
مقدمة
يشير مصطلح التكنولوجيا المالية Fintech إلى استخدام أدوات وتطبيقات رقمية في مجال تقديم الخدمات المالية المختلفة. يأتي في مقدمة هذه الخدمات بالطبع الخدمات البنكية، والتي بدأت البنوك التقليدية في توفيرها من خلال التطبيقات منذ سنوات عديدة.
تطور قدرات التكنولوجيا الرقمية وكذلك وصولها إلى قطاعات واسعة من المجتمعات مع ظهور الهواتف الذكية أديا إلى تطور الخدمات الرقمية المالية لتتخطى الخدمات البنكية التقليدية، وتستقل مع الوقت عن البنوك. في الوقت الحالي، تقدم آلاف الشركات بأحجام مختلفة خدمات مالية عدة، بعضها محلي، والبعض الآخر يتخطى الحدود السياسية للدول.
شهد قطاع التكنولوجيا المالية في مصر تحولات ملحوظة في السنوات القليلة الأخيرة. أدى ذلك إلى أن يكون القطاع أحد أكثر قطاعات التكنولوجيا المالية نشاطًا ونموًا في القارة الأفريقية. كما نما عدد الشركات الناشئة العاملة في هذا القطاع إلى أكثر من خمسة أضعاف ما كان عليه خلال خمسة أعوام فقط، ليصل هذا العدد إلى 177 شركة ناشئة في عام 2025. يجعل ذلك من مصر لاعبًا أساسيًا في المشهد الإقليمي للتكنولوجيا المالية.
سبق لمسار أن قدمت ورقة تعريفية بالتكنولوجيا المالية ناقشت فيها تحديات حقوق الإنسان التي تكتنف ممارسات تطبيق هذه التكنولوجيا بصفة عامة. تسعى الورقة الحالية إلى مناقشة التكنولوجيا المالية في السياق المصري على وجه التحديد.
تقدم هذه الورقة نظرة عامة لقطاع التكنولوجيا المالية في مصر. تعرض الورقة تطور القطاع خلال الأعوام الأخيرة، والتوجهات السائدة فيه والتوقعات المستقبلية لنموه، وكذلك المعوقات والتحديات التي تواجه هذا النمو. تناقش الورقة أيضًا مخاوف انتهاك الخصوصية من خلال مظاهر القصور التشريعي وفرض الهوية الرقمية والقياسات البيومترية، والمخاوف المتعلقة بالتدخلات الأمنية والمراقبة الجماعية والإشكاليات الاجتماعية ذات الصلة بالشمول المالي.
كما تلقي الورقة نظرة خاصة على النساء من الطبقات الفقيرة وعوائق شمولهن في المنظومة المالية المعتمد على التكنولوجيا. وأخيرًا تتناول الورقة إمكانيات تطور قطاع التكنولوجيا المالية في مصر ليحترم الحقوق ويحقق العدالة. تنظر الورقة في كل من إمكانيات الإصلاح التشريعي والتنظيمي، وتطوير أدوات مالية أكثر شمولية، واحترام الاعتبارات الجندرية في تطوير الأدوات والحلول المالية.
قطاع التكنولوجيا المالية في مصر
بدأت التكنولوجيا المالية في مصر بشكل متواضع حيث لم يكن لها وجود تقريبًا قبل حوالي عشرة أعوام. عمل في قطاع التكنولوجيا المالية في عام 2014 شركتين ناشئتين فقط في بيئة كانت تسود فيها المؤسسات المالية التقليدية. عكست هذه البداية البطيئة لخدمات التكنولوجيا المالية في مصر تحديات المنظومة المالية المصرية بصفة عامة.
يأتي في مقدمة هذه التحديات تدني معدل “الاختراق البنكي”، والمقصود بذلك مدى انتشار التعامل مع البنوك بين فئات المجتمع المختلفة. فقد خدم القطاع البنكي في مصر بصفة رئيسية الطبقات الأعلى دخلًا، مما ترك نسبة كبيرة من السكان خارج إطار تلقي خدمات هذا القطاع. كما ظلت الأطر التنظيمية القانونية في هذه الفترة قاصرة عن التعامل مع الخدمات المالية المقدمة من خلال الأدوات والتطبيقات التكنولوجية. خلق ذلك مناخًا من عدم الثقة للمستثمرين ورواد الأعمال الذين كانوا يدرسون فرص الدخول إلى هذا السوق الناشئ.
