مقدمة
في نهاية العام الماضي، تحديدًا أثناء الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة وفي أعقابها مباشرة، استرعت الممارسات الرقابية لشركات التقنية الكبرى، خاصة لفيسبوك وتويتر، انتباها واسعا وكثيفا، خاصة عندما قام موقع تويتر بوقف حساب الرئيس اﻷمريكي السابق دونالد ترامب، بسبب نشره تغريدات تشكك في نزاهة عمليات التصويت في الانتخابات، وتدعي تعرضها للتلاعب والتزوير. سبق ذلك وقف تويتر لحساب الجريدة اﻷمريكية العريقة “نيويورك بوست” لفترة، بسبب نشر الجريدة روابط لتحقيقات حول ادعاءات تتعلق بتعاملات لنجل المرشح الديموقراطي لرئاسة الولايات المتحدة، حينها، والرئيس الحالي جو بايدن، مع جهات أوكرانية ذات مصالح في الولايات المتحدة. ضيق الموقع أيضا على نشر مستخدميه لهذه الروابط ثم قام بمنع نشرها تماما، وحذا موقع فيسبوك أيضا حذوه.
ومؤخرًا في أثناء العدوان اﻹسرائيلي اﻷخير على قطاع غزة، وعلى الفلسطينيين في الضفة الغربية واﻷراضي المحتلة منذ عام 1948، لجأ النشطاء الفلسطينيون والمتضامنون معهم في أنحاء العالم، إلى شبكات التواصل الاجتماعي، كما أصبح معتادًا طوال السنوات الماضية، لنشر توثيقهم لجرائم جيش الاحتلال والمستوطنين، عمليات القصف، والتعدي على المتظاهرين والمدنيين إلخ، وكذلك لرفع الوعي بعمليات التهجير القسري بالقدس المحتلة وخاصة بحي الشيخ جراح. وفي حين واجه النشطاء الفلسطينيون وداعموهم من قبل صعوبات تتعلق بحذف بعض منشوراتهم، وإيقاف بعض الحسابات الشخصية والصفحات، إلا أن معدل هذه الممارسات، وبصفة خاصة على تطبيق إنستجرام لتبادل الصور ومقاطع الفيديو، وكذلك على الموقع الرئيسي للشركة الأم المالكة لإنستجرام، فيسبوك، كان أضخم كثيرًا من أي فترة مشابهة من قبل. وأتى ذلك مواكبا لتزايد شكوى مستخدمي فيسبوك بالشرق اﻷوسط، بصفة خاصة من الممارسات الرقابية المتزايدة بمعدلات ملحوظة في اﻵونة اﻷخيرة، والتي أدت إلى وقف كثير من المستخدمين، سواء بشكل كلي أو جزئي لفترات متفاوتة تصل إلى شهر كامل في أحيان كثيرة.
اﻷهمية الهائلة التي اكتسبتها شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها في السنوات اﻷخيرة، خاصة مع الانتشار السريع للهواتف الذكية، أنتجت واقعا جديدا يعيشه مليارات البشر حول العالم، مؤثرة بذلك في شتى نواحي حياتهم، وبصفة أساسية في تمتعهم وممارستهم للحقوق والحريات اﻷساسية، وفي مقدمتها الحق في الخصوصية، والحق في حرية التعبير. وتثير الوقائع المشار إليها سابقا تساؤلات كثيرة حول سلطة شركات التقنية الكبرى، التي تملك وتدير منصات التواصل الاجتماعي اﻷكثر استخداما حول العالم، على ممارسة مستخدمي هذه المنصات للحق في حرية التعبير من خلالها.
