غياب النساء عن البرمجيات مفتوحة المصدر: تحدٍ لمبادئ الشمول والانفتاح

مقدمة

أثبتت البرمجيات مفتوحة المصدر خلال العقود الأخيرة قدرة كبيرة على النمو والتطور. تعمل شبكة الإنترنت وغالبية الهواتف الذكية اليوم بالاعتماد على برمجيات مفتوحة. كما أن أغلب شركات التكنولوجيا الكبرى قد تبنت نموذج البرمجيات مفتوحة المصدر بقدر أو بآخر للاستفادة بما يتيحه من فرص أكبر للإبداع والتعامل السريع مع الأخطاء والمشاكل. 

على الرغم من قدر النجاح العملي الذي حققته البرمجيات مفتوحة المصدر إلا أن الأساس الأخلاقي الذي انبنت عليه قد يكون عرضة للاختزال في مجرد شعارات يتضاءل أثرها في الواقع الملموس مع الوقت. لقد نشأت حركة البرمجيات مفتوحة المصدر على مبادئ تعلي من قيمة الحرية أولًا. لتحقيق هذه القيمة تبنى خطاب الحركة مبادئ الانفتاح والشمول والديموقراطية. ولكن عددًا من الظواهر يشكك في مدى التزام مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر بهذه المبادئ في الممارسة اليومية. الظاهرة الأكثر بروزًا وأثرًا هي التدني الشديد لمعدل دمج النساء في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر. استمرت هذه الظاهرة منذ بدايات الحركة وحتى اليوم دون تغيير حقيقي.

تدني تمثيل النساء في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر له عواقب ضارة كبيرة. تتعلق هذه العواقب بفرص مساعي تمكين النساء وتحقيق الإنصاف والمساواة الجندرية من جانب. ولكنها على الجانب الآخر تتعلق أيضًا بمستقبل البرمجيات مفتوحة المصدر ومدى إمكانيات تطورها وفعاليتها في ظل افتقادها للتنوع الجندري. 

تضع كذلك هذه الظاهرة مبادئ الحركة على المحك وتشكك في مصداقيتها، ومن ثم تفقدها قدرًا من جاذبيتها، خاصة بالنسبة للنساء. يخلق هذا موقفًا تتواجه فيه كثير من التحديات وكثير من الفرص أيضًا. فبقدر صعوبة التحديات التي تعيق اندماج النساء في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر، فإن الفرص الكامنة في تخطي هذه العوائق كبيرة ومهمة لمساعي المساواة ولمستقبل البرمجيات مفتوحة المصدر.

تسعى هذه الورقة إلى مناقشة التحديات التي تواجه دمج النساء في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر والفرص التي يمكن أن يتيحها تحقيق هذا الدمج. تعرض الورقة أولًا الواقع الحالي لمشاركة النساء في مجتمع ومشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر من خلال الإحصائيات التي توضح نسب وحجم ومستوى هذه المشاركة. في قسمها الثاني، تتناول الورقة أهم التحديات التي تواجه دمج النساء في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر من خلال ثلاث محاور هي الانحياز الثقافي والتمييز، ومشكلة التوازن بين متطلبات الحياة اليومية للنساء العاملات، والعوائق المتعلقة بمجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر وغياب الأطر التنظيمية فيه.

 تتعرض الورقة في قسمها الثالث للفرص التي يمكن أن تتاح في حال تحقق دمج النساء في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر. وأخيرًا تناقش الورقة مجموعة من مقاربات تحقيق دمج النساء في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر وهي برامج التوجيه والتدريب، وسياسات الشمول لمشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر، ودعم الشبكات المجتمعية.


الواقع الحالي لمشاركة النساء في البرمجيات مفتوحة المصدر

يعترف تقرير أصدره موقع جيت-هاب (GitHub) في عام 2017، بناء على مسح شمل مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر التي يستضيفها الموقع، بأن التفاوت الجندري في هذه المشروعات لا يزال عميقًا. وحسب إحصائيات الموقع كان 95% من المستجيبين للمسح من الرجال، و3% منهم فقط كانوا من النساء، في حين كان 1% من المستجيبين من غير ثنائيي الجندر.

