مذكرة دفع بعدم دستورية نص المادة (27) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات

مقدمة

منذ بدء العمل بقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات في بداية عام 2020، تزايدت المخاوف المتعلقة بتوجيه اتهامات بموجب الجرائم المنصوص عليها في القانون، وخاصة أن صياغة قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات جائت في أغلبها في صياغات غامضة وغير واضحة. تظهر هذه المخاوف في حالة توجيه اتهام بارتكاب جريمة “إنشاء أو أدارة أو استخدام موقعًا أو حسابًا خاصًا على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا”، حيث توسعت النيابة العامة في توجيه اتهام بارتكاب هذه الجريمة لكل من مستخدمي مواقع التواصل الأجتماعي وتطبيقات التواصل الفوري وغيرهم من المستخدمين، وهو ما يمكن أن يعرّض المستخدمين لعقوبات كبيرة قد تصل إلى الحبس مدة لا تقل عن سنتين والغرامة التي قد تصل إلى ثلاثمائة ألف جنيه.

تقدم مسار – مجتمع التقنية والقانون دفوع استرشادية لأهم الإشكاليات المتعلقة بالمادة 27 من القانون من خلال مذكرة الدفع بعدم دستورية جريمة “إنشاء أو أدارة أو استخدام موقعًا أو حسابًا خاصًا على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا” المنصوص عليها في المادة 27 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018. يمكن الاعتماد على تلك الدفوع أثناء الترافع أمام المحاكم المختصة لوقف أثر تطبيق هذه الجريمة وبيان أوجه شبهة عدم دستوريتها.

وتوضح المذكرة تعارض نص المادة 27 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، مع الحقوق الدستورية المحمية بموجب المواد 9، 53، 57، 95 من الدستور المصري الساري والصادر في عام 2014. ومن أوجه شبهة عدم الدستورية التي تشير إليها مذكرة الدفع، غموض النص التجريمي للمادة في شأن صفة مرتكب الجريمة، ومخالفته مبدأ شرعية التجريم والعقاب، ومخالفة مبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة، وعدم معقولية العقوبة، والإخلال بمبدأ المساواة بين الأفراد في التجريم والعقاب.

كانت مسار قد أصدرت في نفس السياق “مذكرة دفوع موضوعية – المادة (27) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات“، بالإضافة إلى إصدار بعنوان “الأثر التشريعي لجريمة “إدارة موقع أو حساب بهدف ارتكاب جريمة”، وحلقة بودكاست عن المادة 27 في ظل تفسيرات المحكمة الاقتصادية.


مذكرة في شأن الدفع بعدم دستورية نص المادة (27) من القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات

مقدمة من:

السيد/ (متهم)

ضد

النيابة العامة (سلطة اتهام)

في الدعوى رقم لسنة

المحدد لنظرها جلسة الموافق / /


الموضوع

طلب وقف الدعوى تعليقيًّا، واتخاذ إجراءات الطعن بعدم دستورية نص المادة 27 من القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، لمخالفته نصوص المواد 4، 9، 53، 95، 96 من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية.

الوقائع

أحالت النيابة العامة المتهم إلى المحاكمة في الدعوى الماثلة، بعد أن وجهت إليه الاتهام – على حد زعمها – بارتكاب الجرائم الآتية:

وطلبت معاقبته بالمواد 166 مكررًا، 171، 302/1، 303/1، 308 مكررًا/1 من قانون العقوبات، وبالمادتين 70، 76/2 من القانون رقم 10 لسنة 2003 بشأن الاتصالات، والمادة 27 من القانون رقم 175 لسنة 2018 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وتحدد لنظر الدعوى جلسة اليوم أمام المحكمة الموقرة.

الدفاع

مع تمسك الدفاع الحاضر بأصل البراءة المفترض في المتهم الماثل، ومع تمسكه بكافة دفوعه وأوجه دفاعه الشكلية والإجرائية والموضوعية، فإنه يلتمس من المحكمة الموقرة؛ وقف الدعوى تعليقيًّا، واتخاذ إجراءات الطعن بعدم دستورية نص المادة 27 من القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، لمخالفته نصوص المواد 4، 9، 53، 95، 96 من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية، وذلك على النحو الآتي:

من الناحية الشكلية:

أولًا: السند القانوني للدفع بعدم دستورية النص القانوني

تنص المادة ١٩٢ من دستور جمهورية مصر العربية الساري على أن “تتولى المحكمة الدستورية العليا دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين، واللوائح، وتفسير النصوص التشريعية، والفصل فى المنازعات المتعلقة بشئون أعضائها، وفى تنازع الاختصاص بين جهات القضاء، والهيئات ذات الاختصاص القضائي، والفصل فى النزاع الذى يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين صادر أحدهما من أية جهة من جهات القضاء، أو هيئة ذات اختصاص قضائى، والآخر من جهة أخرى منها، والمنازعات المتعلقة بتنفيذ أحكامها، والقرارات الصادرة منها. ويعين القانون الاختصاصات الأخرى للمحكمة، وينظم الإجراءات التى تتبع أمامها”.

وتطبيقًا لذلك؛ نصت المادة 29 من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٧٩ على إصدار قانون المحكمة الدستورية العليا – وفقًا لآخر تعديل صادر في ١٥ أغسطس عام ٢٠٢١ – بأن “تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح على الوجه التالى: (أ) إذا تراءى لاحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص فى قانون أو لائحة لازم للفصل فى النزاع، أوقفت الدعوى وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى المسألة الدستورية. (ب) إذا دفع احد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائى بعدم دستورية نص فى قانون أو لائحة ورأت المحكمة أو الهيئة أن الدفع جدى أجلت نظر الدعوى وحددت لمن أثار الدفع ميعادًا لا يجاوز ثلاثة أشهر لرفع الدعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية العليا، فإذا لم ترفع الدعوى فى الميعاد اعتبر الدفع كأن لم يكن”.

كما تنص المادة ٣٠ – من نفس القانون – على أنه “يجب أن يتضمن القرار الصادر بالاحالة إلى المحكمة الدستورية العليا أو صحيفة الدعوى المرفوعة إليها وفقًا لحكم المادة السابقة بيان النص التشريعي المطعون بعدم دستوريته والنص الدستوري المدعى بمخالفته وأوجه المخالفة”.

وحيث أن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الرقابة على دستورية القوانين واللوائح من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلًا صون هذا الدستور وحمايته من الخروج على أحكامه، لكون نصوصه تمثل القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها، ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة.(1)

ومن المقرر أيضًا – في قضائها – أن المصلحة الشخصية المباشرة، وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية، مناطها أن يكون الحكم فى المسألة الدستورية لازمًا للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع.(2)

ثانيًا: النص القانوني محل الطعن بعدم الدستورية

ندفع بعدم دستورية نص المادة 27 في الفصل الرابع “الجرائم المرتكبة من مدير الموقع” من الكتاب الثالث “الجرائم والعقوبات” من القانون رقم 175 لسنة 2018 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات؛ والتي تنص على الآتي:

“فى غير الأحوال المنصوص عليها فى هذا القانون، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه، ولا تزيد عن ثلاثمائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًّا على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا”.

ثالثًا: النصوص الدستورية موضوع المخالفة

خالف النص القانوني المطعون بعدم دستوريته كلًّا من نصوص المواد 4، 9، 53، 57، 65، 71، 95، 96 من دستور جمهورية مصر العربية الساري – المنشور بالجريدة الرسمية – العدد ٣ مكررًا (أ) في ١٨ يناير سنة ٢٠١٤، والمعدل بموجب قرار الهيئة العليا للانتخابات رقم 38 لسنة 2019 – المنشور بالجريدة الرسمية – العدد 16 مكررًا (و) في 23 إبريل 2019، الآتي بيانهم:

  • المادة (٤): “السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التي تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وذلك على الوجه المبين فى الدستور”.
  • المادة (9): ” تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز”.
  • المادة (53): “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر…”.
  • المادة (57): “تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، ولا يجوز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها، بشكل تعسفى، وينظم القانون ذلك”.
  • المادة (65): “حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير أو النشر”.
  • المادة (71) الفقرة الثانية: “… ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في الأفراد، فيحدد عقوباتها القانون”.
  • المادة (٩٥): “العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون”.
  • المادة (٩٦): “المتهم بريء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه…”.

ولمَّا كان ما تقدم؛ وكانت المحكمة الدستورية هي المختصة بالفصل في الطعن بعدم دستورية النص القانوني – محل الطعن – وقد تحققت المصلحة الشخصية المباشرة للمتهم في هذه الدعوى، وحيث أن الفصل في عدم دستورية هذا النص القانوني، له أثر مباشر على موقفه من الاتهامات المسندة إليه في الدعوى الماثلة، وعلى طبيعة العقوبة الجنائية التي عسى أن يحكم عليه بها، وعلى حديها الأدنى والأقصى، إن ثبت للمحكمة الموقرة صحة ما أسند إليه من اتهامات ورأت أن تقضي بإدانته؛ من ثم يكون الدفع بعدم دستورية نص المادة 27 من القانون رقم 175 لسنة 2018 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات مقبول من ناحية الشكل.

من الناحية الموضوعية:

نوجز الدفع بعدم دستورية النص المطعون عليه في الوجهين الآتيين:

الوجه الأول لعدم دستورية النص: غموض النص التجريمي للمادة في شأن صفة مرتكِب الجريمة ومخالفته مبدأ شرعية التجريم والعقاب.

  • أولًا: مظاهر الغموض في النص المطعون عليه.
  • ثانيًا: التطبيقات والتفسيرات القضائية المتناقضة الناتجة من غموض النص المطعون عليه ومخالفته لشرعية التجريم والعقاب.
  • ثالثًا: الأساس الدستوري والقانوني لمبدأ شرعية التجريم والعقاب.
  • رابعًا: أثر غموض النص المطعون عليه ومخالفته لشرعية التجريم والعقاب.

الوجه الثاني لعدم دستورية النص: مخالفة مبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة وعدم معقولية العقوبة والإخلال بمبدأ المساواة بين الأفراد في التجريم والعقاب.

