مذكرة إيضاحية: غياب المظلة التأمينية للعاملين في اقتصاد المنصات

مقدمة

شهد سوق العمل في العقود الأخيرة تحولات جذرية بفضل التطور التكنولوجي. أدى ذلك إلى حدوث تغيرات في طبيعة العمل وظهور أنماط عمل جديدة، مثل العمل الحر والمستقل والعمل عبر منصات الخدمات الإلكترونية. يقدم هؤلاء العاملون خدماتهم عن طريق منصات تقديم الخدمات التي توفر تطبيقات إلكترونية لتسهيل التواصل بين المستهلكين ومقدمي الخدمات.

تشمل هذه المنصات مجموعة متنوعة من الخدمات مثل النقل الإلكتروني والتوصيل، وخدمات المنازل، وغيرها من الخدمات التي تلبي احتياجات الأفراد والشركات بسرعة وكفاءة. لا يندرج العاملون بمثل هذه المنصات تحت تعريف العامل التقليدي لدى صاحب عمل، ولا يمكن اعتبارهم عمالة غير منتظمة بالمعنى القانوني.

تتناول هذه المذكرة الإيضاحية الإشكالية القانونية المتمثلة في غياب المظلة التأمينية للعاملين في اقتصاد المنصات، وذلك في ضوء قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات الجديد. تستعرض المذكرة السياق العام للقانون وتحلل أسباب عدم خضوع العديد من أصحاب العمل الحر لأحكام القانون، مع التركيز على العاملين عبر منصات الخدمات الإلكترونية.

تستعرض المذكرة أيضًا التعديلات التشريعية المقترحة التي قدمها بعض النواب لتوسيع نطاق القانون ليشمل فئات جديدة من العمالة غير المنتظمة. كما تناقش مدى كفاية هذه التعديلات في معالجة مشكلة العاملين عبر المنصات الإلكترونية.

في الختام، تقدم المذكرة توصية بتعديل تشريعي لقانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات أو إصدار قرارات تنظيمية مؤقتة لإدراج العاملين بمنصات تقديم الخدمات الإلكترونية وأصحاب العمل الحر تحت مظلة التأمينات الاجتماعية، إلى حين إجراء مراجعة تشريعية شاملة تعالج هذه الإشكالية.

قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات

صدر قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات الجديد في أغسطس 2019، وحُدِد تاريخ العمل بأغلب نصوصه بداية من يوم 1 يناير 2020. حمل القانون رقم 148 لسنة 2019، ولحقت به بعد عام اللائحة التنفيذية للقانون. يأتي القانون كبديل عن قانون نظام التأمين الاجتماعي الشامل، رقم 112 لسنة 1980، المُلغى العمل به.

تضمن القانون أثنى عشر بابًا، خُصِصت كالتالي:

  • الأول: التعريفات
  • الثاني: إدارة وتمويل نظام التأمينات الاجتماعية والمعاشات
  • الثالث إلى السادس: تأمين حالات الشيخوخة، والوفاة، والمرض، والعجز، وإصابات العمل، والبطالة
  • السابع: الرعاية الصحية لأصحاب المعاشات
  • الثامن: المسحقون للمعاش
  • التاسع: الخزانة العامة
  • العاشر والحادي عشر: الأحكام العامة والمتنوعة، والانتقالية والوقتية
  • الثاني عشر: العقوبات

فوض القانون في بعض مواده رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي في إصدار قرارات مكملة لما تضمنه من أحكام شروط، ومنها على سبيل المثال إَضافة فئات أخرى للعمالة غير المنتظمة الخاضعة لأحكام هذا القانون.

مقترحات برلمانية لتعديل القانون

تقدم عدد من النواب بطلبات لتعديل بعض نصوص قانون التأمينات الاجتماعية.  في أوائل عام 2022، ناقشت لجنة القوى العاملة بمجلس النواب مشروع قانون مقدم من النائب ضياء الدين داود، وموقع من ستين آخرين من النواب. كان النائب قد تقدم من قبل، في نوفمبر 2021، بذات المشروع لكنه لم يحقق أي تقدم حينها. 

تضمن مشروع القانون تعديل ثمانية مواد، وإضافة مادة وإلغاء مادتين من مواد القانون، فضلًا عن إلغاء الجدول رقم (5) المرافق له. جاءت المطالبة بهذه التعديلات كنتيجة لإغفال القانون لبعض فئات العمالة غير المنتظمة في قطاعات السياحة، والبناء والتشييد، والصيد، والمناجم والمحاجر، والمحال التجارية، ومحطات الوقود، والمقاهي والنوادي، والفنيين بقطاع السينما والدراما والمسرح.

لم تكن هذه المطالبة الوحيدة في البرلمان لتعديل قانون التأمينات الاجتماعية. في ديسمبر 2021، تقدمت النائبة سولاف درويش، وكيل لجنة القوى العاملة، بمشروع قانون آخر لتعديل قانون التأمينات الاجتماعية. أُحيل مشروع القانون إلى لجنة القوى العاملة بعد توقيع ستين نائب عليه، إلا أن مصير هذه المشروعات لم يُحسم بعد.  

على الرغم من الجهود المبذولة لتوسيع مظلة التأمين الاجتماعي، إلا أنها لم تواكب التطورات التي يشهدها سوق العمل، والتي تشمل زيادة نسبة انتشار أنماط العمل الحر والمستقل. تلعب منصات تقديم الخدمات دورًا رئيسيًا في هذا التطور من خلال التنسيق بين العاملين بفئاتهم المختلفة وبين مستخدمي المنصات الباحثين عن الخدمات.

من أبرز الأمثلة على ذلك، العاملون عبر تطبيقات النقل الإلكتروني مثل أوبر وكريم، ومنصات تقديم الخدمات المنزلية مثل تاسكتي وفي الخدمة. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار العاملين عبر هذه المنصات موظفين لدى المنصة ذاتها، كما لا يمكن تصنيفهم كعمالة غير منتظمة لأسباب قانونية سيتم توضيحها لاحقًا في المذكرة.

تنامى دور منصات تقديم الخدمات المختلفة بشكل كبير في ظل جائحة كورونا، حيث فرضت ظروف التباعد الاجتماعي والقيود على الحركة اعتمادًا متزايدًا على الخدمات الإلكترونية لتلبية الاحتياجات اليومية. استمر وتزايد الاعتماد على هذه المنصات حتى بعد رفع القيود التي فرضتها الجائحة. كما اتجه العديد من الأفراد للعمل من خلالها لما توفره من فرص عمل مرنة، خاصة في ظل ارتفاع معدلات البطالة.

يستدعي هذا التحول ضرورة تحديث القوانين والتشريعات المتعلقة بالعمل، وعلى رأسها قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات. ينبغي أن تضمن التشريعات شمول العاملين عبر هذه المنصات تحت مظلة الحماية التأمينية. يتطلب الأمر إعادة تعريف مفهوم “العامل” و”صاحب العمل” في ضوء هذه الأنماط الجديدة من العمل، وتحديد حقوق وواجبات كل طرف، وتوفير آليات لحماية العاملين من الاستغلال وضمان حصولهم على حقوقهم الأساسية مثل التأمين الصحي والمعاشات التقاعدية.

غياب العاملين في اقتصاد المنصات من مظلة قانون التأمينات الاجتماعية

صنف قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات الفئات التي تسري عليها أحكامه إلى أربع فئات هم:

  • العاملين لدى الغير
  • أصحاب الأعمال ومن في حكمهم
  • العاملين المصريين في الخارج
  • العمالة غير المنتظمة

حدد القانون لكل فئة مجموعة من الضوابط والشروط لإدراج أشخاص محددين دون غيرهم تحت كل فئة من هذه الفئات. ترتب على ذلك أن من لا ينطبق عليهم هذه الشروط لا يسري عليهم هذا القانون، ولا تشملهم مظلة التأمين الاجتماعي. تظهر هذه الإشكالية بوضوح مع أصحاب العمل الحر والمستقل، حيث يصعب تصنيفهم ضمن الفئات الأربع المحددة في القانون لعدم استيفائهم شروطها وضوابطها.

تشترط فئة العاملين لدى الغير وجود علاقة عمل منتظمة تربط المؤمن عليه بصاحب العمل. فسرت اللائحة التنفيذية مفهوم الانتظام بأن يكون العمل الذي يزاوله العامل يدخل بطبيعته فيما يزاوله صاحب العمل من نشاط، أو كان يستغرق ستة أشهر على الأقل. 

لا تنطبق هذه الضوابط على أصحاب العمل الحر والمستقل، نظرًا لعدم وجود علاقة عمل منتظمة ومستمرة بالمفهوم السابق. فيتميز العمل الحر بالمرونة والاستقلالية، وغالبًا ما يكون مرتبطًا بمهام قصيرة الأجل لا تصل مدتها لما يجاوز ستة أشهر. كما أن مهام العمل الحر في كثير من الأحيان لا تدخل في طبيعة العمل الذي يزاوله صاحب العمل. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن تصنيف منصات تقديم الخدمات الإلكترونية كصاحب عمل بالمعنى القانوني، لأنها تعمل كوسيط بين العاملين والمستخدمين.

استثنى القانون بعض الأشخاص على سبيل الحصر من الخضوع لهذه الشروط والضوابط، ومنهم عمال المقاولات، والصيد، والنقل البري، والشحن والتفريغ. لكن أغفل القانون التطور الجاري في طبيعة الوظائف المستحدثة، وخاصة المهن التي تعمل من خلال منصات تقديم الخدمات الإلكترونية، حيث لم يدرج أصحاب العمل الحر ضمن هذه الفئات.

لا يمكن أيضًا التعامل مع العامل الحر ضمن فئة أصحاب الأعمال. يشترط القانون توافر شرط من أثنين لإدراج صاحب العمل تحت هذه الفئة وبالتالي تحت مظلة قانون التأمين الاجتماعي، والشروط هي: 

  • أن تنظم أنشطته قوانين خاصة.
  • يَلزم لمزاولة نشاطه الحصول على ترخيص من الجهة الإدارية المختصة.

لا تنطبق أي من هذه الشروط على غالبية العمال المستقلين. فلم يُعّرف المشرِّع الكثير من الأنشطة التي يؤديها أصحاب العمل الحر، كما أنه لا توجد حتى الآن أي قوانين تنظمها.

كذلك الأمر بالنسبة لفئة العمالة غير المنتظمة، وهي الأقرب للعمل الحر والمستقل. ذكر القانون العاملين بهذه الفئة بشكل محدد وحصري دون السماح بإدراج فئات أخرى تحتها.

يمكن تصنيف بعض أصحاب العمل الحر كصغار المشتغلين لحساب أنفسهم، مثلما هو الأمر في حالة الباعة الجائلين والحرفيين والذين يخضعوا لفئة العمالة غير المنتظمة. كما أن بعضهم ينطبق عليه الشروط الواردة باللائحة التنفيذية للقانون وهي “عدم استخدام عمال، وعدم ممارسة النشاط في محل عمل ثابت له سجل تجاري” وأن يكون النشاط غير خاضع لنظام الترخيص من الجهات الإدارية. على الرغم من ذلك، ترفض الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي إدراج بعض أصحاب العمل الحر تحت هذه الفئة.

لا تنطبق فئة العمالة غير المنتظمة أيضًا على العاملين عبر منصات تقديم الخدمات؛ حيث أنهم غالبًا ما يعملون لصالح الشركات المالكة للمنصات، ويستخدمون التكنولوجيا كأداة للعمل، وقد يكون لديهم أماكن عمل افتراضية أو حتى ثابتة في بعض الأحيان.

بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تكون العلاقة بين العاملين عبر المنصات والشركات المالكة لها علاقة تعاقدية غير تقليدية. فلا يتمتع العاملون بنفس الحقوق والحماية التي يتمتع بها العاملون التقليديون. يؤدي ذلك إلى ضياع حقوق هؤلاء العاملين ما بين الشركات المالكة للمنصات التي يعملون من خلالها وبين القانون الذي لا يوفر لهم مظلة تأمينية.

توصية وخاتمة 

يحتاج قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات إلى مراجعة تشريعية شاملة، خاصة بعد إقرار قانون العمل الجديد، ليكون أكثر توافقًا مع التعديلات التي أُدخلت على قانون العمل. هذه التعديلات ستغير طبيعة الالتزامات المالية والقانونية على كل من العامل وصاحب العمل. ومع ذلك، قد تستغرق المراجعة التشريعية وقتًا طويلاً، مما يترك عددًا كبيرًا من العاملين خارج نطاق التأمين الاجتماعي.

للتعامل مع هذه الوضع يُمكِن لرئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي استخدام الصلاحيات المخولة له بموجب قانون التأمينات والمعاشات، بإصدار قرارات تنظيمية. يتضمن ذلك إدراج أصحاب العمل الحر والمستقل تحت فئة العمالة غير المنتظمة، وتحديد شروط لانضمامهم. 

تبقى هذه الإجراءات حلاً مؤقتًا. يتطلب الأمر تدخلًا تشريعيًا لإعادة تعريف مفهوم العمل الحر والمستقل بشكل يتناسب مع طبيعة عملهم وظروفهم الخاصة. ينبغي أن يهدف هذا التعديل التشريعي إلى وضع معايير عامة وشاملة للتمتع بالحماية التأمينية، بدلاً من الاعتماد على قوائم محددة بالفئات والمهن على سبيل الحصر. هذا من شأنه أن يضمن شمول جميع العاملين، بغض النظر عن طبيعة عملهم، بمظلة الحماية الاجتماعية، مما يساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والأمان الاقتصادي للجميع.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يتضمن التعديل التشريعي إنشاء فئة جديدة من المؤمن عليهم خاصة بالعاملين عبر المنصات الإلكترونية، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية هذا النوع من العمل ووضع ضوابط وشروط خاصة بهم للانضمام إلى نظام التأمينات الاجتماعية.