ضغوط رقمية: تحديات تؤثر على الصحة النفسية للنساء في العالم الافتراضي

مقدمة

لم يعد العيش في عالم رقمي خيارًا يمكن تجنبه بسهولة. اليوم، يبدو مجرد التفكير في الانعزال عن العالم الرقمي أمرًاً غريبًاً لأغلبنا. ففي نهاية المطاف، ينظر أغلب الناس إلى التكنولوجيا الرقمية كنعمة كبيرة تميز عالمنا عما كان عليه قبل عدة عقود.

يعجز الكثيرون عن تصور حياتهم دون هواتفهم الذكية، أو خبراتهم اليومية دون تطبيقات التواصل الاجتماعي والمراسلة اللحظية. ومع ذلك، يرى البعض أن حياتهم قد تكون أفضل لو أمكنهم الابتعاد قليلًا عن هذا العالم الرقمي.

بالنسبة لبعض النساء تحديدًا، يمثل الاضطرار للتواجد في العالم الافتراضي عبئًا يؤثر سلبًا على صحتهن النفسية. إذ يمكن أن يسبب لهن القلق المزمن، ويصل في بعض الحالات إلى اضطرابات أكثر حدة قد تشمل الميول الانتحارية.

تصاعد الاهتمام خلال السنوات الأخيرة بالآثار المختلفة لخبرات العيش في العالم الرقمي على الصحة النفسية، والاختلافات الكبيرة لهذه الخبرات على أساس جندري. بدأ الاهتمام يتجه بصفة خاصة إلى خصوصية آثار تجارب النساء في العالم الرقمي على صحتهن النفسية. 

أثبتت عديد من الدراسات اختلافات واضحة بين النساء والرجال من حيث الأثر النفسي لخبراتهن في الفضاء السيبراني. هذه الاختلافات تشمل أنواع الاضطرابات النفسية التي يمكن أن تتعرض لها النساء، ومعدلات تعرضهن للاضطرابات النفسية التي يمكن للرجال أن يعانوا منها بدورهم.

تناقش هذه الورقة آثار خبرات النساء في العالم الرقمي على صحتهن النفسية. تقدم الورقة مسحًا مختصرًا لأهم الضغوط الجندرية التي تتعرض لها النساء في العالم الرقمي وأثر تلك الضغوط على صحتهن النفسية.

كما تناقش سبل مواجهة الضغوط الجندرية المؤثرة في الصحة النفسية؛ وتشمل السياسات العامة التي ينبغي أن تضعها كل من الدول وشركات التكنولوجيا، وكذلك الإجراءات والممارسات الفردية التي يمكن استخدامها لتجنب التعرض للضغوط المختلفة أو للتعامل معها.


الضغوط الجندرية في العالم الرقمي

تتعرض الورقة في هذا القسم لعدد من الضغوط ذات الطابع الجندي التي تتعرض لها النساء. تركز الورقة اهتمامها على الآثار النفسية لهذه الضغوط وكيف تنعكس في الإحصائيات ذات الصلة بالصحة النفسية للنساء.

التنمر السيبراني والتحرش

تعرض النساء لمعدل غير متساو مع الرجال من التنمر السيبراني والتحرش على شبكة الإنترنت هو ظاهرة ملحوظة منذ وقت طويل. رصدت ذلك التقارير الصحفية وأوضحت أن ثمة صور متعددة للتعديات التي يمكن للنساء أن يتعرضن لها على الإنترنت. يشمل ذلك السباب والشتائم، والتعقب المستمر والتعيير بالإضافة إلى التهديدات الجنسية والتهديدات بالقتل.

النساء أكثر عرضة من الرجال لصور معينة من التعديات. فأظهرت بعض الدراسات أن 16% من النساء أكدن تعرضن للتحرش الجنسي في مقابل 5% من الرجال. كما ذكر 13% من النساء أنهن قد تعرض للتعقب مقابل 9% من الرجال. 