  • أولًا: عدم معقولية العقوبة المقررة في النص المطعون عليه وتعارضها مع الحظر الدستوري لتوقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية.
  • ثانيًا: عدم تناسب العقوبة المقررة في النص القانوني المطعون عليه مع طبيعة الجريمة المرتكبة وعدم معقوليتها كعقوبة مقررة لجريمة تابعة للجريمة الأصلية.
  • الصورة الأولى لعدم تناسب العقوبة مع طبيعة الجريمة وعدم معقوليتها.
  • الصورة الثانية لعدم تناسب العقوبة مع طبيعة الجريمة وعدم معقوليتها.
  • ثالثًا: الأساس الدستوري والقانوني لمبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة ومعقولية العقوبة.
  • رابعًا: أثر عدم التناسب بين العقوبة والجريمة وعدم معقولية العقوبة.

وذلك تفصيلًا على النحو الآتي بيانه.

الوجه الأول لعدم دستورية النص: غموض النص التجريمي للمادة في شأن صفة مرتكِب الجريمة ومخالفته مبدأ شرعية التجريم والعقاب

شاب النص القانوني المطعون عليه بعدم دستوريته الغموض والإبهام في موقع رئيس، يمثل ركنًا لا تقوم الجريمة – المؤثَّمة بموجبه – إلا بتوافره، وبانعدامه تنتفي الجريمة، ويخرج السلوك من دائرة التأثيم إلى دائرة الإباحة باعتبارها الأصل العام؛ وهذا الموقع الذي شابه الغموض في النص المطعون عليه هو صفة مرتكب الجريمة.

أولًا: مظاهر الغموض في النص المطعون عليه

حيث قد ورد نص المادة (27) – المطعون بعدم دستوريته ضمن مواد الفصل الرابع تحت عنوان: “الجرائم المرتكبة من مدير الموقع” من الكتاب الثالث: “الجرائم والعقوبات” من القانون رقم 175 لسنة 2018 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ويُفهم من هذا السياق التشريعي أن الرابط المشترك في مواد هذا الفصل في القانون – المواد 27، 28، 29 – هو أنها جرائم لا يتصور المشرع ارتكابها إلا ممن يتصف بصفة مدير الموقع؛ من ثم فإن المخاطَب بهذا النص هو كل مَن تنطبق عليه هذه الصفة دون غيره، حسبما عرَّفها هذا القانون.

وقد عرَّف – هذا القانون – مدير الموقع في مادته الأولى بأنه “كل شخص مسئول عن تنظيم أو إدارة أو متابعة أو الحفاظ على موقع أو أكثر على الشبكة المعلوماتية، بما في ذلك حقوق الوصول لمختلف المستخدمين على ذلك الموقع أو تصميمه أو توليد وتنظيم صفحاته أو محتواه أو المسئول عنه”.

وجاءت المادة (11) من اللائحة التنفيذية لهذا القانون، موضحة للالتزامات التي تقع على مدير الموقع؛ حيث نصت على أن “يلتزم كل مسئول عن إدارة موقع أو حساب خاص أو بريد إلكتروني أو نظام معلوماتي سواء كان شخصًا طبيعيًّا أو اعتباريًّا وفقًا للمادة رقم 29 من القانون، باتخاذ التدابير والاحتياطات التأمينية الفنية اللازمة وفقًا للالتزامات الواردة في المادة 2 من هذه اللائحة بالنسبة لمديري مواقع مقدمي خدمات تقنية المعلومات. كما يلتزم مديرو مواقع مقدمي خدمات تقنية المعلومات والاتصالات التي تمتلك أو تدير أو تشغل البنية التحتية المعلوماتية الحرجة بالالتزامات الواردة في المادة رقم 3 من هذه اللائحة. ويلتزم الممثل القانوني ومسئول الإدارة الفعلية لمقدمي الخدمة بإثبات توفيره الإمكانيات التي تمكن مديرو المواقع من اتخاذ التدابير والاحتياطات التأمينية اللازمة لقيامه بعمله. وفي جميع الأحوال يلتزم الممثل القانوني ومسئول الإدارة الفعلية ومدير الموقع لدى أي مقدم خدمة بإتاحة مفاتيح التشفير الخاصة به للمحكمة المختصة أو لجهات التحقيق المختصة في حال وجود تحقيق في إحدى الشكاوى أو المحاضر أو الدعاوى عند طلبها رسميًّا من تلك الجهات”.(3)

ومما تقدم يكون المشرع قد صاغ تعريفًا محددًا لوظيفة مدير الموقع، وحدد له عدة مسؤوليات والتزامات فنية وتقنية، أناط به تنفيذها، ورتب جزاءات جناية غاياتها معاقبته على مخالفة أو إهمال بعضها، أو على إساءة استغلاله صلاحياته الوظيفية.

ومن ثم فقد أصبح من المسلَّم به أنه يشترط لمساءلة الفرد جنائيًّا عن أيٍّ من الجرائم المنصوص عليها في مواد الفصل الرابع من الكتاب الثالث – المواد 27، 28، 29 – من هذا القانون، أن تتوافر فيه قبل ارتكاب الجريمة حالة خاصة قانونية أو واقعية، وهذه الحالة هي صفة مدير الموقع، وفق ما تقدم من تعريفٍ لها، وأن يتمتع من يتصف بها بصلاحيات هذه الوظيفة، التي تحمله بأعبائها ومسؤولياتها والتزاماتها، وتخضع هذه الصفة في إثباتها للقواعد والأحكام المنصوص عليها في هذا القانون ولائحته التنفيذية، باعتباره القانون المنظم لها.

وبات توافر هذه الصفة عنصرًا مفترضًا، ولازمًا لقيام أيٍّ من هذه الجرائم؛ فلا تقوم أيٌّ منها إلا بتوافره، والتأكد من تحققه قبل ارتكابها، ولا يتصور أن يكون مرتكبًا لها إلا مَن يحملها، أما من لا يحملها فقد يتصور أن يكون شريكًا في ارتكابها فقط.

إلا أنه بمطالعة نصوص هذه المواد الثلاثة، اتضح أن المشرّع قد نص صراحة في المادة (28) على هذا العنصر المفترض، وجاء نصها “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائتي ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل مسئول عن إدارة موقع أو حساب خاص أو بريد إلكتروني أو نظام معلوماتي إذا أخفى أو عبث بالأدلة الرقمية…”.

وكذلك في الفقرة الأولى من المادة (29) التي جاء نصها: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائتي ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل مسئول عن إدارة الموقع أو الحساب الخاص أو البريد الإلكتروني أو النظام المعلوماتي عرض أيًّا منها…”.

وأيضًا في الفقرة الثانية من نفس المادة: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل مسئول عن إدارة الموقع أو الحساب الخاص أو البريد الإلكتروني أو النظام المعلوماتي تسبب…”.

بينما جاء في نص المادة (27) – المطعون عليه – مطلقًا، ومخاطبًا الكافة، دون الاقتصار على مديري المواقع دون غيرهم؛ فجاء نصها: “في غير الأحوال المنصوص عليها في هذا القانون، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه، ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًّا على شبكة معلوماتية…”.

ومن هذا الاستثناء غير المفهوم، سقط نص المادة – المطعون عليه – في غموض شديد؛ فبات مضمونه مُجهَّلًا، وخافيًا، ومبهمًا، وغابت حقيقة ما يرمي إليه؛ فأضحى تطبيقه مرتبطًا بمعانٍ وأهواء وتفسيرات شخصية، نابعة من الفهم الخاص للقائمين على تطبيقه.

ثانيًا: التطبيقات والتفسيرات القضائية المتناقضة الناتجة من غموض النص المطعون عليه ومخالفته لشرعية التجريم والعقاب

تناقضت تفسيرات وأحكام القضاء للمادة 27 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، نتيجة لهذا الغموض والإبهام، وظهر ذلك في قرارات الاتهام الصادرة عن النيابة العامة، وأحكام المحاكم الجنائية؛ فيرى البعض أنه – النص المطعون عليه – يخاطب الكافة، وفقًا لظاهره، وحسب ما جاء في عبارة: “كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًّا على شبكة معلوماتية…” ولعدم النص فيه صراحة على صفة المخاطَب به، كما هو وارد في المادتين 28، 29 في عبارة: “كل مسئول عن إدارة موقع أو حساب خاص أو بريد إلكتروني أو نظام معلوماتي…” التي وردت في كل منهما.

وهو ما أيدته النيابة العامة، وبات نهجًا واضحًا وصريحًا لها في توجيه الاتهامات وأوامر الإحالة، وليس مجرد توجه فردي يمكن حصره في بعض أعضائها، أو في إحدى النيابات على حدة، بل نهجًا معممًا على كافة أعضاء النيابة العامة؛ فقد رأت أن ارتكاب أي جريمة معاقب عليها قانونيًّا باستخدام مواقعَ أو حسابًا إلكترونيًّا يعد فعلًا مؤثَّمًا بموجب نص المادة 27 – المطعون عليه – وذلك دون أي شرط أو صفة أو استثناء.

من ثم باتت أوامر الإحالة الصادرة عنها – المتضمنة اتهامًا بارتكاب جريمة إرسال العديد من الرسائل الإلكترونية بكثافة إلى شخص معين دون موافقته – شبه نموذجية؛ فتوجه الاتهام الأول بارتكاب جريمة معاقب عليها بموجب قانون غير قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ثم تلحقه باتهام آخر بإدارة أو استخدام موقعًا أو حسابًا خاصًّا على شبكة معلوماتية بغرض ارتكاب الجريمة الأولى.

وعلى سبيل المثال يتضح ذلك في الدعاوى أرقام: 2084 لسنة 2021، و1592 لسنة 2021، و552 لسنة 2021، و662 لسنة 2021، و101 لسنة 2022، 1690 لسنة 2021، و2084 لسنة 2021، و972 لسنة 2021، 2260 لسنة 2021، و2262 لسنة 2021، و199 لسنة 2022 جنح اقتصادية، والتي أحيلت بهذا الاتهام – على النحو سالف البيان – إلى محكمة القاهرة الاقتصادية.