مثّل عامي 2017-2018 بداية فترة التحول الرئيسية لقطاع التكنولوجيا المالية في مصر. واكب ذلك تنامي اعتراف السلطات التنفيذية والتشريعية في مصر بأهمية التكنولوجيا المالية والإمكانيات الكامنة فيها، والتي يمكن أن تسهم في مواجهة تحديات تحقيق الشمول المالي في مصر. نشأ هذا الاعتراف نتيجة للتوجهات العالمية في مجال التكنولوجيا المالية وما قدمته من أمثلة وأدلة على أن الحلول التي تقدمها هذه التكنولوجيا يمكن أن تعبر الفجوات المزمنة في المنظومة التقليدية للخدمات البنكية.
في مارس عام 2019 أصدر البنك المركزي المصري “استراتيجية التكنولوجيا المالية والابتكار”. طرحت هذه الاستراتيجية رؤية طموحة وهي أن تصبح مصر “مركزًا للتكنولوجيا الرقمية في كل من العالم العربي والقارة الإفريقية، وموقعًا للجيل القادم من الخدمات المالية، والموهبة والتطوير الابتكاري.”
وضعت هذه الاستراتيجية التكنولوجيا الرقمية في موقع محوري من الرؤية القومية لمصر 2030. كذلك قدمت الاستراتيجية مقاربة هيكلية لدفع نمو بيئة مواتية للتكنولوجيا المالية، فتناولت العناصر الرئيسية لهذه البيئة بما في ذلك الأطر التنظيمية، والوصول إلى التمويل، وحوكمة السوق، وتشجيع الموهبة والابتكار.
شهد قطاع التكنولوجيا الرقمية المصري نموًا متسارعًا مع وضع هذه الاستراتيجية. نما عدد الشركات الناشئة العاملة في مجال خدمات التكنولوجيا الرقمية أو الخدمات المدعومة بها ليصل إلى 112 شركة عام 2021. واستمر مسار النمو هذا دون توقف ليتوسع القطاع إلى 177 شركة ناشئة في بداية عام 2025، محققًا معدل نمو بلغ 5.5 ضعفًا في خلال خمسة أعوام.
وضع هذا النمو الكبير مصر بين الدول الإفريقية الأربع الأولى من حيث تركيز الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الرقمية. وشمل هذا النمو مجالات مختلفة من خدمات التكنولوجيا الرقمية، بما في ذلك خدمات الدفع الرقمي، ومنصات الإقراض، وإدارة الثروة، وتكنولوجيا التأمين، والبنية التحتية المالية. برزت خدمات الدفع الرقمي بصفة خاصة خلال هذه الفترة، مع نمو استخدام خدمات المحافظ الإلكترونية المتصلة بخطوط الهاتف المحمول من 10 ملايين مستخدم في عام 2018 إلى 30 مليون مستخدم في عام 2022.
التوجهات السائدة وتوقعات المستقبل
يحتل قطاع التكنولوجيا المالية في مصر حاليًا موقعًا متميزًا على المستويين الإقليمي والعالمي. فمع بداية عام 2025 تعد مصر في الموقع العاشر عالميًا بين الأسواق الصاعدة في تطوير التكنولوجيا المالية. وقد حقق القطاع نموًا قدره 12% متخطيًا العديد من الاقتصادات المشابهة.
تتركز عناصر قوة القطاع في مصر في مجالات نظم الدفع والإقراض الرقمي وحلول الشمول المالي. وتأتي مصر في المركز الثاني في إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث صفقات تمويل التكنولوجيا الرقمية بما يعكس ثقة كبيرة للمستثمرين في الإمكانيات المستقبلية للقطاع.
في المشهد الحالي لقطاع التكنولوجيا الرقمية في مصر، تتنافس الشركات الناشئة التي تبتكر أدوات وحلولًا مالية جديدة مع المؤسسات المالية الكبرى، التي تعتمد بشكل متزايد على الحلول الرقمية في أعمالها. أظهرت الشركات المحلية العاملة في القطاع قدرًا كبيرًا من الابتكار بتطوير حلول مصممة خصيصًا للسوق المحلي وتأخذ في الاعتبار ظروف هذا السوق وتفضيلات المستهلك. أثبتت هذه الابتكارات حتى اليوم قدرًا من الفعالية في مواجهة تحديات الشمول المالي من خلال الالتفاف حول العوائق التقليدية للوصول إلى الخدمات المالية.