من بين من استطلع الموقع آرائهم قال 68% من النساء أنهن مهتمات كثيرًا بتقديم مشاركات في المستقبل. هذه النسبة قريبة كثيرًا من نسبة الرجال الذين عبروا عن الاهتمام نفسه، والتي بلغت 73%. ولكن في المقابل، كانت نسبة النساء اللائي قلن أن احتمال مشاركتهن الفعلية كبيرة 45%، مقابل 61% للرجال. يعني هذا أنه في حين أن الاهتمام بالمشاركة متقارب للغاية إلا أن الفجوة تتسع عندما يتعلق الأمر بالعمل الفعلي بناء على هذا الاهتمام.

أورد التقرير نفسه مزيدًا من التفاصيل بناء على استجابة المشاركين لأسئلة مختلفة. من النقاط البارزة التي أوردها التقرير أن 25% من النساء قلن أنهن قد صادفن في تفاعلاتهن على الموقع لغة أو محتوى جعلهن لا يشعرن بالترحاب بوجودهن. كما قال 12% منهن أنهن قد صادفن تنميطًا جندريًا، وذلك في مقابل 2% فقط من الرجال.

اعتمدت دراسة أحدث أُجريت في عام 2023 على “عالم الكود World of Code (WoC)”. عالم الكود هي بنية تحتية برمجية لأغراض البحث والتحليل وتجمع قدرًا هائلًا من البيانات عن ملايين من مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر على موقع GitHub. استخدمت الدراسة عينة أولية بناء على اختيار المشروعات الأكثر شعبية على الموقع والممثلة لسبعة عشر لغة برمجة. وقامت الدراسة في مرحلتها الثانية بتحليل حوالي 21 مليون مشاركة commit قام بها 10732 مبرمج عبر أكثر من 81.7 مليون مشروع مستقل.

وجدت الدراسة أنه في مقابل 10,255 مشارك من الرجال شارك 477 فقط من النساء في المشروعات المختارة. في جميع هذه المشروعات (17 مشروع) ما عدا واحد منها كانت نسبة مشاركة النساء 7.5% أو أقل. على مستوى المشاركات التفصيلية كان متوسط عدد المشاركات للرجل هو 23.2 مشاركة، في حين كان المتوسط للمرأة هو 11.85 مشاركة، أي حوالي النصف. 

أكدت الدراسة أن النساء تقمن بمشاركات أقل، سواء في مهام كتابة الكود أو كتابة الملفات المساعدة. وفي المجمل كان ثمة 0.57 مليون مشاركة للنساء عبر جميع مشروعات عالم الكود مقابل حوالي 21 مليون مشاركة للرجال.

كذلك رصدت دراسة أخرى أجريت عام 2016 مجموعة من الظواهر المتعلقة بمشاركة النساء في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر. فقد وجدت الدراسة أن النساء يلتحقن بمجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر في وقت متأخر في مسيرتهم المهنية مقارنة بالرجال. كذلك تقوم النساء بشكل أساسي بمهام أخرى غير كتابة الكود. وينخفض معدل مشاركة النساء إن كان لهن أطفال. وبصفة عامة تختلف أسباب انخراط النساء في مجتمعات تطوير البرمجيات وأسباب استمرارهن فيها عن أسباب الرجال.

واحدة من الملاحظات الأكثر أهمية والتي شارك في تأكيدها أغلب الدراسات التي تناولت الموضوع هي أن مشاركة النساء في البرمجيات مفتوحة المصدر هي أدنى بكثير من مشاركتهم في صناعة البرمجيات التجارية. هذه الظاهرة قد استمرت منذ البدايات الأولى للبرمجيات مفتوحة المصدر وحتى اليوم. في حين شهدت البرمجيات مفتوحة المصدر تزايد في مشاركة شركات التكنولوجيا الكبرى فيها مؤخرًا إلا أن هذا لم يؤثر على نسب مشاركة النساء في مشروعاتها مقارنة بمشاركتهن في البرمجيات التجارية.


