اتجاه قضائي جديد: محكمة الجنايات تلغي الإدانة بسبب بطلان الدليل الجنائي الرقمي

مقدمة

أصدرت محكمة جنايات شبين الكوم – الدائرة الأولى (جنايات مستأنف) – في 2025 حكمها في الاستئناف رقم 1561 لسنة 2024، والمتعلق باتهام أحد الأشخاص بجرائم ابتزاز إلكتروني وتهديد عبر تطبيق “واتساب”. وقد قضت المحكمة بقبول الاستئناف شكلًا وموضوعًا، وإلغاء حكم محكمة أول درجة الذي أدان المتهم بالسجن خمس سنوات، والحكم مجددًا ببراءته، مع الأمر بمحو التسجيلات الرقمية محل النزاع، وذلك استنادًا إلى بطلان الدليل الرئيسي في الدعوى.

تكتسب هذه القضية أهمية خاصة لكونها من الأحكام النادرة في القضاء المصري التي تناولت بوضوح مسألة حجية الدليل الرقمي في إطار قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 ولائحته التنفيذية، مع بيان الآثار القانونية المترتبة على عدم الالتزام بالضوابط الفنية والإجرائية المنصوص عليها فيهما.

وتهدف هذه الورقة إلى تقديم تحليلٍ مفصل لحيثيات الحكم من خلال استعراض الحجج القانونية التي اعتمدتها المحكمة لإبطال الدليل الرقمي الذي شكّل أساس إدانة المتهم أمام محكمة أول درجة، واستخلاص المبادئ القضائية المتعلقة ببطلان الأدلة عند الإخلال بالضوابط الفنية والشكلية. كما توضح الورقة الأثر القانوني المترتب على عدم التزام جهات الضبط والتحقيق بالاشتراطات الإجرائية المنصوص عليها في القانون ولائحته التنفيذية.

وقائع الدعوى والإجراءات

ملابسات الواقعة

أسندت النيابة العامة إلى المستأنف (المتهم) أنه بتاريخ 12 أكتوبر 2023، بدائرة مركز أشمون – محافظة المنوفية، قام بتهديد المجني عليه عبر رسائل كتابية أرسلها من خلال تطبيق “واتساب”، تضمنت نسبة أمور مخلة بالشرف إليه، وارتبطت الرسائل بطلب مبالغ مالية (ابتزاز) مقابل عدم نشر صور ومقاطع مصورة ذات طبيعة فاضحة للمجني عليه. كما وجهت النيابة إليه اتهامات أخرى شملت: إفشاء أسرار خاصة بالمجني عليه، والشروع في الحصول على منافع بطريق التهديد، وتعمد إزعاجه ومضايقته بإساءة استعمال أجهزة الاتصالات.

اعتمدت النيابة في إسناد الاتهامات على ما وصفته بالأدلة الرقمية، وتشمل صور الرسائل والمقاطع محل الابتزاز، إلى جانب أقوال الشهود (المجني عليه نفسه)، وتحريات الشرطة، وتقرير فحص فني تقني.

حكم أول درجة

نظرت محكمة الجنايات الابتدائية القضية رقم 7315 لسنة 2024 جنايات أشمون، وأصدرت بتاريخ 7 أكتوبر 2024 حكمًا بإدانة المتهم، ومعاقبته بالسجن خمس سنوات، وإلزامه بالمصاريف الجنائية، مع الأمر بمصادرة الأدوات المضبوطة ومحو التسجيلات محل الابتزاز. استندت المحكمة في قضائها إلى الدليل الفني الرقمي المتمثل في رسائل وصور “واتساب” المنسوبة للمتهم، والمدعومة بتحريات المباحث التي نسبت رقم الهاتف المستخدم في الواقعة إلى المتهم وقت حدوثها. ولم تتطرق حيثيات الحكم إلى الضوابط الإجرائية المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 أو لائحته التنفيذية، بل اعتمدت على الأدلة المقدمة كوحدة واحدة، دون بيان تفصيلي للإجراءات التقنية التي اتبعت في جمع أو استخراج الدليل الرقمي.