يعد أكبر إنجازات قطاع التكنولوجيا في مصر هو إسهامه في دفع معدل الشمول المالي، حيث قاد ارتفاع هذا المعدل بنسبة 70.7%. وقد انعكس ذلك في تزايد تبني البطاقات مسبقة الدفع، وتنامي الثقة في الخدمات المالية. اجتذب هذا التوسع ملايين من المصريين الذين لم يسبق لهم التعامل مع البنوك، فأمكن تضمينهم في النظام المالي الرسمي، ومكنهم من الادخار وتحويل الأموال والاقتراض والاستثمار من خلال القنوات الرقمية.
كان لخطط الادخار الرقمية كذلك أثر واضح بصفة خاصة، ليس فقط بتقديمها عوائد على الادخار ولكن أيضًا بتمكين المستهلكين من بناء تاريخ مالي يمهد الطريق للوصول إلى خدمات مالية أوسع. تمثل هذه المنصات لعديد من المصريين التفاعل الرسمي الأول لهم مع النظام المالي، مما يؤسس لمزيد من المشاركة المالية لهم.
معوقات وتحديات النمو
على الرغم من التقدم الملحوظ لقطاع التكنولوجيا المالية في مصر فلا يزال ثمة العديد من التحديات التي تعيق توسعه ونموه. تعيق العوامل الثقافية وفجوات الوعي تبني الكثير من المصريين للتكنولوجيا المالية. بالنسبة للغالبية من المصريين تعد مفاهيم التكنولوجيا المالية غريبة عنهم. ومن ثم، فهم يحافظون على تفضيلهم للتعاملات التقليدية، سواء بالأموال السائلة أو الحسابات البنكية التقليدية.
يتضح هذا التفضيل في أحيان كثيرة في اختلاف توجهات الفئات العمرية، حيث يتردد كبار السن بصفة خاصة في استبدال التعاملات بالأموال السائلة بتلك المعتمدة على بدائل رقمية. كما أن طبيعة العملة المادية الملموسة تعطي شعورًا بالأمان متغلغل نفسيًا لدى المعتادين عليه، ويقابل ذلك شعورًا بعدم الثقة في الطبيعة غير الملموسة للتعاملات الرقمية.
يواجه أيضًا قطاع التكنولوجيا المالية، كغيره من القطاعات المعتمدة على التكنولوجيا، تحديًا يتمثل في الفجوة الرقمية المستمرة بين مختلف الفئات السكانية في مصر، والتي تتجلى في تفاوت الدخل، والفروق بين المناطق الحضرية والريفية، وكذلك بين العواصم الكبرى والأقاليم.
وعلى الرغم من أن انتشار الهاتف الذكي في مصر قد حقق معدل اختراق كبير في السنوات الأخيرة، إلا أن الفجوة في إمكانيات استخدام التكنولوجيا الرقمية تعتمد على عوامل أخرى عديدة. تشمل تلك العوامل متوسط الدخل، ومستوى التعليم والمهارة، والميول الاجتماعية والثقافية السائدة، والتباين الجندري.
فعلى سبيل المثال توافر الهاتف الذكي لأي شخص لا يعني بأي حال إمكانية وصوله إلى الخدمات المالية من خلاله إذا كان أميًا. من ثم، فاستمرار معدل الأمية القائم في مصر وتفاوته الجندري أيضًا عامل مهم في مدى إمكان تبني التكنولوجيا المالية. بالإضافة إلى ذلك، حتى بين الفئات المتعلمة يوجد تفاوت في مستويات المعرفة الرقمية التي تؤثر على قدرة وثقة الأفراد في التعامل مع الخدمات الرقمية المختلفة وفي مقدمتها الخدمات المالية.
