمات التقليدية. تعتمد هذه المراكز الخدمية على قدرات الحكومة الإلكترونية، مع توفير الدعم اللازم للمواطنين لاستخدامها. يساعد انتشار هذه المراكز على تجاوز العوائق الجغرافية، والوصول إلى المستفيدين في أماكن سكنهم أو عملهم. كما تتيح التغلب على تحديات عدم امتلاك أجهزة متصلة بالإنترنت، وتجاوز مشكلات الأمية، أو تدني المستوى التعليمي، من خلال تقديم دعم بشري ييسر طلب الخدمات وتنفيذها.
معالجة التمييز ضد النساء في الوصول إلى الخدمات الحكومية
تعاني النساء في المجتمع المصري من مظاهر تمييز تقليدية تجعل فرص وصولهن إلى الموارد المختلفة، ومنها الخدمات الحكومية، أقل من الرجال. وفي حال كن فقيرات، فإن هذا التمييز يفاقم العوامل التي ناقشها القسم السابق. فنسب الأمية والتسرب من التعليم بين النساء، أعلى منها بين الرجال. كما أن النساء أقل قدرة على تخطي العوائق الجغرافية نظرًا للقيود الاجتماعية على حركتهن.
ومن ثم فإن استفادة النساء، الأكثر فقرًا بصفة خاصة، من الحلول التي تقدمها الحكومة الإلكترونية، أقل من استفادة الرجال من الفئة نفسها. يستدعي ذلك إيجاد حلولًا خاصة لتجاوز الفجوة الناشئة عن التمييز ضد النساء. وينبغي أن تتوافق هذه الحلول مع ظروفهن الاجتماعية، خاصة في المناطق الريفية، حيث تعيش النسبة الأكبر من النساء اللائي لم ينلن أي قدر من التعليم، أو خرجن من مساره في وقت مبكر.
تقييم تجربة الحكومة الإلكترونية في مصر
بدأت الحكومة المصرية في تنفيذ عدد من مبادرات التحول الرقمي في عدد من إداراتها بعد عام 2010. مهدت هذه المرحلة الطريق أمام التوسع في تطبيق الحكومة الإلكترونية من خلال توفير عناصر مهمة من البنية التحتية المطلوبة.
بصفة خاصة، شهدت عدة قطاعات خدمية رقمنة للبيانات التي تتعامل معها. وحصلت جهود التحول الرقمي على دفعة كبيرة مع إطلاق الدولة المصرية مبادرة “رؤية مصر 2030″، حيث احتل التحول الرقمي موقعًا بارزًا منها.
وفي عام 2020، أطلقت الحكومة المصرية موقع بوابة خدمات مصر الرقمية كمنصة موحدة لتقديم الخدمات الحكومية من خلال الإنترنت. تقدم هذه المنصة أكثر من 100 خدمة حكومية، وحسب الأرقام المعلنة عليها، في مارس 2025، أنشأ أكثر من 7.98 مليون مواطن حسابات عليها للانتفاع بخدماتها.
يناقش هذا القسم درجة تمكن الحكومة الإلكترونية من أداء الأدوار المتوقعة منها، والتي سبق طرحها في القسم السابق من الورقة، تحت عنوان “أدوار الحكومة الرقمية في السياق المصري”.
رفع الكفاءة الداخلية للوحدات الحكومية
يمكن ملاحظة تطور سرعة وجودة أداء بعض الوحدات الحكومية، كنتيجة مباشرة لاستخدام التكنولوجيا الرقمية في عملياتها المختلفة، وبصفة خاصة رقمنة البيانات التي تعتمد عليها. وتعد مصلحة الأحوال المدنية، أحد الأمثلة البارزة على ذلك، حيث تعتمد على قاعدة بيانات رقمية موحدة، يمكن الوصول إليها من أي مكان في مصر.
وقد شهدت العمليات الأساسية للمصلحة تطورًا واضحًا من حيث السرعة والكفاءة. انعكس هذا التطور في توفير بعض الخدمات الأساسية من خلال أي من مكاتب المصلحة، دون التقيد بالموقع الجغرافي لمحل ميلاد الشخص، أو محل التوثيق الأصلي. كما أصبحت هذه الخدمات متاحة في عدد متزايد من المواقع خارج المقرات التقليدية للمصلحة، مثل المراكز التجارية، أو ماكينات السجل المدني الذكية، أو من خلال الإنترنت. وتشمل هذه الخدمات استخراج وتجديد وتعديل بيانات وثائق الرقم القومي، وشهادات الميلاد، والوفاة، ووثائق الزواج، والطلاق، وغيرها من الوثائق.