أبرزت دراسات أخرى أن الشابات هن بصفة خاصة أكثر عرضة للتحرش الجنسي. فقد قالت 33% من الشابات تحت 35 عامًا أنهن قد تعرضن للتحرش الجنسي على الإنترنت في مقابل 11% من الرجال تحت 35 عامًا.

تختلف أيضًا معدلات تعرض النساء لصور التعدي المختلفة على الإنترنت مما هي عليه في العالم الواقع. على سبيل المثال، تشير بعض الدراسات إلى أن النساء أكثر عرضة للتنمر على الإنترنت مما هن في الواقع خارجها.

رصدت الدراسات عديدًا من الآثار النفسية الناجمة عن التعرض للتنمر أو التحرش من خلال الإنترنت، وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. من بين هذه الآثار:

  • المستويات المرتفعة لكل من القلق المرضي والضغط النفسي
  • ارتفاع معدل التعرض للاكتئاب
  • تدني تقدير الذات
  • الانسحاب الاجتماعي
  • مشاكل التركيز
  • إيذاء الذات والأفكار الانتحارية.

تتفق دراسات أخرى في تأكيد أن التعرض للتحرش الجنسي على الإنترنت قد تم ربطه بنتائج بالغة الخطورة على الصحة النفسية؛ ومنها الاكتئاب والقلق المرضي، الميل للإدمان على المخدرات، والأفكار الانتحارية.

مشاكل صورة الجسد ومعايير الجمال غير الواقعية

تمثل صورة الجسد مكونًا بالغ الأهمية من التكوين النفسي للأفراد. ونظرًا لتراكم تاريخي طويل، تزداد أهمية ومركزية صورة الجسد بالنسبة للتكوين النفسي للإناث مقارنة بها بالنسبة للذكور. تحولت دراسة صورة الجسد إلى مجال بحثي قائم بذاته تصدر اليوم دوريات علمية متخصصة فيه. يمكن تعريف صورة الجسد بأنها “تشمل ما يرتبط بجسد الشخص من إدراك ذاتي وسلوكيات موجهة للذات بما في ذلك الأفكار والاعتقادات والمشاعر والسلوكيات.”

تتجه مواقع التواصل الاجتماعي بشكل متزايد نحو تغليب المحتوى البصري (الصور والفيديوهات) على كل من المحتوى النصي والمسموع فقط. ويقبل ملايين النساء بصفة يومية على نشر صور ومقاطع فيديو لهن في حين يتعرضن لمشاهدة ما تنشره الأخريات من هذه الصور ومقاطع الفيديو.

في الغالبية العظمى من المحتوى البصري المنشور ثمة سعي حثيث نحو تحقيق الصورة المثالية والمعايير السائدة للجمال. يأتي في مقدمة هذه المعايير: النحافة واللون الفاتح للبشرة ونعومة الشعر، إضافة إلى مواصفات جسدية أخرى. أكد عديد من الدراسات على الأثر السلبي لاستخدام النساء لمواقع التواصل الاجتماعي وتعرضهن للمحتوى المنشور عليها على صورة الجسد لديهن.

أثبتت الدراسات المجراة خلال العقد الأخير أن النساء يشعرن بشكل أسوأ تجاه أجسادهن بعد التعرض لأنواع مختلفة من المقاييس المثالية للجمال على مواقع التواصل الاجتماعي. تعرض تلك المواقع محتوى يركز طيلة الوقت على الأجساد الجذابة، النحيفة، والرياضية.

كذلك أظهرت الدراسات أن الفتيات في سن المراهقة أكثر عرضة لمواجهة صعوبات تتعلق بصحتهن النفسية مقارنة بالذكور في نفس المرحلة العمرية. كما عبر عدد من المراهقات في مسح أن صورة الجسد لديهن كانت مصدر قلق شديد، وتحدثن عن المقارنات التي يعقدنها عند مشاهدة الصور على مواقع التواصل الاجتماعي. كذلك كانت مقارنة المظهر سببًا في مفاقمة قلق المراهقات تجاه مظهرهن ووراء سعيهن إلى تغيير مظهرهن سعيًا لنيل الرضا والاستحسان من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.