ويرى البعض الآخر أن مضمون هذا النص يخاطب ذوي الصفة من مديري المواقع – وفقًا لأحكام القانون ولائحته التنفيذية – دون غيرهم؛ حيث أن نص المادة 27 قد ورد في (الفصل الرابع الجرائم : المرتكبة من مدير الموقع) وبناء عليه يُخرج من دائرة التأثيم والعقاب كل من لا تتوافر فيه هذه الصفة قانونيًّا أو واقعيًّا، وينحصر مجال المسؤولية الجنائية على ذوي صفة مدير الموقع دون أي تمتد عناصر المسؤولية الجنائية إلى غيرهم، إلا كشركاء في الجريمة فحسب.

وهو ما أيدته بعض أحكام القضاء؛ حيث جاء في قضاء محكمة القاهرة الاقتصادية أن المشرع طبقًا لنص المادة 27 – المطعون عليه – قصد بمديري المواقع المختصين بإدارة وتشغيل المواقع التي يستخدمها المستخدمون العاديون، ولم يتطرق المشرع في تلك المادة إلى معاقبة المستخدمين العاديين الذين يستخدمون حساباتهم الشخصية الخاصة، ومن ثم ينتفي ركنا تلك الجريمة المادي والمعنوي، ومن ثم يكون استخدام المتهم لحسابه الشخصي الخاص على تطبيق التواصل الاجتماعي “واتسآب” غير مؤثَّم بالمادة 27 من القانون 175 لسنة 2018 حال كونه مستخدمًا لحسابه الشخصي الخاص.(4)

وجاء أيضًا – في قضاء نفس المحكمة – أنه يجب على المحكمة قبل بحث توافر الركن المادي المعنوي في تلك الجريمة التأكد من توافر الشرط المفترض، وهو الركن المفترض والأساسي لقيام تلك الجريمة، تقوم بقيامها في المتصف بها، كونها من جرائم ذوي الصفة التي استلزم القانون لقيامها توافر صفة خاصة في الجاني، وهو أن يكون مديرًا للموقع، وهو الأمر غير المتوافر في حق المتهم، كونه لا يعدو إلا أن يكون مستخدمًا لحساب على موقع تواصل اجتماعي (فيس بوك – واتسآب ….) وليس مديرًا لهذا الموقع لديه الصلاحيات على المنصة المعلوماتية أو على موقع واتسآب ولا حتى على الحسابات الخاصة، وإنما حسابه لا يتعدى صفة المستخدم أو المستفيد من مقدمي خدمة هذا الموقع والتي تُدار بواسطة مديريها المسؤولين عن سياسة الموقع وأمنه، وغيرها من المسؤوليات المنصوص عليها باللائحة التنفيذية للقانون، الأمر الذي ينهار معه ذلك الركن، وهو شرط مفترض لقيام تلك الجريمة، وبانهيار ذلك الركن يخرج الفعل المرتكَب من قبل المتهم من دائرة التأثيم المنصوص عليها بالمادة 27 من القانون رقم 175 لسنة 2018، حيث أن المتهم من غير المخاطَبين بها، ولا يخضع لأحكام هذا الفصل، وينعدم أصلها بالأوراق، وهو الأمر الذي تقضي معه المحكمة ببراءة المتهم من ذلك الاتهام على نحو ما سيرِد بمنطوق ذلك الحكم.(5)

كما جاء أيضًا – في قضاء نفس المحكمة – أنه لمَّا كان من الثابت للمحكمة من مطالعتها لأوراق الدعوى وما ارتكبه المتهم من جرم يخرج عن نطاق تطبيق حكم المادة 27 من القانون 175 لسنة 2018 الخاص بجرائم مكافحة تقنية المعلومات حيث أن القانون سالف البيان قد بين في الباب المتعلق بالأحكام العامة أنه قد وضح المصطلحات الواردة بالقانون سالف البيان بأن عرَّف المستخدم: من إنه كل شخص طبيعي أو اعتباري، يستعمل خدمات تقنية المعلومات، أو يستفيد منها بأي صورة كانت، والموقع: من إنه عبارة عن مجال أو مكان افتراضي له عنوان محدد على شبكة معلوماتية، يهدف إلى إتاحة البيانات والمعلومات للعامة أو الخاصة، ومدير الموقع: هو كل شخص مسؤول عن تنظيم أو إدارة أو متابعة أو الحفاظ على موقع أو أكثر على الشبكة المعلوماتية، بما في ذلك حقوق الوصول إلى مختلف المستخدمين على ذلك الموقع أو تصميمه أو توليد وتنظيم صفحاته أو محتواه أو المسؤول عنه، والحساب الخاص: هو عبارة عن مجموعة من المعلومات الخاصة بشخص طبيعي أو اعتباري، تخول له دون غيره الحق في الدخول على الخدمات المتاحة أو استخدامها من خلال موقع أو نظام معلوماتي، وهو ما أكد ذلك ما بينته اللائحة التنفيذية الخاصة بالقانون الصادرة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1699 لسنة 2020 بشأن الإجراءات التي على مديري المواقع ومقدمي الخدمات اتباعها واتخاذها والمبينة في المادتين الثانية والثالثة من اللائحة، ولما كان المتهم وفق الثابت بالأوراق بوصفه مستخدمًا حسابًا خاصًّا على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك، يوتيوب” مما تكون صفته وفق المصطلحات المبينة بالقانون سالف البيان “مستخدم” “حساب خاص” داخل موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك، يوتيوب” فمن ثم ما يقع منه من جرائم لا تندرج تحت الجرائم المرتكبة من مدير الموقع والتي نصت عليها المادة 27 من القانون سالف البيان إذ أن تلك المادة قد خاطبت مدير الموقع بصفته التعريفية المبينة سلفًا والتي أكدت اللائحة التنفيذية للقانون على اختصاصاته والإجراءات الإلزامية التي عليه أن يتبعها ويتخذها والمبينة على ضوء المواد الثانية والثالثة والحادية عشرة من اللائحة التنفيذية، لا سيما أن متهم دعوانا بصفته مستخدمًا لحساب على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أو أي شخص طبيعي يمتلك حسابًا خاصًّا على مواقع التواصل الاجتماعي ليس من صلاحياته تنفيذ ما تتطلبه المادتان الثانية والثالثة من اللائحة التنفيذية سالفة البيان، وهو ما تستخلص المحكمة وفق القواعد المقررة سلفًا من أن المعني بتطبيق حكم المادة 27 من القانون سالف البيان هو مديرو مواقع الإنترنت ومديرو مقدمي خدمة تقنيات المعلومات والاتصالات التي تمتلك أو تدير أو تشغل البنية التحتية المعلوماتية الحرجة حال الجرائم التي يرتكبونها بشخصهم أو بصفتهم الإشرافية المبينة بالمادة سالفة البيان وباللائحة التنفيذية، مما تكون الجرائم التي ارتكبها متهَمُ دعوانا محل الواقعة معاقبًا عليها تحت مظلة قانون العقوبات المصري والقانون رقم 10 لسنة 2003 بشأن تنظيم الاتصالات، الأمر الذي ينتفي معه إعمال حكم المادة 27 من القانون سالف البيان التي أسندتها النيابة العامة إليه، وهو ما تقضي معه المحكمة ببراءته عن تلك التهمة على نحو ما سيرد بالمنطوق.(6)

ثالثًا: الأساس الدستوري والقانوني لمبدأ شرعية التجريم والعقاب

لمَّا كانت الجريمة الجنائية هي كل سلوك غير مشروع، صدر عن إرادة إجرامية، قرر له الشارع جزاءً جنائيًّا في صورة عقوبة أو تدبير احترازي،(7) وقد نص المشرع الدستوري في المادة ٩٥ من الدستور الساري على أن “العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون” وتنص أيضًا المادة ٩٦ – من الدستور – على أن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تُكفَل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه…”.

وحيث أن مبدأ الشرعية الجنائية باعتباره إحدى ضمانات حماية الحريات الفردية، وضمان لحقوق الأفراد في مواجهة تحكم السلطات العامة واستبدادها، قد أوجد لنفسه أساسًا في مبدأ الفصل بين سلطتي التشريع والقضاء، فباتت معه السلطة التشريعية وحدها صاحبة الاختصاص التشريعي الأصيل، وأدى ذلك إلى وحدة القانون ووضوحه، دون أن يطلق العنان للقضاء في التجريم والعقاب؛ فتتعدد اتجاهات المحاكم بالنسبة إلى الواقعة الواحدة، وتختلف في تكييفها، فتعتبر إحداها جريمة جنائية، بينما تعتبرها الأخرى فعلًا مشروعًا، وتتضارب أحكامها، فيترتب على ذلك عدم المساواة بين الأفراد أمام نفس القاعدة القانونية الواحدة.(8)

وانطلاقًا من ذلك؛ وجب الحرص في إعداد التشريعات على أن تراعي أحكامها الحقوق الأساسية للإنسان دون الاقتصار في شأن هذه الحقوق ورصدها على ما هو منصوص عليه في الدستوري منها، بل يتجاوزها إلى ما استقر منها في المواثيق الدولية وفي مفاهيم الدول الديمقراطية، وهي الحقوق التي عبرت عنها المحكمة الدستورية العليا في مصر بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها، وبخاصة تلك التي تنطلق من إيمان الدول المتحضرة بحرمة الحياة الحياة ووطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية، ومن ثم يجب أن تكون هذه الحقوق بالمعنى الواسع المشار إليه الذي يستوعب ما كان ورادًا منها في الدستور وما استقر في المواثيق الدولية وفي مفاهيم الدول الديمقراطية بمنأى عن أي انتهاك تشريعي.(9)

كما يجب عند وضع الأحكام العقابية أن تتم صياغة الأفعال المجرَّمة على نحوٍ ضيق محكم. فلا يجب أن تكون الصياغة فضفاضة في بيانها الفعل المنهي عنه، كما لا يجب أن يشوبها إبهام، أو إجمال، أو تميُّع، أو تداخل مع صور أفعال مشروعة، ومن ثم يتعين صياغة الأحكام العقابية بأعلى درجات الحرفية والدقة على النحو الذي يضمن أن تكون جليةً، ومحددة وقاطعة، بما يسمح للمخاطب بها أن يعي ما جرَّمته من أفعال من غير حاجة إلى إعمال تقديره الشخصي، ويتيح للقاضي استخلاص أركان الجرم المقترف.(10)