غير أن عددًا من الجهات الحكومية لا تزال تعتمد على منظومة مختلطة من الاحتفاظ بالبيانات والمعلومات بصورة ورقية، إلى جانب قواعد البيانات الرقمية. ومن ثم تعتمد على التدوين اليدوي للمعاملات والعمليات المختلفة، مع إعادة إدخالها في صورة رقمية.
كذلك ما زالت العديد من الجهات تطلب من المواطنين تقديم وثائق ورقية، على الرغم من تضمنها معلومات متاحة بالفعل في قواعد البيانات الرقمية، وهي ازدواجية تعيق تحسين أداء رقمنة العمليات المختلفة على النحو المرجو. فتؤدي هذه الازدواجية إلى إهدار الوقت والموارد، سواء بالنسبة للمواطنين أو الموظفين. كما أنها تُضعف من كفاءة العمليات الرقمية، وتزيد من احتمالات وقوع الأخطاء نتيجة إدخال البيانات يدويًا أكثر من مرة.
التوسع في تمكين الوصول إلى الخدمات الحكومية
بحسب إحصاءات بوابة الخدمات الحكومية الرقمية على الإنترنت، قُدّم أكثر من 45 مليون طلب خدمة من خلال الموقع، وإن كان يغيب عن الإحصاءات بيان بعدد الخدمات التي اكتمل أداءها بالفعل.
في المقابل، تعلن البوابة عن تقديمها أكثر من 100 خدمة حكومية متنوعة، لكن عددًا منها لا يزال قيد التطوير ولم يتح فعليًا للمواطنين بعد. كما يقتصر دور البوابة، في كثير من الحالات، على استقبال طلبات الحصول على الخدمة فقط، مع ضرورة استكمال الإجراءات لاحقًا لدى الإدارات الحكومية المختصة، وهو ما لا يمكن اعتباره إتاحة رقمية مكتملة للخدمة.
رفع مستوى الشفافية والحد من الفساد الحكومي
لم تؤدي الحكومة الإلكترونية في مصر، حتى اليوم، أي دور ملحوظ لرفع مستوى شفافية العمليات الحكومية، بما في ذلك المتصلة بتقديم الخدمات الحكومية. ولا يحصل المواطنون على معلومات إيضاحية كافية عن مسار طلباتهم للحصول على الخدمة الحكومية. كما أنهم لا يحصلون غالبًا على معلومات عن أسباب تعثر حصولهم على الخدمة، أو رفضها من الجهة المعنية.
ساهم توفير بعض الخدمات الحكومية عبر الوسائل الرقمية، دون الحاجة إلى التعامل المباشر مع الموظفين، في الحد من مظاهر الفساد. ومع ذلك، فإن استمرار الاعتماد على التدخل البشري في العديد من مراحل تقديم الخدمات، إلى جانب غياب الشفافية في أداء بعض المهام، يجعل تأثير الحكومة الإلكترونية في الحد من الفساد محدودًا للغاية.
توافق الأطر التنظيمية مع متطلبات الحكومة الإلكترونية
أصدرت السلطات التشريعية المصرية عدة قوانين ذات صلة بتنظيم جوانب مختلفة لاستخدام التكنولوجيا الرقمية. من بين هذه القوانين ثمة قانونين يتقاطعان مع عمليات الحكومة الإلكترونية، وهما قانون التوقيع الإلكتروني رقم 15 لسنة 2004، وقانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020.
يتيح قانون التوقيع الإلكتروني للأفراد إنشاء توقيع رقمي يسمح بالتوثق من شخصيتهم عند الحاجة. وتستخدم منصة الحكومة الإلكترونية المصرية التوقيع الإلكتروني كإحدى وسائل التوثق من هوية المستخدم الراغب في الحصول على خدماتها. كذلك ينظم قانون حماية البيانات الشخصية، ضمانات حماية البيانات الرقمية الشخصية، وحقوق أصحابها، والتزامات الجهات التي تجمع وتحفظ وتعالج هذه البيانات.
