الأثر البيئي للتكنولوجيا: من مراكز البيانات إلى الذكاء الاصطناعي

 

 

مقدمة

يُعد تغير المناخ (Climate change) الخطر الأكثر تهديدًا لحياة البشر على كوكب الأرض. يوجد عدد لا حصر له من الآثار المباشرة لتغير المناخ والتي بدأنا في استشعارها بالفعل. تشير الدراسات إلى أن حوالي 3.6 مليار إنسان معرضين للآثار المدمرة لتغير المناخ. يهدد تغير المناخ بسلاسل من الكوارث التي تتصاعد حدتها مع الوقت، والتي إن لم ينجح البشر في التعامل معها في وقت قريب ستؤدي إلى فقدان ملايين وربما مليارات البشر لحياتهم.

ما ينبغي الالتفات إليه هو حقيقة أن تغير المناخ هو تهديد وجودي من صنع البشر. كما أنه نتيجة مباشرة للطريقة التي طور بها البشر التكنولوجيا الداعمة للنمو الاقتصادي منذ نهاية القرن الثامن عشر، مع بداية الثورة الصناعية. 

يتميز تهديد تغير المناخ بالصعوبة البالغة في السيطرة عليه. فالعوامل المؤدية إلى تغير المناخ ترتبط مباشرة بأسلوب معيشة البشر في العصر الحديث، والمعتمد على الصناعة الكثيفة والاستهلاك المفرط لمصادر الطاقة. يستنفذ هذا الأسلوب موارد الأرض وينتج قدرًا هائلًا من العوادم التي تغير تركيبة الغلاف الجوي للكرة الأرضية مؤدية إلى ارتفاع مستمر لدرجة حرارتها. وبرغم أن ذلك ليس هو الجانب الوحيد للأثر البيئي للتنمية الصناعية فهو الجانب الأكبر تأثيرًا والأكثر خطورة.

في حين أن النمو الاقتصادي العالمي منذ مطلع الألفية يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا الرقمية، إلا أن تأثيرها البيئي يبقى أقل وضوحًا من تأثير الصناعات التقليدية. قد يعتقد البعض أن التحول الرقمي يُخفف من الأثر البيئي للنمو الاقتصادي، ولكن هذا التصور قد يكون صحيحًا جزئيًا على أفضل تقدير. فالتطور المستمر لاستخدامات التكنولوجيا الرقمية يخلف آثارًا بيئية مباشرة وغير مباشرة، قد تتجاوز مع مرور الوقت تلك الناجمة عن التكنولوجيا التقليدية.

الظاهرة الأكثر خطوة في هذا الإطار تتعلق بميل التطور التكنولوجي الرقمي إلى خلق طفرات مفاجئة تنمو بسرعة مذهلة مستبقة أي إدراك لآثارها المختلفة بما في ذلك الأثر البيئي. المثال الأقرب هو النمو المتسارع لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي خلال السنوات القليلة الماضية، والمتوقع له أن يستمر في المستقبل القريب. في الوقت نفسه، تتعالى التحذيرات من الآثار البيئية الناتجة عن الاستهلاك المفرط للطاقة الذي يستلزمه تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

تسعى هذه الورقة إلى تناول أبرز معالم مشهد الأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية مع تقديم أمثلة على ذلك. تنقسم الورقة إلى قسمين: يعرض الأول الأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية من خلال ثلاثة جوانب رئيسية وهي: الأثر على انبعاثات الغازات الكربونية، والمخلفات الإلكترونية وأثرها البيئي، والتكلفة الخفية لصناعات التكنولوجيا الرقمية. في القسم الثاني، تقدم الورقة تصورات حول كيفية التعامل مع الأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية وإمكانيات الحد منه من خلال التدخل على مستوى سياسات الدول والصناعة، وكذلك على مستوى الممارسات الفردية.


التكنولوجيا الرقمية وآثارها البيئية

ثمة مقاربات عدة للتعرف على الأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية. فالتكنولوجيا الرقمية هي عامل رئيسي لتحول ضخم في نمط حياة المجتمعات البشرية يشمل كل من الجوانب الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. عند مقاربة الأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية من هذا الجانب يظهر تحدي محاولة رصد كيف يغير التحول الرقمي الجوانب المختلفة لحياة البشر، وبالتالي يغير من الأثر البيئي لهذه الجوانب.

