مدخل وتوضيح
منذ إصدار اللائحة التنفيذية لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات توسعت النيابة العامة في إحالة القضايا ذات الطابع الرقمي إلى المحكمة الاقتصادية، بوصفها المحكمة المختصة في نظر هذا النوع من الجرائم1. وخلال الفترة التي تلت إصدار اللائحة التنفيذية – ما يزيد عن عام ونصف العام – بدأت الإشكاليات المتعلقة بعدم دقة ووضوح نصوص القانون تنعكس على الممارسات القضائية بشكل جلّي، وبالأخص نص المادة 27. ذلك لأن المادة 27 تُعّد من أكثر النصوص التي استخدمتها النيابة العامة في توجيه اتهامات لمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي. فيمكن القول أن هناك إسهاب شديد في أن تتضمن أغلب قرارات الإحالة والقيد/الوصف الصادرة من النيابة العامة في القضايا ذات الطابع الرقمي اتهامات بموجب المادة 27. أدى ذلك إلى أن كل من ارتكب جريمة عن طريق موقع أو حساب أو بريد أو حتى عن طريق تطبيقات التراسل الفوري مثل (واتسآب) يتم اعتباره مدير لحساب أو موقع. يؤكد ذلك أنه يوجد فهم خاطئ من جهة النيابة العامة للمقاصد التشريعية التي أُقرِّت من أجلها نص المادة، سيتم شرحها لاحقًا، وهو ما اضطر المحاكم أن تتصدى له بالتفسير والاستبعاد من الاتهام. ولكن خطر عدم وضوح النص يخلق حالة تسهم بشكل أو بآخر في عدم وجود استقرار قانوني، ومخاوف تنعكس بشكل واضح على حزمة من الحقوق والحريات، مما يجعل نص المادة مشوبًا بشبهات عدم الدستورية.
مفهوم جريمة إدارة واستخدام موقع أو حساب بهدف ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا
“في غير الأحوال المنصوص عليها في هذا القانون، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه, ولا تزيد عن ثلاثمائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًا على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا.”
المادة (٢٧) من القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات “الجرائم المرتكبة من مدير الموقع”
جاءت المادة (27) ضمن مواد الفصل الرابع من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات تحت عنوان “الجرائم المرتكبة من مدير الموقع. يُفهّم من هذا السياق التشريعي أن الرابط المشترك في مواد هذا الفصل في القانون – المواد 27 و28 و29 – هو أنها جرائم لا يتصور المشرِّع ارتكابها إلا ممن يتصف بصفة مدير الموقع؛ من ثم فإن المخاطب بهذا النص هو كل من تنطبق عليه هذه الصفة دون غيره، حسبما عرفها هذا القانون. وعرّف القانون مدير الموقع، في قسم التعريفات الواردة بصدر القانون، بأنه “كل شخص مسئول عن تنظيم أو إدارة أو متابعة أو الحفاظ على موقع أو أكثر على الشبكة المعلوماتية، بما في ذلك حقوق الوصول لمختلف المستخدمين على ذلك الموقع أو تصميمه أو توليد وتنظيم صفحاته أو محتواه أو المسئول عنه.”
وأوضحت المادة (11) من اللائحة التنفيذية لهذا القانون الالتزامات التي تقع على مدير الموقع؛ حيث نصت على أن “يلتزم كل مسئول عن إدارة موقع أو حساب خاص أو بريد إلكتروني أو نظام معلوماتي سواء كان شخصًا طبيعيًا أو اعتباريًا وفقًا للمادة رقم 29 من القانون، باتخاذ التدابير والاحتياطات التأمينية الفنية اللازمة وفقًا للالتزامات الواردة في المادة 2 من هذه اللائحة بالنسبة لمديري مواقع مقدمي خدمات تقنية المعلومات. كما يلتزم مديرو مواقع مقدمي خدمات تقنية المعلومات والاتصالات التي تمتلك أو تدير أو تشغل البنية التحتية المعلوماتية الحرجة بالالتزامات الواردة في المادة رقم 3 من هذه اللائحة. ويلتزم الممثل القانوني ومسئول الإدارة الفعلية لمقدمي الخدمة بإثبات توفيره الإمكانيات التي تمكن مديرو المواقع من اتخاذ التدابير والاحتياطات التأمينية اللازمة لقيامه بعمله. وفي جميع الأحوال يلتزم الممثل القانوني ومسئول الإدارة الفعلية ومدير الموقع لدى أي مقدم خدمة بإتاحة مفاتيح التشفير الخاصة به للمحكمة المختصة أو لجهات التحقيق المختصة في حال وجود تحقيق في إحدى الشكاوى أو المحاضر أو الدعاوى عند طلبها رسمياً من تلك الجهات“.
ومما تقدم يتضح أن المُشرِّع قد صاغ تعريفًا محددًا لوظيفة مدير الموقع، وحدد له عدة مسؤوليات والتزامات فنية وتقنية، ورتب جزاءات جنائية غاياتها معاقبته على مخالفة أو إهمال بعضها، أو على إساءة استغلاله صلاحياته الوظيفية. وبالتالي، فأنه يُشترّط لمساءلة الفرد جنائيًا عن أي من الجرائم المنصوص عليها في المواد 27 و28 و29 أن تتوافر فيه قبل ارتكاب الجريمة حالة خاصة قانونية أو واقعية، وهذه الحالة هي صفة مدير الموقع، وفق ما تقدم من تعريف لها. وتخضع هذه الصفة في إثباتها إلى القواعد والأحكام المنصوص عليها في هذا القانون ولائحته التنفيذية، باعتباره القانون المنظم لها.
الإشكاليات المتعلقة بصياغة المادة 27 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات
أ- التوسع في إضفاء مفهوم مديري المواقع والحسابات الإلكترونية
يتضح من القراءة المباشرة لنص المادة (27) والتعريفات المتعلقة بمفهوم مدير الموقع أنه يجب لإعمال نص المادة توافر صفة مدير الموقع، فهو عنصر مفترض لقيام الجريمة. ينطبق ذلك أيضًا على الجرائم المنصوص عليها بالمواد 28 و29 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. إلا أنه بمطالعة نصوص هذه المواد الثلاث اتضح أن المُشرِّع قد نص صراحة في المادة (28) على هذا العنصر المفترض. فنصّت المادة (28) على أنه “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائتي ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل مسئول عن إدارة موقع أو حساب خاص أو بريد إلكتروني أو نظام معلوماتي إذا أخفى أو عبث بالأدلة الرقمية”
وكذلك في الفقرة الأولى من المادة (29) التي جاء نصها “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مأئتي ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل مسئول عن إدارة الموقع أو الحساب الخاص أو البريد الإلكتروني أو النظام المعلوماتي عرض أياً منها لإحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون.”
وأيضًا في الفقرة الثانية من ذات المادة “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن عشرة الآف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل مسئول عن إدارة الموقع أو الحساب الخاص أو البريد الإلكتروني أو النظام المعلوماتي تسبب بإهماله في تعرض أي منها لإحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون.”
بينما جاء نص المادة (27) مطلقًا، ومخاطبًا الكافة، دون الاقتصار على مديري المواقع دون غيرهم؛ فجاء نصها “في غير الأحوال المنصوص عليها في هذا القانون، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه، ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعاً أو حساباً خاصاً على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا”. ومن هذا الاستثناء غير المفهوم، سقط نص المادة في غموض شديد؛ فبات مضمونه مجهلًا، وخافيًا، ومبهمًا، وغابت حقيقة ما يرمي إليه؛ فأصبح تطبيقه مرتبطًا بأهواء وتفسيرات شخصية نابعة من الفهم الخاص للقائمين على تطبيقه.
ب- التطبيقات والتفسيرات القضائية المتناقضة الناتجة عن غموض نص المادة (27)
تناقضت تفسيرات وأحكام القضاء للمادة (27) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات نتيجة لهذا الغموض والإبهام. ظهر ذلك في أحكام المحاكم الجنائية الصادرة من المحكمة الاقتصادية، وقرارت الإتهام الصادرة من النيابة العامة؛ فيرى البعض منهم أن مضمون هذا النص يخاطب الكافة، ويرى آخرين أن النص يخاطب ذوي الصفة من مديري المواقع – وفقًا لأحكام القانون ولائحته التنفيذية – دون غيرهم؛ فيخرج من دائرة التأثيم والعقاب كل من لا تتوافر فيه هذه الصفة قانونيًا أو واقعيًا، وينحصر مجال المسئولية الجنائية على ذوي صفة مدير الموقع دون أن تمتد عناصر المسئولية الجنائية إلى غيرهم إلا كشركاء في الجريمة فحسب. أيدت بعض أحكام القضاء التفسير الثاني لنص المادة؛ فجاء في قضاء محكمة القاهرة الاقتصادية “أن المُشرِّع طبقًا لنص المادة (27) قصد بمديري المواقع المختصين بإدارة وتشغيل المواقع التي يستخدمها المستخدمين العاديين، ولم يتطرق المُشرِّع في تلك المادة إلى معاقبة المستخدمين العاديين الذين يستخدمون حسابتهم الشخصية الخاصة، ومن ثم ينتفي ركني تلك الجريمة المادي والمعنوي، ومن ثم يكون استخدام المتهم لحسابه الشخصي الخاص على تطبيق التواصل الاجتماعي “واتس اب” غير مؤثم بالمادة 27 من القانون 175 لسنة 2018 حال كونه مستخدم لحسابه الشخصي الخاص.”2
وجاء أيضًا في قضاء ذات المحكمة “أنه يجب على المحكمة قبل بحث توافر الركن المادي المعنوي في تلك الجريمة التأكد من توافر الشرط المفترض، وهو الركن المفترض والأساسي لقيام تلك الجريمة تقوم بقيامها في المتصف بها، كونها من جرائم ذوي الصفة التي استلزم القانون لقيامها توافر صفة خاصة في الجاني، وهو أن يكون مدير للموقع، وهو الأمر غير المتوافر في حق المتهم، كونه لا يعدو إلا أن يكون مستخدم لحساب على موقع تواصل اجتماعي (فيس بوك – واتس آب ….) وليس مديرًا لهذا الموقع لديه الصلاحيات على المنصة المعلوماتية أو على موقع واتس آب ولا حتى على الحسابات الخاصة، وإنما حسابه لا يتعدى صفة المستخدم أو المستفيد من مقدمي خدمة هذا الموقع والتي تدار بواسطة مديريها المسئولين عن سياسة الموقع وأمنه، وغيرها من المسئوليات المنصوص عليها باللائحة التنفيذية للقانون، الأمر الذي ينهار معه ذلك الركن، وهو شرط مفترض لقيام تلك الجريمة، وبانهيار ذلك الركن يخرج الفعل المرتكّب من قبل المتهم من دائرة التأثيم المنصوص عليها بالمادة 27 من القانون رقم 175 لسنة 2018، حيث أن المتهم من غير المخاطبين بها، ولا يخضع لأحكام هذا الفصل، وينعدم أصلها بالأوراق، وهو الأمر الذي تقضي معه المحكمة ببراءة المتهم من ذلك الاتهام على نحو ما سيرد بمنطوق ذلك الحكم.“3
وأضافت المحكمة “أنه لما كان من الثابت للمحكمة من مطالعتها لأوراق الدعوى وما ارتكبه المتهم من جرم يخرج عن نطاق تطبيق حكم المادة 27 من القانون 175 لسنة 2018 الخاص بجرائم مكافحة تقنية المعلومات حيث أن القانون سالف البيان قد بين في الباب المتعلق بالأحكام العامة من أنه قد وضح المصطلحات الواردة بالقانون سالف البيان بأن عرّف المستخدم: من إنه كل شخص طبيعي أو اعتباري، يستعمل خدمات تقنية المعلومات، أو يستفيد منها بأي صورة كانت، والموقع: من إنه عبارة عن مجال أو مكان افتراضي له عنوان محدد على شبكة معلوماتية، يهدف إلى إتاحة البيانات والمعلومات للعامة أو الخاصة، ومدير الموقع: هو كل شخص مسئول عن تنظيم أو إدارة أو متابعة أو الحفاظ على موقع أو أكثر على الشبكة المعلوماتية، بما في ذلك حقوق الوصول لمختلف المستخدمين على ذلك الوقع أو تصميمه أو توليد وتنظيم صفحاته أو محتواه أو المسئول عنه، والحساب الخاص: هو عبارة عن مجموعة من المعلومات الخاصة بشخص طبيعي أو اعتباري، تخول له دون غيره الحق في الدخول على الخدمات المتاحة أو استخدامها من خلال موقع أو نظام معلوماتي، وأكد ذلك ما بينته اللائحة التنفيذية الخاصة بالقانون الصادرة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1699 لسنة 2020 بشأن الإجراءات التي على مديري المواقع ومقدمي الخدمات اتباعها واتخاذها والمبينة في المادتين الثانية والثالثة من اللائحة، ولما كان المتهم وفق الثابت بالأوراق بوصفه مستخدمًا حسابًا خاصًا على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك، يوتيوب” مما تكون صفته وفق المصطلحات المبينة بالقانون سالف البيان “مستخدم” “حساب خاص” داخل موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك، يوتيوب” فمن ثم ما يقع منه من جرائم لا تندرج تحت الجرائم المرتكّبة من مدير الموقع والتي نصت عليها المادة 27 من القانون سالف البيان إذ أن تلك المادة قد خاطبت مدير الموقع بصفته التعريفية المُبيّنة سلفًا والتي أكدت اللائحة التنفيذية للقانون على اختصاصاته والإجراءات الالزامية الي عليه أن يتبعها ويتخذها والمبينة على ضوء المواد الثانية والثالثة والحادية عشر من اللائحة التنفيذية، لا سيما أن متهم دعوانا بصفته مستخدم لحساب على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أو أي شخص طبيعي يمتلك حسابًا خاصًا على مواقع التواصل الاجتماعي ليس من صلاحياته تنفيذ ما تتطلبه المادتين الثانية والثالثة من اللائحة التنفيذية سالفة البيان، وهو ما تستخلص المحكمة وفق القواعد المقررة سلفًا من أن المعني بتطبيق حكم المادة 27 من القانون سالف البيان هو مديرو مواقع الإنترنت ومديرو مقدمي خدمة تقنيات المعلومات والاتصالات التي تمتلك أو تدير أو تشغل البنية التحتية المعلوماتية الحرجة حال الجرائم التي يرتكبونها بشخصهم أو بصفتهم الإشرافية المبينة بالمادة سالفة البيان و باللائحة التنفيذية، مما تكون الجرائم التي ارتكبها متهم دعوانا محل الواقعة معاقب عليها تحت مظلة قانون العقوبات المصري والقانون رقم 10 لسنة 2003 بشأن تنظيم الاتصالات، الأمر الذي تنتفي معه إعمال حكم المادة 27 من القانون سالف البيان التي أسندتها النيابة العامة قبله، وهو ما تقضي معه المحكمة ببراءته عن تلك التهمة على نحو ما سيرد بالمنطوق.”4
لم يتفق الجميع على هذا التفسير لنص المادة (27)، حيث يرى البعض الآخر أن نص المادة يخاطب الكافة، وفقًا لظاهره، وحسب ما جاء في عبارة “كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًا على شبكة معلوماتية“، ولعدم النص فيه صراحة على صفة المخاطب به، كما جاء في المادتين 28 و29 في عبارة “كل مسئول عن إدارة موقع أو حساب خاص أو بريد إلكتروني أو نظام معلوماتي” التي وردت في كل منهما.
ج- المساواة بين صور الجرائم المختلفة التي تضمنتها المادة 27
يخضع مديرو المواقع والمستخدمون عمومًا لذات قواعد المسائلة التي نص عليها قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ولكن يضيف المُشرِّع لهذه القواعد بعد آخر يُطبّق على مديري المواقع. يتناول القانون نصوص تُجرِّم أي فعل يتعلق بإدارة الموقع إذا كان الهدف منه ارتكاب أحد الجرائم المعاقب عليها قانونًا. ويقصد بالجرائم المعاقب عليها “قانونًا” ارتكاب جريمة منصوص عليها بأي من القوانين الجزائية المصرية، مثل الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات على سبيل المثال.
وميّز القانون بين القواعد التي تُخاطِّب مديري المواقع، وحاول أن يُعدّد المُشرِّع صور التجريم لتشمل ثلاث صور وهي:
جريمة إنشاء الموقع بهدف ارتكاب أحد الجرائم المعاقب عليها قانونًا.
جريمة إدارة الموقع بهدف ارتكاب أحد الجرائم المعاقب عليها قانونًا.
جريمة استخدام الموقع بهدف ارتكاب أحد الجرائم المعاقب عليها قانونًا.
ومن المخالف لقواعد الصياغة التشريعية أن يساوي المُشرِّع بين فعل الإنشاء والإدارة أو استخدام الموقع، للعديد من الأسباب منها:
- اختلاف البواعث المتعلقة بارتكاب الجريمة ومدى إمكانية إثباتها.
- عدم وجود تناسب بين صور التجريم والعقوبات المترتبة عليها، حيث يواجه من أنشأ موقع ومن استخدمه بذات العقوبة التي تصل إلى الحبس مدة لا تقل عن سنتين وبغرامة لا تقل عن مئة ألف جنيه.
هذا بالإضافة إلى أن جريمة إدارة موقع بهدف ارتكاب أحد الجرائم المنصوص عليها قانونًا تعّد من الجرائم المركبة التي يحتاج تحققها إلى توافر عناصر وشروط عدّة. وتقع بعض تلك الشروط في النصوص التي تُجرِّم فعل بعينه بخلاف جريمة إدارة الموقع، وهو ما يزيد هذه الجريمة تعقيدًا. حيث استخدم المُشرِّع في البداية عبارة “كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًا على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا”، فالسياق اللغوي المتعلق بلفظ “يهدف” يختلف عن غيره من ألفاظ تحقق الجريمة ووقوعها. الاستهداف هو فعل أولى لا يشترط معه تحقق الجريمة، فهو جزء من القصد الجنائي الذي يجب تحققه، وهو أمر يصعب إثباته عمومًا، ويحتاج إلى وجود حالة قانونية مستمرة مكونة من أكثر من فعل حتى يصح ثبوت فعل الاستهداف، ثم أن حدوث الجريمة لا يشترط معه ثبوت فعل الاستهداف، فقد يحدث فعل الجريمة بشكل عرضي لمرة واحدة، دون أستهداف أو تكرار.
مثال توضيحي:
نْشر موقع أو صفحة لمحتوى يمثل جريمة لإحدى الهيئات النظامية أو إهانة مجلس الشوري أو مجلس النواب تتحقق معه ارتكاب إهانة الجهة النظامية إذا توافرت أركانها، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الموقع أو الصفحة التي نشرت العبارات التي تمثل إهانة لأحدي الهيئات قد أُنشِّأت أو تدار بالأساس بهدف ارتكاب فعل الإهانة، فهناك فرق بين الأمرين.
أوجه شبهة عدم دستورية نص المادة (27) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات
الوجه الأول: غموض النص التجريمي للمادة في شأن صفة مرتكب الجريمة ومخالفته مبدأ شرعية التجريم والعقاب
توجد شبهة عدم دستورية في نص المادة (27) في موقع رئيسي يمثل ركنًا لا تقوم الجريمة – المؤثمة بموجبه – إلا بتوافره، وبانعدامه تنتفي الجريمة، ويخرج السلوك من دائرة التأثيم إلى دائرة الإباحة باعتبارها الأصل العام؛ وهذا الموقع الذي شابه الغموض هو صفة مرتكب الجريمة.
فكما ذكرنا سابقًا، كلًا من المواد 27 و28 و29 أتت في فصل يحمل عنوان “الجرائم المرتكبة من مدير الموقع”. ولكن على عكس المواد 28 و29، والتي خاطبت مسئولي إدارة المواقع بشكل مباشر، لم تخاطب المادة 27 أحدًا بصفته. أدى ذلك الغموض في صياغة المادة إلى وجود تناقض في فهم وتحديد صفة مرتكب الجريمة وهو ما أصاب المادة بشبهة عدم الدستورية.
الوجه الثاني: مخالفة نص المادة (27) لمبدأ شرعية التجريم والعقاب
يجب عند وضع الأحكام العقابية أن تتم صياغة الأفعال المجرمة على نحو ضيق ومحكم. فلا يجب أن تكون الصياغة فضفاضة في بيانها الفعل المنهي عنه، كما لا يجب أن يشوبها إبهام، أو إجمال، أو تميًع، أو تداخل مع صور أفعال مشروعة. ويتعين صياغة الأحكام العقابية بأعلى درجات الحرفية والدقة على النحو الذي يضمن أن تكون جليًة، ومحددة وقاطعة، بما يسمح للمخاطب بها أن يعي ما جرمته من أفعال من غير حاجة لإعمال تقديره الشخصي، ويتيح للقاضي استخلاص أركان الجرم المقترف.5
ومن المقرر والمستقر عليه فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن القيود التى تفرضها القوانين الجزائية على الحرية الشخصية تقتضي أن تصاغ أحكامها بما يقطع كل جدل فى شأن حقيقة محتواها ليبلغ اليقين بها حدًا يعصمها من الجدل، وبما يحول بين رجال السلطة العامة وتطبيقها بصورة انتقائية، وفق معايير شخصية، تخالطها الأهواء وتنال من الأبرياء لافتقارها إلى الأسس الموضوعية اللازمة لضبطها.6
الوجه الثالث: مخالفة مبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة
يتعارض نص المادة (27) مع مبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة، كما جاءت العقوبات التي نص عليها مشوبة بعدم المعقولية؛ فبموجبه رتب المُشرِّع جزاءًا جنائيًا على ارتكاب الأفعال التي أثمها هذا النص. وهي – على سبيل الحصر – إنشاء أو إدارة أو استخدام موقع أو حساب خاص على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا. فجمع المُشرِّع بين العقوبة السالبة للحرية والعقوبة المالية كخيار لقاضي الموضوع إن قضى بالإدانة، إلا أن هذا الجزاء جاء مخالفًا لأحكام ونصوص الدستور في ناحية وغير متناسب مع الجريمة المقرر لها من ناحية أخرى. جمع نص المادة (27) بين العقوبة السالبة للحرية والعقوبة المالية، كخيار أولي لقاضي الموضوع في حالة قضائه بالإدانة. ووضع حد أدنى لكلتا العقوبتين؛ فعاقب مرتكب أي من تلك الأفعال بالحبس – كعقوبة سالبة للحرية – مدة لا تقل عن سنتين، كما عاقبه أيضًا بالغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه.
تنص القاعدة الأساسية في سياسة التجريم والعقاب على أنه لا عقوبة على الأعمال التحضيرية. وهو ما أكدت عليه الفقرة الثانية من المادة 45 من قانون العقوبات، والتي نصت على أنه “لا يعتبر شروعًا في الجناية أو الجنحة مجرد العزم على ارتكابها ولا الأعمال التحضيرية لذلك“. وإذا رأى المُشرِّع أن بعض الأعمال التحضيرية تمثل خطورة خاصة فإنه يؤثمها، وهي ما تعرف بجرائم الخطر7. يتبين من ذلك أن المُشرِّع انتهى في نص المادة (27) إلى العقاب على محض وسيلة، ربما تستخدم في ارتكاب جريمة معاقب عليها قانوناً أو لا تستخدم. وجعل من استعمالها جريمة قائمة ومستقلة بذاتها، وليس عملًا تحضيريًا أو مجرد صورة من صور المساهمة الجنائية.
بمقتضى هذا النص أصبح هناك نوعين من الجرائم؛ النوع الأول هو الجريمة الأصلية المعاقب عليها قانونًا في غير الأحوال المنصوص عليها في هذا القانون. أما النوع الثاني هو الجريمة التي أثمها المُشرِّع بموجب هذا النص، وهي الجريمة التابعة للجريمة الأصلية، والتي يستحيل تصور ارتكابها إذا لم ترتكب الجريمة الأصلية.
ومن غير المتصور أن تكون العقوبة المقررة للجريمة التابعة أشد وأكثر قسوة من العقوبة المقررة للجريمة الأصلية؛ فمن غير المقبول أن يُعاقَّب من أدار الموقع أو الحساب الخاص بعقوبة الحبس مدة سنتين والغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه وبإحدهما، وذلك كحد أدنى للعقوبة المقررة لهذه الجريمة؛ بينما يُعاقَّب من اساء استعمال هذا الموقع أو الحساب الخاص عمدًا بغرض إزعاج أو مضايقة الغير بعقوبة الحبس مدة 24 ساعة والغرامة التي لا تقل عن خمسمائة جنيه وبإحدهما، كحد أدنى للعقوبة المقررة لهذه الجريمة.
الوجه الرابع: مخالفة نص المادة للحق في حرية التعبير والحق في استخدام وسائل الاتصال
جاءت العقوبة السالبة للحرية المنصوص عليها – كجزاء جنائي – في نص المادة (27) متعارضة مع الحق في التعبير عن الرأي الذي يكفله الدستور الساري، وكفلته الدساتير السابقة، والمواثيق الدولية كافة. وكذلك متعارضة مع الحق في النشر، وهو أحد الحقوق المنبثقة من الحق الدستوري في التعبير عن الرأي، وهو أيضًا أحد وسائل التعبير عن الرأي.
تنص المادة (65) من الدستور الساري على أن “حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير أو النشر“. وتنص الفقرة الثانية من المادة (71) من الدستور على أنه “لا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في الأفراد، فيحدد عقوباتها القانون“. كما تنص الفقرة الثانية من المادة (57) من الدستور على أن “تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، ولا يجوز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها، بشكل تعسفى، وينظم القانون ذلك“.
يتبين مما تقدم أن الدستور الساري قد أضفي الحماية الدستورية على حق التعبير عن الرأي، باعتباره أحد أهم الحقوق الإنسانية واٌقدسها. وسرد الدستور عدة صور لممارسة هذا الحق، والتي من بينها حق النشر والكتابة والتصوير وغيرهم. كما أضفى الدستور حماية أخرى لحق التعبير عن الرأي؛ فوضع قيدًاً على مبدأ التجريم والعقاب، وحظر توقيع العقوبات سالبة الحرية بكافة صورها وأنواعها على جرائم النشر والعلانية كأًصل عام، واستثنى من ذلك فقط ثلاثة صور من الجرائم على سبيل الحصر، وهم: الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف، أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في الأفراد. كما أضفى أيضًا الحماية الدستورية على الحق في استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، وحظر التعسف في حرمان المواطنين من استخدامها.
والهدف من حظر توقيع العقوبات السالبة للحرية على جرائم النشر والعلانية كأصل عام هو حماية الأفراد المخاطبين بأحكام الدستور من أي ترهيب أو تهديد لحرياتهم الشخصية قد يتعرضوا له من جانب السلطة التنفيذية أو التشريعية، نتيجة للتعبير عن آرائهم.
الهوامش
1 قرار رئيس مجلس الوزراء 1699 لسنة 2020 باللائحة التنفيذية للقانون 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات الجريدة الرسمية – المنشور بالعدد 35 تابع (ج) – في 27 أغسطس سنة 2020
2 حكم محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 29 يناير 2022، الدعوى رقم 2084 لسنة 2021 جنح اقتصادية.
3 حكم محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 24 يناير 2022، الدعوى رقم 2262 لسنة 2021 جنح اقتصادية – حكم محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 29 مارس 2022، الدعوى رقم 199 لسنة 2022 جنح اقتصادية.
4 حكم محكمة القاهرة الاقتصادية، جلسة 29 نوفمبر 2021، الدعوى رقم 1592 لسنة 2021 جنح اقتصادية.
5 دليل جمهورية مصر العربية لإعداد وصياغة مشروعات القوانين، وزارة العدل، الإصدار الأول، يوليو 2018، ص51
6 حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 4 نوفمبر 2012، الدعوى رقم 183 لسنة 29 قضائية “دستورية.
7 د. مصطفى فهمي الجوهري، شرح قانون العقوبات، القسم العام النظرية العامة للجريمة، 2017، دار النهضة العربية، ص 148.