كيف نحكم بأن ممارسة ما قد انتهكت الحق في حرية التعبير؟
من حيث المبدأ لا علاقة بين تقييم ممارسة ما على إنها انتهاك لحق، وبين من قام بهذه الممارسة. هذا يعني أنه سواء كان من قام بهذه الممارسة هو الدولة من خلال قوانينها أو من خلال القرارات اﻹدارية ﻹحدى مؤسساتها، أو كان كيانا خاصا أو جماعة أو فرد، فإن المعايير المستخدمة لتصنيفها كانتهاك للحق تظل ثابتة. ما يختلف هو إذا ما كان الطرف الذي قام بالممارسة ملزمًا قانونًا بألا ينتهك هذا الحق، ومن ثم يكون عرضة ﻷية إجراءات تترتب على ذلك.
المصدر اﻷساسي لتعريف الحق في حرية التعبير هو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، في المادة رقم 19 منه والتي تنص في فقرتها الثانية على:
2. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
انتهاك الحق في حرية التعبير يتمثل تحديدًا في منع أو إعاقة ممارسة أي شخص للأفعال التي وردت في هذا النص، وفي منع أو إعاقة وصول ما نتج عن هذه اﻷفعال إلى كل من كانت موجهة إليهم. بمعنى أنه من حيث المبدأ يعد حرمان شخص من نشر مادة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية من خلال أحد مواقع التواصل الاجتماعي، انتهاكا لحقه في حرية التعبير. ما لم يكن ما نشره تنطبق عليه شروط تقييد هذا الحق التي تنص عليها المادة نفسها من العهد الدولي في فقرتها الثالثة:
3. تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم،
(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
ونظرًا ﻷن منصات نشر المحتوى على شبكة اﻹنترنت عابرة لحدود الدول، فإن الوضع الحالي تكون فيه الشركات التقنية إما مُلتزمة بالقوانين المحلية للدولة المُسجّل بها الشركات أو للقوانين المحلية للدولة التي يُقيم بها مُنشئ المحتوى، وبالتالي فإن أي ممارسة للشركة التي تدير إحدى منصات نشر المحتوى، لا يجب أن تفرض قيودًا على حرية التعبير تتخطى تلك التي تنص عليها القوانين المعمول بها في الدولة التي يقيم بها صاحب المحتوى أو الدولة المُسجّل بها الشركة. لكن مع اختلاف القوانين التي تُنظّم ممارسة الحق في حرية التعبير بين الدول، والتي كثيرًا ما نجدها تَفرِض قيودًا على حرية التعبير، فإن ما يعنينا أن تكون أي قواعد تنظيمية تتعلق بحرية التعبير على المنصات متوافقة – على الأقل – مع القواعد والقيم الأساسية حسب العهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية.
المواثيق الدولية وعدم إلزاميتها للشركات
إطار العمل الدولي اﻷساسي للعمل على حماية حقوق اﻹنسان هو اﻷمم المتحدة من خلال جمعيتها العامة أولا، والتي ينبثق عنها مجلس حقوق اﻹنسان، ومن خلال مكتب المفوض السامي لحقوق اﻹنسان، وكذلك من خلال اللجان المنشأة بفعل العهود والاتفاقيات الدولية لحقوق اﻹنسان والتي تقوم بأدوار استشارية أو رقابية وأحيانًا تحكيمية، حسب نصوص الاتفاقيات وبروتوكولاتها التي وقعت وصدقت عليها الدول المعنية. هذا اﻹطار يتوجه إلى الدول بصفة أساسية، وحتى اليوم ليس ثمة أي أدوات ملزمة، لحماية حقوق اﻹنسان بصفة عامة والحق في حرية التعبير بصفة خاصة، يمكن تطبيقها على الكيانات المختلفة وبصفة خاصة شركات اﻷعمال. وحتى سبعينات القرن الماضي لم يكن ثمة اهتمام على هذا المستوى من العمل الحقوقي بالنظر في أثر ممارسة شركات اﻷعمال، وخاصة العابرة لحدود الدول منها، على تمتع اﻷفراد والجماعات بالحقوق والحريات التي تحميها العهود والمواثيق الدولة.