على سبيل المثال، يمكن القول أن التحول إلى حفظ البيانات والمعلومات والوثائق في صورة رقمية له أثر إيجابي في تقليل الحاجة إلى حفظها ورقيًا. يخفض ذلك معدل الحاجة إلى صناعة الورق التي كانت لوقت طويل مستهلكًا رئيسيًا للأشجار حول العالم. هذا المثال نموذج لحالات عدة يصعب فيها دعم تصور منطقي للأثر البيئي للتحول الرقمي بإحصائيات دقيقة. لذلك، لا تناقش الورقة مثل هذه الحالات في الأقسام التالية.

ما يمكن استنتاجه من هذا المثال هو أن التحول الرقمي يتدخل بشكل بالغ التعقيد في شتى الممارسات اليومية، سواء كانت فردية أو جماعية، أو اجتماعية أو اقتصادية. وفي حين يمكن القطع بأن هذا التدخل يترك أثرًا بيئيًا، إلا أنه في كثير من الحالات لا يمكن قياس هذا الأثر بدقة كافية.

على جانب آخر، التكنولوجيا الرقمية مسؤولة عن نشأة صناعات مرتبطة بها. بعض هذه الصناعات لا يختلف كثيرًا عن الصناعات التقليدية السابقة على ظهور هذه التكنولوجيا. فصناعات إنتاج الأجهزة والمعدات الإلكترونية، مثل الحواسيب والهواتف الذكية والخوادم ومراكز البيانات، لا تختلف في حساب أثرها البيئي عن صناعات تقليدية مثل صناعة السيارات، حيث تستهلك الطاقة والموارد الأخرى وتترك أثرها البيئية.

انشأت التكنولوجيا الرقمية أيضًا صناعات من نوع مختلف، ما يمكن تسميته بصناعات البيانات الرقمية. هذه الصناعات يمكن تشبيهها بالصناعات الخدمية التقليدية، ولكنها تظل فريدة من نوعها. توفير الوصول إلى الإنترنت، وتوفير الخدمات والتطبيفات المختلفة التي يمكن إتاحتها من خلاله، هي كلها صناعات تقوم على نقل وتخزين ومعالجة البيانات. ومع تضخم حجم البيانات وزيادة الطلب العالمي على تحليلها ومعالجتها، تنشأ صناعة مستقلة بذاتها، تدفع نمو صناعة أخرى هي صناعة الذكاء الاصطناعي.

على الرغم من أن المستخدم العادي للإنترنت قد يشعر بأن ما يتعامل معه من بيانات ليس ماديًا وملموسًا إلا أن أن البيانات الرقمية لها بالتأكيد وجود مادي. كما أن جميع العمليات التي تجري عليها هي مادية وتتم بواسطة أجهزة ومعدات مادية.

السحابة الإلكترونية ليست معلقة في الأثير، كما قد يشعر البعض عند التعامل معها. هذه السحابة هي في الواقع مجموع عمليات تؤديها عناصر مادية عدة، الأكثر بروزًا بينها هي مراكز البيانات التي تحتوي على خوادم لحفظ ومعالجة البيانات. تتكون الشبكة نفسها من كابلات، بعضها نحاسي ولكن معظمها اليوم من الألياف الضوئية. تمتد الكابلات تحت الأرض وفي قاع البحار والمحيطات لربط قارات العالم. شبكات الهواتف الأرضية لا تزال تلعب دورًا رئيسيًا في نقل البيانات، لكن الشبكات اللاسلكية والأقمار الصناعية تنقل معظم البيانات مع اعتماد غالبية الناس على هواتفهم الذكية للاتصال بالإنترنت واستخدام تطبيقاته.

صناعات البيانات هي الوجه الأبرز للتكنولوجيا الرقمية، لكن جانبها المادي يبقى خفيًا في معظمه بالنسبة لغير المتخصصين، أي معظم مستهلكي خدماتها يوميًا. لا يفكر الكثير من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في عدد وحجم مراكز البيانات التي تستخدمها الشركات لتوفير خدماتها لمليارات البشر.