يسعى غالبية مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي إلى تقديم أنفسهم من خلال منشوراتهم بأفضل صورة ممكنة. هذه الصورة عادة ما تكون غير واقعية، ولكنها أيضًا تعكس الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين طبقات وفئات المجتمع الواحد، وكذلك الاختلافات في أنماط الحياة بين المجتمعات المختلفة.

يقود التعرض المستمر للمحتوى المقدم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن يضع مستخدموها أنفسهم موضع مقارنة بالآخرين، سواء كان ذلك بشكل واع أو غير واع. يؤدي ذلك بنسبة أعلى بين الفتيات والنساء إلى عدم رضا عن النفس. كما أنه يتطور في أحيان كثيرة إلى متاعب نفسية؛ منها الاكتئاب والانعزال واللجوء إلى ممارسات قاسية بهدف تعديل المواصفات الجسدية. تلجأ بعض الفتيات والنساء إلى التجويع المتعمد لمحاولة إنقاص الوزن والذي قد يؤدي إلى مخاطر صحية بدنية كبيرة، خاصة في حال الفتيات في سن المراهقة.

المطاردة والتهديدات

أنتجت تطبيقات التكنولوجيا الرقمية نوعًا جديدًا خاصًا بها من العنف الجندري. تضاعفت مخاطر هذا العنف مع التطور الكبير لتطبيقات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الأعوام الأخيرة. يُعرف العنف الجندري الذي تسهله التكنولوجيا بأنه “أي فعل يرتكب أو يُدعم أو يُفاقم أو يضاعف أثره باستخدم تكنولوجيات الاتصالات والمعلومات أو أية أدوات رقمية أخرى. ينتج عن هذا العنف، أو من المرجح أن ينتج عنه، أذى بدني، أو جنسي، أو نفسي، أو اجتماعي، أو سياسي، أو اقتصادي أو أي انتهاك للحقوق والحريات. وهي صور من العنف الموجه نحو النساء لأنهن نساء و/أو تؤثر في النساء بشكل خاص.”

من بين الصور الأكثر خطورة للعنف الجندري الذي يستخدم وسائل التكنولوجيا الرقمية ما أصبح يسمى بالمطاردة السيبرانية. تأخذ المطاردة السيبرانية صورًا عدة منها:

  • إرسال تهديدات مباشرة من خلال البريد الإلكتروني أو سبل المراسلة الإلكترونية الأخرى
  • تشجيع الآخرين على تهديد الضحية والتحرش بها
  • توزيع صور حميمية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو المواقع الإباحية
  • انتحال شخصية الضحية على الإنترنت
  • السعي إلى جمع المعلومات والبيانات الشخصية للضحية.

تعود خطورة المطاردة السيبرانية إلى أن مرتكبيها في كثير من الحالات يجمعون بين وسائل المطاردة على الإنترنت وكذلك في العالم الواقعي. وقد أوضحت عديد من الدراسات أن المطاردة السيبرانية من المعتاد أن تبدأ بالتهديدات وتنتهي بالتعدي البدني.

تعاني النساء اللاتي يتعرضن للعنف من خلال تواجدهن على الإنترنت واستخدامهن لمواقع التواصل الاجتماعي من معدلات مرتفعة من الخوف الدائم والقلق المرضي. يؤدي التعرض للمطاردة على الإنترنت، وخاصة في حال تحوله أو إمكان تحوله إلى مطاردة في العالم الواقعي، إلى استشعار الضحية للخوف على سلامتها وحياتها.

مثل هذا الخوف المستمر يؤدي إلى آثار نفسية مدمرة وبالغة الخطورة. يمكن أن تتفاقم هذه الآثار في صورة أفكار إنتحارية قد تعمد الضحايا أحيانًا إلى تنفيذها فعليًا. بصفة عامة، تتراجع الصحة النفسية لضحايا المطاردة السيبرانية بمعدل كبير. وتعاني الضحايا بصفة خاصة من معدلات مرتفعة من القلق المرضي، والاستعادة المستمرة لخبراتهن مع المطاردة، والغثيان المستمر. أوضحت دراسات أن المتعرضات للمطاردة يعانين من أعراض نفسية بحدة أكبر من ضحايا التحرش قصير الأمد، وقد عانت واحدة من بين كل خمسة منهن من أعراض ما بعد الصدمة.