بُذلت محاولات عدة لوضع أطر مختلفة لمسؤولية شركات اﻷعمال تجاه حقوق اﻹنسان. ففي عام 2000 صدر الاتفاق العالمي للأمم المتحدة، الذي وضع عشرة مبادئ غير ملزمة لتوجيه شركات اﻷعمال نحو تطوير ممارسات قابلة للاستدامة اجتماعيا وبيئيا. اثنان من هذه المبادئ يخصان حقوق اﻹنسان، ينص اﻷول على أن شركات الأعمال ينبغي أن تدعم وتحترم حماية حقوق اﻹنسان المعترف بها دوليا، وينص المبدأ الثاني على أن على شركات الأعمال التأكد من عدم تواطئها مع أي انتهاكات لحقوق اﻹنسان.
حاولت مفوضية حقوق اﻹنسان (وهي الكيان الذي استبدل عام 2006 بمجلس حقوق اﻹنسان) العمل على مبادئ ملزمة للعلاقة بين شركات اﻷعمال وحقوق اﻹنسان، وطورت في السنوات اﻷولى من اﻷلفية مسودة لمعايير مسؤولية الشركات العابرة للجنسيات وغيرها من شركات الأعمال فيما يتعلق بحقوق اﻹنسان. لم تكن مسودة المعايير هذه ملزمة بدورها، كما قامت المفوضية بتعليق العمل بها لاحقا، ولكنها تمثل المحاولة اﻷولى لإصدار معايير قابلة ﻷن تكون ملزمة لشركات اﻷعمال.
مع فشل مسودة المعايير، قام اﻷمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان في عام 2005 بتعيين جون روجي كممثل خاص للأمم المتحدة مختص باﻷعمال وحقوق اﻹنسان. عمل روجي في فترة تكليفه اﻷولى على تطوير إطار الحماية، الاحترام، وجبر الضرر، والذي أقر واجبا للدول في حماية مواطنيها من انتهاكات حقوق اﻹنسان، ومسؤولية للشركات في احترام حقوق اﻹنسان، والحاجة إلى إمكانية وصول الضحايا إلى آليات قضائية وغير قضائية لجبر الضرر. وفي فترة تكليفه الثانية نجح روجي في تطوير مبادئ اﻷمم المتحدة التوجيهية حول الأعمال وحقوق اﻹنسان، وهي قواعد غير ملزمة صدق عليها مجلس حقوق اﻹنسان في عام 2011.
في عام 2014 تقدمت عدة دول بقيادة اﻹكوادور باقتراح أن ينشئ مجلس حقوق اﻹنسان مجموعة عمل لتطوير اتفاقية دولية ملزمة تنظم أنشطة الشركات في إطار القانون الدولي لحقوق اﻹنسان، وتم تمرير الاقتراح بأغلبية 20 صوت في مقابل 14 صوت بالرفض و13 امتناع عن التصويت. الانقسام في مواقف الدول من ذلك الاقتراح عكس في الواقع مصالح كل منها، فدول الجنوب في معظمها هدف وساحة ﻷعمال الشركات الكبرى التي في أحيان كثيرة تضر أعمالها بحقوق مواطني هذه الدول، في حين أن دول الشمال هي موطن هذه الشركات والمستفيدة من تعظيم أرباحها، وتكمن مصالحها في عدم وضع أي ضوابط لممارساتها قد تؤدي إلى خفض هذه اﻷرباح. لاحقا، طورت مجموعة العمل في عام 2018 مسودة صفرية (مبدأية) لاتفاقية ملزمة، تم مراجعتها في عامي 2019 و2020.