هذه المنشآت الضخمة التي تحتوي على عدد هائل من الخوادم تستهلك كميات كبيرة من الطاقة للعمل دون توقف والاستجابة السريعة لمليارات طلبات نقل ومعالجة البيانات. إلى جانب الطاقة، تستهلك موارد أخرى لتشغيل أنظمتها، وأهمها أنظمة التبريد للحد من درجات الحرارة الهائلة التي تصل إليها معداتها الإلكترونية. في جميع هذه الحالات، تترك هذه المنشآت أثرًا بيئيًا كبيرًا.

استهلاك الطاقة والانبعاثات الكربونية

تلعب التكنولوجيا الرقمية دورًا مزدوجًا فيما يتعلق بالتأثير المحتمل لها على استهلاك الطاقة ومعدل انبعاثات الغازات التي تشكل ظاهرة الصوبة الزجاجية، مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض. فعلى جانب، تشير دراسات إلى إمكانية أن يلعب التحول الرقمي دورًا إيجابيًا في خفض معدلات الانبعاثات الكربونية الناتجة عن القطاعات الصناعية التقليدية. وعلى الجانب الآخر، تؤكد عديد من الدراسات على أن توسع الاستخدامات المختلفة للتكنولوجيا الرقمية يسهم بشكل متزايد في رفع معدلات استهلاك الطاقة ومعدل الانبعاثات الكربونية.

فيما يلي تلقي الورقة الضوء على كلا الجانبين المشار إليهما. كما تناقش الورقة الآثار البيئية لنمو تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative AI نظرًا لأنها قد تمثل تحولًا كبيرًا في حجم الأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية.

الأثر الإيجابي المحتمل للتحول الرقمي

بحسب تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي WEF، ثمة فرصة لأن يؤدي إدماج التكنولوجيات الرقمية في الصناعات التقليدية المختلفة، في إطار التحول الرقمي، إلى خفض معدلات الانبعاثات الكربونية لهذه الصناعات وخاصة في قطاعاتها الثلاثة الرئيسية. هذه القطاعات هي المسؤولة عن معظم الإنبعاثات وهي: الطاقة، واستخراج المواد الخام، والحركة. تسهم القطاعات بنسب 34%، و21%، و19% على الترتيب من إجمالي الانبعاثات حسب التقديرات الإحصائية لعام 2020.

الأثر الذي يمكن أن يحدثه التحول الرقمي في هذه القطاعات يمكن تحقيقه من خلال استخدام التكنولوجيا الرقمية في كل من:

  • دعم الذكاء البشري في اتخاذ القرارات: يساعد في تحليل البيانات واتخاذ قرارات مستنيرة بشأن استهلاك الطاقة والموارد.
  • تكنولوجيا المتحسسات والسيطرة: تجمع المعلومات وتعدل العمليات المختلفة لجعلها أكثر استدامة بيئية.
  • تمكين التكنولوجيات الرقمية: تحقيق أقصى استفادة من التكنولوجيات التي تشكل محور الاقتصاد الرقمي.
  • تطوير التكنولوجيات الأساسية: تحديث العمليات الصناعية الحالية باستخدام تكنولوجيا رقمية متطورة.

تساهم هذه المسارات في استخدام التكنولوجيات الرقمية لترشيد استهلاك الطاقة في القطاعات الصناعية التقليدية، وتقليل هدر الموارد وإنتاج المخلفات الملوثة، وتحسين عمليات النقل المسؤولة عن جزء كبير من الانبعاثات الكربونية.

يشير التقرير إلى أن استخدام التكنولوجيات الرقمية في قطاع الطاقة وحده يمكن أن يخفض 8% من إجمالي الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2050. يمكن تحقيق ذلك من خلال تحسين كفاءة العمليات كثيفة الإنتاج للكربون، وتحسين استهلاك الطاقة في المباني، والتوسع في استخدام مصادر الطاقة المتجددة باستخدام الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء، والتي يتيحها بشكل أوسع استخدام تكنولوجيا ال5G.