عواقب تدني مشاركة النساء في البرمجيات مفتوحة المصدر

هناك جانيان لإشكالية تدني معدل مشاركة النساء في مجتمع ومشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر. الجانب الأول يتعلق بأثر ذلك على مساعي تحقيق المساواة الجندرية وتمكين النساء من خلال تعزيز مشاركتهن في صناعة تكنولوجيا المعلومات. أما الجانب الثاني فيتعلق بأثر ذلك على مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر نفسه وعلى إمكانيات التطور والإبداع فيه، وعلى دوره كعامل مؤثر في صناعة تكنولوجيا المعلومات والمجتمع ككل.

الأثر على مساعي تحقيق المساواة الجندرية

تعاني النساء من التهميش في مجالات العمل في شتى القطاعات الصناعية والخدمية. ففيما عدا عدد محدود من أنواع الوظائف، التي تعتبر اجتماعيًا مناسبة أكثر للنساء، تنخفض بشدة فرص العمل المتاحة لهن في معظم الوظائف. لا يعد قطاع تكنولوجيا المعلومات استثناءُ لذلك. وعلى الرغم من أنه في البدايات المبكرة لنشأة صناعة البرمجيات كان للنساء دور بارز فيها، إلا أن ذلك تغير بسرعة عندما اتضح الدور بالغ الأهمية لهذه الصناعة.

منذ صعود تكنولوجيا المعلومات كقطاع اقتصادي ذو أهمية كبيرة تعلقت آمال الكثيرين بهذا القطاع كفرصة لتمكين النساء في العالم الرقمي. تضاءلت هذه الآمال بمرور الوقت عندما أثبت قطاع تكنولوجيا المعلومات أنه لا يختلف كثيرًا عن غيره من القطاعات من حيث ميله إلى تهميش النساء. 

في المقابل، قدمت حركة البرمجيات مفتوحة المصدر نفسها كبديل لنموذج الأعمال الرأسمالي التقليدي يعد ببيئة للتعاون والمشاركة أكثر انفتاحًا وتنوعًا وديموقراطية. ومع النجاح الكبير الذي حققته حركة البرمجيات مفتوحة المصدر في العقود الأخيرة ازدادت أهميتها كمنفذ لدخول الفئات الأقل تمثيلًا وفي مقدمتها النساء إلى صناعة تكنولوجيا المعلومات. 

ولكن الواقع يؤكد أن هذا المنفذ لا يزال موصدًا في وجه النساء. يمثل هذا الوضع بالضرورة عائقًا بالغ الأثر في إمكانية التقدم في مساعي تمكين النساء في صناعة تكنولوجيا المعلومات وبصفة أوسع في مجال توفير فرص العمل للنساء بصفة عامة.

الأثر على تطور البرمجيات مفتوحة المصدر

أكد عدد كبير من الدراسات أن التنوع الجندري في فرق العمل يؤدي إلى عديد من الآثار الإيجابية، منها رفع معدلات الأداء، ورفع جودة مخرجات العمليات الإنتاجية والتنظيمية. كذلك يسمح التنوع في فرق العمل بأن تكون الفرق أكثر قدرة على الاستجابة لاحتياجات وتفضيلات قطاعات أوسع من المستخدمين النهائيين. وأظهرت الدراسات أن فرق العمل المتنوعة جندريًا تؤدي إلى تعظيم الاستفادة بإمكانيات أعضاء الفريق ويكون لها أفضلية تنافسية أكبر، بما في ذلك الوصول المبكر إلى مرحلة الإنتاج وزيادة الفعالية والوصول إلى منتجات أعلى جودة.

الافتقاد إلى التنوع الجندري في البرمجيات مفتوحة المصدر يحرم مشروعاتها من المزايا السابق الإشارة إليها. يعني ذلك أن مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر يفقد الكثير من فرص تحقيق أداء أفضل وتنافسية أعلى في مواجهة البرمجيات التجارية التي بدأت التنبه إلى أهمية التنوع الجندري لتطورها ولاحتلال موقع تنافسي أفضل. 