ويتعين أن تراعى في إعداد نصوص وأحكام التشريعات الجزائية خاصية الوضوح واليقين، وأن يتم الركون في إعداد التشريع الجنائي إلى مناهج دقيقة في الصياغة لا تنزلق إلى التعبيرات الفضفاضة أو المتعمية المحملة بأكثر من معنى، بما يوقع المحاكم الجزائية في محاذير تخل بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة التي تنص عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وتكفلها الدساتير، كما يجب أن يتجنب المشرع الجنائي تقييد سلطة القاضي في اختيار بدائل للجزاءات والتدابير، وفي استعمال موجبات الرأفة، وأن تكون أحكام التشريعات الجنائية في هذا النطاق في حدود مبدأ المساواة أمام القضاء لا تتخطاه، ممتثلة لمبدأ تكافؤ الفرص لا تتجاوز تخومه.(11)

وحيث أن النص القانوني إذا كان بالغ الغموض، وينقصه التحديد، فيجعل مهمة القاضي في التفسير مستحيلة. وفي هذه الحالة لا نكون بصدد مجرد شك في تحديد إرادة القانون، وإنما نكون حيال تعذر كامل في تحديد هذه الإرادة، وأمام غموض النص وعدم تحديده لا يمكن نسبة الجريمة إلى المتهم أو الحكم عليه بعقوبة ما، لأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص؛ وهذا المبدأ يفترض الوضوح والتحديد في النص، حتى يكون مصدرًا للتجريم والعقاب، ويسري نفس المبدأ إذا كان النص متعلقًا بإجراء ماسٍّ بالحرية؛ فإن عدم تحديد إرادة المشرع حول المساس بالحرية يتطلب إهدار إرادة هذا المساس، تأكيدًا للأصل العام في الإنسان وهو البراءة.(12)

ومن المقرر والمستقر عليه فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن القيود التى تفرضها القوانين الجزائية على الحرية الشخصية تقتضي أن تصاغ أحكامها بما يقطع كل جدل فى شأن حقيقة محتواها ليبلغ اليقين بها حدًّا يعصمها من الجدل، وبما يحول بين رجال السلطة العامة وتطبيقها بصورة انتقائية، وفق معايير شخصية، تخالطها الأهواء، وتنال من الأبرياء لافتقارها إلى الأسس الموضوعية اللازمة لضبطها.(13)

ومن المقرر أيضًا أن غموض النصوص العقابية يعنى انفلاتها من ضوابطها وتعدد تأويلاتها، فلا تكون الأفعال التى منعها المشرع أو طلبها محددة بصورة يقينية، بل شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع متصيدًا باتساعها أو خفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها.(14)

وحيث أن تأثيم المشرع لأفعال بذاتها حال وقوعها في مكان معين، مؤداه: أن تعيين حدود هذا المكان بما ينفي التجهيل بأبعاده شرط أولى لصون الحرية الفردية التي أعلى الدستور قدرها، واعتبرها من الحقوق الطبيعية التى تكمن فى النفس البشرية ولا يتصور فصلها عنها أو انتهاكها inherent, inalienable and inviolable right إذ هي من مقوماتها، وكانت القيود التى تفرضها القوانين الجزائية على تلك الحرية سواء بطريق مباشر أو غير مباشر تقتضي أن تصاغ أحكامها بما يقطع كل جدل فى شأن حقيقة محتواها ليبلغ اليقين بهاlegal certainty حدًّا يعصمها من الجدل، وبما يحول بين رجال السلطة العامة وتطبيقها بصورة انتقائية وفق معايير شخصية تخالطها الأهواء وتنال من الأبرياء لافتقارها إلى الأسس الموضوعية اللازمة لضبطها، وكان ما تقدم، مؤداه: أن النصوص العقابية لا يجوز من خلال انفلات عباراتها أو تعدد تأويلاتها أو “انتفاء التحديد الجازم لضوابط تطبيقها” أن تعرقل حقوقًا كفلها الدستور كالحق فى التنقل، فقد تعين ألا تكون هذه النصوص شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع متصيدًا باتساعها أو بخفائها المتهمين المحتملين ليكون تصنيفهم وتقرير من يجوز احتجازه من بينهم عبئًا على السلطة القضائية لتحل إرادتها بعدئذ محل إرادة السلطة التشريعية، وهو ما لا يجوز أن تنزلق إليه القوانين الجنائية باعتبار أن ما ينبغي أن يعنيها هو أن تحدد بصورة جلية مختلف مظاهر السلوك التي لا يجوز التسامح فيها على ضوء القيم التي تبنتها الجماعة واتخذتها أسلوبًا لحياتها وحركتها، وركائز لتطورها، وبما يكفل دومًا ألا تكون هذه القوانين مجرد إطار لتنظيم القيود على الحرية الشخصية، بل ضمانًا لفعالية ممارستها.(15)

رابعًا: أثر غموض النص المطعون عليه ومخالفته لشرعية التجريم والعقاب

حيث أن القاضي الجنائي يلتزم باحترام قواعد الدستور أثناء تفسيره للقواعد الجنائية، حتى يكون تفسيره مطابقًا للدستور، ولا يتقصر الأمر على مجرد تحقيق هذه المطابقة، بل يتجاوزه إلى تحقيق مصداقية التفكير التي تعبر عن إرادة المشرع الواعية المتطورة، فالحقوق والحريات تتلقى مظلة حمايتها من الدستور ذاته، وما التشريع إلا منظم لهذه الحماية؛ ولهذا فإنه من المقرر أن القاضي حين يطبق النصوص التشريعية يجب عليه تفسيرها وفقًا للمعنى المطابق للدستور، طالما أن نصوص التشريع تتسع لذلك، فإذا خلا نص تشريعي من ذكر ضمان أورده الدستور، فلا يفسر هذا الخلو بعيدًا عن النص الدستوري، بل يجب تطبيق نصوص الدستور مباشرة لتوفير هذا الضمان.(16)

ذلك أن دستورية النصوص الجنائية تحكمها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها ولا تزاحمها فى تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية؛ فقد أعلى الدستور قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدًا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشر أو غير مباشر – أخطر القيود وأبلغها أثرًا؛ وكان لازمًا بالتالي ألا يكون النص العقابي محملًا بأكثر من معنى، مرهقًا بأغلال تعدد تأويلاته، مرنًا متراميًا على ضوء الصيغة التي أفرغ فيها، متغولًا – من خلال انفلات عباراته – حقوقًا أرساها الدستور، مقتحمًا ضماناتها، عاصفًا بها، حائلًا دون تنفسها بغير عائق؛ ويتعين بالتالي أن يكون إنفاذ القيود التي تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية، رهنًا بمشروعيتها الدستورية، ويندرج تحت ذلك، أن تكون محددة بصورة يقينية لا التباس فيها؛ ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم في الحياة، وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التى تعكسها العقوبة؛ ومن ثم كان أمرًا مقضيًّا، أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون انسيابها أو تباين الآراء حول مقاصدها، أو تقرير المسؤولية الجنائية في غير مجالاتها عدوانًا على الحرية الشخصية التى كفلها الدستور.(17)

ولما كان ضمان الدستور للحرية الشخصية في إطار دولة القانون، ووفق المفاهيم الديمقراطية، يفترض شخصية المسؤولية الجنائية وشخصية العقوبة، وألا يبتدع القاضي عقوبة بطريق القياس، وألا يجعل المشرع أشخاصًا بذواتهم مسؤولين عن فعل أو أفعال لا شأن لهم بها، وألا يتخذ من القرائن القانونية التحكمية سبيلًا إلى إعفاء النيابة من إثبات ركن في الجريمة لا تقوم إلا به، أو من توافر أحد الظروف المشددة لعقوبتها، وألا يقرر المشرع جزاءً جنائيًّا رجعيًّا، وألا يعطل سريان قانون أصلح للمتهم منذ صدوره، ولم يحن وقت العمل به، وألا يقيد الحرية الشخصية بغير الوسائل القانونية السليمة وألا يعاقب على الفعل الواحد أكثر من مرة، وألا يفرض عقوبة من شأنها الحط من قدر الإنسان سواء بالنظر إلى قسوتها أو منافاتها للقيم الخلقية، وألا يحدد عقوبة الجريمة بما يفقدها تناسبهما معًا، وألا يخل كذلك بحق الدفاع، أو يؤثر بوجه عام في الشروط الموضوعية والإجرائية التي تتوافر بها لكل محاكمة منصفة متطلباتها، حتى لا تختل موازينها؛ فإذا أغفل في دائرة الجريمة والعقاب شيئًا مما تقدم، أخل هذا القانون بنطاق الضمانة التي أحاط بها الدستور الحرية الشخصية التي ارتقى بها إلى حد وصفها بأنها من الحقوق الطبيعية، وصار ذلك القانون بالتالي مخالفًا للدستور، وباطلًا.(18)

ومما تقدم يكون النص القانوني – المطعون عليه – قد لحق به عوار تشريعي، فشابه الغموض، والإبهام، والتجهيل في شأن تحديد صفة مرتكب السلوك الإجرامي المؤثم بموجبه، فأصبح لا يفهم ما يرمي إليه المشرع القانوني ومقصده منه، وأصبح تطبيقه مرتبطًا بالأهواء والتفسيرات الشخصية، النابعة من الفهم الخاص للقائمين على تطبيقه، فاختلف القضاء في أمره، وتعددت اتجاهات المحاكم، وتفسيراتها، وأباح بعضها الفعل ما دام الفاعل ليس من ذوي صفة مدير الموقع، وأُثمه البعض الآخر منها، مستندًا في ذلك إلى أن النص خاطب الكافة ولم يقتصر على ذي صفة بعينها ليسأل عن ارتكاب الجريمة المؤثمة بموجبه.