بخلاف ما سبق، لا يوجد تشريع مصري مختص بتنظيم تطبيق الحكومة الإلكترونية على وجه التحديد. كما أن القوانين واللوائح التنفيذية المنظمة للوصول إلى الخدمات والحصول عليها، لم يطرأ على معظمها أي تعديلات تجعلها أكثر مناسبة لتقديمها بصورة رقمية.
وعلى الرغم من أن هذا لا يحول، على أرض الواقع، دون تقديم عدد من الخدمات عبر الوسائل الرقمية، فإنه يؤدي إلى إشكاليات متعددة، هي:
- غياب ضمانات قانونية لسلامة أداء الخدمات الحكومية من خلال الوسائل الرقمية. على سبيل المثال، لا يوجد إلزام قانوني يشترط هيئة معينة للتجهيزات، والمعدات، والبرمجيات الخاصة بتقديم خدمات الحكومة الإلكترونية. وبالتالي، لا توجد وسيلة قانونية للمحاسبة في حال لم تتوفر أي من هذه التجهيزات، والمعدات، والبرمجيات الضرورية لسلامة أداء وظائفها. كذلك لا توجد ضمانات قانونية ملزمة تكفل حقوق المواطنين في حال تضررهم نتيجة وقوع الأخطاء في أثناء حصولهم على الخدمات الحكومية بوسائل رقمية.
- غياب القدرة على إتمام بعض الخدمات بشكل كامل من خلال الوسائل الرقمية، والحاجة إلى استكمال خطوات بعينها بصورة تقليدية ورقية نتيجة لإلزام قانوني. مثال على ذلك، اشتراط تقديم وثائق ورقية بعينها، أو الحصول على توقيع الشخص على استمارات ووثائق ورقية، وغير ذلك مما يمكن الاستعاضة عنه بسبل إلكترونية ورقمية، في حال سمح القانون أو اللائحة المعنية بذلك.
- صعوبة التوسع في تقديم بعض الخدمات الحكومية لأن متطلبات الإجراءات المنصوص عليها قانونًا لا يسمح بتوفير الوصول إليها من خلال الوسائل الرقمية.
حجم توافر المتطلبات التكنولوجية المادية
البنية التحتية لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات
تختلف الصورة النظرية المعلنة عن الواقع الفعلي الذي يلمسه المواطنون في حياتهم اليومية فيما يتعلق بخدمات الاتصالات والإنترنت في مصر. فحسب المعلن، توسعت الحكومة في تطوير شبكة الاتصالات، سواء السلكية أو اللاسلكية، بقدر كبير خلال السنوات الماضية.
كما تشير التقارير أن سرعة خدمة الإنترنت في مصر هي الأعلى في القارة الإفريقية، لكن التجربة اليومية لمستخدمي الإنترنت تعكس صورة أخرى. فالسرعة التي يحصل عليها المستخدم فعليًا، لا تقترب من السرعة الكلية المعلنة، إضافة إلى الشكوى المستمرة من عدم انتظام الخدمة، والانقطاع المتكرر لها.
ينعكس ذلك كله على قدرة المواطنين على الوصول إلى الخدمات الحكومية من خلال الإنترنت. كما ينعكس أيضًا على مستوى انتظام الخدمات الحكومية التي تعتمد على الإنترنت للوصول إلى قواعد البيانات الخاصة بها.
ونظرًا لغياب معلومات موثوقة حول حجم البنية التحتية التي تعتمد عليها الحكومة الإلكترونية في مصر، يصبح تقييم كفاءتها معتمدًا فقط على انطباعات المستخدمين وتجاربهم المباشرة. وتُظهر هذه التجارب تكرار توقف الخدمات لأسباب تقنية.
التجهيزات والمعدات في أماكن العمل والتواصل مع الجمهور
مرة أخرى، يؤدي الافتقار إلى معلومات عن التجهيزات والمعدات التي تعتمد عليها أعمال الحكومة الإلكترونية في مصر إلى محدودية في القدرة على تقييم كفاءتها. لكن غياب أطر تنظيمية واضحة للاشتراطات الفنية الواجب توافرها في تلك التجهيزات، وكذلك إجراءات توريدها، وتشغيلها، وتحديثها، وصيانتها، هو في حد ذاته قصور ينبغي معالجته. يثير هذا القصور الشك في درجة توفر المتطلبات الأساسية للخوادم، ومحطات العمل، والشبكات المستخدمة، وخاصةً متطلبات تأمين نظم المعلومات التي تعتمد على هذه العناصر.