تمثل أغلب صور المطاردة والتهديدات التي تتعرض لها النساء من خلال الإنترنت انتهاكات بالغة الخطورة لخصوصيتهن. يؤدي الشعور المستمر لدى النساء بأنهن عرضة لانتهاك خصوصيتهن إلى ضغوط نفسية هائلة. يعود ذلك لأن انتهاك الخصوصية يستتبعه عادة عواقب بالغة الخطورة بالنسبة للنساء.

قد تصل تلك العواقب في أحيان كثيرة إلى تهديد السلامة البدنية والحياة نفسها، إضافة إلى تهديدات اجتماعية واقتصادية متفاوتة في حدتها. في هذا السياق، تعاني كثير من النساء من قلق مستمر من التعرض لانتهاك الخصوصية يؤدي أحيانًا إلى متاعب نفسية، في مقدمتها القلق المرضي والاكتئاب.

العزلة والشعور بالوحدة

يفتح الفضاء السيبراني أمام مرتاديه عالمًا افتراضيًا يختلف في أغلب ملامحه عن العالم الواقعي. في حين أن تلك قد تكون ميزة تساعد الكثيرين على توسعة إمكانيات تواصلهم مع الآخرين وتنمية مهاراتهم الاجتماعية إلا أنها في حالات كثيرة قد تؤدي إلى العكس من ذلك.

في أحيان كثيرة قد يجد مستخدمو الإنترنت في العالم الافتراضي ملجأً يفرون إليه من صعوبات الحياة في العالم الواقعي. كما أن بعضهم قد يجد في الأنشطة المتاحة من خلال الإنترنت إمكانيات أوسع لإمضاء الوقت في عزلة عن غيرهم. أظهرت الدراسات أن توجهات مرتادي الإنترنت ذات الصلة بالعزلة والشعور بالوحدة تختلف بشكل واضح بين الذكور والإناث.

يعتبر العديد من متخصصي وباحثي الصحة النفسية الإدمان على استخدام الإنترنت كأحد الاضطرابات النفسية، برغم من أنه لم يتم حتى اليوم الاعتراف به بصفة رسمية. يميز المتخصصون الإدمان على استخدام الإنترنت بأنه الاستخدام الإشكالي والقسري للإنترنت وخاصة لمواقع التواصل الاجتماعي والذي يعيق ممارسة الشخص لحياته اليومية الاعتيادية لفترات طويلة.

يؤدي الإدمان على استخدام الإنترنت إلى صور مختلفة من الانسحاب من الواقع اليومي المعاش والذي قد يصل إلى إعاقة أقامة الفرد لعلاقات اجتماعية صحية مع أفراد الأسرة أو زملاء العمل أو غيرهم. قد يؤدي هذا الانسحاب إلى الانعزالية والخوف من التعامل اليومي مع الآخرين مما يدمر الحياة الاجتماعية للشخص. تصبح النساء المدمنات على استخدام الإنترنت بصفة خاصة أكثر عرضة للإصابة بالإكتئاب.

التحرش والتمييز بأماكن العمل

تتلاشى الحدود الفاصلة بين العالم الافتراضي للفضاء السيبراني وبين العالم الواقعي بشكل متزايد. فالتغلغل المستمر للتكنولوجيا الرقمية في مختلف الأنشطة اليومية للبشر يؤدي إلى أن يعتمد التواصل اليومي بين الأفراد على الوسائل الرقمية، بما في ذلك في سياقات العلاقات الاجتماعية الأسرية وعلاقات العمل.

كذلك تسمح مواقع التواصل الاجتماعي للحياة الشخصية للأفراد بأن تكون أكثر علانية وتؤدي في حالات كثيرة إلى التداخل بين الجوانب المختلفة لحياتهم الاجتماعية. يتسبب ذلك في القضاء على الحدود المعتادة بين الحياة الشخصية والأسرية من جانب، والحياة في أماكن العمل من جانب آخر. يؤدي ذلك إلى إمكانية التعرض لكثير من المشاكل خاصة بالنسبة للنساء اللاتي يعانين من خبرات سلبية في أماكن عملهن نتيجة للتمييز السائد اجتماعيًا.

سبقت الإشارة إلى أن في عديد من حالات المطاردة التي تبدأ في العالم الافتراضي يلجأ الجناة إلى استخدام وسائل بالعالم الواقعي للاستمرار في تعقب ضحاياهم. هذا الوضع أكثر شيوعًا في حالات المطاردة والتحرش التي يرتكبها زملاء أو معارف من خلال أماكن العمل. 

قد تمتد مشاحنات ومشاكل أماكن العمل إلى الفضاء السيبراني. كما يمكن أن يلجأ البعض إلى استغلال مواقع التواصل الاجتماعي لشن حملات شخصية لتشويه السمعة وللتحرش وغيره كوسائل لتصفية خلافات أو مشاكل نشأت في أماكن العمل. بصفة خاصة، تتعرض النساء العاملات في ظروف التنافس على الترقيات وفرص التدريب وتطوير المهارات لاستخدام آليات التحرش الجنسي والمطاردة، كونهن أكثر عرضة للتضرر منها.


مواجهة الضغوط النفسية في العالم الرقمي

السياسات العامة وممارسات شركات التكنولوجيا

تتحمل الدول تجاه مواطنيها وشركات التكنولوجيا تجاه مستخدمي تطبيقاتها وخدماتها مسؤوليات أساسية تتعلق بحمايتهم من التعرض لمخاطر التعديات الإجرامية. إلى جانب ذلك، تتحمل شركات التكنولوجيا مسؤولية تضرر مستخدميها بأي شكل نتيجة لطريقة إدارتها لتطبيقاتها وخدماتها.

ينبغي على الدول وشركات التكنولوجيا أن يأخذوا في اعتبارهم البعد الجندري وأثره الكبير على اختلاف صور ومعدلات المخاطر التي تتعرض لها الفتيات والنساء واختلاف آثارها عما هو عليه الحال مع الرجال. إدخال الحساسية الجندرية كمبدأ حاكم على الاستراتيجيات التشريعية للدول وعلى آليات صنع السياسات للشركات أصبح ضرورة لا ينبغي إغفالها.

لا تعد الحساسية الجندرية أداة لتحقيق العدالة والمساواة فقط وإنما شرطًا لفعالية التشريعات والسياسات ولضمان تحقيقها لأهدافها. يتناول هذا القسم بعضًا من أهم الآليات التي ينبغي للدول وشركات التكنولوجيا استخدامها للحد من المخاطر والتهديدات التي تتعرض لها الفتيات والنساء في العالم الرقمي.

تمديد قوانين مكافحة التحرش والعنف ضد النساء إلى الفضاء السيبراني

لدى أغلب الدول اليوم تشريعات مختلفة تواجه ظواهر التحرش الجنسي والعنف الجندري ضد النساء في الواقع الفعلي. تُستخدم هذه التشريعات في أحيان كثيرة لمواجهة الظواهر نفسها على الإنترنت، ولكنها في أحيان أخرى لا تصلح للتطبيق على عديد من الحالات. كذلك قد يفشل تطبيقها في تحقيق الغرض منه في حالات أخرى.

يعود القصور في تطبيق التشريعات القائمة عادة إلى عدم أخذ الشروط والخصائص المميزة للعالم الرقمي في الاعتبار في فلسفة هذه التشريعات وفي نصوصها وآليات تنفيذها. يتطلب تدارك هذا القصور أخذ الطبيعة المتجاوزة للعالم الرقمي للحدود التقليدية بين الدول بعين الاعتبار.

ينبغي أن تنظر الدول في عقد اتفاقيات أو بروتوكولات ثنائية وجماعية تسمح بتعقب وملاحقة مرتكبي الجرائم الأكثر خطورة، بغض النظر عن إقامتهم في دول مختلفة عن تلك التي يقيم فيها ضحاياهم.

ينبغي أيضًا أن تأخذ التشريعات المتعلقة بمكافحة التحرش والعنف ضد النساء جوانب الصحة النفسية للضحايا في الاعتبار. يشمل ذلك أن تنص هذه التشريعات على أن تضمن إجراءات إنفاذها مراعاة العواقب النفسية التي يمكن أن تعاني منها ضحايا هذه الجرائم والتي قد تعيق أو تؤثر على تفاعلهن مع هذه الإجراءات. 

كذلك ينبغي ضمان ألا تؤدي هذه الإجراءات في حد ذاتها إلى مفاقمة العواقب النفسية للتعرض للجريمة أو أن تؤدي إلى عواقب نفسية إضافية. ويمكن في حالات بعينها أن تنص التشريعات على تقديم مساعدة نفسية متخصصة للضحايا خلال المراحل المختلفة لإجراءات إنفاذها.

مواجهة التنمر والتحرش من خلال سياسات إدارة المحتوى

يمكن لشركات التكنولوجيا المالكة للتطبيقات والمواقع الإلكترونية المختلفة أن تسهم بقدر كبير في الحد من تعرض النساء للتنمر السيبراني والتحرش الجنسي من خلال تطبيقاتها ومواقعها. تعد سياسات إدارة المحتوى التي تضعها هذه الشركات أداة رئيسية لتحقيق هذا الهدف. 

ينبغي أن تشمل هذه السياسات إجراءات وقائية وإجراءات للتعامل مع التعديات أثناء وبعد وقوعها. تبدأ الإجراءات التي ينبغي اتباعها بإتاحة إعدادات خاصة تتيح لكل مستخدمة أن تتحكم في مستويات أمن وخصوصية حسابها وبياناتها وأنشطتها. 

كذلك ينبغي أن تتيح سياسات إدارة المحتوى أدوات اكتشاف ممارسات التنمر والتحرش وإمكانية وقفها وحذف المحتوى الذي يمثل تعديًا إجراميًا. كما يجب أن تتيح هذه السياسات للمستخدمات أدوات الإبلاغ عن تعرضهن للتنمر أو التحرش وغيرها من صور العنف الجندري. بالإضافة إلى ذلك، من اللازم وجود إجراءات فعالة لمواجهة هذه الاعتداءات وإمكانية تصعيدها للسلطات المعنية إن كانت تمثل انتهاكًا للقوانين ذات الصلة.

ينبغي أن تأخذ الشركات في سياساتها وإجراءاتها المختلفة ذات الصلة بمواجهة التنمر والتحرش بعين الاعتبار الآثار النفسية لكل من التعدي نفسه وكذلك الإجراءات الضرورية لمواجهته على الضحية. يشمل ذلك تقديم ضمانات لخصوصية وسرية الإجراءات المتبعة للإبلاغ عن التعديات والتحقق منها والتعامل معها. كما ينبغي أن تتيح هذه الشركات إمكانية الوصول إلى المساعدة المتخصصة للضحايا في حال الحاجة إليها.

توفير مساحات آمنة للنساء

يمكن لشركات التكنولوجيا أن تضع سياسات مختلفة للسعي إلى أن تكون المساحات الافتراضية للتواصل والتفاعل الاجتماعي التي توفرها آمنة للفتيات والنساء. الاشتراطات العامة للسلوك وآليات نشر المحتوى وإمكانية التحكم في مستويات التواصل وغيرها يمكن أن تسهم في جعل مساحات التواصل الاجتماعي آمنة أكثر. بالإضافة إلى ذلك، يمكن توفير مساحات ذات اشتراطات خاصة وإتاحة مساحات يشارك مستخدموها بأنفسهم في وضع اشتراطات للسلوك والتفاعل فيها.

من بين السياسات التي تجعل مساحات التواصل الاجتماعي آمنة أكثر السماح بالمجهولية، بمعنى أن يكون كشف الهوية الحقيقية للمستخدم اختياريًا. يمكن في حالات كثيرة أن توفر المجهولية قدرًا أكبر من الشعور بالأمان وحماية الخصوصية للنساء، خاصة في مواجهة العواقب السلبية للتداخل بين حياتهن في العالم الافتراضي والعالم الواقعي.