تفقد أيضًا البرمجيات المفتوحة المصدر ما هو أكثر أهمية من ذلك باستمرار ظهورها كبيئة أكثر تمييزًا ضد النساء وأكثر تهميشًا لهن من غيرها. في نهاية المطاف، تقوم حركة البرمجيات مفتوحة المصدر قبل أي شيء على مجموعة المبادئ التي تدعي تمثيلها، وهي مبادئ الانفتاح والشمول والديموقراطية.

هذه المبادئ جميعها تتناقض بوضوح مع تهميش النساء والتمييز ضدهن وخلق بيئة طاردة لهن. يؤدي هذا الوضع إلى فقدان حركة البرمجيات مفتوحة المصدر لقدر كبير من مصداقيتها، ومع استمراره يتزايد انصراف النساء الموهوبات في مجال البرمجيات عن المشاركة في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر والاتجاه إلى البرمجيات التجارية. 


التحديات التي تواجه مشاركة النساء في البرمجيات المفتوحة

الانحياز الثقافي والتمييز

الانحياز الموروث ثقافيًا، والذي يعيد إنتاج التصورات النمطية حول افتقار النساء للكفاءة اللازمة للعمل، خاصة في مجالات التكنولوجيا، يؤدي إلى ممارسات تمييزية ضد النساء. يتربى أفراد المجتمع بحيث تصبح هذه الممارسات التمييزية جزءًا من تكوين شخصياتهم وهو ما يؤدي إلى صدورها عنهم معظم الوقت.

ينطبق ذلك في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لأي مجتمع. ويعني ذلك أنه ينعكس على فرص النساء في العمل في أي قطاع صناعي أو خدمي. ومن ثم، فمن المتوقع أن يعكس مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر الانحياز والتمييز السائدين في المجتمع الأوسع. ولكن ذلك لا يفسر سيادة الانحياز الثقافي والتمييز ضد النساء في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر بنسبة أعلى بوضوح وبفارق كبير عن غيره من مساحات العمل.

ربما يكون النموذج الأقرب للقياس عليه هو مساحات التفاعل الاجتماعي التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي. يسود في هذه المساحات أيضًا نسبة أعلى من المتوسط للانحياز والتمييز ضد النساء، وينعكس ذلك في خلق بيئة معادية وطاردة لهن. وحيث أن آليات التفاعل بين المشاركين في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر تشبه إلى حد كبير آليات التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، فيمكن استنتاج أن هذا النمط من التفاعل يعزز التمييز ضد النساء بدرجة أكبر.

التوازن بين متطلبات الحياة اليومية

لا يزال السائد في جميع المجتمعات اليوم أن عمل المرأة خارج منزلها لا يعفيها من القيام بالدور الاجتماعي التقليدي المتمثل في أعمال رعاية المنزل. ومن ثم، فالوصول إلى توازن بين عمل المرأة ومتطلبات الحياة اليومية الملقاة على عاتقها هي مشكلة تواجهها الغالبية العظمى من النساء العاملات في أي مجال.

تتميز المشاركة في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر أنها في معظمها تطوعية وتؤدى دون أجر أو عائد مادي، على الأقل في البداية. لذلك، فغالبية المشاركين في هذه المشروعات يعملون على مشاركاتهم في وقت فراغهم إلى جانب أعمالهم الاعتيادية التي يعتمدون عليها لتحقيق دخل ثابت ومستمر. 

توفير وقت فراغ بالنسبة لامرأة عاملة هو أمر بالغ الصعوبة. بالتالي، فحتى مع وجود المقدرة والرغبة في المشاركة لا تتمكن كثير من النساء من المشاركة الفعلية لافتقادهن إلى وقت كاف للقيام بذلك. وقد أكدت إحدى الدراسات أن مشاركة النساء تقل بشكل ملحوظ إذا ما كان لهن أطفال.