حجم توافر المتطلبات التكنولوجية غير المادية
الموارد البشرية والتدريب
طرحت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مشروعًا لتنمية وبناء القدرات الرقمية للعاملين بالجهاز الإداري للدولة. يحتوي المشروع على عدد من البرامج لتنمية الثقافة والمهارات الرقمية للقيادات الإدارية، وكذلك عموم الموظفين الإداريين. كما تتوجه بعض برامجه إلى جهات عمل حكومية بعينها، مثل العاملين بالمحاكم المدنية، والهيئات القضائية، وكذلك العاملون بالأزهر.
بالإضافة إلى ذلك، تتوجه بعض البرامج إلى صقل مهارات بعينها، مثل اللغة الإنجليزية للأغراض الإدارية، أو لاستخدامات الذكاء الاصطناعي في الحكومة الإلكترونية. وتعتمد معظم البرامج على التعليم عن بعد، وتتضمن محتوى تعليميًا تفاعليًا. تبشر هذه الجهود بتجاوز فجوة المهارات الرقمية لدى العاملين بالجهاز الإداري للدولة، خاصة إذا ما أمكن التوسع فيها مع الوقت.
تصميم البرمجيات
عند النظر إلى “بوابة مصر الرقمية” كنموذج لتصميم واجهات الاستخدام للحكومة الإلكترونية، يمكن القول إنها تستوفي بدرجة مقبولة عددًا من المتطلبات التصميمية الأساسية. يتميز الموقع ببنية بسيطة وعناصر واضحة، مما يسهم في تقليل التشتت البصري ويساعد المستخدمين على التنقل بسهولة.
كما يتيح الموقع عدة مسارات للوصول إلى الخدمات المطلوبة، ويقدم تطبيقًا مخصصًا للهواتف المحمولة لتسهيل الاستخدام. ومع ذلك، يفتقر الموقع إلى خصائص تدعم وصول متحدي الإعاقة، وهو ما يمثل قصورًا في الشمول الرقمي.
وعلى صعيد آخر، يصعب تقييم مدى كفاءة البنية التقنية للموقع، بما في ذلك الأدوات البرمجية التي يستخدمها في ربط قواعد البيانات، نظرًا لغياب المعلومات حول هذه الأدوات، بالإضافة إلى غياب أطر تنظيمية معلنة تضع معايير واضحة يجب الالتزام بها.
الحكومة الإلكترونية في مصر والمتطلبات الحقوقية
يتناول هذا القسم درجة توفر الضمانات الحقوقية في تطبيقات الحكومة الإلكترونية، ويسلط الضوء على مدى تمكينها للمواطنين من ممارسة حقوقهم بما يتوافق مع الالتزامات الدستورية
الحق في الخصوصية
يتعلق حماية الحق في الخصوصية، في إطار استخدام التكنولوجيا الرقمية، بحماية البيانات الشخصية التي تُجمع، وتُخزن، وتُعالج بوسائل رقمية. يغطي قانون حماية البيانات الشخصية هذه الجوانب، إلا أنه يشوبه إشكاليتان أساسيتان، هما:
أولًا: عدم تفعيل القانون منذ صدوره قبل حوالي خمسة أعوام، نتيجة إحجام الدولة عن إصدار اللائحة التنفيذية المنظمة لتطبيقه. وترتب على ذلك أيضًا عدم إنشاء مركز حماية البيانات، وهو الجهة التي ينشئها القانون بغرض الإشراف على تطبيقه.
ثانيًا: تنص مواد إصدار القانون على استثناء البيانات التي تُجمع بمقتضى القانون نفسه من الخضوع لأحكامه. يؤدي ذلك الاستثناء إلى استبعاد قدر كبير من البيانات الشخصية، التي تجمعها الجهات الحكومية، من نطاق تنظيم هذا القانون، وبالتالي إبقاؤها خارج إطار رقابته وحمايته.
قد يكون جمع بعض هذه البيانات مبررًا لأغراض تنظيمية يحددها القانون، ولا يستوجب موافقة مسبقة من الأفراد. في ذات الوقت، لا يُعفي ذلك الجهات الحكومية، بصفتها المتحكم والمعالج لهذه البيانات، من الالتزامات القانونية التي ينبغي أن يكون منصوصًا عليها بوضوح. فالأفراد، حتى في هذه الحالات، يحتفظون بحقوق أصيلة في ما يخص بياناتهم الشخصية، وهي حقوق لا تتعارض مع مشروعية جمع ومعالجة البيانات، بل تتطلب ضمانات لحمايتها.