في قطاع صناعات استخراج المواد، يؤكد التقرير أن استخدام التكنولوجيات الرقمية يمكن أن يحقق خفضًا قدره 7% من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2050. يمكن تحقيق ذلك بتحسين عمليات التنجيم بالاعتماد على تكنولوجيات مثل تحليل البيانات الضخمة.

أخيرًا، استخدام التكنولوجيات الرقمية في قطاع الحركة والنقل يمكن أن يحقق خفضًا يصل إلى 5% من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2050. يعتمد تحقيق ذلك على استغلال تكنولوجيات المتحسسات المتضمنة في إنترنت الأشياء، وكذلك تكنولوجيات تحديد المواقع الجغرافية لجمع معلومات محدثة لدعم عمليات اتخاذ القرار وتحسين عمليات التحديد الأمثل لمسارات الحركة، مما يخفض الانبعاثات في كل من النقل المعتمد على السكك الحديدية أو الطرق.

الأثر البيئي لمجمل التكنولوجيا الرقمية

في مقال نُشر عام 2017، قدّر الكاتب استهلاك الكهرباء للتكنولوجيات الرقمية بحوالي 7% من إجمالي الطاقة الكهربائية المستهلكة عالميًا. لكن الدراسات توقعت ارتفاع هذه النسبة إلى 12% في عام 2020، وأن تستمر في النمو بمعدل سنوي 7% حتى عام 2030. يستهلك تشغيل مراكز البيانات حوالي نصف هذه النسبة، بينما تمثل أجهزة مثل الحواسيب والهواتف المحمولة 34%، وتمثل الصناعات المنتجة للأجهزة الإلكترونية الرقمية 16% المتبقية.

تشير بعض التقديرات إلى أن حاسوبًا مكتبيًا يعمل 8 ساعات يوميًا يستهلك في المتوسط 600 كيلوواط/ساعة وينتج 175 كيلوجرامًا من ثاني أكسيد الكربون سنويًا. تنخفض هذه الأرقام في حالة الحاسوب المحمول إلى ما بين 150 و300 كيلوواط/ساعة، وما بين 44 و88 كيلو جرامًا من ثاني أكسيد الكربون سنويًا. في وضع التأهب (Stand-by)، تستهلك هذه الأجهزة ثلث كمية الكهرباء التي تستهلكها أثناء التشغيل.

من الأمثلة غير الملحوظة لاستخدامات التكنولوجيا الرقمية هي عمليات “التعدين” للحصول على عملة البتكوين الرقمية. تعتمد هذه العمليات على قدرات المعالجة لعدد كبير من الحواسيب التي تعمل لفترات طويلة. بلغ استهلاك الكهرباء في هذه العمليات ذروته في النصف الأول من عام 2022، حيث وصل إلى حوالي 204 تيراواط/ساعة سنويًا. انخفض هذا الاستهلاك بشكل ملحوظ في النصف الثاني من نفس العام إلى حوالي 73 تيراواط/ساعة، لكنه عاد للارتفاع ووصل في يونيو من العام الحالي إلى حوالي 147 تيراواط/ساعة سنويًا.

الأثر البيئي لصناعة البيانات

في عام 2019، عارض نشطاء البيئة في لوكسمبورج خطط جوجل لإنشاء مركز بيانات ضخم في بلدهم. تشير التقديرات إلى أن العمليات اليومية لهذا المركز ستتطلب استهلاك ما يعادل 10% من إجمالي استهلاك المياه في لوكسمبورج، وحوالي 7% من إجمالي استهلاك الطاقة في المرحلة الأولى، يرتفع إلى 12% في المرحلة الثانية.

 يوضح هذا المثال حجم استهلاك مراكز البيانات للطاقة والمياه، خاصة في دولة صغيرة مثل لوكسمبورج. يمثل هذا الاستهلاك تهديدًا للحياة اليومية للمواطنين في ظل مشاكل بيئية ومناخية أخرى أدت إلى نقص مياه الشرب.

من ناحية أخرى، يمثل الطلب الضخم لمراكز البيانات على الطاقة عاملًا مهمًا في زيادة الانبعاثات الكربونية. ففي الوقت الذي لا تزال فيه صناعة الطاقة تعتمد بشكل كبير على مصادر غير صديقة للبيئة، تعد هذه الصناعة من أكثر الصناعات مسؤولية عن إجمالي الانبعاثات الكربونية في العالم.

تعتبر مراكز البيانات “الأساس” الذي تقوم عليه شبكة الإنترنت وخدماتها وتطبيقاتها، وهي “العمود الفقاري” للشبكة وقلبها النابض. مع التوسع الهائل والمستمر في استخدام الإنترنت حول العالم، بالإضافة إلى نمو تكنولوجيات مثل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، تتزايد الحاجة إلى بناء المزيد من مراكز البيانات. في عام 2022، بلغ عدد مراكز البيانات في العالم حوالي 8000 مركز. وحسب إحصائيات العام الحالي، يوجد 5,381 مركز بيانات في الولايات المتحدة وحدها، تليها بفارق كبير ألمانيا ب521 مركز، والمملكة المتحدة ب514 مركز.

تستهلك مراكز البيانات كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية والمياه لأداء مهامها، ولكن 50% على الأقل من هذه الطاقة تستخدم للتبريد. يشير هذا إلى أن استخدام مراكز البيانات للطاقة ليس فعالًا بشكل كبير. الحرارة الهائلة الناتجة عن تشغيل الخوادم والمعدات الأخرى في مركز البيانات تعني أن جزءًا كبيرًا من الطاقة الكهربائية المستخدمة يضيع في صورة طاقة حرارية، مما يتطلب كمية مماثلة من الطاقة الكهربائية لتبريد المركز.

حتى قبل الذكاء الاصطناعي التوليدي، كانت مراكز البيانات تمثل حوالي 3% من إجمالي استهلاك الكهرباء في العالم. وكانت مسؤولة عن 2% من إجمالي انبعاثات الغازات الكربونية في عام 2019، وهي نسبة تعادل مساهمة صناعة الطيران المدني في نفس العام. كما كانت مراكز البيانات مسؤولة عن 15% من إجمالي الأثر الكربوني لصناعات تكنولوجيا المعلومات، و18% من التلوث الناتج عن التكنولوجيات الرقمية.

الذكاء الاصطناعي التوليدي

في نهاية عام 2022، جذب إطلاق تطبيق المحادثة ChatGPT من شركة OpenAI انتباه الملايين حول العالم. ومثّل عام 2023 ذروة الاهتمام بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث أطلقت العديد من الشركات الأخرى تطبيقات المحادثة الخاصة بها، مثل Gemini من Google، وClaude من Anthropic. مع تزايد تفاعل الجمهور مع تلك النظم يستمر تطويرها بوتيرة متسارعة. يبشر هذا بتحول جديد لنمط الحياة البشرية تكون التكنولوجيات الرقمية هي محركه الرئيسي.

تحتاج نظم الذكاء الاصطناعي إلى مراكز بيانات خاصة مجهزة بمعالجات رسومية GPU، أو معالجات مطورة خصيصًا للعمليات التي تعتمد عليها هذه النظم. تستهلك هذه المعالجات قدرًا أكبر من الكهرباء وينتج عنها قدر أكبر من الحرارة. يستلزم ذلك مزيدًا من استهلاك الكهرباء لعمليات التبريد. ولكن هذا الفارق هو فقط رأس جبل الجليد.

احتياجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي من الطاقة تعتمد على حجم النموذج المقاس بعدد المتغيرات المستخدمة في خوارزمياته. على سبيل المثال، يقدر استهلاك تطبيق ChatGPT من الكهرباء بما يكافئ استهلاك 33 ألف منزل أمريكي في المتوسط. كما كشفت دعوى قضائية أن تدريب نموذج GPT-4 في عام 2022 أدى إلى استهلاك مركز بيانات حوالي 6% من إجمالي المياه في المنطقة.

يوضح هذا أن مراحل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي تتطلب استهلاكًا استثنائيًا للطاقة، وهو ما أكده ارتفاع استهلاك مراكز بيانات جوجل ومايكروسوفت عند تدريب نماذج Gemini وBing بنسبة 20% و34% على التوالي.

أوضحت دراسة أجريت في عام 2019، أن نموذج BERT، الذي يحتوي على 110 مليون متغير، استهلك طاقة تعادل رحلة طيران عابرة للقارات ذهابًا وإيابًا. في المقابل، قدّر باحثون أن إنتاج نموذج GPT-3، الذي يحتوي على 175 مليار متغير، استهلك 1.287 ميجاواط/ساعة من الكهرباء وأنتج انبعاثات تعادل 552 طنًا من ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يعادل انبعاثات 123 سيارة تعمل بالبنزين لمدة عام كامل. ذلك كله تم فقط خلال فترة إعداد النموذج للعمل وقبل إطلاقه واستخدامه.

محاولة تقدير حجم الأثر البيئي لنماذج اللغة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الاستعمال اليومي أكثر صعوية بكثير من تقدير هذا الأثر في مراحل تطوير وتدريب هذه النماذج. أقرب تقدير هو مقارنة استهلاك الطاقة لعملية ما باستخدام نموذج ذكاء اصطناعي مقابل نفس العملية بدونه.

تشير بعض التقديرات إلى أن عملية البحث باستخدام نموذج ذكاء اصطناعي تستهلك أربعة إلى خمسة أضعاف الطاقة مقارنة بالبحث التقليدي. هذا مهم جدًا بالنظر إلى أن مايكروسوفت وجوجل بدأتا في تضمين نماذج الذكاء الاصطناعي في محركات البحث الخاصة بهما. مع استخدام مليارات البشر لهذه المحركات، قد تستهلك عمليات البحث العادية اليوم خمسة أضعاف الطاقة مقارنة بالعام الماضي، دون حساب العمليات الأخرى التي تستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي بكثافة.

بالإضافة إلى ذلك، عدد كبير من شركات التكنولوجيا تقوم بالفعل بتضمين وظائف الذكاء الاصطناعي في تطبيقاتها بمعدل متسارع. في المحصلة، فإن طفرة الذكاء الاصطناعي التوليدي تهدد بالفعل بأن تصل بشكل تراكمي إلى مضاعفة الأثر البيئي ليس لمراكز البيانات وحدها ولكن لمجمل التكنولوجيا الرقمية في جميع أوجهها.

المخلفات الإلكترونية واستهلاك الموارد

تتكون المخلفات الإلكترونية من الأجهزة والمعدات الإلكترونية المختلفة التي تخرج من الاستعمال اليومي وتتحول إلى مخلفات ينبغي التخلص منها. أمثلة هذه الأجهزة والمعدات شائعة الاستعمال هي الحواسيب بأنواعها والهواتف المحمولة. يضاف إلى ذلك العديد من الأجهزة الأخرى التي دخلت المكونات الإلكترونية الرقمية في تصنيعها، بما في ذلك الأجهزة المنزلية مثل الثلاجات والغسالات وغيرها.

تُعد خطورة هذه المخلفات وتزايد حجمها مشكلة بدأت تلفت الانتباه منذ فترة طويلة. ففي عام 2014، أشار تقرير لمنظمة العمل الدولية إلى أن المخلفات الإلكترونية هي الأسرع نموًا في العالم بين أنواع المخلفات الصلبة، بمعدل ثلاثة أضعاف المعدل العالمي لزيادة السكان.

يعود أحد العوامل المؤثرة في المعدل الكبير لتزايد المخلفات الإلكترونية إلى التطور السريع للتكنولوجيات الرقمية. يؤدي ذلك إلى تقادم الأجهزة والمعدات الإلكترونية الرقمية بمعدل أسرع مقارنة بالأجهزة الكهربائية التقليدية. 

تنتج شركات التكنولوجيا الكبرى أجيالًا جديدة من منتجاتها سنويًا. لا يقتصر إقبال المستهلكين على استبدال أجهزتهم القديمة (خاصة الهواتف الذكية والحواسيب) بأخرى جديدة على الرغبة في مواكبة أحدث التقنيات، بل يضطر البعض في كثير من الأحيان إلى تحديث أجهزتهم باستمرار بسبب تطور البرمجيات التي تتطلب أجهزة أحدث لتعمل بكفاءة أو حتى لتعمل على الإطلاق.