عوائق الاندماج في مجتمع مطوري البرمجيات مفتوحة المصدر

تفتقد الكثير من مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر إلى الأطر التنظيمية، وخاصة مدونات السلوك التي تحكم التفاعل الاجتماعي بين المنخرطين فيها. يسمح ذلك بوجود ممارسات تؤدي إلى تهميش واستبعاد فئات مختلفة وفي مقدمتها النساء، بالإضافة إلى تشكيل بيئة غير مريحة لهن.

تتعرض النساء في كثير من الأحيان للتجاهل وعدم التعامل معهن بجدية في مجتمع مطوري البرمجيات مفتوحة المصدر. يظهر ذلك من خلال تجاهل مشاركاتهن وعدم قبولها، وعدم إعطاء الاعتبار الكافي لآرائهن في المناقشات. على سبيل المثال، قارنت دراسة بين معدلات قبول المشاركات من الرجال والنساء في أحد مجتمعات البرمجيات مفتوحة المصدر ووجدت إن مشاركات النساء يتم قبولها بمعدل أكبر عندما لا تكون هويتهن الجندرية معروفة.

يكشف ذلك أن عملية المراجعة للمشاركات في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر لا تخضع لمعايير موضوعية واضحة، مما يسهل معه تدخل الانحيازات الجندرية إلى هذه العملية. ومن ثم فإن غياب الأطر التنظيمية والسياسات الواضحة هو أحد المعوقات الأساسية لدمج النساء في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر.


عوائد دمج النساء في تطوير البرمجيات المفتوحة

تحسين فرص الإبداع والتطور

انخراط النساء في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر من شأنه أن يتيح لهذه المشروعات رؤى متنوعة ضرورية للإبداع. فيمكن للنساء أن يقدمن رؤى وأفكار ومقاربات فريدة مما يؤدي إلى إنتاج حلول أكثر إبداعًا وفعالية. كذلك يؤدي تزايد مشاركة النساء في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر إلى أن يتاح لهذه المشروعات عددًا أكبر من المواهب للاعتماد عليها، خاصة في ظل تزايد الحاجة إلى مطوري البرمجيات الماهرين.

بالإضافة إلى ذلك، يؤدي انخراط النساء في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر إلى منتجات أكثر تمثيلًا لقاعدة المستخدمين. فمع تنوع مستخدمي البرمجيات يمكن لوجود فرق عمل تعكس هذا التنوع أن يحسن من تصميم المنتجات وخبرة مستخدميها، مما يجعلها أكثر جاذبية وسهولة في الاستخدام. بصفة خاصة، يمكن لفرق العمل المتنوعة جندريًا أن تكون أكثر قدرة على الاستجابة إلى متطلبات وتفضيلات المستخدمات من النساء، وهو ما يساعد على توسيع قاعدة مستخدميها.

التعليم والتطور المهني

يتيح الالتحاق بمشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر للنساء وخاصة المبتدئات منهن فرصًا للتعلم والتطور المهني يصعب أن تتاح لهن في صناعة البرمجيات التجارية. يؤدي انفتاح مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر إلى إمكانية أن يلتحق بها أي مطور برمجيات دون قيود. وتتيح الطبيعة التشاركية لتطوير البرمجيات مفتوحة المصدر للمشاركين بمشروعاتها التعلم من بعضهم البعض من خلال المناقشات التي تتيح طرح رؤى ومقاربات متنوعة.

ونظرًا لمرونة مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر يمكن للمشاركين تطوير مهاراتهم وخبراتهم في أكثر من دور في عملية إنتاج البرمجيات، وباستخدام لغات وتكنولوجيات برمجة مختلفة، وهو ما لا يتاح عادة من خلال العمل بصناعة البرمجيات التجارية.

للأسباب السابقة يعد الالتحاق بمشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر نافذة متميزة للدخول إلى صناعة البرمجيات وتأسيس مسار مهني ناجح بها. هذه الفرص التي تتيحها مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر يمكن أن يكون لها أثر حاسم في رفع معدل عمل النساء في صناعة البرمجيات بصفة عامة.