وفيما يتعلق بضمانات حماية الحق في الخصوصية ضمن سياق الحكومة الإلكترونية في مصر، لا تتوفر معلومات معلنة بشأن السياسات أو الإجراءات المتبعة، إن وُجدت، في هذا الشأن. ويُفاقم هذا الغموض غياب أطر تنظيمية واضحة تفرض إجراءات محددة لتأمين نظم المعلومات ضد التهديدات السيبرانية، وضمان حماية بيانات المواطنين أثناء استخدامهم للخدمات الرقمية. وفي ظل هذا الغياب، يصعب افتراض وجود مثل هذه الإجراءات أو التأكد من تطبيقها فعليًا. كما لا يمكن ضمان خضوعها لأي شكل من أشكال الرقابة أو التقييم المستقل الضروري لضمان فعاليتها وسلامة تنفيذها.
الحق في الوصول إلى المعلومات
على الرغم من إلزام الدستور بإصدار قانون لتنظيم الحق في الوصول إلى المعلومات، وإنشاء مفوضية مستقلة للإشراف على التزام الحكومة بتنفيذه، فإن ذلك القانون لم يصدر حتى اليوم، وبالتالي لم تنشأ المفوضية المعنية بتنفيذه.
وقد انعكس هذا الغياب التشريعي والمؤسسي في عدم التزام أي من الجهات الحكومية بتمكين المواطنين من الوصول إلى المعلومات، بأي شكل من الأشكال. وعلى الرغم من أن التحول الرقمي يُفترض أن يسهّل عملية إتاحة المعلومات عبر أدوات الحكومة الإلكترونية، إلا أن هذا المسار لم يُفعّل بالشكل المطلوب حتى الآن. ما يُتاح من معلومات عبر المواقع الحكومية يقتصر في الغالب على بيانات ذات طابع دعائي أو إخباري، مع بعض التقارير التي تستعرض الاستراتيجيات المستقبلية لبعض الجهات.
في المقابل، يُعد الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء استثناءً نسبيًا، حيث يوفّر عبر موقعه الإلكتروني عددًا من التقارير الإحصائية والمعلوماتية بشكل منتظم. ومع ذلك، يُعاني الموقع من عدة مشكلات، أبرزها ضعف التصميم، وبطء الأداء، وعدم الاستجابة لطلبات البحث في أحيان كثيرة، وهو ما يعكس على الأرجح محدودية الموارد التقنية المخصصة له.
الحق في الشكوى والتظلم والإنصاف
تتيح بوابة الخدمات الحكومية الإلكترونية خيار تقديم الشكاوى والمقترحات، بالإضافة إلى توفير خدمة دعم عبر خط هاتفي ساخن. وتمثل هذه الخطوة مؤشرًا إيجابيًا نحو تمكين المستخدمين من الإبلاغ عن المشكلات أو تقديم مقترحات لتحسين الخدمات. ومع ذلك، فإن ما توفره البوابة في هذا الإطار لا يرقى إلى المعايير المطلوبة لخدمات الحكومة الإلكترونية. إذ لا يتجاوز ما يتيحه الموقع من إمكانيات ما يمكن أن يقدمه أي موقع إلكتروني تقليدي، رغم الطبيعة الحكومية الرسمية للخدمات التي تقدمها البوابة في سياق التزام دستوري وقانوني.
ومن ثم، لا يجوز أن تفتقر وسائل تقديم هذه الخدمات إلى آليات قانونية واضحة تضمن حق المستخدم في الشكوى والتظلم، مصحوبة بضمانات تتعلق بتلقي الشكاوى، وإخطار مقدمها بحد أقصى للرد، يُحدد بموجب القانون أو اللوائح الإدارية ذات الصلة. بالإضافة إلى ذلك، يفتقر الموقع إلى إرشادات واضحة حول الإجراءات الواجب اتباعها في حال وقوع أخطاء أثناء تنفيذ الخدمة، لا سيما تلك التي قد تترتب عليها أضرار مادية أو قانونية. وهذا القصور يُضعف من قدرة المستخدمين على المطالبة بحقوقهم، بما في ذلك الحق في التعويض عن الأخطاء التي قد تصدر عن الجهة المقدمة للخدمة.