استئناف المتهم

طعن المحكوم عليه على الحكم بالاستئناف، محددًا عدة أوجه للدفع والدفاع. وتمحورت أبرز دفوعه أمام محكمة الاستئناف حول بطلان الدليل الرقمي الفني المقدم ضده، لعدم استيفائه الاشتراطات والضوابط الفنية المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات ولائحته التنفيذية. كما دفع بأن المجني عليه قد يكون افتعل الرسائل والمقاطع بنفسه أو بمساعدة آخرين لتلفيق التهمة، مستندًا إلى إفادة رسمية من شركة الاتصالات تفيد بأن رقم الهاتف المنسوب إلى المتهم كان قد أُوقف عن الخدمة بتاريخ 25 يوليو 2023، أي قبل الواقعة، وأن الخدمة نُقلت في التاريخ ذاته إلى شخص آخر، مما ينفي قانونًا وواقعيًا نسبة الرسائل إلى المتهم. هذه الدفوع وضعت المحكمة الاستئنافية أمام تساؤل جوهري حول سلامة الأدلة الرقمية المقدمة، ومدى صحة إجراءات جمعها وفحصها وتحليلها.

حجج الدفاع ببطلان الدليل الرقمي ورد المحكمة

ركّز دفاع المتهم على أن الدليل الإلكتروني الرئيسي في القضية – المتمثل في رسائل “واتساب” والصور محل الاتهام – يعتريه عيبان جوهريان:

  • عيب إجرائي/فني: يتمثل في عدم الالتزام بالضوابط الفنية المنصوص عليها قانونًا في جمع وفحص هذا الدليل.
  • عيب موضوعي/متعلق بالموثوقية: يتمثل في وجود شك كبير حول نسبته إلى المتهم من الأساس.

أولًا: عدم الالتزام بالضوابط والشروط الفنية في جمع الدليل

أبرز الدفاع أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات ولائحته التنفيذية وضعا إطارًا صارمًا للتعامل مع الأدلة الرقمية، من شروط وإجراءات يجب استيفاؤها حتى تكتسب حجية وقيمة الأدلة المادية في الإثبات الجنائي. وأوضح أن الجهات التي قامت بجمع وفحص الدليل – الشرطة وخبير الأدلة الجنائية التقنية – أهملت هذه الضوابط تمامًا، فلم توثّق خطوات الجمع، ولم تحفظ نسخًا أصلية أو مطابقة، ولم تستخدم أدوات معتمدة لمنع التلاعب بالبيانات. وبناءً عليه، طالب الدفاع باستبعاد التقرير الفني للضابط المختص لكونه مشوبًا بالبطلان.

ثانيًا: انقطاع صلة المتهم بالوسيلة الرقمية المستخدمة

وفق أوراق القضية، فإن رقم الهاتف الجوال الذي أُرسلت منه رسائل التهديد كان مسجلًا باسم المتهم سابقًا، إلا أن إفادة رسمية من شركة الاتصالات (فودافون) أوضحت أن هذا الرقم تم تعطيل خدمته باسم المتهم بتاريخ 25 يوليو 2023 – أي قبل الواقعة – وفي التاريخ ذاته نُقلت الخدمة إلى شخص آخر. وبذلك، فإنه بحلول 12 أكتوبر 2023، تاريخ الواقعة، لم يكن المتهم هو المستخدم الفعلي للخط الذي ارتُكب عبره التهديد. ويعني ذلك تقنيًا أنه حتى لو صدرت رسائل التهديد من هذا الرقم، فلا يمكن نسبتها قانونيًا أو واقعيًا للمتهم، لأن الخط كان مملوكًا ومستخدمًا من شخص آخر وقتها. وأكد الدفاع هذه النقطة مستغربًا تجاهل محكمة أول درجة لهذا الدليل الرسمي القاطع، كما دعم موقفه بشهادة شقيق المجني عليه الذي أشار إلى احتمال قيام المجني عليه بتدبير تلفيق الرسائل بالاستعانة بصاحب الخط الجديد نتيجة خلافات شخصية.