القيادة والتمكين

تزايد أعداد النساء المنخرطات في مجتمع ومشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر يؤدي إلى ازدياد فرص أن تحتل النساء مواقع قيادية في هذه المشروعات. يمثل ذلك بالطبع تمكينًا أكبر لهؤلاء النساء على مستوى فردي، ولكنه ينعكس أيضًا بشكل إيجابي على فرص تمكينهن في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر، وعلى إمكانيات تطوير وفعالية هذا المجتمع.

فمن جانب، تمثل النساء في مواقع قيادية نماذج تقتدي بها غيرهن وتسعين إلى تحقيق ما حققنه. يساعد ذلك على اجتذاب مزيد من النساء إلى الانخراط في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر، كما يضفي مصداقية أكبر على إمكان نجاح واستمرارية النساء في المجتمع. يسمح أيضًا وجود النساء في مواقع قيادية لهن بأن يدفعن في اتجاه وضع أطر تنظيمية، مثل مدونات السلوك وسياسات التنوع والشمول. يمكن أن يكون لذلك  أثر كبير في دمج مزيد من النساء وتمكينهن في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر.

كلما ازداد عدد النساء في مواقع القيادة كلما ازداد بالضرورة تأثيرهن في عمليات تطوير البرمجيات مفتوحة المصدر. يؤدي ذلك إلى رفع فعالية تأثير التنوع على هذه العمليات، فهو يضمن مشاركة أكبر للنساء في عمليات اتخاذ القرار وتوجيه مسار المشروعات والتأثير في اختيار الجوانب التي تلقى اهتمامًا وتركيزًا أكبر.

يمكن لذلك أن يساعد مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر على إنتاج برمجيات أكثر فعالية وأكثر تمثيلًا لقاعدة الجمهور المستهدف. بصفة خاصة، يمكن أن يسهم ذلك في أن تكون هذه البرمجيات أكثر حساسية جندريًا، مما يتيح إقبالًا أكثر للمستخدمات من النساء عليها. قد يساهم ذلك في توسيع أسواق البرمجيات مفتوحة المصدر، خاصة في المجالات التي لا تزال غير قادرة على المنافسة فيها بقدر كبير.


سبل دمج النساء في مجال البرمجيات مفتوحة المصدر

برامج التوجيه والتدريب

يمكن لبرامج التوجيه والتدريب أن تلعب دورًا أساسيًا في دعم دمج النساء في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر. فهذه البرمجيات تساعد النساء على اكتساب المعرفة والمهارات والخبرات التي يحتجنها للانخراط بنجاح في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر.

  • آوتريتشي (Outreachy): هو برنامج يقدم فرصًا للعمل عن بعد مدفوع الأجر للمنتمين إلى الفئات الأقل تمثيلًا في صناعة البرمجيات وفي مقدمتهم النساء. يركز البرنامج على المشاركة في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر مع توفير فرص التوجيه وضمان وجود بيئة آمنة ومرحبة ومتعاونة.
  • نساء يكتبن الكود للبرمجيات مفتوحة المصدر (Women Who Code Open Source): هو أحد فروع مبادرة “نساء يكتبن الكود Women Who Code”. تركز المبادرة على مساعدة النساء في المشاركة في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر. تقدم المبادرة الإرشاد والتوجيه وتقيم مناسبات وفرص لتشجيع البدء في المشاركة في البرمجيات مفتوحة المصدر.
  • معسكر جوجل الصيفي Google Summer of Code (GSoC): برغم أن هذه المبادرة لا تركز فقط على النساء فهي تقوم بجهود لدمج الفئات الأقل تمثيلًا في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر ومنها النساء. تقدم المبادرة تعويضات مالية للطلبة تمكنهم من العمل في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر مع تقديم التوجيه والإرشاد لهم.
  • فتيات ريلز (Rails Girls): هي مبادرة عالمية تهدف إلى مساعدة النساء على تعلم البرمجة وعلى المشاركة في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر، خاصة في إطار مجتمع لغة روبي Ruby للبرمجة وإطار ريلز Rails البرمجي.
  • فتيات يكتبن الكود (Girls Who Code): تركز هذه المبادرة بشكل أساسي على تعليم مهارات كتابة الكود للفتيات الصغيرات، ولكنها تشجع أيضًا على مشاركتهن في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر باستضافة المناسبات والمنافسات.
  • التنوع في البرمجيات مفتوحة المصدر (Open Source Diversity): هي مبادرة لمجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر تهدف إلى تحسين التنوع والشمول فيه. تقدم المبادرة موارد مساعدة وإمكانيات للتشبيك والدعم للنساء وغيرهن من الفئات الأقل تمثيلًا.