في ظل غياب آليات مؤسسية فعّالة لتلقي الشكاوى والنظر فيها، وغياب المعلومات الكافية عن سبل الإنصاف، تُصبح حقوق المواطنين كمستخدمي خدمات رقمية عرضة للهدر، بما يُقوّض الثقة في فعالية التحول الرقمي للخدمات الحكومية.
غلق فجوات الوصول إلى الخدمات الحكومية
ثمة جهود لاستغلال التحول الرقمي في توفير الخدمات الحكومية للفئات المهمشة والأقل حظًا، ومنها ذوي الدخل المحدود، أو متحدي الإعاقة. تشمل هذه الجهود إنشاء مراكز خدمية ثابتة لتوفير الخدمات الحكومية، مع توفير دعم بشري لمعاونة المواطنين في العمليات المطلوبة لتلقي الخدمة.
في أكتوبر 2024، أعلنت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية عن افتتاح المركز الرابع للخدمات الحكومية على مستوى الجمهورية. ويعد التوجه نحو إنشاء تلك المراكز تطورًا إيجابيًا، يسهم في تضييق فجوات الوصول إلى الخدمات الحكومية للفئات المهمشة. من ثم، فإن التوسع في نشرها، خاصة في المناطق الريفية والنائية، وفي المناطق الأدنى من حيث متوسط الدخل في المدن، قد يكون له أثر كبير في مسعى التخلص من هذه الفجوات.
كما أعلنت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عن مبادرات للدمج الاجتماعي للفئات المهمشة ومنها النساء، تحت مظلة مشروع التحول الرقمي من أجل التنمية المستدامة. يمثل هذا تطورًا إيجابيًا نحو تمكين هذه الفئات من الوصول إلى الخدمات الحكومية الرقمية.
لكن لا تزال هناك حاجة إلى جهود أكبر لتجاوز الفجوة الضخمة في تمكين النساء من الطبقات الفقيرة، بصفة خاصة، من الوصول إلى الخدمات الحكومية. فالمراكز الخدمية الثابتة، رغم أهميتها، لا تكفي لتجاوز القيود الاجتماعية والثقافية التي تحد من حركة نسبة كبيرة من النساء، خاصة في المناطق الريفية أو الأكثر فقرًا. كما تمثل معدلات الأمية المرتفعة بين النساء مقارنة بالرجال عائقًا إضافيًا أمام الاستفادة من الخدمات الرقمية.
تشكل هذه العوامل مجتمعة حاجزًا حقيقيًا أمام استفادة هذه الفئة تحديدًا من أدوات الحكومة الإلكترونية التقليدية. ومن ثم، تبرز الحاجة إلى تطوير مبادرات مبتكرة وموجهة خصيصًا لتسهيل وصول النساء في هذه الظروف إلى الخدمات الحكومية الأساسية، لا سيما تلك التي تؤثر بشكل مباشر في تحسين أوضاعهن المعيشية.
وفي سياق موازٍ، تجدر الإشارة إلى مبادرات تحسين إمكانية وصول متحدي الإعاقة إلى بعض الخدمات، بالاعتماد على التكنولوجيا الرقمية. من بينها، مبادرة الشبكة القومية لتأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة، الذي يركز موقعها الإلكتروني على مساعدة متحدي الإعاقة في الحصول على وظائف مناسبة.
مع ذلك، يظل ثمة قصور في تقديم خدمات الحكومة الإلكترونية في صورة مناسبة للاحتياجات المختلفة لمتحدي الإعاقة. فعلى سبيل المثال، لم يراع تصميم واجهة الاستخدام لبوابة تقديم الخدمات الحكومية على الإنترنت توفير بديل يحقق اشتراطات تمكين متحدي الإعاقة من التعامل مع الموقع.
توصيات ومقترحات
يقدم هذا القسم مجموعة من التوصيات والاقتراحات لمعالجة مظاهر القصور في التجربة الحالية للحكومة الإلكترونية في مصر، وكذلك تحسين أدائها وزيادة فعاليتها.
الدور التشريعي والتنظيمي
يستلزم تفعيل الحكومة الإلكترونية في مصر إصدار تشريع متكامل. يهدف هذا التشريع إلى وضع إطار قانوني واضح يضمن حق المواطنين في الحصول على الخدمات الحكومية رقميًا، مع تحديد آليات التحقق من الهوية، ووضع اشتراطات فنية لمكافحة الاحتيال وانتحال الشخصية، بالإضافة إلى تجريمها وصياغة عقوبات مناسبة لها.