رد المحكمة

أمام هذه الدفوع، قامت محكمة الاستئناف بمراجعة الأدلة والإجراءات، واستدعت الضابط التقني (خبير الأدلة الإلكترونية) لمناقشته. وفي حيثيات حكمها، تبنّت المحكمة منطق الدفاع فيما يخص ضرورة احترام الضوابط القانونية للأدلة الرقمية. وأكدت في مستهل تحليلها:

“وإن كانت النيابة العامة ومحكمة أول درجة أغفلتا الإشارة إلى قانون 175 لسنة 2018 ولائحته، فإن مواد ذلك القانون لا يمكن تجاهلها لأنها تُرسِي ضوابط عامة حاكمة لمفهوم الدليل الرقمي وحجيته”.

ثم استعرضت المحكمة نص المادة الأولى من القانون (الواردة في باب الأحكام العامة) التي تعرّف بعض المصطلحات الجوهرية مثل: مستخدم الخدمة، ومقدم الخدمة، والدليل الرقمي. وأوضحت أن هذه التعريفات تؤسس الإطار العام لفهم بقية الضوابط؛ فمثلًا، مستخدم الخدمة هو كل شخص طبيعي أو اعتباري يستعمل خدمات تقنية المعلومات بأي صورة، ومقدم الخدمة – كشركة الاتصالات – ملتزم بحفظ بيانات المستخدمين واتصالاتهم لمدة محددة.

اشتراطات اللائحة التنفيذية وتطبيق المحكمة عليها

انتقلت المحكمة بعد ذلك إلى جوهر الاشتراطات الفنية المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. واستعرضت نص المادة 9 من اللائحة التي تقرر أن الأدلة الرقمية تُعامل من حيث القيمة والحجية معاملة الأدلة الجنائية المادية، متى توافرت فيها شروط وضوابط محددة. وقد اقتبست المحكمة بندين صريحين من تلك الضوابط ضمن حكمها:

  • في حالة تعذر فحص نسخة الدليل الرقمي وعدم إمكانية التحفظ على الأجهزة محل الفحص لأي سبب، يتم فحص الأصل ويُثبت ذلك كله في محضر الضبط أو تقرير الفحص والتحليل.
  • أن يتم توثيق الأدلة الرقمية بمحضر إجراءات من قبل المختص قبل عمليات الفحص والتحليل، وكذلك توثيق مكان ضبطه ومكان حفظه ومكان التعامل معه ومواصفاته.

تحليل المحكمة للنصوص

أوضحت المحكمة أن هذه النصوص تُلزم جهات الضبط والتحقيق باتباع منهجية صارمة في التعامل مع الأدلة الرقمية، تشمل توثيق كل خطوة، والحفاظ على سلسلة الحيازة (Chain of Custody)، وضمان سلامة الدليل من لحظة جمعه حتى عرضه. كما تتطلب الضوابط استخدام وسائل فنية موثوقة – مثل أجهزة التثبيت وكود الهاش الرقمي، لمنع تغيير أو محو البيانات، واستخراج نسخ طبق الأصل من الدليل. وأكدت المحكمة أن أي إخلال بهذه المتطلبات يُضعف من قيمة الدليل الرقمي وينقص من حجيته.

وشددت المحكمة على أن المشرّع قرر قاعدة أصلية مؤداها أن الأدلة الرقمية، كغيرها من الأدلة الجنائية، يجب أن تكون قطعية مبنية على الجزم واليقين، ولا يُعتد بها إذا شابتها احتمالات أو شكوك. فإذا كان الدليل الرقمي يثير الترجيح والاحتمال دون القطع، فلا يجوز تأسيس الإدانة عليه، وأي حكم يُبنى عليه يُعد معيبًا ومستوجبًا للإلغاء.

تطبيق المبدأ على وقائع الدعوى

بتطبيق هذه المبادئ على الواقعة محل الدعوى، تبين للمحكمة أن تقرير الضابط التقني الذي اعتمدت عليه محكمة أول درجة جاء مخالفًا للضوابط:

  • لم يتبع الإجراءات العلمية الواجبة في فحص الدليل الرقمي.
  • لم يقدم تفسيرًا فنيًا واضحًا لكيفية نسبة الرسائل محل الاتهام إلى المتهم، رغم أن رقم الهاتف كان مسجلاً باسم شخص آخر وقت الواقعة.
  • أشار إلى استخدام “برامج سرية” غير معلن عنها، في تعارض مع متطلبات الشفافية والتوثيق.
  • أغفل تثبيت أو استخراج نسخة مطابقة للأصل من رسائل “واتساب” لتحليلها بشكل مستقل.
  • لم يذكر اتخاذ إجراءات لحفظ أصل البيانات من العبث أو توثيق هذه الخطوات في محضر الضبط.

و اعتبرت المحكمة أن هذه الثغرات أفقدت التقرير الفني الأسس العلمية الموثوقة، وأسقطت عنه الحجية.

كما أكدت المحكمة أيضًا أن انقطاع صلة المتهم بالرقم الهاتفي وقت الواقعة يهدم الاستدلال الرئيسي للاتهام. فقد ثبت رسميًا من مقدم الخدمة (شركة الاتصالات) أن المتهم لم يكن مستخدم الخط يوم الجريمة، وبالتالي فإن أي بيانات مستخرجة من مزاعم استخدامه لذلك الرقم تتناقض مع الواقع الموثق. ورأت المحكمة أن محكمة أول درجة قصّرت في بحث هذه النقطة الجوهرية، إذ اكتفت بظاهر الأوراق دون تمحيص، وكان لزامًا عليها التحقق من كيفية توصّل الضابط الفني إلى نسبة استخدام الخط للمتهم رغم تغيير ملكيته، ومواجهة التناقض بين التقرير الفني وإفادة شركة الاتصالات.

الاتجاهات القضائية المستخلصة: متى يبطل الدليل الرقمي؟

يحمل حكم محكمة جنايات شبين الكوم مبادئ قانونية وقضائية مهمة تتعلق بحجية الأدلة الرقمية وبطلانها عند الإخلال بالضوابط. وأبرز هذه المبادئ كما وردت في حيثيات الحكم هي:

1. الأدلة الرقمية كالأدلة المادية: شرطها اليقين والجزم

أكدت المحكمة صراحة أن المشرّع أراد أن يُعامل الدليل الرقمي معاملة الدليل الجنائي المادي من حيث القوة الثبوتية، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان الدليل قطعي الدلالة، يورث اليقين لدى القاضي بنسبة الفعل إلى المتهم دون أدنى شك. وعليه، فإن أي دليل رقمي لا يبلغ هذه الدرجة من القطعية – سواء لخلل في طريقة جمعه أو لعدم اكتمال عناصره الفنية – لا يجوز تأسيس الإدانة عليه.

وإذا رأت المحكمة أن الدليل المتاح يرجح الاتهام ولا يقطعه، وجب الحكم بالبراءة، لأن مرتبة الدليل هنا تهبط إلى مجرد قرينة أو دلالة لا تكفي للإدانة. وبيّنت المحكمة الفرق بين الدليل الذي يخلق اقتناعًا جازمًا في وجدان القاضي، والقرائن التي تحتمل التأويل ولا تكفي وحدها لتكوين عقيدة الحكم.

2. وجوبية الالتزام بالضوابط الفنية والإجرائية المنصوص عليها قانونًا

رسّخ الحكم مبدأً ضمنيًا بأن الاشتراطات الواردة في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات ولائحته التنفيذية ليست مجرد إجراءات شكلية، بل هي قواعد آمرة لضمان موثوقية الأدلة الرقمية. وأكدت المحكمة أن هذه الضوابط ملزمة لجهات الضبط والتحقيق، وأن أي إخلال بها يسقط عن الدليل الرقمي قيمته القانونية. وتشمل أبرز هذه الضوابط:

  • استخدام أدوات وتقنيات تمنع تغيير البيانات (مثل الحفظ الآمن وكود الهاش).
  • ربط الدليل بواقعة محددة وضمن نطاق إذن جهة التحقيق.
  • جمع الدليل وفحصه بواسطة مختصين مع توثيق الأدوات المستخدمة وكود الهاش لضمان مطابقة النسخة للأصل.
  • فحص الأصل إذا تعذر أخذ نسخة.
  • توثيق عملية الضبط والحفظ ومكان التخزين ومواصفات الدليل في محاضر رسمية.