كذلك تمثل البيئة التنظيمية تحديًا كبيرًا لقطاع التكنولوجيا المالية في مصر. يمثل تعقيد هذه البيئة تحديًا للشركات الناشئة العاملة في القطاع، وخاصة في بداياتها الأولى. ورغم الجهود التي يبذلها كل من البنك المركزي والهيئة العامة للرقابة المالية لدعم هذه الشركات، فإن التغير المستمر في التشريعات والقرارات الإدارية يخلق مناخًا من عدم اليقين. يؤثر ذلك على الثقة في السوق، كما يجعل إعداد دراسات الجدوى اللازمة للحصول على التمويل أكثر تعقيدًا.
إضافة إلى ذلك، قد تفرض اللوائح التقليدية المصممة للمؤسسات المالية الكبرى أعباءً غير متناسبة على شركات التكنولوجيا المالية الناشئة، التي تعتمد على نماذج أعمال جديدة ومبتكرة. كما تواجه الشركات التي تقدم حلولًا تجمع بين أكثر من قطاع اقتصادي تحديات إضافية، إذ تجد صعوبة في التكيف مع القوانين المختلفة لكل قطاع. هذا التعدد في اللوائح يجبر الشركات على الامتثال لمجموعة من التنظيمات المتباينة، مما قد يجعل من المستحيل الالتزام بها جميعًا في الوقت نفسه.
قطاع التكنولوجيا المالية والمحاذير الحقوقية
مظاهر القصور التشريعي
حماية الحق في الخصوصية وبصفة خاصة البيانات الشخصية تعد حجر الزاوية لاستمرارية ونمو قطاع التكنولوجيا المالية. تتعامل أدوات وتطبيقات هذه التكنولوجيا مع بعض أكثر البيانات حساسية، والتي يمكن أن ينجم عن أي تقصير في حمايتها قدر كبير من المخاطر والأضرار الجسيمة بالأفراد أو المؤسسات. من ثم، فلا يمكن لصناعة التكنولوجيا المالية أن تزدهر دون وجود ضمانات كاملة لحماية البيانات الشخصية لمستخدمي أدوات وتطبيقات هذه الصناعة. تعتمد هذه الضمانات بصفة أساسية على وجود منظومة تشريعية وتنظيمية لحماية البيانات.
يعد إصدار قانون حماية البيانات الشخصية في عام 2020 الخطوة الرئيسية لإقامة منظومة لحماية البيانات في مصر. يتكون هذا التشريع من 49 مادة موزعة على 14 باب، وهو يتماشى بصفة عامة مع المعايير القياسية الدولية وبصفة خاصة التي يمثلها القانون الأوروبي لحماية البيانات (GDPR).
يحظر القانون معالجة البيانات الشخصية دون موافقة صريحة من صاحبها. كما يمنح الأفراد حقوقًا هامة مثل تقييد الوصول إلى بياناتهم، والحق في سحب موافقتهم على معالجة بياناتهم، والحق في إخطارهم باختراق هذه البيانات. يعرِّف القانون البيانات الشخصية بصفة عامة على أنها المعلومات ذات الصلة بشخص طبيعي معروف أو يمكن التعرف عليه. كذلك يصنف القانون معلومات بعينها مثل المعلومات الصحية والمالية والدينية والبيانات الخاصة بالأطفال، كبيانات حساسة تخضع لحماية أكبر.
ناقشت أوراق سابقة لمسار قانون حماية البيانات الشخصية ومعوقات تطبيقه، وفي مقدمتها تعطيل هذا التطبيق بسبب عدم صدور اللائحة التنفيذية له حتى اليوم وبعد حوالي خمسة أعوام من صدوره. في سياق التكنولوجيا المالية، يعيب القانون قصور بالغ الخطورة يتعلق بوجود إعفاءات هامة من الخضوع لمواده. تشمل هذه الإعفاءات على وجه خاص الجهات الخاضعة بشكل مباشر لإشراف البنك المركزي المصري (المادة الثالثة من قانون الإصدار، فقرة رقم 6).
يخلق هذا فجوة تنظيمية كبيرة لعديد من مقدمي الخدمات المالية. كما يمكن أن يؤدي إلى عدم كفاية ضمانات حماية البيانات الشخصية الحساسة لمستهلكي هذه الخدمات عند تعاملهم مع المؤسسات البنكية التقليدية أو الجهات التي ينظم البنك المركزي عملها. في حده الأدنى، يؤدي هذا الإعفاء إلى أن تخضع جهات مختلفة تقدم خدمات متشابهة لمعايير مختلفة لحماية بيانات عملائها نتيجة لاختلاف تصنيفها من حيث الجهة المشرفة عليها. يخلق ذلك عدم اتساق لحماية الخصوصية عبر قطاع التكنولوجيا المالية.