في المحصلة ما زالت جهود طرح اتفاقية تلزم الشركات بصفة عامة بواجبات محددة تجاه حقوق اﻹنسان متعثرة. مصير المسودة الحالية غير مضمون بالطبع وربما تلحق بالمحاولات السابقة التي فشلت جميعها. وفي حال نجاحها، فالاتفاقيات الدولية المماثلة تستغرق وقتا طويلا حتى يكتمل نصاب الدول المصدقة عليها اللازم لها حتى يتم تفعيلها، ويظل دائما باﻹمكان أن ترفض دول أساسية، بصفة خاصة دول منشأ الشركات الكبرى، التصديق على الاتفاقية، فلا تفرض على تلك الشركات الالتزامات الواردة بها. ولكن ما يعنينا هنا هو حقيقة أن فكرة إلزام الشركات باحترام حقوق اﻹنسان في عمومها، من خلال اتفاقية دولية، هي فكرة قابلة للتنفيذ حتى وإن حالت عوائق عدة دون تنفيذها حتى يومنا هذا، ويتطلب اﻷمر مزيدًا من الضغوط التي يمكن للدول صاحبة المصلحة في تحقيق هذا الهدف أن تمارسها، إضافة إلى مؤسسات اﻷمم المتحدة ذات الصلة والمنظمات غير الحكومية المعنية.
جهود المنظمات غير الحكومية
تبذل جهات غير حكومية عدة جهودًا في سبيل العمل على حماية حقوق مستخدمي شبكة اﻹنترنت وبصفة خاصة الحق في حرية التعبير. تشمل هذه الجهات، مؤسسات أكاديمية خاصة تلك المتخصصة في القانون والتكنولوجيا وحقوق اﻹنسان، ومنظمات حقوقية، ومدافعين عن حقوق اﻹنسان والحريات الرقمية بصفة خاصة. ويختلف مجال حركة هذه الجهود عن تلك التي تشهدها ساحة المنظومة اﻷممية لحقوق اﻹنسان، فهي بالضرورة لا تملك التوصل إلى اتفاقيات أو مبادئ ملزمة ﻷي طرف، خاصة الشركات الكبرى، ولكنها بدلا من ذلك تعتمد على مبدأ حسن النوايا من ناحية، وعلى دافع حرص الشركات على الحفاظ على قواعد مستخدميها وتنميتها، من ناحية أخرى. ومن ثم تعمل هذه الجهود عادة من خلال مؤتمرات ومنتديات يدعى إليها ممثلون لمختلف اﻷطراف المعنية بهدف أن يتوصلوا معا إلى تفاهمات حول معايير للممارسات الفضلى والتي يمكن أن تتبناها الشركات طواعية.
من أبرز المؤتمرات ذات الصلة، مؤتمر “إدارة المحتوى بحجم كبير” الذي دعت إليه كلية القانون في جامعة سانتا كلارا، وعقد ﻷول مرة في عام 2018، وفي دورة ثانية له في العام التالي أصدر المشاركون فيه “مبادئ سانتا كلارا“، والتي ترسم خطوطًا عريضة للخطوات اﻷولى التي ينبغي أن تتخذها الشركات التي يكون عليها إدارة محتوى ينتجه مستخدمو خدماتها، لتقدم مسارا مقبولا للمستخدمين المتأثرين بعمليات حذف المحتوى أو تعليق وغلق الحسابات، ولضمان أن يكون تنفيذ توجيهات هذه الشركات بخصوص المحتوى، عادلا، غير منحاز، ومتناسب، ويحترم حقوق المستخدمين. وتغطي هذه المبادئ ثلاث أوجه أساسية هي: الأرقام، الإخطار، وسبل الاستئناف على القرار.