كذلك يفترض أن ينظم ذلك القانون الاشتراطات الفنية والإجرائية لضمان حماية نظم المعلومات المستخدمة، والبيانات الحكومية، والبيانات الشخصية للمواطنين، وبيانات معاملاتهم الحكومية المختلفة.
أخيرًا، يجب أن ينظم القانون الأحكام اللازمة لضمان حق الأفراد في تقديم الشكاوى والتظلمات المتعلقة بالخدمات الحكومية الرقمية. وينبغي أن يشمل ذلك تحديد إجراءات تلقي الشكاوى، وكيفية الاستجابة لها، وآليات إخطار أصحاب الشكاوى بمسارها ونتائج البت فيها. كما يجب أن يوضح القانون إجراءات المطالبة بالتعويض عند الضرورة، والحالات التي يحق فيها للمتضرر طلب التعويض، بالإضافة إلى حقه في الحصول على البيانات الداعمة لقضيته، والتي تتناسب مع متطلبات التقاضي إذا لزم الأمر.
توفير المتطلبات التكنولوجية
يتطلب تفعيل الحكومة الإلكترونية بكفاءة استثمارًا أكبر في البنية التحتية الرقمية، لضمان توافق الإمكانات النظرية مع متطلبات التطبيق العملي. فيُعدّ الوصول المستقر والموثوق إلى الإنترنت شرطًا أساسيًا للوصول إلى خدمات الحكومة الإلكترونية على نحو فعّال وشامل. وتكمن أبرز نقاط الاختناق في السعات المتاحة لمقدمي خدمة الإنترنت والتي يوزعونها بدورهم على المستخدمين. عدم كفاية هذه السعات لتغطية الطلب تؤدي إلى أن ما يحصل عليه المستخدمون يظل دائمًا أدنى من المفترض نظريًا.
على جانب آخر، يحول عدم تناسب أسعار خدمة الاتصال بالإنترنت مع متوسط دخول الغالبية العظمى من السكان إلى أن يظل اتصال أغلبهم بالشبكة محدودًا. لذلك، ينبغي النظر في سياسات تسعير للخدمة تتيح حدًا مقبولًا من استهلاك البيانات بأسعار مخفضة.
وبالإضافة إلى العمل على رفع مستوى البنية التحتية لشبكات الاتصالات، ينبغي الاستثمار في إنشاء مزيد من مراكز البيانات، لرفع قدرة الحكومة الإلكترونية على تقديم خدمات أكثر انتظامًا، وأقل عرضة للانقطاع عن العمل. وبالتوازي مع ذلك، ينبغي أيضًا توفير مزيد من الموارد لعمليات إحلال وتحديث وصيانة المعدات والأجهزة، لضمان استمرارية الخدمات واستقرار مستوى إتاحتها وكفاءة عملها.
الحق في الخصوصية وحماية البيانات الشخصية
لحماية خصوصية المواطنين وحقهم في النفاذ العادل والآمن إلى خدمات الحكومة الإلكترونية، يجب تفعيل قانون حماية البيانات الشخصية بإصدار لائحته التنفيذية وإنشاء مركز حماية البيانات. كما ينبغي إلغاء استثناء البيانات التي تجمعها، وتخزنها، وتعالجها الجهات الحكومية من الخضوع لأحكام هذا القانون. ويلزم أن تُنظَّم الاستثناءات الضرورية، إن وُجدت، ضمن مواد محددة خاصة بهذه الجهات، على أن تستوفي تلك الاستثناءات شروطًا واضحة تبرر ضرورتها.
كذلك لا بد من إطار تنظيمي يضمن حماية البيانات الشخصية التي يقدمها المواطنون للحصول على الخدمات الحكومية من خلال وسائل التكنولوجيا الرقمية المختلفة. وينبغي ضمان سرية معاملاتهم الحكومية الرقمية، وعدم تعرضها إلى أخطار الاختراق والوصول غير المشروع من طرف ثالث، أو الاستغلال لأي غرض غير قانوني. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يضمن هذا الإطار القانوني مبدأ تحجيم البيانات، بحيث لا يُطلب من الأفراد تقديم بيانات شخصية تفوق ما هو ضروري لإنجاز المعاملات الحكومية وتحقيق الهدف منها.