على جانب آخر، يخلق تفاعل عدة تشريعات تحكم جميعها التعاملات في قطاع التكنولوجيا المالية بيئة تنظيمية معقدة. تتمثل هذه التشريعات في:
- قانون حماية البيانات الشخصية، رقم 151 لسنة 2020
- قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي، رقم 194 لسنة 2020.
- قانون تنظيم وتنمية استخدام التكنولوجيا المالية في الأنشطة المالية غير المصرفية: رقم 5 لسنة 2022.
هذا التعقيد في البيئة التنظيمية يفاقمه التطور المتسارع للتكنولوجيا المالية، والذي يمكن أن يتجاوز الأطر التنظيمية. يسمح ذلك بوجود فترات تعمل فيها الابتكارات الجديدة لهذه التكنولوجيا في منطقة رمادية من الجهة القانونية فيما يتعلق بضمانات ومعايير حماية البيانات.
فرض الهوية الرقمية والقياسات البيومترية
أصدرت الهيئة العامة للرقابة المالية في مصر ثلاث قرارات محورية في يوليو عام 2023، وذلك تطبيقًا لقانون تنظيم استخدام التكنولوجيا المالية. يحكم هذا القانون استخدام التكنولوجيا في الأنشطة المالية غير البنكية. ينظم القرار رقم 140 الهوية الرقمية والعقود الرقمية. يحدد القرار إجراءات عملية التعرف والتوثق الرقمي، ويفرض التوثق من الهوية باستخدام القياسات البيومترية خلال المعاملات مع خدمات الجهات المالية غير البنكية التي التي تستخدم حلول التكنولوجيا المالية.
تتطلب هذه العملية من الأفراد أن يمروا بتحقق متعدد المراحل يجمع بين توثق قائم على المعلومات، وآخر قائم على الحيازة، وثالث قائم على البيانات البيومترية التي تشمل كل من التعرف على الوجه وبصمات الأصابع. وفي حين أن الإجراءات القوية للتوثق من الهوية تتماشى مع التوجهات العالمية، إلا أن استخدام البيانات البيومترية يثير تساؤلات حول الخصوصية وأمن البيانات، ومدى تناسب مثل هذه السبل عالية التدخلية مع الوصول لخدمات مالية أساسية.
الجمع الإلزامي للبيانات البيومترية للوصول إلى الخدمات المالية يثير محاذير كبيرة فيما يخص الحق في الخصوصية. فالمعلومات البيومترية بالغة الحساسية وبشكل يختلف تمامًا عن كل من كلمات أو أرقام المرور، حيث أن المعلومات البيومترية لا يمكن تعديلها في حال تم اختراقها.
بالإضافة إلى ذلك، خلق قواعد بيانات كبيرة تحتوي على معلومات بيومترية للمواطنين يؤدي إلى إتاحة هدف مغري للهجمات السيبرانية. كما أنه يثير تساؤلات حول سياسات الاحتفاظ بالبيانات، وإجراءات التحكم في الوصول إليها، وإمكانية إساءة استخدام البيانات، أي أن يتم جمع البيانات لغرض مشروع ولكن يتم استغلالها لاحقًا لأغراض مختلفة.
تفتقد القرارات الصادرة بهذا الشأن إلى التفاصيل الضرورية التي توضح كيفية التعامل مع اعتبارات حماية البيانات، مثل مبدأ تحجيم البيانات، ومتطلبات الشفافية فيما يتعلق بجمع وحفظ ومعالجة البيانات البيومترية.
التدخل الأمني والمراقبة
ربما يكون أكثر التطورات إثارة للقلق فيما يتعلق بالحقوق الرقمية بصفة عامة هو تمرير مجلس النواب المصري لتعديلات قانون الإجراءات الجنائية في يناير الماضي. بعض هذه التعديلات تؤثر بشكل مباشر على الحقوق الرقمية وفي مقدمتها الحق في الخصوصية وهي بالضرورة تمثل عائقا لكافة صور استخدام التكنولوجيا الرقمية. تعد التكنولوجيا المالية بين أكثر القطاعات حساسية تجاه المحاذير والأخطار ذات الصلة بحماية الخصوصية وكذلك ذات الصلة بضمانات الإجراءات القانونية. ومن بين التعديلات المقلقة في القانون تعديل المادة رقم 79 والذي بموجبه يسمح لجهات الإدعاء العام (النيابة العامة) بتفويض قضائي أن تصدر قرارا بمراقبة الاتصالات بما في ذلك حسابات مواقع التواصل الاجتماعي والمحتوى الشخصي الخاص عليها.