وجاء بذلك مخالفًا للدستور من ناحية أن الأصل فى النصوص العقابية، أن تصاغ فى حدود ضيقة narrowly tailored تعريفًا بالأفعال التي جرَّمها المشرع، وتحديدًا لماهيتها، لضمان ألا يكون التجهيل بها موطئًا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين.19

فخالف بذلك ما ينص عليه الدستور الساري في المادتين 95، 96 وما نصت عليه المادتان 11، 29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما استقرت عليه الدساتير السابقة، ودساتير ومفاهيم الدول الديمقراطية، وكافة المواثيق الدولية، وما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا بشأن الحقوق الطبيعية التي يجوز الإخلال بها أو تقييدها؛ لذلك فقد صار مرجحًا القضاء بعدم دستوريته، لما شابه من عوار تشريعي، جعله مخالفًا للدستور.


الوجه الثاني لعدم دستورية النص: مخالفة مبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة وعدم معقولية العقوبة والإخلال بمبدأ المساواة بين الأفراد في التجريم والعقاب.

جاء النص القانوني المطعون عليه بعدم دستوريته مخالفًا لمبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة، كما جاءت العقوبات التي نص عليها مشوبة بعدم المعقولية؛ فبموجبه رتَّب المشرع القانوني جزاءً جنائيًّا على ارتكاب الأفعال التي أثَّمها هذا النص، وهي – على سبيل الحصر – إنشاء أو إدارة أو استخدام موقعًا أو حسابًا خاصًّا على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا، فجمع بين العقوبة السالبة للحرية والعقوبة المالية كخيار لقاضي الموضوع إن قضى بالإدانة، إلا أن هذا الجزاء جاء مخالفًا لأحكام ونصوص الدستور في ناحية وغير متناسب مع الجريمة المقرر لها من ناحية أخرى، ومخلًّا بمبدأ المساواة بين الأفراد في التجريم والعقاب؛ وذلك تفصيلًا على النحو الآتي بيانه.

أولًا: عدم معقولية العقوبة المقررة في النص المطعون عليه وتعارضها مع الحظر الدستوري لتوقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية.

جاءت العقوبة السالبة للحرية المنصوص عليها – كجزاء جنائي – في النص المطعون عليه بعدم دستوريته متعارضة مع الحق في التعبير عن الرأي، الذي يكفله الدستور الساري، وكفلته الدساتير السابقة، والمواثيق الدولية كافة، وكذلك تعارضه مع الحق في النشر، وهو أحد الحقوق المنبثقة من الحق الدستوري في التعبير عن الرأي، وهو أيضًا أحد وسائل التعبير عن الرأي.

حيث تنص المادة 65 من الدستور الساري على أن “حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير أو النشر”.

وتنص الفقرة الثانية من المادة 71 من الدستور على أن “ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في الأفراد، فيحدد عقوباتها القانون”.

كما تنص الفقرة الثانية من المادة 57 من الدستور على أن “تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، ولا يجوز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها، بشكل تعسفي، وينظم القانون ذلك”.

وتنص المادة 227 من الدستور على أن “يشكل الدستور بديباجته وجميع نصوصه نسيجًا مترابطًا، وكلًّا لا يتجزأ، وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة”.

وحيث أن نصوص الدستور لا تنفصل عن بعضها وتكمل بعضها بعضًا، فلا تتعارض أو تتهادم أو تتنافر فيما بينها، ولكنها تتكامل في إطار الوحدة العضوية التي تنظمها من خلال التوفيق بين مجموع أحكامها وربطها بالقيم العليا التي تؤمن بها الجماعة في مراحل تطورها المختلفة ويتعين دومًا أن يعتد بهذه النصوص بوصفها متآلفة فيما بينها لا تتماحى أو تتآكل بل تتجانس معانيها وتتضافر توجهاتها ولا محل بالتالي لقالة: إلغاء بعضها بعضًا بقدر تصادمها، ذلك أن إنفاذ الوثيقة الدستورية وفرض أحكامها على المخاطبين بها يفترض العمل بها في مجموعها، وشروط ذلك اتساقها وترابطها والنظر إليها باعتبار أن لكل نص منها مضمونًا ذاتيًّا لا ينعزل به عن غيره من النصوص وينافيها أو يسقطها، بل يقوم إلى جوارها متساندًا معها مقيدًا بالأغراض النهائية والمقاصد الكلية التي تجمعها.(20)

ويتبين مما تقدم أن الدستور الساري قد أضفى الحماية الدستورية على حق التعبير عن الرأي، باعتباره أحد أهم الحقوق الإنسانية، واٌقدسها، وسرد عدة صور لممارسة هذا الحق، والتي من بينها حق النشر والكتابة والتصوير وغيرها، وأضفى حماية دستورية أخرى على حق التعبير عن الرأي؛ فوضع قيدًا على مبدأ التجريم والعقاب، وحظر توقيع العقوبات سالبة الحرية بكافة صورها وأنواعها على جرائم النشر والعلانية كأصل عام، واستثنى من ذلك فقط ثلاثة صور من الجرائم على سبيل الحصر: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في الأفراد. كما أضفى أيضًا الحماية الدستورية على الحق في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، وحظر التعسف في حرمان المواطنين من استخدامها.

وإذا بات من المسلم به أن وسائل الاتصال العامة التقليدية والمستحدثة بكافة أشكالها وصورها هي أداة التعبير عن الرأي بالنشر أو بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، وكانت غاية المشرع الدستوري من حظر توقيع العقوبات السالبة للحرية على جرائم النشر والعلانية كأصل عام هي حماية للأفراد المخاطبين بأحكام الدستور من أي استبداد أو طغيان أو ترهيب أو تهديد لحرياتهم الشخصية قد يتعرضون له من جانب السلطة التنفيذية أو التشريعية، نتيجة للتعبير عن آرائهم.

وحيث أن الدستور ليس مجرد تنظيم إجرائي يحدد لكل سلطة تخوم ولايتها وقواعد الفصل بينها وبين غيرها من السلطات، وإنما يبلور الدستور أصلًا قيمًا وحقوقًا لها مضامين موضوعية كفل حمايتها وحرص على أن يرد عنها كل عدوان حتى لا تفقد قيمتها أو تنحدر أهميتها، ولا تنفصل هذه القيم وتلك الحقوق عن الديمقراطية في أشكالها الأكثر تطورًا، ولكنها تقارنها وتقيم أسسها وتكفل إنفاذ مفاهيمها،(21) ولا يجوز في إطار هذه المفاهيم مصادرة الحقوق أو تهميشها أو انتقاصها من أطرافها أو الهبوط بمستوياتها إلى حدود لا تقبلها الدول الديمقراطية.(22)

وكان النص المطعون بعدم الدستورية قد صاغه المشرع القانوني ضمن نصوص أخرى تضمنها القانون 175 لسنة 2018 بغرض حماية استخدام وسائل الاتصال العامة، من خلال مكافحة جرائم تقنية المعلومات، التي رأى المشرع القانوني أنها سلوكيات يجب تأثيمها لما تمثله، عدوانًا على هذا الحق الدستوري في استخدام وسائل الاتصال العامة وحق التعبير عن الرأي بالنشر والكتابة والتصوير.

ولما كان ما تقدم، وقد تضمن النص القانوني المطعون بعدم دستوريته جزاء جنائيًّا يتمثل في عقوبة سالبة للحرية، هي الحبس مدة لا تقل عن سنتين، التي جاءت مطلقة من كل قيد أو شرط؛ فقد أخلَّ هذا النص بنصوص المواد: 57 و65 و71 من الدستور الساري فيما تضمنه من حماية لحق التعبير عن الرأي بالنشر؛ لذلك فقد صار مرجحًا القضاء بعدم دستوريته، لما شابه من عوار تشريعي، جعله مخالفًا للدستور.

ثانيًا: عدم تناسب العقوبة المقررة في النص القانوني المطعون عليه مع طبيعة الجريمة المرتكبة وعدم معقوليتها كعقوبة مقررة لجريمة تابعة للجريمة الأصلية

الصورة الأولى لعدم تناسب العقوبة مع طبيعة الجريمة وعدم معقوليتها

جمع النص المطعون عليه بعدم دستوريته بين العقوبة السالبة للحرية والعقوبة المالية، كخيار أولي لقاضي الموضوع في حالة قضائه بالإدانة، ووضع حد أدنى لكلتا العقوبتين، فعاقب مرتكب أيٍّ من تلك الأفعال بالحبس – كعقوبة سالبة للحرية – مدة لا تقل عن سنتين، كما عاقبه أيضًا بالغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه.

وإذا كانت القاعدة الأساسية في سياسة التجريم والعقاب، أنه لا عقوبة على الأعمال التحضيرية، وهو ما أكدت عليه الفقرة الثانية من المادة 45 من قانون العقوبات رقم ٥٨ لسنة ١٩٣٧، التي نصت على أن: “لا يعتبر شروعًا في الجناية أو الجنحة مجرد العزم على ارتكابها ولا الأعمال التحضيرية لذلك” وغاية ذلك تجرد تلك الأعمال من الأهمية القانونية، إذ أنها لا تنطوي على خطر يهدد حقًّا أو مصلحةً، ويضاف إلى ذلك غموضها، فلا تكشف في صورة أكيدة عن نية إجرامية، إضافة إلى أن عدم العقاب عليها له سنده من سياسة التجريم والعقاب، فعدم العقاب على الأعمال التحضيرية فيه تشجيع على عدم البدء في تنفيذ الجريمة حتى اللحظة الأخيرة، وهي مصلحة تفوق مصلحة المجتمع التي يهدف إلى تحقيقها عن طريق توقيع العقاب؛ وإن كان المشرع يرى أحيانًا أن بعض الأعمال التحضيرية تمثل خطورة خاصة، فيؤثمها، وهي ما تعرف بجرائم الخطر.(23)

وحيث أن المشرع القانوني يحدد جرائم الخطر وفقًا لسياسته في التجريم والعقاب، ويجب أن يحرص في سبيل ذلك أن يقتصر نطاق التجريم على حالات الخطر التي تمثل قدرًا من الأهمية، أما الخطر اليسير المألوف فلا يمتد التجريم إليه، والمعيار الذي يستظهر به المشرع وجود الخطر وجدارته بالتجريم معيار موضوعي، إذ يرجع إلى فكرة السير العادي للأمور ومدى احتمال أن يؤدي هذا السير إلى الاعتداء على الحق.(24)