سياسات الشمول لمشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر

تستطيع مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر بناء مجتمع أكثر ترحابًا بالنساء عن طريق وضع وتنفيذ سياسات شمول تساهم في تشجيع مزيد من النساء على الالتحاق بهذه المشروعات. تشمل الملامح الرئيسية لسياسات الشمول الناجحة العناصر التالية:

  • مدونات السلوك: وهي قواعد للتفاعل بين المشاركين في المشروع تحظر مجموعة من السلوكيات المرفوضة وتنظم آليات للتقدم بشكاوى عند التعرض لمثل هذه السلوكيات.
  • الرعاية وآليات الترحيب بالمشاركين الجدد: وهي برامج تساعد المشاركين الجدد على التعرف على الجوانب التقنية والاجتماعية لمشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر. يجعل ذلك تجربة الالتحاق بهذه المشروعات أكثر سهولة ويزيل الرهبة التي قد تستشعرها الوافدات الجديدات، خاصة من لم تكن لهن خبرة سابقة في المشاركة في مشروعات مماثلة.
  • لجان التنوع: وهي مجموعات عمل أو لجان تتشكل للتركيز على الشمول والتنوع وعلى متابعة أثر جهود رفع مستوى التنوع في المشروع. يمكن لهذه اللجان أن تعمل على وضع أهداف لنسبة مشاركة النساء في المشروع والسعي لتحقيقها؛ تشجيع المشاركات على القيام بأدوار أكبر؛ والتنويه بالإنجازات التي تحققها المشاركات.

قام عدد من مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر الأكبر حجمًا والأكثر شهرة بوضع وتنفيذ سياسات تنظيمية أخذت في الاعتبار العمل على تهيئة مناخ أكثر ترحابًا وأمنًا للمشاركين في هذه المشروعات وفي مقدمتهم النساء. من هذه المشروعات:

  • لينكس Linux Kernel: هو مشروع برمجيات مفتوحة المصدر يتولى التطوير المستمر للقلب التشغيلي لنظام لينكس. تبنى المشروع منذ عام 2018 مدونة سلوك للمشاركين فيه تتضمن توجيهات تهدف إلى ضمان تفاعلات تحترم الجميع.
  • بايثون Python: يتبنى مجتمع المبرمجين القائم على تطوير لغة البايثون إعلانًا للتنوع. يعمل المجتمع بشكل نشط على جعل تطوير اللغة شموليًا. كذلك أنشأ مجتمع البايثون (PyLadies) وهي شبكة للنساء المشاركات بالمشروع تدعم تقديم الرعاية، وإقامة ورش العمل، وتوفير فرص التواصل والتشبيك لمساعدة النساء على المشاركة بالمشروع.
  • موزيلا Mozilla: المشروع الأم الذي يشرف على مشروعات عدة في مقدمتها تطوير متصفح الإنترنت فايرفوكس. تبنى المشروع استراتيجية للتنوع والشمول لضمان تمثيل عادل في مشروعاته. كذلك يتبنى المشروع سياسة توجيهات للمشاركة به تدعم السلوك المحترم والشمولي. يدير المشروع أيضًا برنامجًا لتدريب المشاركين على بناء مشروعات برمجيات مفتوحة المصدر مع وضع التنوع والشمول في الاعتبار.
  • دروبال Drupal: أنشأ المشروع مجموعة عمل للتنوع والشمول تركز على تحسين الشمول في مجتمع دروبال. يركز المشروع على أهمية الشمول في مدونة السلوك التي يتبناها ويتعامل بشكل نشط مع مشاكل التحرش والانحياز. يعقد المشروع كذلك نقاشات بين أعضائه حول تحسين التنوع ودعم النساء للمشاركة بالمشروع.
  • جنوم Gnome: مشروع البرمجيات مفتوحة المصدر المسؤول عن تطوير تطبيقات سطح المكتب الأكثر شعبية بين توزيعات لينكس. يتبنى المشروع مدونة سلوك تنمي بيئة ودية وخالية من التحرش لكل المشاركين فيه. كذلك ترعى مؤسسة جنوم مبادرات منها Outreachy لدعم الفئات ضعيفة التمثيل، بما في ذلك النساء لرفع معدلات مشاركتها في المشروع.