وقد تبنّت المحكمة هذه الشروط الخمسة كمعيار حاكم لسلامة أي دليل رقمي، وبناءً عليه اعتبرت الدليل محل الدعوى باطلاً ومنزوع الحجية لعدم مراعاة الإجراءات الفنية المقررة.

3. سلطة المحكمة في إثارة الضوابط الرقمية من تلقاء نفسها

من الملاحظ أن المحكمة استندت إلى قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات ولائحته التنفيذية رغم عدم ذكر النيابة لهما في أمر الإحالة. ويقرر ذلك ضمنيًا أن القاضي الجنائي يمكنه تطبيق القواعد القانونية الخاصة بالإثبات الرقمي من تلقاء نفسه، متى كانت واجبة التطبيق، ضمانًا للوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة.

وعدّت المحكمة أن هذا القانون يندرج ضمن الإطار القانوني الواجب التطبيق على الدعوى، حتى إذا أغفلته النيابة. وبالتالي فإن أي دفع ببطلان دليل رقمي لعدم استيفاء شروطه القانونية يعد دفعًا جديًا يجب بحثه، حتى ولو لم يُثره الخصوم صراحة، مما يعزز دور القاضي بوصفه حارس الشرعية الإجرائية في قضايا الجرائم الإلكترونية.

الأثر القانوني والعملي لعدم التزام جهات الضبط والتحقيق بالاشتراطات الإجرائية والفنية

يوضح الحكم بشكل جليّ النتائج المترتبة على عدم التزام جهات الضبط والتحقيق بالاشتراطات الإجرائية والفنية المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ويمكن تلخيص هذه النتائج في النقاط الآتية:

1. استبعاد الأدلة الرقمية المعيبة

النتيجة المباشرة لإخلال المحققين بالضوابط هي فقدان قيمة الدليل الرقمي أو بطلانه. فقد أدى عدم التزام الخبير بالمنهج العلمي المقرر – بما في ذلك توثيق الأدوات، وحفظ النسخ، ومراعاة بيانات المستخدم لدى الشركة مقدمة الخدمة – إلى أن المحكمة استبعدت التقرير الفني كليًا، ولم تعوّل عليه في الإدانة.

وبما أن ملف الدعوى خلا من أي دليل قوي آخر، قضت المحكمة ببراءة المتهم تطبيقًا لقاعدة الشك يفسر لصالح المتهم وأصل البراءة. ويظهر ذلك بوضوح كيف أن تقاعس المحقق عن اتباع الإجراءات القانونية يمكن أن يُفرغ القضية من مضمونها الإثباتي مهما بلغت خطورة الاتهام.

2. المساس بحقوق المتهم وضمانات المحاكمة العادلة

أشار الحكم ضمنيًا إلى أن عدم احترام الضوابط لا يعد مجرد خلل شكلي، بل يشكل انتهاكًا لضمانات أساسية، مثل حق الدفاع وأصل البراءة. فعندما لا تقوم الشرطة بتوثيق مسار الدليل الرقمي أو إثبات كيفية الحصول عليه بطريقة نزيهة، فإنها تحرم المتهم من فرصة تفنيد الدليل علميًا والطعن في مصداقيته.

وقد رأت المحكمة أن حكم أول درجة أخلّ بحق الدفاع لهذا السبب تحديدًا، إذ لم يمكّن المتهم من إثبات دفوعه الجوهرية ببطلان الدليل الفني ولم يرد عليها برد مقنع. وبالتالي، فإن إهمال الضوابط يمكن أن يُشكل سببًا للإخلال بحق الدفاع، بما يؤدي إلى بطلان الحكم ذاته.

3. سدّ ثغرة تشريعية عبر الاجتهاد القضائي

تجدر الإشارة إلى أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 لم يحدد بشكل صريح الجزاء الإجرائي المترتب على عدم مراعاة الضوابط، ولم ينص مثلًا على بطلان محدد، وهي من المثالب التي أُخذت على القانون ضمن إشكالياته الإجرائية والموضوعية الأخرى.

غير أن الحكم محل النقاش اجتهد في سدّ هذه الثغرة، فطبّق المبدأ العام ببطلان الأدلة المتحصلة بإجراء باطل أو غير مشروع. وبما أن الضوابط المنصوص عليها تُعد إجراءات إلزامية لضمان سلامة الدليل، فإن إغفالها يجعل الدليل غير مشروع أو على الأقل غير موثوق، مما يستوجب طرحه جانبًا. وقد دعمت المحكمة هذا التوجه بالاستناد إلى مبادئ دستورية، مثل أصل براءة المتهم وشرعية الأدلة.