الحق في الوصول إلى المعلومات
تتمثل الخطوة الضرورية الأولى لضمان أداء الحكومة الإلكترونية دورها في توفير الحق في الوصول إلى المعلومات، في تنفيذ الالتزام الدستوري بإصدار القانون المنظم لهذا الحق، إلى جانب إنشاء المفوضية المنوط بها مراقبة التزام الدولة بتمكين المواطنين من التمتع به. ينبغي أن يلزم القانون الجهات الحكومية بإتاحة معلوماتها، غير المشمولة بالسرية، لتمكين المواطنين من الاطلاع عليها واستخدامها من خلال الوسائل الرقمية، خاصة عبر مواقعها الرسمية على الإنترنت.
كما يجب أن يتضمن القانون اشتراطات واضحة تضمن وصولًا سهلًا وفعالًا إلى المعلومات الحكومية، بما يشمل معايير تتعلّق بتصميم واجهات الاستخدام، وطرق عرض البيانات، وصيغ الملفات التي تُتاح من خلالها للتنزيل. ويشمل ذلك أيضًا تنظيم آليات طلب المعلومات، وإجراءات الاستجابة لها، والأطر الزمنية المحددة لذلك، فضلًا عن تنظيم سبل التظلم في حال رفض الطلب، وتحديد إجراءات اللجوء إلى المفوضية المختصة عند الحاجة.
تجاوز الفجوة في الوصول إلى الخدمات الحكومية
يمكن للتوسع في إنشاء مراكز خدمية للحكومة الإلكترونية أن يساعد في تجاوز الفجوة في الوصول إلى الخدمات الحكومية التي تعاني منها الفئات الأكثر فقرًا. استهداف المناطق الأكثر فقرًا والمناطق الريفية والنائية بإنشاء هذه المراكز يمكنه أن يرفع من أثرها بقدر كبير.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن توفير مراكز خدمية متنقلة مما يتيح تغطية أوسع بتكلفة أقل. ويعتمد تحقيق هذه المراكز الخدمية للهدف المرجو من إنشائها على توفير كوادر مدربة على تقديم الدعم لمستخدمي الخدمات من الفئات الأقل حظًا من التعليم، خاصة من لا يجيدون القراءة والكتابة.
كما يتحقق سد الفجوة الإضافية الناشئة عن التمييز ضد النساء، خاصة من الفئات الأكثر فقرًا، عن طريق توفير الخدمات الحكومية لمن يحتجنها في منازلهن، من خلال برنامج لمندوبات يمكنهن زيارة طالبات الخدمة، ومساعدتهن على الحصول عليها عبر الوسائل الرقمية المختلفة.
يتطلب تحقيق أي من هذه الحلول وغيرها للغرض منه إعلام المستهدفين بها بوجودها، وبطرق الوصول إليها. يمكن تحقيق ذلك من خلال الإعلان عنها عن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية، وكذلك عبر منصات التواصل الاجتماعي.
خاتمة
مصر كبلد تخطى عدد سكانه المئة مليون نسمة، وتبلغ مساحته حوالي مليون كيلومتر مربع، تعتمد كفاءة مؤسساتها الحكومية في الحاضر والمستقبل، على درجة تمكنها من استغلال التكنولوجيا الرقمية لتطوير عمل هذه المؤسسات. وعلى الرغم من الاعتراف بالجهود المبذولة خلال العقد الأخير في هذا المجال، فإن كثيرًا من النواقص الهامة ما زالت تنتظر معالجتها لتصحيح مسار تطور الحكومة الإلكترونية في مصر.
وقد سعت هذه الورقة إلى تقديم صورة لواقع الحكومة الإلكترونية في مصر. وتناولت في قسمها الأول تعريفًا لمفهوم الحكومة الإلكترونية، وأدوارها، ومتطلباتها التنظيمية، والتكنولوجية، والحقوقية، وكذلك متطلبات قيامها بدور فعال في سد فجوات العدالة، في الوصول إلى الخدمات الحكومية.
وفي القسم الثاني منها، قدمت الورقة تقييمًا لتطور الحكومة الإلكترونية في مصر، بناءً على تحقيق المتطلبات المطروحة في القسم الأول. وأخيرًا طرحت في قسمها الثالث مجموعة من التوصيات والمقترحات، التي يمكن أن تساعد على تحقيق المتطلبات المختلفة لحكومة إلكترونية فعالة ومراعية للحقوق في السياق المصري.