تغطي المبادئ المتعلقة بالإحصائيات الحاجة إلى شفافية ممارسات إدارة المحتوى، فعلى الشركات التي تدير المحتوى الذي ينتجه مستخدموها أن تنشر بشكل دوري إحصائيات واضحة وتفصيلية حول عدد المنشورات التي إما أضافت إليها توجيهات تحذيرية أو قامت بحذفها، وكذلك الحسابات التي علقت عملها أو حذفتها، مع تصنيفها حسب القواعد التي انتهكتها وحسب مصدر اﻹجراء، سواء كان عملية الإدارة للشركة نفسها أو مطالبة من حكومة دولة ما أو بسبب شكوى مستخدم أو مستخدمين آخرين إلخ. ويغطي مبدأ اﻹخطار ضرورة أن تخطر الشركة المستخدم الذي اتخذ اﻹجراء تجاه محتوى أضافه أو تجاه حسابه، باﻹجراء المتخذ وأسبابه والقاعدة أو القواعد التي استلزمت اﻹجراء، وبصفة عامة ينبغي أن توفر الشركة لمستخدمي خدماتها معلومات واضحة ومتاحة بسهولة حول قواعد إدارتها للمحتوى واﻹجراءات المتبعة في حالات انتهاكها، وكذلك حدود استجابتها للطلبات الحكومية أو شكاوى المستخدمين اﻵخرين أو أي أفراد أو جهات أخرى قد تكون معنية بالمحتوى المنشور، وشروط هذه الاستجابة إلخ. وأخيرا ينبغي أن توفر الشركة للمستخدم الذي اتخذ أي إجراء تجاهه سبيلا للاستئناف على هذا اﻹجراء مع إمكانية أن يؤدي هذا المسار إلى إلغاء أو تعديل اﻹجراء، وكل ذلك وفق قواعد واضحة ومعلنة ويسهل وصول المستخدمين إليها.
يتوقف ما يمكن أن تحققه مسارات العمل التطوعي المشابهة كما أوضحنا سابقا على حسن النوايا من جانب الشركات أولا، ثم بصفة أهم على أن يكون ثمة أثر لما تلتزم به من هذه المبادئ طواعية على قاعدة مستخدميها. يعتمد ذلك على توافر قدر من الوعي لدى مستخدمي منصات نشر المحتوى المختلفة تجاه أثر ممارسات إدارة المحتوى، الرقابية باﻷساس، على تمتعهم بالحق في حرية التعبير. المصدر العملي المباشر لهذا الوعي بالطبع هو ما يتعرض له المستخدمون من إجراءات مثل حذف منشوراتهم أو تعليق وربما غلق حساباتهم على هذه المنصات، ولكن شعورهم بالحاجة إلى القيام برد فعل مناسب يتوقف أيضا على مدى تقديرهم لحقهم في حرية التعبير، بخلاف الشعور بمجرد الانزعاج بسبب أي إجراء تعرضوا له. يقع ذلك في مساحة واجبات المنظمات الحقوقية المعنية تجاه نشر المعلومات التي تطلع المستخدمين على حقوقهم وما يجب أن يتوقعوه من المنصات التي يتعاملون معها لحفظ هذه الحقوق.
على جانب آخر ثمة عامل شديد اﻷهمية يتعلق بقدرة المستخدمين على اتخاذ ردود أفعال ذات أثر على الشركات. يتوقف ذلك في معظم اﻷحيان على مدى مركزية خدمات نشر المحتوى، المتمثلة في استئثار عدد محدود من المنصات بالغالبية العظمى من المستخدمين . و كلما زاد عدد مستخدمي منصة ما كلما كانت أكثر اجتذابا لمزيد من المستخدمين الجدد، فيصعب على مستخدمي هذه المنصات استبدالها، حتى وإن شعروا بأنها تنتهك حقوقا أساسية لهم، ففي النهاية يقوم فعل النشر دائما على شعور “المجتمع” أي الشعور بأنك جزء من مجتمع ما، يتم تبادل الأفكار بين أفراده، المتجانسين والمتنوعين أيضا. مركزية خدمات نشر المحتوى أو وسائط التواصل الاجتماعي، إشكالية قائمة بذاتها لها جوانب متعددة وتستحق معالجتها بشكل مستقل في وقت لاحق.