أثر حكم الجنايات على تطبيق ضوابط الدليل الجنائي الرقمي

تناول الحكم الصادر عن محكمة جنايات شبين الكوم إشكالية جوهرية تتعلق بتطبيق الضوابط الخاصة بالدليل الجنائي الرقمي المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018. فمنذ صدور هذه اللائحة وحتى تاريخ كتابة هذا التعليق، لوحظ أن المحاكم المصرية – على اختلاف درجاتها – تتجاهل بوجه عام تطبيق تلك الضوابط، رغم كونها شروطًا إجرائية أساسية لا يجوز إغفالها.

وإذا كان من الصعب الجزم بالأسباب التي تدفع المحاكم إلى عدم التطبيق التطبيق، فإن المقلق أكثر هو ما استقر في بعض الأحكام من اتجاه قضائي يذهب إلى أبعد من مجرد التجاهل، إذ ترفض المحاكم – ضمناً – دفوع الدفاع ببطلان الإجراءات وعدم صحة إسناد الاتهام بسبب الإخلال بضوابط الوصول إلى الدليل الجنائي الرقمي وجمعه وحفظه.

ورغم تباين الصياغات التي وردت في تلك الأحكام، إلا أنها أجمعت في مضمونها على اعتبار هذه الضوابط غير ملزمة لجهات الضبط والتحقيق، مستندة في ذلك إلى منطق قضائي ورد في عدد من الأحكام على النحو التالي:

لما كان القانون الجنائي لم يجعل لإثبات الجرائم الواردة بقانون تقنية المعلومات طريقًا خاصًا، وكان من المقرر أن العبرة في

“المحاكمة الجنائية هي باقتناع القاضي بناءً على الأدلة المطروحة عليه، ولا يصح مطالبته بالأخذ بدليل معين إلا في الحالات التي قيده القانون فيها بذلك، فقد جعل القانون من سلطته أن يزن قوة الإثبات، وأن يأخذ من أي بينة أو قرينة يرتاح إليها دليلاً لحكمه. ولا يلزم أن تكون الأدلة التي اعتمد عليها الحكم بحيث يبيّن كل دليل منها ويقطع في كل جزئية من جزئيات الدعوى، إذ إن الأدلة في المواد الجنائية متساندة يكمل بعضها بعضًا، ومنها مجتمعة تتكون عقيدة القاضي. فلا يُنظر إلى دليل بعينه لمناقشته على حدة دون باقي الأدلة كوحدة متكاملة مؤدية إلى النتيجة التي قصدها الحكم، بل يكفي أن يكون استخلاص ثبوتها عن طريق الاستنتاج مما تكشّف للمحكمة من الظروف والقرائن وترتيب النتائج على المقدمات.”

حكم محكمة القاهرة الاقتصادية – الدائرة الأولى جنح اقتصادية في الدعوى رقم 447 لسنة 2024 جنح اقتصادية القاهرة

هذا الاتجاه الذي تبنّته المحكمة الاقتصادية بالقاهرة لم يقتصر على محاكم الجنح أو محاكم أول درجة، بل امتد ليصبح نهجًا لدى المحاكم العليا، ومن بينها محكمة النقض المصرية. ففي إحدى القضايا المنظورة أمامها والمتعلقة بضوابط تطبيق الدليل الجنائي الرقمي، والجهة المختصة بجمعه، وكيفية إثبات صحة الوقائع المنسوبة إلى الجريمة، انتهت المحكمة إلى ما يلي:

لما كان ذلك، وكان من المقرر أن تقدير آراء الخبراء والفصل فيما يوجَّه إلى تقاريرهم من اعتراضات مرجعه إلى محكمة