توفير الدعم والمساعدة المتخصصة

في أي سياق تتزايد فيه مخاطر التعرض لمؤثرات ضارة على الصحة النفسية يكون من الواجب والضروري توفير آليات مختلفة لدعم المتضررين المحتملين. هذا الدعم يشمل توفير التوعية اللازمة بالمخاطر ومصادرها وكيفية تجنبها وسبل التعامل معها في حال التعرض لها.

ينبغي أن تعمل شركات التكنولوجيا على توفير هذا النوع من التوعية لمستخدميها خاصة من صغار السن. كما ينبغي أن تتوفر هذه التوعية في صور وصيغ مناسبة للفئات المختلفة وأن تتاح على نطاق واسع لضمان وصولها إلى جميع المستخدمين.

إلى جانب ذلك، ينبغي توفير إرشادات توضح سبل اللجوء إلى المساعدة المتخصصة في حال الحاجة إليها. يمكن لهذه المساعدة أن يوفرها أفراد أو مجموعات من المتخصصين أو مؤسسات متخصصة بشكل تطوعي ودون مقابل.

كما يمكن أيضًا توفير سبل التواصل مع خدمات المساعدة المتخصصة المدفوعة الأجر لمن يرغب في اللجوء إليها. وينبغي في جميع الحالات الحفاظ على سرية وخصوصية سبل اللجوء للمساعدة المتخصصة بحيث يكون آمنًا وخاليًا من أية عواقب سلبية قد تثني من هم في حاجة إليه عن السعي للحصول عليه.


الممارسات الفردية الفضلى

من المهم أن تكتسب وتمارس الفتيات والنساء أنفسهن آليات للتعامل مع خبراتهن في العالم الرقمي لتجعلها آمنة آكثر. يجب ملاحظة أن الحاجة إلى ممارسات فردية فضلى لا تنتقص مبدئيًا من المسؤوليات المؤسسية أو الجماعية، ولا تعد بأي حال بديلًا عن أدوار الدول وشركات التكنولوجيا.

لا ينبغي أيضًا أن تتحول الاحتياطات التي يمكن النصح باتخاذها إلى مصدر للضرر النفسي؛ أي لا ينبغي أن يتحول الاهتمام بهذه الاحتياطات إلى مصدر للقلق المرضي أو إلى الهوس بالمخاطر المطلوب تجنبها.

ممارسة عادات الحماية والأمن السيبراني

عادات الحماية والأمن السيبراني ينبغي أن تكون اليوم جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية لجميع الأفراد. المقصود بهذه العادات هو استخدام الآليات والأدوات التي تحمي البيانات الشخصية من مخاطر الوصول غير المشروع وما يمكن أن يستتبعه من إساءة استغلالها بما يسبب أضرارًا مختلفة بالفرد نفسه أو بآخرين.

بعض الاحتياطات الأساسية لا تختلف بين فرد وآخر وينبغي أن تتحول إلى ممارسات اعتيادية دائمة، مثل استخدام تطبيقات مكافحة الفيروسات على الأجهزة المختلفة. كذلك ينبغي على كل مستخدم لمنصات التواصل الاجتماعي أن يسعى إلى فهم الإعدادات التي يتيحها كل موقع لتوفير حماية أكبر للخصوصية وللبيانات الشخصية. وبالنسبة للفتيات والنساء ينبغي ألا يتجاهلن هذه الإعدادات خاصة أنها في وضعها الافتراضي ودون تعديلها لا توفر عادة الحد الأدنى الضروري من الحماية.

بناء شبكات الدعم

المقصود بشبكات الدعم هو مجموعات من الأفراد يتعاونون فيما بينهم لتقديم صورًا مختلفة من الدعم والمساعدة لبعضهم البعض. تتراوح صور الدعم التي يمكن لمثل هذه الشبكات أن تقدمه بين المعلومات وتبادل الخبرات الشخصية والتوعية، أو تقديم مساعدة متخصصة. 