دعم الشبكات المجتمعية

الشبكات المجتمعية هي أداة دعم بالغة الأهمية. تقوم هذه الشبكات من خلال التشبيك الطوعي بين النساء ذوات الاهتمام المشترك، وهو في هذه الحالة العمل في مجال البرمجيات والمشاركة في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر. تتيح الشبكات المجتمعية مساحات يمكن للنساء من خلالها أن يتبادلن الدعم والتوجيه والإرشاد.

يتعلق ذلك في جانب كبير منه بالطبع بالجوانب التقنية، ومن ثم يمثل موردًا هامًا للتعلم والتطور المهني، خاصة أنه يتميز بالتركيز على مشاكل محددة وعلى تقديم خبرات شخصية سابقة في التعامل معها وتجاوزها. لكن أهمية الشبكات المجتمعية تبرز فيما يتخطى الجوانب التقنية. توفر هذه الشبكات مساحات آمنة للسعي إلى النصح والتوجيه فيما يتعلق بالمشاكل الاجتماعية التي تواجهها المشاركات في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر.

يمكن للمنخرطات في هذه الشبكات أن يقدمن النصح والتوجيه المبنيين على خبراتهن الشخصية وتجاربهن الواقعية للتعامل مع إشكاليات التفاعل في إطار مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر وتجاوزها. يتيح ذلك للمشاركات إمكانيات للدعم المعنوي والفعلي أيضًا، مما قد يكون حاسمًا بالنسبة لاستمرار بعضهن في المشاركة بدلًا من التخلي عنها.

تمثل كثير من البرامج والمبادرات التي سبق الإشارة إليها مداخل لتشكيل شبكات مجتمعية للمشاركات في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر. كذلك تستخدم هذه الشبكات منصات التواصل الاجتماعي للتواصل والتجمع. ويمكن دعم وجود مثل هذه الشبكات وتوسعها ورفع فعاليتها من خلال توفير منصات متخصصة تتيح موارد وأدوات لتحسين التعاون بين المشاركات خاصة في الجوانب التقنية.


خاتمة

دمج النساء في مجتمع ومشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر هو عامل بالغ الأهمية وبالغ الأثر في الإمكانيات المستقبلية لكل من مساعي المساواة الجندرية وتطوير وفعالية البرمجيات مفتوحة المصدر. وفي حين أن الواقع الحالي يشير بوضوح إلى تغلب معوقات هذا الدمج على جهود تحقيقه إلا أن ثمة أمل كبير في أن تدفع الفرص الكامنة لهذا الدمج في تخطي التحديات التي تواجهه.

سعت هذه الورقة إلى عرض إشكالية دمج النساء في مجتمع ومشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر من خلال التركيز على التقابل بين جانبي التحديات والفرص. في سبيل ذلك استعرض القسم الأول الواقع الحالي لمشاركة النساء في مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر من حيث الأرقام الإحصائية ومن حيث العواقب والنتائج. وتناول القسم الثاني التحديات الرئيسية التي تواجه دمج النساء في مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر. كما ناقش القسم الثالث الفرص الهامة التي يمكن أن تتاح إذا ما تحقق هذا الدمج. وأخيرًا ناقشت الورقة في قسمها الرابع المقاربات المختلفة لجهود دعم دمج النساء في مجتمع ومشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر.