دراسة حول مبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر

مقدمة

منذ إقرار الدستور المصري في عام 2014 تستمر المطالبات المتعلقة بضرورة إجراء مراجعة تشريعية شاملة لضمان إنفاذ الاستحقاقات الدستورية. يأتي الحبس في قضايا النشر على رأس الموضوعات التي يطالب بمراجعتها، وذلك تطبيقًا وإعمالًا لنصوص المواد 67 و 71 من الدستور. تحظر تلك المواد توقيع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية.

تقاعس المشرع، سواء من خلال البرلمان بشكل أصيل أو عبر المقترحات المقدمة من الحكومة بشكل ثانوي، عن الالتزام بهذه الضوابط فرض واقعًا قضائيًا متناقضًا. فبينما يحظر الدستور توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر هناك عشرات النصوص في قوانين مختلفة تسمح بتوقيع عقوبات سالبة للحرية في الجرائم المرتكبة بطريق النشر. أدى ذلك إلى تعدد التفسيرات التي تبنتها المحاكم المصرية للحق الدستوري، بهدف تجنب التطبيق المباشر لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر.

تناقش هذه الورقة تجاهل المحاكم الجنائية للمبدأ الدستوري بعدم توقيع عقوبة سالبة اللحرية في جرائم النشر، بما في ذلك النشر عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الصحفية. تتناول الورقة تفسير المحاكم الجنائية لهذا المبدأ عن طريق عرض ثلاثة أحكام قضائية لمحاكم جنائية مختلفة انتهت جميعها إلى توقيع عقوبات سالبة للحرية في جرائم نشر. أخيرًا، تقدم الورقة تعليقًا على هذه التفسيرات القضائية وتناقش تعارضها مع نصوص الدستور وتفسيرات المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض.


الأساس الدستوري لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر

أقر دستور 2014 الساري، في المواد 65 و67 و70 و71 و92، حق الأفراد في في التعبير عن آراءهم بأي وسيلة من وسائل التعبير والنشر العلني أو غير العلني. باعتباره الأصل الدستوري العام امتدادًا لما نصت عليه الدساتير السابقة. وهو ما أشارت إليه  الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المعنية بالحقوق والحريات، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

يعد هذا الحق هو القاعدة العامة المنظمة لحرية التعبير بجميع صورها، التي أضُفى عليها الحماية الدستورية. كما أضفى أيضاً الحماية الدستورية على الحق في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، وحظر التعسف في حرمان المواطنين من استخدامها. ذلك لكون وسائل الاتصال العامة التقليدية والمستحدثة بكافة أشكالها وصورها هي الأدوات الرئيسية للتعبير عن الرأي بالإذاعة أو النشر أو بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير.

أكد الدستور على ذلك مرة أخرى من خلال تأكيده على كفالة وضمان الحريات المتفرعة من ذلك الحق، ومنها حرية الإبداع الفنى والأدبى، وحرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني، وحظر التعدي عليهم بأي صورة من الصور. امتد ذلك الحظر لحصر حق التقاضي لطلب وقف أو مصادرة  الأعمال الفنية أو الفكرية أو الأدبية في النيابة العامة دون غيرها.

كانت غاية المشرع الدستوري من حظر توقيع العقوبات السالبة للحرية على جرائم النشر والعلانية كأصل عام هي حماية للأفراد المخاطبين بأحكام الدستور من أي استبداد أو ترهيب أو تهديد لحرياتهم الشخصية قد يتعرضوا له من جانب السلطة التنفيذية أو التشريعية، نتيجة للتعبير عن آرائهم عبر استخدام حقهم الدستوري في استخدام وسائل الاتصالات بجميع صورها. من ثم، يكون كل ما يرد خلاف ذلك من قواعد دستورية أخرى في ذات الدستور محض استثناء في حدود ضيقة، لا يجوز التوسع فيها. 

بالإضافة إلى ذلك ولإضفاء المزيد من الحماية الدستورية على تلك الحريات والحقوق، وضع الدستور قيدًا على مبدأ التجريم والعقاب؛ فحظر على المشرع توقيع أي عقوبة جنائية تنال من الحرية الشخصية للأفراد نتيجة ممارستهم لحريتهم في التعبير عن آرائهم أو أفكارهم بأي من الصور سالفة البيان. كما حظر توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، وذلك كأًصل عام.

استثنى الدستور من ذلك ثلاثة صور من الجرائم على سبيل الحصر، هم: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن في الأفراد. 


عمومية مبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية

جاء حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية ملطقًا ومحررًا من أي قيد. استند المشرع الدستوري في هذا الحظر إلى عينية الجريمة وطريقة ارتكاب السلوك الإجرامي؛ معتبرًا أن النشر أو العلانية هما المعيارين الوحيدين اللازم توافر أي منهما في أي سلوك إجرامي.

متى توافر أحد المعيارين وجب على المشرع العادي الالتزام بأن تكون العقوبة التي يقررها كجزاء جنائي لهذا السلوك غير سالبة للحرية، دون أن يتوقف ذلك على صفة أو وظيفة أو مهنة مرتكب هذا السلوك. ذلك لأن المشرع الدستوري  قد استند إلى معيار طريقة ارتكاب الجريمة، وليس شخص أو صفة مرتكبها. فلم يشترط المشرع في مرتكب الجريمة صفة معينة كالصحفي أو الكاتب أو الأديب أو الفنان أو المخرج أو المنتج أو الناشر أو الطابع أو الموزع أو غيرهم. فيسري حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية على جميع الأفراد.

لم يضع المشرع الدستوري أيضًا أي قيد على مكان ارتكاب الجريمة، سواء كان ارتكابها من داخل أو خارج البلد. واستثنى من ذلك فقط ثلاثة صور من الجرائم على سبيل الحصر، هم: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن في الأفراد. اجاز الدستور للمشرع العادي في هذه الجرائم دون غيرها من جرائم النشر أو العلانية أن يقرر العقاب الجنائي الملائم كجزاء على ارتكاب أي منها دون التقيد بحظر توقيع عقوبة سالبة للحرية.


تفسير المحاكم الجنائية للمبدأ الدستوري

على الرغم من إقرار الدستور لهذه الضمانة منذ ما يقرب من عشر سنوات، إلا أن تطبيقها والالتزام بها من جانب الجهات المنوط بها تطبيق أحكام الدستور لم يتسم بالقدر الكافي من الجدية. لجأت بعض من المحاكم الجنائية إلى تفسير النص الدستوري تفسيرًا يخل بتلك الضمانة ويتعارض مع النص الدستوري ذاته. يحرم ذلك غالبية الأفراد من الحماية الدستورية المقررة لهم، والتي تحميهم من العقوبة السالبة للحرية حال ارتكاب إحدى جرائم النشر أو العلانية.

فيما يلي ثلاثة أحكام قضائية لمحاكم جنائية لجأت لهذا التفسير، على سبيل المثال نتج عن ذلك التفسير إدانة القضاء للمتهمين في تلك الدعاوى وتوقيع عقوبة سالبة للحرية على كل منهم لارتكاب جرائم بطريق النشر أو العلانية في غير حالات التحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد. 

أولًا: محكمة الجنايات

في مارس 2021، أصدرت محكمة جنايات القاهرة حكمًا بحبس أحد المتهمات لارتكابها إحدى جرائم النشر. قضت المحكمة بإدانة المتهمة وحبسها لمدة سنة عن اتهامها بارتكاب جريمة الإذاعة “أخباراً واشاعات كاذبة كان من شأنها إثارة الفزع بين الناس والحاق الضرر بالمصلحة العامة،” من خلال النشر عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.

قدم دفاع المتهمة أثناء المرافعة دفعًا بعدم دستورية نصوص المواد 216 من قانون الإجراءات الجنائية، و102 مكرر من قانون العقوبات، و27 من القانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لمخالفتهم المواد 65 و70 و71 من الدستور. رفضت المحكمة هذا الدفع مبررة ذلك بأن الدفع قُصِد به إطالة أمد التقاضي وتعطيل الفصل في الدعوى. عللت المحكمة ذلك بالأسباب الآتية:

  •  هذا الدفع مردود عليه بأن نص الدستور على كفالة الحرية الشخصية لا يمنع المشرع من وضع قوانين لتنظيمها، وحين يكون من وراء استعمالها اﻹضرار بالغير فإنها لا تكون حرية ولا تكون مكفولة.
  • السلوك المُجرّم بالمادة 102 مكرر من قانون العقوبات يخرج عن الحماية التي كفلها الدستور لحرية إبداء الرأي والتعبير، كما لا يندرج تحت الجرائم التي حظر الدستور توقيع عقوبة سالبة للحرية على مرتكبها.
  • الحظر الذي أورده الدستور في المادة 71 غايته حماية حرية إبداء الرأي والصحافة ولم تكن غايته تبربر ارتكاب جرائم بطريق النشر.

محكمة جنايات القاهرة، جلسة 17 مارس 2021، حكم في الدعوى رقم 12499 لسنة 2020 جنح التجمع اﻷول


ثانيًا: المحكمة الاقتصادية

في سبتمبر 2023، قضت محكمة القاهرة الاقتصادية بحبس أحد المتهمين لارتكاب جريمة تعمد إزعاج الغير بإساءة استعمال وسائل الاتصالات.1 وفقًا للحكم فقد نشر المتهم على حسابه الخاص على فيسبوك مقالًا يتضمن عبارات تشكل جريمتي سب وقذف المجني عليه، فقضت المحكمة بمعاقبته بالحبس ثلاثة أشهر مع الشغل والنفاذ.

قدم دفاع المتهم أثناء المرافعة دفعًا بعدم دستورية نص المادة رقم (76) من قانون تنظيم الاتصالات الصادر بالقانون رقم 10 لسنة 2003. يقوم الدفع على تضمن نص المادة 76 توقيع عقوبة سالبة للحرية في الجريمة المنصوص عليها في البند 2 بالمخالفة لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية، ومبدأ شرعية التجريم والعقاب.2 استند الدفع في ذلك إلى المواد أرقام 4، 9، 51، 53، 54، 59، 62، 65، 67، 71، 92، 94، 95، 96 من الدستور. 

رفضت المحكمة هذا الدفع واعتبرته واردًا على غير أساس من الجدية. فرأت أن الدفع محاولة من المتهم ودفاعه للاستفادة مما تنص عليه المادة 71 من الدستور والحماية المقررة بموجبها للإفلات من انطباق نصوص مواد الاتهام المنطبقة على الواقعة، وإطالة أمد النزاع، وعدم تمكين المحكمة من الفصل في الدعوى. عللت المحكمة الرفض بالأسباب الآتية:

  • دشنت المادة 71 من الدستور مبدأ هامًا خاص بحظر الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها تكريسًا لحرية الصحافة. ومن ثم، حظر المشرع الدستوري توقيع عقوبة سالبة للحرية على ممارسة هذه الحريات.
  • نص المادة 2/76 من قانون تنظيم الاتصالات لا علاقة له بالجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية أو التي تقع بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري التي حظر الدستور توقيع عقوبة سالبة للحرية على مرتكبها.
  • حدد الدستور شروطًا وأحوالًا لا تنطبق على المتهم، خاصة المادة 71 من الدستور، لا يندرج من ضمن فئاتها المتهم الذي تكفل حريته موادًا أخرى من الدستور مثل الخاصة بكفالة حرية الرأي والتعبير.

محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 16 سبتمبر 2023، حكم في الدعوى رقم 1327 لسنة 2023 جنح اقتصادية القاهرة.


ثالثاً: محكمة الجنح

قضت محكمة جنح مدينة نصر في يناير 2024 بحبس أحد المتهمين لمدة سنة مع الشغل لاتهامه بارتكاب جريمة إذاعة أخبار كاذبة في الخارج. استندت المحكمة في ذلك إلى اتهام النيابة العامة للمتهم بارتكاب هذه الجريمة باستخدام حسابه الشخصي على موقع فيسبوك من داخل لمصر لنشر مقالات أتاح الاطلاع عليها لجميع مستخدميه. 3

قدم دفاع المتهم أثناء المرافعة دفعًا بعدم دستورية نصي المادتين 80 فقرة د، و102 مکررا/1 من قانون العقوبات، لمخالفتهما لنصي المادتين 70، 71 من الدستور. بالإضافة إلى بطلان أمر الإحالة للمحاكمة لنسخهما بموجب نص المادة 71 من الدستور والمادة 29 من القانون رقم 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام.

رفضت المحكمة هذا الدفع وبررت ذلك بأن المتهم غير مخاطب بأحكام قانون تنظيم الصحافة والإعلام، وأن الحساب الذي استخدمه في ارتكاب الواقعة علي موقع التواصل الإجتماعي “فيسبوك” هو حساب شخصي. عللت المحكمة الرفض بالأسباب الآتية:

  • تلتزم الدولة بحماية حرية الفكر والإبداع والصحافة والطباعة والنشر وتضمن تكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام بلا رقابة مفروضة عليها سوى أحكام القوانين المنظمة لتلك الحريات، في إطار لا يشكل تحريضًا على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، وينسحب هذا الإطار إلى تطبيق التشريع الخاص بممارسة أعمال الصحافة والإعلام.
  • المادة الأولى من قانون تنظيم الصحافة والإعلام نصت على أنه تشريع خاص، ولكل تشريع خاص نطاق تطبيق وفئة مخاطبة بأحكامه، وهذا القانون عرّف ماهية الصحفي والإعلامي، ونص على أن يستثنى من تطبيق أحكامه الحساب الإلكتروني الشخصي.
  • لا ينطبق على المتهم أي وصف من الأوصاف المنصوص عليها بالمادة الأولى من القانون، وثبت من مطالعة أدلة الإثبات أن الحساب الذي استخدمه المتهم في ارتكاب الواقعة هو حساب شخصي مرتبط برقم هاتف وببريد إلكتروني مسجل باسمه.

محكمة جنح مدنية نصر، جلسة 18 يناير 2024، حكم في الدعوى رقم 1206 لسنة 2023 جنح مدينة نصر ثان


تعليق على التفسيرات القضائية

على الرغم من أن الأحكام الثلاثة السابقة صدر كل منها عن محكمة جنائية مختلفة، واختلفت مواد الاتهام في كل حكم منهم، إلا أنه يجمعهم النظر في ارتكاب جرائم متعلقة بالنشر والعلانية. 

  • الحكم الأول أدان المتهمة بارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة (102 مكرر) من قانون العقوبات. تنص المادة على أن
  • الحكم الثاني أدان المتهم بارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة (76) من قانون تنظيم الاتصالات الصادر بالقانون رقم 10 لسنة 2003. تنص المادة على أن 
  • الحكم الثالث أدان المتهم بارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة (102 مكرر) والمادة (80 د) من قانون العقوبات. تنص المادة على أن

اتفقت الثلاث المحاكم على رفض الدفع بعدم دستورية هذه المواد لمخالفتها أحكام الدستور فيما يتعلق بمبدأ حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية المنصوص عليه في المادتين 67 و71 من الدستور. ورأت كل منهم أن هذا المبدأ لا ينطبق على أي من هذه الجرائم.

كما اتفقت المحاكم في تفسيرها لهذه النصوص الدستورية على أن مبدأ حظر عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية المنصوص عليه في هاتين المادتين من الدستور غايته فقط حماية حرية الصحافة، والمنتج الفني أو الأدبي أو الفكري. ومن ثم، تقتصر الحماية الدستورية على فئات بعينها، دون غيرها. 

اجمعت أيضًا المحاكم في الثلاث أحكام بأن المتهم في كل من القضايا ليس من بين الخاضعين لهذه الحماية الدستورية التي تمنع معاقبته بعقوبة سالبة للحرية. وذلك لكونه ليس صحفيًا أو إعلاميًا أو غير ذلك من الفئات المستفادة من هذه الحماية لعدم خضوعه للقوانين الخاصة المنظمة لعمل هذه الفئات، كقانون تنظيم الصحافة والإعلام على سبيل المثال.


أولًا: تعارض التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع نصوص الدستور

على الرغم من اتفاق هذه المحاكم في تفسيرهم القضائي لهذه الحماية الدستورية، إلا أن هذا التفسير يُعد محل انتقاد. يتعارض التفسير مع ذات النصوص الدستورية التي استند إليها، لكونه يحتوي على تضييق لضمانة دستورية لم يقيدها الدستور ولم يفوض المشرع العادي في تقيدها.

جاء الحظر الدستوري لتوقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية مطلقًا ومحررًا من أي قيد. استند الدستور إلى عينية الجريمة وطريقة ارتكاب السلوك الإجرامي فقط، معتبرًا أن النشر أو العلانية هما المعيارين الوحيدين اللازم توافر أي منهما في أي سلوك إجرامي. ومتى توافر أحد المعيارين وجب على المشرع العادي الالتزام بأن تكون العقوبة التي يقررها كجزاء جنائي لهذا السلوك غير سالبة للحرية، دون أن يتوقف ذلك على صفة أو وظيفة أو مهنة مرتكب هذا السلوك.

لم يشترط الدستور في مرتكب الجريمة صفة معينة مثل كونه صحفي أو كاتب أو أديب أو فنان أو ناشر أو غيرهم. إنما جاء الحظر مطلقًا يسري على جميع الأفراد. كما جاء مطلقًا أيضًا من أي قيد على مكان ارتكاب الجريمة، سواء كان ارتكابها في داخل أو خارج البلاد. استثنى الدستور من ذلك ثلاث صور فقط من الجرائم على سبيل الحصر، هم: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين، أو بالطعن في الأفراد.

من ثم، يجب على المحاكم في تفسيرها القضائي لهذا النص أن تراعي ما يجب على المشرع العادي مراعاته حتى تتسق تفسيراتها مع أحكام الدستور، باعتباره التشريع الأسمى الذي يجب اتباعه. فيجب ألا يتعدى التفسير على ما قرره الدستور من حقوق وضمانات، وألا يقدم تبريرات لنصوص قانونية مشوبة بشبهة عد الدستورية كان يجب على المشرع العادي إلغاءها، أو تعديلها بما يتفق مع أحكام الدستور وضوابطه.

في هذا السياق، أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن


ثانيًا: تعارض التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع التفسير القضائي للمحكمة الدستورية العليا

تعارض أيضًا التفسير القضائي للمحاكم الجنائية الثلاث مع ما أقرته المحكمة الدستورية في أحد أحكامها الصادرة في يوليو 2024. نظرت المحكمة الدستورية دعوى تطعن في دستورية نص المادة 303 من قانون العقوبات، والتي تنص على أن:

أقرت المحكمة بدستورية نص المادة 303 من قانون العقوبات، واستندت في ذلك إلى المادة 71 من الدستور الذي فسرته تفسيرًا مختلفًا عن تفسير المحاكم الجنائية له. قررت المحكمة أن عقوبة الغرامة المالية المنصوص عليها في المادة 303 تتوافق مع حظر الدستور لتوقيع عقوبات سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية؛ باستثناء الحالات الثلاث المذكورة سابقًا.

عللت المحكمة الدستورية حكمها بالعبارات الآتية:

يتضح مما سبق أن المحكمة الدستورية اعتبرت أن حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية، المنصوص عليه في المادة 71، يسري على جميع الأفراد من دون أي قيد. يتعارض ذلك مع تفسيرات المحاكم الجنائية التي استخدمت ذات النص لتبرير توقيع عقوبات سالبة للحرية في ذات الجرائم.


ثالثًا: تعارض التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع التفسير القضائي لمحكمة النقض

اختلف أيضًا التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع التفسير القضائي لمحكمة النقض في ذات الموضوع. أقرت محكمة النقض في أحد أحكامها الحديثة مبدًأ قضائيًا بشأن حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية. جاء ذلك المبدأ في حكم لها في أحد الدعاوى القضائية التي أدين فيها المتهم بارتكاب جريمتين أحدهم نشر أخبار كاذبة.

قضت محكمة الجنايات بمعاقبة المتهم بالحبس لمدة سنتين مع الشغل وتغريمه مبلغ عشرين ألف جنيه. طعن المتهم على هذا الحكم أمام محكمة النقض التي قبلت الطعن وألغت ما قُضي به من عقوبات سالبة للحرية. استندت المحكمة في قضائها إلى المادتين67 و71 من الدستور الساري، باعتبارهما الأساس الدستوري لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية.

قررت المحكمة أن:

ردد الحكم مضمون ما نص عليه الدستور دون أي تقييد أو استثناء. كما يُعد الحكم أيضًا من السوابق القضائية الرئيسة لمحكمة النقض في شأن التعرض لمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية. على الرغم من أن هذا الحكم جاء سابقًا للأحكام الجنائية الثلاثة المشار إليها، وعلى الرغم من أن المحاكم الجنائية ينبغي عليها الالتزام بمبادئ وتفسيرات محكمة النقض باعتبارها المحكمة الأعلى في درجات محاكم القضاء العادي، إلا أنها رأت خلاف ذلك في تفسيرها غير الصحيح لهذه الضمانة الدستورية.