تكمن أهمية هذه الشبكات في أنها مفتوحة أمام الأفراد للانضمام إليها أو الخروج منها طواعية، وأنها تتيح لكل فرد التحكم في قدر انخراطه في مناقشاتها وأنشطتها. يوجد بالفعل العديد من هذه الشبكات على مواقع التواصل الاجتماعي. 

يمكن أن يكون متابعة والانضمام إلى بعضها وسيلة للحصول على المعلومات بطريقة أفضل من مصادر التوعية التقليدية، فهي تعتمد على التواصل المباشر وإمكانية الاطلاع على تجارب شخصية حقيقية كما أنها تسمح بالتحاور والنقاش. 

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للفتيات والنساء أن يلجأن لشبكات الدعم للحصول على مشورة أعضائها بشكل يتوافق مع خبراتهن وما يتعرضن له بصفة خاصة. كما أن شبكات الدعم توفر فرصًا لبناء علاقات شخصية وتتيح مساحة آمنة للتعبير عن النفس. توفر أيضًا شبكات الدعم شعورًا بالانتماء وتساعد على عدم الشعور بالانعزال.

السعي للحصول على مساعدة متخصصة

يجد كثير من الناس وخاصة الفتيات والنساء صعوبات عدة تحول دون لجوئهم إلى المساعدة المتخصصة في الصحة النفسية. في الوقت الحالي أصبحت هناك بدائل عدة يساعد معظمها على تجاوز العوائق الخارجية، سواء المادية أو الاجتماعية.

من ثم، فإن العائق الرئيسي الأكثر تأثيرًا اليوم هو التخوفات الذاتية والتردد. في مواجهة العواقب بالغة الخطورة على الصحة النفسية وما يمكن أن يترتب عليها من تهديد للسلامة والحياة نفسها ينبغي السعي لتجاوز هذا العائق.

في حالات كثيرة لا يكون بإمكان الفتاة أو المرأة تحت الضغوط النفسية أو بعد تعرضها لصدمة أن تدرك مدى الآثار التي تركتها تجربتها عليها. المساعدة المتخصصة تمنح الفتاة أو المرأة فرصة اكتشاف الآثار النفسية التي نتجت عن أي تجربة سلبية وتسمح لها بالتعامل معها وتجاوزها بقدر الإمكان.


خاتمة

تختلف خبرات الفتيات والنساء في العالم الافتراضي بشكل واضح عن خبرات الرجال. كذلك تختلف آثار هذه الخبرات على الصحة النفسية للفتيات والنساء بشكل واضح عنها في حال الرجال. أصبح واضحًا أن الانخراط في الفضاء السيبراني يرفع من معدلات التعرض لمشاكل نفسية عدة لدى الفتيات والنساء. يؤدي ذلك كله إلى حاجة واضحة إلى الحساسية الجندرية في مجال وضع استراتيجيات وسياسات التعامل مع الآثار النفسية للحياة في عالم رقمي.

سعت هذه الورقة إلى تقديم مسح مختصر لآثار العيش في عالم رقمي على الصحة النفسية للفتيات والنساء. قدم القسم الأول من الورقة عددًا من المظاهر الرئيسية للمخاطر والتهديدات التي تتعرض لها الفتيات والنساء في خبراتهن في الفضاء السيبراني. تعرض هذا القسم لكل من التنمر السيبراني والتحرش، مشاكل صورة الجسد ومعايير الجمال غير الواقعية، المطاردة والتهديدات، العزلة والشعور بالوحدة، والتحرش والتمييز بأماكن العمل. 

ناقشت الورقة في القسم الثاني منها إمكانيات وسبل مواجهة الضغوط الجندرية المؤثرة في الصحة النفسية. عرضت الورقة مقترحات تتعلق بكل من السياسات العامة التي ينبغي أن تضعها كل من الدول وشركات التكنولوجيا، وكذلك الإجراءات والممارسات الفردية التي ينبغي أن تسعى الفتيات والنساء لتبنيها لتجنب الآثار الضارة بصحتهن النفسية نتيجة لخبراتهن في الفضاء السيبراني.