وإذا كانت المساهمة الجنائية تقوم على عنصرين: تعدد الجناة، ووحدة الجريمة الجنائية المرتكبة، وكانت المساهمة الجنائية التبعية كأحد صور الاشتراك الجنائي، التي تتمثل في أن سلوك الشريك لا عقاب عليه في ذاته، لأنه لا ينال مباشرة من الحق أو المصلحة محل الحماية، وإنما يعاقب عليه إذا وقعت الجريمة كنتيجة له.(25)

وحيث أن السلوك الإجرامي المؤثم في نص المادة المطعون عليه بعدم دستوريته، المتمثل في إنشاء أو إدارة أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًّا على شبكة معلوماتية، وكان هذا السلوك يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا في قانون آخر غير هذا القانون، هو في حقيقة، وفي مضمونه، ووفقًا لقواعد العامة – السالف بيانها – سلوك لا يتخذ أي مظاهر خارجية في الفضاء المادي في أغلب الأحوال، ولا يرقى بطبيعته ليتجاوز مرحلة التفكير والعزم والتصميم على ارتكابه جريمة، وفي أضيق الأحوال قد يمتد إلى وصفه بالعمل التحضيري، وهو ما لا يتصور تجريمه أيضًا إلا في أضيق الحدود الممكنة، ولا يعاقب عليه، ولا يرقي بطبيعته لأن يكون جريمة جنائية مستقلة بذاتها.

وبالفرض الجدلي في أن هذا السلوك يرتقي إلى فعل ذي أهمية قانونية، وينطوي على خطر يهدد حقًّا أو مصلحة، وإن رأى المشرع ضرورة تأثيمه، فإنه لا يعدو أن يكون إحدى صور الاشتراك الجنائي، بالأحرى صورة من صور المساهمة الجنائية التبعية، المتمثلة في المساعدة على ارتكاب الجريمة، على الرغم من أنه لا يرقى إلى ذلك؛ حيث أن هذا السلوك أثَّمه المشرع في حالتين على سبيل الحصر، الأولى إذا كان يهدف إلى ارتكاب جريمة، والثانية إذا كان يهدف إلى المساعدة في ارتكاب جريمة، دون أن يتوقف ذلك على تحقق الجريمة التي يهدف إلى ارتكابها أو تسهيل ارتكابها.

ويتبين من ذلك، أن المشرع القانوني انتهى – في النص القانوني المطعون عليه بعدم دستوريته – إلى العقاب على محض وسيلة، ربما تستخدم في ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا أو ربما لا تستخدم، وجعل من استعمالها جريمة قائمة ومستقلة بذاتها، وليس عملًا تحضيريًّا أو مجرد صورة من صور المساهمة الجنائية.

وإذا كان المشرع القانوني رأى ضرورة اجتماعية في تجريم هذا السلوك، وقدر له جزاءً جنائيًّا؛ فإن هذا الجزاء لا بد أن يخضع لمبدأ التناسب مع ذلك السلوك المؤثم.

وحيث أنه يشترط لقيام الجريمة المؤثمة بموجب النص المطعون عليه، أن يهدف السلوك الإجرامي الخاص بها إلى ارتكاب جريمة أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها بالفعل في قانون آخر غير هذا القانون.

إلا أن العقوبة السالبة للحرية والعقوبة المالية – بمقدارهما وحدودهما السالف بيانها – أصبحتا سيفًا مصلتًا على رقاب المخاطبين بأحكام هذا القانون، وحدهم دون غيرهم ممن ارتكبوا نفس الأفعال المؤثَّمة، التي سبق وأثَّمها المشرع في قانون العقوبات والقوانين العقابية الأخرى.

فبمقتضى هذا النص، أصبحنا أمام نوعين من الجرائم؛ النوع الأول هو الجريمة الأصلية، المعاقب عليها قانونًا في غير الأحوال المنصوص عليها في هذا القانون، أما النوع الثاني فهو الجريمة التي أثَّمها المشرع القانوني بموجب هذا النص، وهي الجريمة التابعة للجريمة الأصلية، والتي يستحيل تصور ارتكابها إذا لم ترتكب الجريمة الأصلية.

وإذا كانت الجريمة الأصلية التي يهدف السلوك الإجرامي للجريمة التابعة إلى ارتكابها جاءت – في عجز النص المطعون عليه – مطلقة، غير مقيدة، أو مشروطة، أو محددة؛ وذلك في عبارة: “… يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا”.

فحدد المشرع القانوني الجزاء الجنائي، وقرر العقوبتين المشار إليهما في النص المطعون عليه، إذا كان السلوك الإجرامي للجريمة التابعة يهدف أو يسهل ارتكاب الجريمة الأصلية، وذلك بغض النظر عن جسامة وخطورة الجريمة الأصلية، سواء كانت مخالَفة أو جنحة أو جناية، وبغض النظر عن العقوبة المقررة لها سواء كانت عقوبة مالية كالغرامة، أو سالبة للحرية كالحبس أو السجن، أو بدنية كالإعدام، وبغض النظر أيضًا عن مقدارها وحديها الأدنى والأقصى.

ومع إطلاق النص القانوني المطعون عليه للجريمة الأصلية، دون ضابط أو معيار لها، قد ترتب عليه انفلاته، واتساعه، وتمييعه، ومروقه عن حد الاعتدال، واتسم بالإفراط في التأثيم، بما يفقد عقوبة الجريمة التابعة معقوليتها، ويحول بين أي تناسب فيه بين العقوبة والجريمة، المقررتين بموجبه.

وتتجلى نتائج هذا التمييع والانفلات والإفراط في التأثيم، إذا كانت الجريمة الأصلية – التي تتبعها الجريمة المنصوص عليها في النص القانوني المطعون بعدم دستوريته – من الجرائم المعاقب عليها بالحبس أو الغرامة أو كليهما وعلى وجه خاص تلك الجرائم التي يقل الحد الأدنى لعقوبة الحبس فيها عن سنتين، أو يقل الحد الأدنى لعقوبة الغرامة فيها عن مائة ألف جنيه.

ولمَّا كانت الجرائم الأصلية المسندة إلى المتهم، التي أحيل إلى المحاكمة بشأن ارتكابها، تضمنت تعددًا معنويًّا وفقًا لأحكام المادة 32 من قانون العقوبات، وكانت الجريمة الجريمة ذات العقوبة الأشد هي المنصوص عليها في المادة (٧٦) من قانون الاتصالات رقم 10 لسنة 2003، والتي تنص على أنه “مع عدم الإخلال بالحق فى التعويض المناسب، يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من: ١- استخدم أو ساعد على استخدام وسائل غير مشروعة لإجراء الاتصالات. ٢- تعمد إزعاج أو مضايقة غيره بإساءة استعمال أجهزة الاتصالات”.

وقد حدد المشرع فيها عقوبتي الحبس والغرامة التي لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه أو بإحداهما كجزاء على ارتكاب تلك الجريمة الأصلية؛ من ثم نرى التباين الواضح بين عقوبة الجريمة الأصلية – سالفة البيان – وعقوبة الجريمة التابعة.

فجاءت عقوبة الحبس في الجريمة الأصلية بحديها الأدنى والأقصى وفق القواعد العامة المنصوص عليها في المادة 18 من قانون العقوبات رقم ٥٨ لسنة ١٩٣٧؛ بحيث لا تقل عن أربع وعشرين ساعة ولا أن تزيد على ثلاث سنين، وجاءت عقوبة الغرامة بحدها الأدنى وهو خمسمائة جنيه وحدها الأقصى الذي لا يجاوز عشرين ألف جنيه.

بينما جاءت الجريمة التابعة للجريمة الأصلية السابقة معاقبًا عليها بالحبس مدة لاتقل عن سنتين؛ متجاوزة بذلك الحد الأدنى للجريمة الأصلية الذي لا يقل عن أربع وعشرين ساعة فقط، وجاءت أيضًا معاقبًا عليها بالغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه؛ متجاوزة الحدين الأدنى والأقصى للجريمة الأصلية، التي لاتقل عن خمسمائة جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه.

من ثم لا يتصور أن تكون العقوبة المقررة للجريمة التابعة أشد وأكثر قسوة من العقوبة المقررة للجريمة الأصلية؛ فمن غير المقبول عقلًا ومنطقًا أن يعاقب من أدار الموقع أو الحساب الخاص بعقوبة الحبس مدة سنتين والغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه وبإحداهما، وذلك كحد أدنى للعقوبة المقررة لهذه الجريمة؛ بينما يعاقب من أساء استعمال هذا الموقع أو الحساب الخاص عمدًا بغرض إزعاج أو مضايقة الغير بعقوبة الحبس مدة 24 ساعة والغرامة التي لا تقل عن خمسمائة جنيه وبإحداهما، كحد أدنى للعقوبة المقررة لهذه الجريمة.

الصورة الثانية لعدم تناسب العقوبة مع طبيعة الجريمة وعدم معقوليتها

إضافة إلى ما تقدم، فإن الجريمة المؤثمة بموجب نص المادة (27) – المطعون عليه – وهي إدارة موقعًا أو حسابًا شخصيًّا بهدف ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها قانونًا، تُعد من الجرائم المركبة، التي يحتاج تحققها إلى توافر عناصر وشروط عدّة، يقع البعض منها في النصوص التي تُجرم فعلًا بعينه، بخلاف جريمة إدارة الموقع، وما يزيد هذه الجريمة تعقيدًا، استخدام المُشرع في البداية عبارة: “كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًّا على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا”، حيث أن السياق اللغوي المُتعلق بلفظ “يهدف” يختلف عن غيره من ألفاظ تحقق ارتكاب الجريمة ووقوعها، والاستهداف هو فعل أوَّلي لا يُشترط معه تحقق الجريمة، فهو في حقيقته جزء من القصد الجنائي الذي يجب تحققه، وهو أمر يصعب إثباته عمومًا، ويحتاج إلى وجود حالة قانونية مستمرة، ومكونة من أكثر من فعل، حتى يصح القول بتوافر فعل الاستهداف، إضافة إلى ذلك فإن حدوث الجريمة لا يُشترط معه ثبوت فعل الاستهداف، فقد يحدث فعل الجريمة بشكل عرضي لمرة واحدة، دون أستهداف أو تكرار.