أحد العوائق الهامة التي تحول دون إقبال عديد من المواطنين على خدمات التكنولوجيا المالية أو حتى الخدمات البنكية التقليدية هو أنها تجعل تعاملاتهم المالية أكثر عرضة للتدخلات الأمنية سواء في إطار القانون أو خارجه. تتمثل هذه التدخلات في وقف التعامل على حسابات بنكية أو محافظ مالية مرتبطة بخطوط الهاتف أو غيرها دون إخطار مسبق ودون إطلاع للمستخدم على السبب. شيوع هذه التدخلات يفقد كثير من المواطنين الثقة في المنظومة المالية الرسمية بصفة عامة، خاصة أنها تتم دون إجراءات قضائية ودون ضمانات للتظلم، كما أنها قد تتم بشكل عشوائي وعن طريق الخطأ.
بين الشمول المالي والشمول الاجتماعي
للشمول المالي منافع لا يمكن إنكارها للاقتصاد المحلي، فهو يوفر لهذا الاقتصاد مزيدًا من الموارد المالية اللازمة للاستثمار والنمو. لكن الشمول المالي لا يمكن أن يتحقق بشكل كامل إن لم يكن بالإمكان شمول جميع فئات المجتمع. لا يمكن تحقيق ذلك إن تجد هذه الفئات مصلحة واقعية وحقيقية لها في الدخول إن النظام المالي الرسمي.
يمكن لأدوات التكنولوجيا المالية أن تحقق قدرًا كبيرًا من ذلك. تحقق ذلك بالفعل من خلال أدوات مثل المحافظ المالية المرتبطة بخطوط الهاتف المحمول كنموذج لخدمات تقدم منفعة مباشرة لفئات واسعة تجعل إمكانية تحويل الأموال رقميًا أكثر سهولة ومرونة من تبادلها بصورتها السائلة.
إضافة إلى المنفعة المباشرة، حققت هذه المحافظ وخدمات الدفع مثل فوري نجاحها الكبير نتيجة للبساطة المتناهية لعملياتها، مما تجاوز عوائق التعليم والمهارات التكنولوجية وغيرها. لكن هذه العوائق لم يتم تجاوزها بشكل حقيقي في خدمات مالية أخرى يمكن أن تحقق قدرًا أكبر من الشمول المالي، بصفة خاصة خدمات الادخار والاستثمار والإقراض.
لا يزال نمو هذه الخدمات محدودًا نظرًا لجانبين رئيسيين. الأول هو تعقيد عملياتها بالنسبة للغالبية العظمى من فئات المجتمع، والثاني هو المتطلبات التنظيمية غير المتناسبة في أحيان كثيرة مع فئة من المعاملات صغيرة الحجم.
نظرة خاصة للنساء من الطبقات الفقيرة
نظرًا للظروف الاجتماعية التي تتحمل فيها كثير من النساء، خاصة من الطبقات الفقيرة، أعباء إعالة نسبة كبيرة من الأسر، هناك مجال واسع لتقديم خدمات مالية تستوعب هؤلاء النساء في النظام المالي الرسمي وتقدم لهن منافع حقيقية يحتجن إليها بشدة.
كما أن ملايين النساء المصريات يعانين من القيود الاجتماعية المفروضة على دخولهن إلى سوق العمل الرسمي في معظم القطاعات الاقتصادية. نتيجة لذلك، تلجأ النساء إلى صور متعددة من العمل غير الرسمي والذي يدر عليهن دخولًا منخفضة وغير منتظمة مع غياب أية ضمانات.
أحد المعوقات الرئيسية لوجود سياسات للتكنولوجيا المالية موجهة خصيصًا لاحتياجات النساء في مصر هو ندرة البيانات المتاحة عن إمكانية الوصول للنساء إلى أدوات هذه التكنولوجيا وعن التوجهات السلوكية لهن في استخدامها.
في الوقت الحالي، لا تقدم أدوات التكنولوجيا المالية المتاحة ما يمكن أن يجتذب هؤلاء النساء إلى التعامل الفعال معها بما يتجاوز خدمات محافظ خطوط الهاتف، والتي تقتصر على تحويل المبالغ المالية بين الأشخاص. يعود ذلك في جانب كبير منه إلى العوائق العامة التي تحول دون توسع استخدام خدمات التكنولوجيا المالية بين قطاعات واسعة من المجتمع المصري.
تتفاقم هذه العوائق عندما يتعلق الأمر بالنساء بصفة عامة وبالنساء من الطبقات الفقيرة بصفة خاصة. فتعاني هذه الفئة من أعلى معدلات الأمية بين فئات المجتمع، كذلك تعاني من أعلى معدلات الفقر وأعلى معدلات البطالة (الرسمية).
ينعكس ذلك أيضًا في أن هذه الفئة هي صاحبة أقل تعرض للتكنولوجيا الرقمية مقارنة بغيرها من الفئات، وأدنى معدل لانتشار المهارات التكنولوجية الأساسية. ذلك كله يجعل فئة النساء من الطبقات الفقيرة هي الأقل فرصة في الاستفادة من خدمات التكنولوجيا المالية. يفاقم من ذلك عدم توجيه الشركات العاملة في تقديم خدمات التكنولوجيا المالية أي اهتمام لتوفير أدوات تلائم قدرات هذه الفئة وحلول مالية تتلاءم مع احتياجاتها.
إمكانيات تطور يحترم الحقوق ويحقق العدالة
الإصلاح التشريعي والتنظيمي
كما هو الحال مع جميع استخدامات التكنولوجيا المعتمدة على جمع ومعالجة البيانات، فإن المطلب الأول والمتكرر هو تفعيل قانون حماية البيانات الشخصية من خلال إصدار لائحة تنفيذية له. يترتب على إصدار اللائحة إنشاء مركز حماية البيانات ليقوم بدوره في إنفاذ مواد القانون.
لكن هذا بالطبع لا يعني إغفال حاجة القانون في وضعه الحالي إلى عديد من التعديلات التي تسمح بأن تكون الحماية التي يفرضها للبيانات الشخصية فعالة حقًا. وبالنسبة لقطاع التكنولوجيا المالية لابد من إلغاء استثناء الجهات الخاضعة مباشرة للبنك المركزي المصري من الخضوع لأحكام القانون.
مثل هذا الاستثناء غير مبرر وله عواقب بالغة الإضرار بمصالح مستهلكي الخدمات المالية في مصر. وإن كان ثمة اعتبارات خاصة للمؤسسات المالية فمن الممكن معالجتها بإجراءات خاصة يرتبها القانون بشكل يضمن حماية حقوق المواطنين وفي مقدمتها الحق في الخصوصية وحماية البيانات الشخصية، وخاصة الحساسة منها.
على جانب آخر، ينبغي إعادة النظر في فرض جمع بيانات بيومترية لتوثيق هوية المستخدمين للخدمات المالية الرقمية بشكل تعميمي غير ضروري. يوجد عديد من الوسائل الإلكترونية للتوثق من هويات الأشخاص دون الحاجة إلى تخزين بياناتهم البيومترية وبما يضمن حماية حقهم في الخصوصية وفي حماية بياناتهم ولا يعرضهم لمخاطر تمس بمصالحهم وأمنهم.
تطوير أدوات مالية أكثر شمولًا
تحقيق شمول مالي حقيقي وفعال يستلزم تحقيق شمول اجتماعي. ما يعنيه ذلك هو أن تكتسب أدوات التكنولوجيا المالية المطروحة ثقة المستهلكين المصريين بفئاتهم المختلفة وتجتذبهم بتقديم خدمات تتوافق مع احتياجاتهم بشكل يتلاءم مع الظروف السائدة.
لا شك أن تطوير مثل هذه الأدوات في ظل الواقع الاقتصادي الهش للغالبية العظمى من فئات المجتمع المصري هو تحد كبير. ولكن تجاوز هذا التحدي ممكن من خلال الحلول المبتكرة التي تستهدف تقديم منفعة حقيقية للمستخدم.