“الموضوع، التي لها كامل الحرية في تقدير القوة التدليلية لتقرير الخبير المقدم إليها، وكانت المحكمة قد اطمأنت إلى ما ورد بتقرير الإدارة العامة لتكنولوجيا المعلومات، فإنه لا يجوز مجادلتها في ذلك. ومن ثم فإن ما يثيره الطاعن بشأن الدليل المستمد من التقرير الفني ينحل إلى جدل موضوعي في تقدير الدليل، وهو ما تستقل به محكمة الموضوع بغير معقب. لما كان ذلك، وكان من المقرر أن للمحكمة أن تعول في تكوين عقيدتها على ما جاء بتحريات الشرطة باعتبارها معززة لما ساقته من أدلة قائمة في الأوراق، ولها أن تجزئها فتأخذ منها ما تطمئن إليه وتطرح ما عداه، وكان الحكم المطعون فيه قد بنى قضاءه على ما اطمأن إليه من أقوال المجني عليه، وما أثبته تقرير الفحص الفني، والمعززة بتحريات الشرطة التي خلصت إلى صحة الواقعة، فإن ما يخوض فيه الطاعن في هذا الصدد لا يكون سديدًا، ولا ينال من ذلك قوله إن التحريات لم تجزم بأنه صاحب البصمة الإلكترونية للخط المستخدم، ذلك أنه لم يدّع أن الخط سُرق منه أو أن أحدًا غيره كان يستخدمه وقت ارتكاب الواقعة. لما كان ذلك، وكان من المقرر أن تقدير الدليل موكول لمحكمة الموضوع، وأنه متى اقتنعت به واطمأنت إليه فلا معقب عليها في ذلك، ولما كانت الأدلة التي أوردها الحكم من شأنها أن تؤدي إلى ما رتّب عليها من ثبوت مقارفة الطاعن للجرائم التي دِين بها، فإن ما يثيره الطاعن في هذا الصدد يتمخّض جدلًا موضوعيًا في تقدير الدليل لا تجوز إثارته أمام محكمة النقض.”

محكمة النقض -الدائرة الجنائية – دائرة الأحد (د) في الطعن رقم 11880 لسنة 92 ق نقض جنائي

من هذا المنطلق، تبرز الأهمية الخاصة للحكم الصادر عن محكمة جنايات شبين الكوم، إذ يمثل اتجاهًا جديدًا في قراءة وتطبيق القواعد الإجرائية المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. وتزداد أهمية الضوابط الإجرائية في هذا السياق بالنظر إلى أن أغلب النصوص العقابية الواردة بالقانون تتسم بعدم الوضوح، ويصعب تمييز الأفعال أو السلوكيات المجرمة بموجبها. وتتعاظم خطورة هذه الجرائم في ظل غياب هذه الضوابط (الضمانات الإجرائية) المتعلقة بالوصول إلى الأدلة وجمعها في قضايا الجرائم الإلكترونية.

خاتمة

يُعد حكم محكمة جنايات شبين الكوم محطة مهمة في مسار الإثبات الجنائي الرقمي في مصر. فقد أظهر هذا الحكم استيعابًا متقدمًا من المحكمة للتشريعات الحديثة، وأبرز بوضوح كيفية تطبيق قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات ولائحته التنفيذية على الأدلة الرقمية. وتنبع أهميته من كونه أحد التطبيقات القضائية النادرة والصريحة التي تناولت مسألة عدم الالتزام بالضوابط الفنية للأدلة الإلكترونية ضمن منطوق الحكم.

ورغم مرور عدة سنوات على صدور القانون، لم تُسجَّل في الساحة القضائية المصرية أحكام كثيرة تتناول بشكل مباشر أثر الإخلال بهذه الضوابط على حجية الدليل الرقمي. وجاء هذا الحكم ليشكل سابقة مفيدة، إذ قضت المحكمة صراحةً ببطلان الدليل الرقمي لعدم استيفائه المعايير الفنية، مؤكدة ضرورة أن تخضع أي أدلة تقنية لفحص صارم على ضوء هذه المعايير قبل الاعتماد عليها في الإدانة.

وبهذا المعنى، أرسى الحكم مبدأ قضائيًا جديدًا، أو على الأقل عزز اتجاهًا ناشئًا، يتمثل في الإعلاء من شأن الدليل الرقمي الملتزم بالمعايير القانونية والفنية، وتهميش أو استبعاد أي دليل يتجاهلها.