خاتمة
إضافة إلى المواثيق والمبادئ الدولية الرسمية من خلال اﻷمم المتحدة ومؤسساتها المعنية بحقوق اﻹنسان بصفة أساسية، والمواثيق والمبادئ غير الرسمية والتطوعية على نطاق دولي، ثمة اﻹطار المحلي يتعلق بالقوانين المُنظمة التي تحكم الحق في حرية التعبير، وهذا الإطار المحلي يتفاوت في إمكانية إنفاذه، فسلطة دول المنشأ على الشركات المسجلة بها تختلف عن سلطة الدول اﻷخرى بالرغم من أن أثر ممارسات هذه الشركات عابرة للحدود تماما كما أن منصاتها العاملة على شبكة اﻹنترنت لا تعترف بأي حدود بين الدول. ولا تملك الدول إلا فرض عقوبات تجارية أو ربما التضييق على الوصول إلى منصات الشركات من داخل أراضيها عندما تخالف قوانينها. أثر مثل تلك العقوبات يتفاوت حسب معايير عديدة، ومن ثم ليس ثمة ضمانات حقيقية لفعالية القوانين المحلية. على جانب آخر أثارت المركزية الكبيرة لمنصات نشر المحتوى على شبكة اﻹنترنت مؤخرا اهتمام المشرعين والمسؤولين التنفيذيين في دول هامة مثل الولايات المتحدة، كونها دولة المنشأ ﻷغلب شركات التقنية الكبرى. وأدى فشل محاولات قانونية لتفكيك احتكار شركات مثل فيسبوك لسوق خدمات نشر المحتوى من خلال استيلائها على الشركات المنافسة، إلى الانتباه إلى قصور القوانين الحالية عن التعامل مع هذه الظاهرة، ومن ثم إلى الاتجاه إلى طرح تعديلات على هذه القوانين. مرة أخرى ثمة كثير من التفاصيل بهذا الخصوص والتي تحتاج إلى معالجة مستقلة.
كان الغرض من هذه الورقة هو اﻹجابة على سؤال: هل يمكن فرض قواعد واضحة لحماية الحق في حرية التعبير على شبكة اﻹنترنت، في ظل السيطرة شبه الكاملة للشركات الكبرى على المنصات التي من خلالها يمارس مستخدمو الشبكة هذا الحق؟ وقد استعرضنا الواقع الحالي لجعل هذه اﻹمكانية حقيقة سواء في اﻹطار الدولي الرسمي من خلال المنظومة الحقوقية للأمم المتحدة وكذلك في اﻷطر التطوعية غير الملزمة والأطر المحلية. ليس المشهد الحالي مرضيا بالتأكيد، فمن حيث المبدأ ثمة قصور واضح للأطر القانونية التقليدية سواء كانت دولية أو محلية يحول دون أن تتعامل بكفاءة مع التحديات التي تفرضها تقنيات التواصل ونشر المحتوى من خلال مواقع وتطبيقات شبكة اﻹنترنت. وبالتأكيد هناك حاجة إلى تطوير الأطر القانونية لتأخذ في الاعتبار الظروف والعلاقات الجديدة التي تنشئها هذه التقنيات والتي تختلف كثيرا عن الظروف السابقة عليها. وهناك كثير من العراقيل تتعلق بالمصالح الاقتصادية والسياسية في طريق وضع إطار ملزم لحماية الحق في حرية التعبير ومبادئ وقيم حقوق الإنسان عمومًا، ومقاومة أن يكون للشركات الكبرى سلطة مطلقة على مدى تمتع مستخدمي شبكة الإنترنت به. ولكن استمرارية الجهود التي تعرضنا لبعضها في هذه الورقة يمكن أن تمنحنا قدرا من اﻷمل في إمكانية أن يتحقق الوعد الذي بشرت به شبكة اﻹنترنت من أن تكون عاملا رئيسيا في اتساع مساحة المجال العام وإتاحة فرصة الوصول إليه للجميع، حيث يتمتعون على حد سواء بحقهم في حرية التعبير عن أفكارهم وآمالهم وطموحاتهم، ويتشاركون صنع مستقبل أفضل.