رابعًا: تعارض التفسير القضائي للمحاكم الجنائية مع التزام المشرع بمبدأ عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية

حاول التفسير القضائي للمحاكم الجنائية غض الطرف عن تراخي المشرع العادي عن الالتزام بأحكام الدستور وعدم التعرض للنصوص العقابية في جرائم النشر أو العلانية المخالفة للدستور بالتعديل أو الإلغاء. كما حاول تبرير تطبيق عقوبات جنائية سالبة للحرية مخالفة لأحكام الدستور.

على الرغم من ذلك، يصطدم ذلك التفسير مع المشرع العادي الذي كان أكثر التزامًا من المحاكم الجنائية بالضمانة الدستورية الخاصة بعدم توقيع عقوبة سالبة للحرية في جرائم النشر أو العلانية. أقر المشرع تعديلات محدودة على العقوبات المقررة لبعض جرائم النشر أو العلانية، إضافة إلى مراعاته لطبيعة العقوبة في جرائم النشر أو العلانية التي استحدثها بعد إقرار دستور 2014.

بعد إقرار وسريان الدستور الحالي التزم المشرع بهذا المبدأ فيما استحدثه من جرائم نشر أو علانية. أحد أهم الأمثلة هو قانون مكافحة الإرهاب الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 94 لسنة 2015. تضمن القانون بعض جرائم النشر والعلانية، ومن بينها المادة (35)، التي جاء نصها يجرم الآتي:

عاقب المشرع من تعمد ارتكاب هذه الجريمة بعقوبة غير سالبة للحرية، وهي الغرامة التي لا تقل عن مائتى ألف جنيه ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه..

يتكرر الأمر أيضًا في جريمة أخرى من جرائم النشر أو العلانية المنصوص عليها في المادة (36) من ذات القانون.

نصت المادة على أن 

يتضح من ذلك أن المشرع التزم بعدم توقيع عقوبة سالبة للحرية. وحينما طرأ تعديل على هذه المادة لاحقًا بالقانون رقم 149 لسنة 2021 يتضمن تشديد للعقوبة، التزم المشرع مرة أخرى بهذه الضمانة الدستورية. زاد المشرع في هذا التعديل من مقدار العقوبة المالية فقط، لتصبح الغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة ألف جنيه.7

في مثال من قانون العقوبات، استحدث المشرع المادة (186 مكرر) لتضاف إلى الباب الرابع عشر من الكتاب الثاني لقانون العقوبات الخاص بالجرائم التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من وسائل النشر أو العلانية. جرّم نص المادة تصوير أو تسجيل كلمات أو مقاطع أو بث أو نشر أو عرض بأي طريق من طرق العلانية لوقائع جلسة محاكمة مخصصة لنظر دعوى جنائية دون تصريح من رئيس المحكمة المختصة بعد أخذ رأي النيابة العامة. عاقب المشرع مرتكب هذه الجريمة بعقوبة غير سالبة للحرية، وهي الغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه، حتى في حالة العود كظرف مشدد. التزم المشرع بهذا الحظر وقرر مضاعفة عقوبة الغرامة دون أي عقوبة سالبة للحرية.8


الهوامش

1 محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 16 سبتمبر 2023، حكم في الدعوى رقم 1327 لسنة 2023 جنح اقتصادية القاهرة.
2 تنص المادة 76 من قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003 على أن “مع عدم الإخلال بالحق في التعويض المناسب، يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من: 1ـ استخدم أو ساعد على استخدام وسائل غير مشروعة لإجراء اتصالات. 2ـ تعمد إزعاج أو مضايقة غيره بإساءة استعمال أجهزة الاتصالات”.
3 محكمة جنح مدينة نصر، جلسة 18 يناير 2024، حكم في الدعوى رقم 1206 لسنة 2023 جنح مدينة نصر ثان.
4 حكم المحكمة الدستورية العليا – جلسة 18-2-1984 – الدعوى رقم 93 لسنة 4 قضائية دستورية.
5 حكم المحكمة الدستورية العليا – جلسة 6-7-2024 – الدعوى رقم 60 لسنة 22 قضائية دستورية.
6 محكمة النقض، الدائرة الجنائية، جلسة 25-10-2020، الطعن رقم 19196 لسنة 88 قضائية.
7 قانون رقم 149 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون قانون مكافحة الإرهاب – الجريدة الرسمية – العدد 45 تابع – في 11 نوفمبر 2021.
8 قانون رقم 71 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات – الجريدة الرسمية – العدد 23 مكرر – في 13 يونية 2021.