يستلزم تطوير أدوات مالية أكثر شمولية جهدًا مشتركًا لمطوري هذه الأدوات وللجهات التنظيمية والتشريعية. فينبغي للأطر التنظيمية أن تتبنى مقاربة متدرجة بحيث تفرض متطلباتها بما يتناسب مع المبالغ المالية ذات الصلة. يؤدي ذلك إلى تمكين الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا المالية من توفير أدوات مبسطة مخصصة للتعاملات المالية ذات الحجم الصغير، وهو ما يتناسب مع احتياجات الغالبية العظمى من فئات المجتمع ذات الدخل المنخفض.
ينبغي أيضًا أن تراعي مثل هذه الأدوات الطبيعة غير المنتظمة لتدفقات الدخل لدى غالبية المستخدمين من فئات الدخل المحدود. يستدعي ذلك توفير أدوات ذات مرونة مقبولة من حيث تنظيم المدفوعات. كما يمكن تطوير أدوات مالية مخصصة لمساعدة المواطنين على تحمل التكاليف الموسمية المرتفعة نسبيًا، من خلال توزيع أعبائها على فترات زمنية مناسبة.
احترام الاعتبارات الجندرية
البداية الحقيقية تكمن في التزام الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا المالية بتبني استراتيجية واضحة للمسؤولية الاجتماعية. من خلال هذه الاستراتيجية، يمكن استغلال إمكانيات التكنولوجيا لإحداث أثر إيجابي في تحسين حياة الفئات الأقل حظًا، وفي مقدمتها النساء من الطبقات الفقيرة.
هناك فرصة كبيرة لابتكار حلول مالية منخفضة المخاطر وتحقق عائدًا استثماريًا، وفي الوقت نفسه تمنح النساء من الفئات الفقيرة فرصًا أفضل لتحسين أوضاعهن المعيشية وتعزيز أمنهن المالي، خاصة في مواجهة الطوارئ الصحية وغيرها. ولضمان فاعلية هذه الأدوات، يجب أن تُصمم بحيث تراعي طبيعة عمل هؤلاء النساء غير المنتظم، وألا تشكل تقلبات الدخل عائقًا أمام استخدامها واستمرارها.
يتطلب تطوير هذه الأدوات إجراء بحوث سوق متخصصة لفهم ظروف هذه الفئة بدقة، والتوصل إلى تصميم يناسب احتياجاتهن، بحيث يكون سهل الاستخدام ولا تعيقه عوامل مثل مستوى التعليم أو قلة الخبرة بالتكنولوجيا الرقمية.
خاتمة
مع التوسع السريع لقطاع التكنولوجيا المالية في مصر خلال السنوات الأخيرة، أصبح من الضروري البحث في سبل تجاوز معوقات نموه، إلى جانب التعامل مع المخاطر الحقوقية والاجتماعية المرتبطة به. استعرضت هذه الورقة واقع القطاع، مع التركيز على تأثير نموه وتطوره على الحقوق الرقمية والاجتماعية، لا سيما الحق في الخصوصية.
ناقشت الورقة في قسمها الأول المشهد العام لقطاع التكنولوجيا المالية في مصر، فتناولت مراحل تطوره وما وصل إليه في الأعوام الأخيرة وكذلك أهم توجهاته. كما ناقشت التحديات والعوائق التي يواجهها القطاع.
في قسمها الثاني، ركزت الورقة على المحاذير الحقوقية والاجتماعية المواكبة لنمو وتطور قطاع التكنولوجيا المالية في السياق المصري، وناقشت المحاذير ذات الصلة بالحق في الخصوصية وإمكانيات الشمول الاجتماعي مع تحقيق الشمول المالي. كما تعرضت الورقة لمعوقات انتفاع النساء من الطبقات الفقيرة بصفة خاصة من أدوات وحلول التكنولوجيا المالية.
أخيرًا قدمت الورقة عدة مقترحات بالنسبة لإمكانيات تطور قطاع التكنولوجيا المالية في مصر بشكل يحترم الحقوق ويسهم في رفع مستوى العدالة الاجتماعية. فناقشت الورقة كل من الإصلاح التشريعي والتنظيمي، وتطوير أدوات مالية أكثر شمولًا، واحترام الاعتبارات الجندرية في تطوير أدوات وحلول التكنولوجيا المالية.