وهو ما يعد مخالفًا لما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية والتي قررت أنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعًا واضحًا، ولكنها تجيل بصرها فيها، منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرًا خارجيًّا وماديًّا عن إرادة واعية. ولا يتصور بالتالي وفقًا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم، والنتائج التي أحدثها بعيدًا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. ويلزم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته – تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكًا خارجيًّا مؤاخذًا عليه قانونًا. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيًّا في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.26

كما أنه من غير المقبول أن يساوي المُشرِّع بين من أنشأ ومن أدار أو استخدم الموقع، لاختلاف البواعث على ارتكاب الجريمة، ومدى إمكانية إثباتها، بالإضافة إلى عدم وجود تناسب بين صور التجريم والعقوبات المترتبة عليها، حيث يواجه من أنشأ موقعًا ومن استخدمه بنفس العقوبة التي تصل إلى الحبس مدة لا تقل عن سنتين وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه، وهو أمر يجافي المنطق العقابي، فلا يمكن المساواة بين من اتجهت إرادته إلى إنشاء أو إدارة موقع أو حساب لارتكاب جريمة أو من استخدمه ولو لمرة واحدة في ارتكاب جريمة، وبين من ارتكب الجريمة بشكل عرضي أو بدون قصد أو نتيجة خطأ غير عمدي كالتقصير أو الإهمال؛ فارتكاب جريمة بمناسبة إدارة المواقع والحسابات أمر وارد بطبيعة الحال، ولكن لا يمكن مساواته، بارتكاب جريمة عمدية مخططة كإنشاء أو إدارة الموقع أو الحساب بهدف ارتكاب جريمة أو أكثر معاقب عليها قانونًا.

ثالثًا: الأساس الدستوري لمبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة والمساواة في التجريم والعقاب

إن مناط شرعية الجزاء – جنائيًّا كان أم مدنيًّا – أن يكون متناسبًا مع الأفعال التي أثَّمها المشرع أو حظرها، أو قيَّد مباشرتها؛ ذلك أن الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل بها إلا بقدر لزومها، نأيًا بها عن أن تكون إيلامًا غير مبرر، يؤكد قسوتها في غير ضرورة، ولا يجوز بالتالي أن تناقض بمداها أو بطرائق تنفيذها، القيم التي ارتضتها الأمم المتحضرة، مؤكدة بها ارتقاء حسها، تعبيرًا عن نضجها عن طريق تقدمها، واستواء فهمها لمعايير الحق والعدل التي لا يصادم تطبيقها ما يراه أوساط الناس تقييمًا خلقيًّا واعيًا لمختلف الظروف ذات الصلة بالجريمة.(27)

إضافة إلى أنه كلما كان الجزاء الجنائي بغيضًا أو عاتيًا، أو كان متصلًا بأفعال لا يجوز تجريمها، أو مجافيًا بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسبًا مع الأفعال التي أثمها المشرع، فإن هذا الجزاء لا يكون كذلك مبررًا، ذلك أن السلطة التي يملكها المشرع فى مجال التجريم، حددتها قواعد الدستور، فلا يجوز أن يؤثم المشرع أفعالًا فى غير ضرورة اجتماعية، ولا أن يقرر عقوباتها بما يجاوز قدر هذه الضرورة.(28)

ويجب ألا تكون العقوبة المقيدة للحرية ممعنة في القسوة، فالجزاء يجب أن يتناسب مع الفعل المؤثم ويرتبط هذا المعيار ارتباطًا وثيقًا بالحق الدستوري في الحرية الشخصية، وما يتفرع عنه من ضروة عدم المساس بهذه الحرية إلا بالقدر اللازم لتحقيق الهدف المبتغَى من العقوبة، الردع بشقيه، لا ينبع في المقام الأول من شدة العقوبة بقدر ما ينبع من قدرة الدولة على توقيعها على جميع الجناة، فلا يفلت منهم سوى القلة القليلة، وأن يكون توقيت توقيع العقاب لا يفصل بينه وبين ارتكاب الجريمة زمن طويل. 29

فلا يجوز أن تكون العقوبة في أثرها، أداة عاصفة بالحرية، تقمعها أو تقيدها بالمخالفة للقيم التي ارتضتها الدول الديمقراطية في مظاهر سلوكها على اختلافها، وهي قيم تظل في ضوابطها المعاصرة، إطارًا للنظم الجنائية جميعها. وإذا كان من المقرر أن الحرية في كامل أبعادها لا تنفصل عن حرمة الحياة، أو حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها وزنها، فقد تعين موازنة حقوق الجماعة ومصالحها الأساسية بحقوق الفرد قبلها، بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويهًا لأهدافها.(30)

فالقاعدة القانونية لا تكون ضرورية إلا إذا وضعت لمعالجة وضع معين، فتعالجه على نحو كافٍ وبغير مبالغة؛ فيكفل تطبيق القاعدة على هذا النحو معالجة هذا الوضع بطريقة منطقية، وهو ما يعبر عنه بالتناسب. وبذلك يتضح أن الضرورة التي تُلجئ المشرع إلى تحريم سلوك معين تفترض أن التجريم ودرجته يتناسبان مع الهدف من هذا التجريم؛ وعلى هذا النحو فإن علاقة “الضرورة” تعادل علاقة “التناسب” والواقع أن الضرورة يجب أن تقدر بقدرها، ومن ثم يجب مراعاة التناسب بين الحقوق والحريات المحمية والتي يلحقها الضرر أو الخطر، وما يتعرض له من يمس هذه الحقوق والحريات من خطر يسبب ها التجريم، وكذلك الشأن بالنسبة إلى العقوبات التي تعبر عن التجريم، فإنها يجب أن تكون متناسبة مع الهدف من التجريم والعقاب كما بيَّنا. وهكذا يتضح أن الهدف من القانون يلعب دورًا مشتركًا في تحديد الضرورة والتناسب في التجريم من جهة، وفي تحديد التناسب في العقوبات من جهة أخرى.31

ولا يكون الجزاء الجنائي مخالفًا للدستور، إلا إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة بين مداه وطبيعة الجريمة التي تعلق بها؛ ذلك أن هذا الجزاء يعتبر عقابًا واقعًا بالضرورة في إطار اجتماعي، منطويًا غالبًا من خلال قوة الردع على تقييد الحرية الشخصية، قائمًا على قيم ومصالح اجتماعية تبرره؛ ويتعين بالتالي أن يكون جزاء الجريمة متدرجًا بقدر خطورتها ووطأتها حتى لا يتمحَّض إعناتًا؛ ومن ثم لا يعتبر الجزاء موافقًا للدستور إلا إذا استلهم ضرورة اجتماعية لا تناقض الأحكام التي تضمنها.(32)

وحيث أن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها يقتضي أن تتوازن خصائصها مع وطأة عقوبتها؛ وكان ذلك مؤداه: أن يفرد المشرع لكل جريمة العقوبة التى تناسبها، إلا أن ما يكون من الجزاء ملائمًا لجريمة بذاتها، ينبغي أن يتحدد على ضوء درجة خطورتها ونوع المصالح التي ترتبط بها، وبمراعاة أن الجزاء الجنائي لا يكون مخالفًا للدستور إلا إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة la disproportion manifeste بين مداه وطبيعة الجريمة التي تعلق بها. ودون ذلك يعني إحلال هذه المحكمة لإرادتها محل تقدير متوازن من السلطة التشريعية للعقوبة التي فرضته.(33)

ومن المقرر أيضًا – في قضائها – أن الأصل فى الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها، إلا من أدين بارتكابها باعتباره مسؤولًا عنها. وهي بعدُ عقوبة يجب أن تتوازن “وطأتها” مع طبيعة الجريمة موضوعها، بما مؤداه: أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن “شخصية العقوبة” وتناسبها مع الجريمة محلها، مرتبطتان بالشروط التى يعد بها الشخص قانونًا “مسؤولًا عن ارتكابها”. وهو ما يعنى أن الأصل فى العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل فيها إلا بقدر، نأيًا بها عن أن تكون إيلامًا غير مبرر، يؤكد قسوتها فى غير ضرورة Unnecessary Cruelty and Pain ذلك أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين فى تنظيم بعض العلائق التى يرتبط بها الأفراد فيما بينهم بعضهم ببعض، أو من خلال مجتمعهم بقصد ضبطها، إلا أن القانون الجنائي يفارقها فى اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن ارتكابها. وهو بذلك يتغيا أن يحدد – ومن منظور اجتماعي – ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيًّا ممكنًا، بما مؤداه: أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررًا إلا إذا كان مفيدًا من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزًا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريًّا، غدا مخالفًا للدستور. ولا يتصور بالتالي أن يكون الجزاء الجنائي منصرفًا إلى تقرير عقوبة تدل – بمضمونها أو مداها أو طرائق تنفيذها – على منافاتها للقيم التى ارتضتها الأمم المتحضرة، والتي تؤكد بمضمونها رقي حسها، وتكون علامة على نضجها على طريق تطورها. وفى هذا الإطار لا يجوز أن يكون الجزاء الجنائي بغيضًا Obnoxious أو عاتيًا. وهو يكون كذلك إذا كان بربريًّا Barbarous أو تعذيبيًّا Torturous، أو قمعيًّا، أو متصلًا بأفعال لا يجوز تجريمها، وكذلك إذا كان مجافيًا – بصورة ظاهرة – للحدود التى يكون معها متناسبًا مع الأفعال التي أثَّمها المشرع، بما يصادم الوعي أو التقدير الخلقي لأوساط الناس فى شأن ما ينبغي أن يكون حقًّا وعدلًا على ضوء مختلف الظروف ذات الصلة، ليتمحض الجزاء عندئذ عن إهدار للمعايير التى التزمتها الأمم المتحضرة فى معاملتها للإنسان.(34)

وواقع الأمر أن الدستور إما أن يعبر عن أحكامه بقواعد محددة تقيد بها إرادة المشرع، وإما أن يلجأ إلى وضع مبادئ تحدد الغايات التي يجب تحقيقها من وراء نصوصه، وتستنبط هذه الغايات من مجمل نصوص الدستور. ومن واجب المحكمة الدستورية العليا أن تبلور المضمون القاعدي لهذه المبادئ التي تحدد مقاصد المشرع الدستوري، وتراقب المشرع العادي في ضوء احترامه لهذا المضمون. وبالتالي تكون رقابة المحكمة الدستورية العليا للمشرع في تقديره للتناسب هي رقابة مشروعية دستورية وليست محض تدخل في سلطته التقديرية، وذلك باعتبار أن مقاصد الدستور وغاياته وإن تجلت في ثنايا الدستور كمبادئ عامة، إلا أن المحكمة الدستورية بحكم رسالتها تضفي عليها مضمونًا قاعديًّا يأخذ وضعه الأسمى في هرم القواعد القانونية المتدرج، فيتقيد المشرع العادي به فيما يضعه من قواعد.(35)

رابعًا: أثر عدم التناسب بين العقوبة والجريمة وعدم معقولية العقوبة والإخلال بمبدأ المساواة بين الأفراد في التجريم والعقاب

ومما تقدم يكون النص القانوني – المطعون عليه – قد جاء مخالفًا للدستور من ناحية مخالفته لمبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة المقررة لها، ومن ناحية معقولية العقوبة المقررة؛ فلم يراعي المشرع القانوني ما يجوز وما لا يجوز تجريمه؛ فخالف الحماية الدستورية لحق التعبير عن الرأي والقيد الذي وضعه المشرع الدستوري على مبدأ التجريم والعقاب، بحظر توقيع العقوبات سالبة الحرية بكافة صورها وأنواعها على جرائم النشر والعلانية كاصل عام، ومد سلطته في التجريم والعقاب إلى سلوك لم يتخذ أي مظاهر خارجية في الفضاء المادي، ولا يرقى بطبيعته ليتجاوز مرحلة التفكير والعزم والتصميم على ارتكابه جريمة، وفي أضيق الأحوال قد يمتد إلى وصفه بالعمل التحضيري، وهو ما لا يتصور تجريمه أيضًا إلا في أضيق الحدود الممكنة.

ولم يكتفِ المشرِّع القانوني بتجريم ما لا يتصور تجريمه، بل امتد الأمر إلى ترتيب جزاء جنائي ممعنًا في القسوة والإفراط في العقاب؛ فشرع عقوبة حدها الأدنى سنتان وغرامة قدرها مائة ألف جنيه أو إحداهما في أفضل الأحوال، وإذا كان هذا السلوك المؤثم – إن سلمنا جدلًا بجواز تأثيمه – في حقيقته أيضًا ليس إلا جريمة تابعة، تؤثم استعمال وسيلة مشروعة مفترضة نية غامضة ومبهمة، وغير ظاهرة في الفضاء المادي حتى يتسنى إدراكها والتحقق من أنها سلوك حقيقي وليس محض ظنون.

أما الجريمة الأصلية وهي استعمال الموقع أو الحساب الخاص كوسيلة في ارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في القوانين العقابية الأخرى، كجرائم السب والقذف وتعمد الإزعاج، جميعها وضع المشرع لكل منها جزاء جنائيًّا أقل من الجزاء المقرر للجريمة المؤثمة بموجب النص المطعون عليه؛ فأصبح المتهم بارتكاب الجريمة التابعة في مركز أسوأ من مركز الشريك في ارتكاب الجريمة الأصلية، ومعرضًا للقضاء عليه بعقوبة – عقوبة سالبة للحرية أو عقوبة مالية – أكثر قسوة سواء من مرتكب الجريمة الأصلية أو الشريك في ارتكابها.

من ثم يكون النص المطعون عليه بعدم دستوريته قد خالف أحكام الدستور الساري، فيما ينص عليه في المواد: 4، 9، 53، 57، 65، 71، 96، وما نصت عليه المواد: 2، 5، 7 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادتين: 7، 14/1 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وما استقرت عليه الدساتير السابقة، ودساتير ومفاهيم الدول الديمقراطية، وكافة المواثيق الدولية، وما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا بشأن الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها؛ لذلك فقد صار مرجحًا القضاء بعدم دستوريته، لما شابه من عوار تشريعي، جعله مخالفًا للدستور.


الطلبات

دفاعه الشكلية والإجرائية والموضوعية، فإنه يلتمس من المحكمة الموقرة في شأن ما تقدم بيانه في هذه المذكرة الآتي:

  • أصليًّا في هذا الشأن: وقف الدعوى تعليقيًّا، وإحالة أوراقها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في مسألة مدى دستورية نص المادة 27 من القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، لمخالفته نصوص المواد: 4، 9، 53، 57، 65، 71، 95، 96 من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية.
  • احتياطيًّا في هذا الشأن: تأجيل نظر الدعوى، مع التصريح للدفاع بإقامة دعوى أمام المحكمة الدستورية للفصل في مسألة مدى دستورية نص المادة 27 من القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، لمخالفته نصوص المواد: 4، 9، 53، 57، 65، 71، 95، 96 من الدستور الساري لجمهورية مصر العربية، وتحديد أجل لذلك.

وكيل المتهم

المحامي

المراجع

1 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 6 يونيو 2020، الدعوى رقم 248 لسنة 30 قضائية “دستورية”.

2 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 6 يونيو 2020، الدعوى رقم 248 لسنة 30 قضائية “دستورية”.

3 قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1699 لسنة 2020، الجريدة الرسمية، العدد 35 تابع (ج)، في 27 أغسطس سنة 2020.

4 حكم محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 29 يناير 2022، الدعوى رقم 2084 لسنة 2021 جنح اقتصادية.

5 حكم محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 24 يناير 2022، الدعوى رقم 2262 لسنة 2021 جنح اقتصادية – حكم محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 29 مارس 2022، الدعوى رقم 199 لسنة 2022 جنح اقتصادية.

6 حكم محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 29 نوفمبر 2021، الدعوى رقم 1592 لسنة 2021 جنح اقتصادية

7 د. إبراهيم عيد نايل، قانون العقوبات، القسم العام، النظرية العامة للجريمة، 2013، ص 15.

8 د. إبراهيم عيد نايل، المرجع السابق، ص 36 وما بعدها – د. السعيد مصطفى السعيد، الأحكام العامة في قانون العقوبات، ص 89.

9 القاضي د. سري محمود صيام، صناعة التشريع، الكتاب الأول، الهيئة العامة المصرية للكتاب، ط 2018، ص 151.

10 دليل جمهورية مصر العربية لإعداد وصياغة مشروعات القوانين، وزارة العدل، الإصدار الأول، يوليو 2018، ص51.

11 القاضي د. سري محمود صيام، المرجع السابق، ص 151.

12 د. أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق، ط 2000، ص 453.

13 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 4 نوفمبر 2012، الدعوى رقم 183 لسنة 29 قضائية “دستورية.

14 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 15 سبتمبر 1997، الدعوى رقم 48 لسنة 18 قضائية “دستورية.

15 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 1 أكتوبر 1994، الدعوى رقم 20 لسنة 15 قضائية “دستورية”.

16 د. أحمد فتحي سرور، المرجع السابق، ص 447 – Crime,29 des.1990,siery,1901-1-108

Louis Favoreu; La constitutionnalisation du droit pénal et de la procédurepénale; Dorit penal contemporain, Melanges en I honnour dAndre Vitu, Edition cujas, 1989, p.201.

17 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 3 يوليو 1995، الدعوى رقم 25 لسنة 16 قضائية “دستورية”.

18 القاضي د. عوض المر، الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية، مركز رينيه جان دبوي للقانون والتنمية، ص1420 – القاضي د. عبد العزيز سالمان، الرقابة القضائية على قصور التنظيم التشريعي، 8 يونيو 2020، موقع منشورات قانونية، رابط https://manshurat.org/node/66837#_ftn4، تاريخ الزيارة 10 مارس 2022.

19 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 3 يوليو 1995، الدعوى رقم 25 لسنة 16 قضائية “دستورية”.

20 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 5 فبراير 1994، الدعوى رقم 23 لسنة 15 قضائية “دستورية” – حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 2 يناير 1999 الدعوى رقم 15 لسنة 18 قضائية “دستورية” – حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 8 يوليو 2000، الدعوى رقم 11 لسنة 13 قضائية “دستورية”.

21 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 15 نوفمبر 1997، الدعوى رقم 56 لسنة 18 قضائية “دستورية”.

22 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 3 يناير 1998، الدعوى رقم 132 لسنة 18 قضائية “دستورية”.

23 د. مصطفى فهمي الجوهري، شرح قانون العقوبات، القسم العام النظرية العامة للجريمة، 2017، دار النهضة العربية، ص 148.

24 د. إبراهيم عيد نايل، المرجع السابق، ص 138.

25 د. إبراهيم عيد نايل، المرجع السابق، ص 335.

26 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 3 يوليو 1995، الدعوى رقم 25 لسنة 16 قضائية “دستورية”.

27 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 4 يناير 1997، الدعوى رقم 2 لسنة 15 قضائية “دستورية”.

28 الحكم السابق.

29 دليل جمهورية مصر العربية لإعداد وصياغة مشروعات القوانين، وزارة العدل، الإصدار الأول، يوليو 2018، ص53.

30 القاضي د. عوض المر، المرجع السابق، ص1052 – حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 5 يوليو 1997، الدعوى رقم 24 لسنة 18 قضائية “دستورية”.

31 د. أحمد فتحي سرور، المرجع السابق، ص501.

32 القاضي د. عوض المر، المرجع السابق، ص1061.

33 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 15 سبتمبر 1997، الدعوى رقم 48 لسنة 18 قضائية “دستورية”.

34 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 3 فبراير 1996، الدعوى رقم 33 لسنة 16 قضائية “دستورية”.

35 د. أحمد فتحي سرور، المرجع السابق، ص 501.