الحجم العالمي للمخلفات الإلكترونية

بحسب التقرير الصادر في عام 2024 عن المراقبة العالمية للمخلفات الإلكترونية بالاتحاد الدولي للاتصالات ITU، وصل إجمالي ما أنتجه العالم من مخلفات إلكترونية رقمًا قياسيًا جديدًا في عام 2022، حيث بلغ 62 مليار كيلو جرام. يكافئ ذلك 7.8 كيلو جرام من المخلفات الإلكترونية لكل شخص من سكان العالم. أمكن توثيق جمع وإعادة تدوير 22.3% فقط من هذه الكمية بطريقة نظامية ملائمة بيئيًا.

يوضح التقرير أيضًا أن كمية المخلفات الإلكترونية تضاعفت تقريبًا بين عامي 2010 و2022، من 34 مليار كيلو جرام إلى 62 مليار كيلو جرام. وعلى الرغم من زيادة كمية المخلفات الإلكترونية المعاد تدويرها من 8 مليار كيلو جرام إلى 13.8 مليار كيلو جرام، إلا أن معدل تزايد المخلفات الإلكترونية يتجاوز معدل تزايد المعاد تدويره منها بحوالي خمسة أضعاف.

تتصدر القارة الأوروبية إنتاج المخلفات الإلكترونية بمعدل 17.6 كيلو جرام لكل فرد، لكنها حققت أيضًا أعلى معدل لإعادة التدوير النظامي بنسبة 42.8%. في المقابل، أنتجت القارة الإفريقية أقل كمية من المخلفات الإلكترونية بمعدل 2.5 كيلو جرام للفرد، ولكن ما تم توثيقه من المخلفات المعاد تدويرها لم يتجاوز 1% (0.7%).

الخطورة الصحية للمخلفات الإلكترونية

تحتوي المخلفات الإلكترونية على العديد من العناصر الضارة والسامة. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن العديد من المواد الكيميائية المستخدمة في الأجهزة الإلكترونية هي من بين أكثر عشر مواد كيميائية خطورة على صحة الإنسان والبيئة. لا يتعرض مستخدمو الأجهزة الإلكترونية للتعامل المباشر مع هذه المواد أثناء استخدام الأجهزة، ولكن عند تحويلها إلى مخلفات، تنتشر هذه العناصر الضارة في البيئة المحيطة بها إذا لم يتم التعامل معها بشكل صحيح.

بعض الممارسات الخاطئة في التعامل مع المخلفات الإلكترونية تشمل:

  • إلقاء المخلفات في العراء أو في المجاري المائية.
  • إلقائها مع المخلفات العادية في مقالب القمامة.
  • فتح وتفكيك أو حرق وتسخين هذه المخلفات.
  • محاولة إذابة المخلفات الإلكترونية بالأحماض.
  • نزع أو تمزيق الأغلفة البلاستيكية للأجهزة الإلكترونية.
  • التفكيك اليدوي للمعدات الإلكترونية.

جميع الممارسات السابقة تعتبر ضارة بالبيئة وصحة البشر. تطلق هذه الممارسات الملوثات السامة، مما يلوث الهواء والتربة والغبار والمياة في مواقع إعادة تدوير المخلفات وفي المناطق المأهولة بالسكان على مقربة منها.

تصنف منظمة الصحة العالمية المخلفات الإلكترونية كمخلفات ضارة بالصحة. بحسب الدراسات، تحتوي المخلفات الإلكترونية على العديد من المواد الكيميائية الضارة بصحة البشر وبالبيئة. وقد وُجد أن من يعيشون في مناطق معرضة للمخلفات الإلكترونية قد سجل لديهم معدلات مرتفعة من المعادن الثقيلة والملوثات العضوية الدائمة.

الأطفال والنساء الحوامل عرضة بصفة خاصة للتأثير السلبي للمخلفات الإلكترونية، مما يعرض أنظمتهم الحيوية وأعضائهم للتضرر. كما تؤثر المواد الكيميائية السامة على معدلات النمو ومستويات إفراز الهرمونات.

التصنيع والتكاليف الخفية له

تعد العمليات الصناعية المرتبطة بالتكنولوجيا الرقمية، من استخراج المواد الخام إلى تصنيع الأجهزة والمعدات الإلكترونية، من بين الأكثر تعقيدًا واستهلاكًا للموارد. أدى النمو المتسارع لاستخدام هذه التكنولوجيا إلى زيادة الطلب على المواد الخام، وبالتالي توسع عمليات التنجيم اللازمة لتوفيرها. 

تعتبر عمليات التنجيم من بين الأكثر إنتاجًا لانبعاثات الغازات الكربونية والأكثر تلويثًا للبئية. تؤدي هذه العمليات إلى تغيير جذري لا رجعة فيه للبيئات التي تعمل فيها، من خلال تغيير طبيعة المنطقة وتشكيل سطحها، وإزالة الغطاء النباتي، وتعريض المواد الضارة للعوامل الجوية مما يسمح بانتقالها على نطاق واسع.

بعد استخراج المواد الخام، تدخل هذه المواد في مراحل متتالية من المعالجة والتصنيع. يتطلب الحصول على المعادن المطلوبة، مثل النحاس والكوبالت والنيكل والليثيوم، عمليات معالجة كيميائية مختلفة. تعتبر هذه العمليات من أكثر العمليات المسببة للتلوث، خاصة إذا لم يتم التعامل مع النفايات الناتجة عنها بشكل صحيح.

مع ذلك، نظرًا لأن معظم عمليات الاستخراج والمعالجة الأولية تتم في البلدان الغنية بهذه المواد الخام، والتي غالبًا ما تكون بلدانًا فقيرة أو نامية، فإن ضمانات المعالجة الآمنة للنفايات الكيميائية تكون ضئيلة أو معدومة. بالإضافة إلى التلوث البيئي، تستهلك هذه العمليات أيضًا كميات كبيرة من الطاقة، مما يساهم في انبعاثات الغازات الكربونية المسؤولة عن تغير المناخ.

أخيرًا، في مراحل التصنيع، تتطلب المكونات الرئيسية للأجهزة والمعدات المستخدمة في التكنولوجيا الرقمية عمليات معقدة للغاية وكثيفة الاستهلاك للطاقة والموارد بشكل عام. من بين المكونات التي تتطلب تصنيعها استهلاكًا كبيرًا للطاقة والموارد، شبه-الموصلات، وهي المكون الأساسي لوحدات المعالجة والرقائق الإلكترونية الأخرى، وبطاريات الليثيوم التي تدخل في صناعة جميع الحواسيب المحمولة والهواتف الذكية.


الحلول والمسارات المقترحة للتعامل مع الأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية

حلول الصناعة والسياسات

عندما وقع سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، على بيان لعدد من الوجوه البارزة في صناعة الذكاء الاصطناعي، يحذر من التهديد الوجودي للتطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، أشار خبراء إلى أن هذا قد يكون محاولة لتحويل انتباه الرأي العام العالمي وصانعي السياسات في الدول المختلفة عن المخاطر المباشرة والأكثر واقعية. في مقدمة هذه المخاطر الأثر البيئي الكبير للنمو المنفلت لصناعة الذكاء الاصطناعي التوليدي.

بعد أكثر من عام، اعترف ألتمان بأن نمو تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى أزمة في الطاقة. ولكنه أعلن عن ذلك فقط بعد استثماره في مجال توليد الطاقة النووية، التي قدمها كحل لهذه الأزمة. تسلط هذه الممارسات الضوء على أن الاعتماد على التنظيم الذاتي لصناعات التكنولوجيا الرقمية ليس الخيار الأمثل. يجب على الدول أن تضطلع بدورها التشريعي لتنظيم نمو وعمل هذه الصناعات وحماية مصالح مواطنيها، خاصة فيما يتعلق بالأثر البيئي.

يمارس قادة هذه الصناعات التلاعب للتأثير على صناع القرار. في حالة الذكاء الاصطناعي، يركز المشرعون على الآثار السياسية المحتملة لإساءة الاستخدام، ويتجاهلون الأثر البيئي. يتضح ذلك في قانون الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي، الذي يخلو تمامًا من مواد تنظم استهلاك الطاقة والمياه وغيرها من الموارد في هذه الصناعة.

بدأت بعض الدول في إدراك ضرورة التدخل التنظيمي للحد من الأثر البيئي المتزايد للتكنولوجيا الرقمية. في عام 2021، أصدر البرلمان الفرنسي قانونًا يهدف إلى “خفض الأثر البيئي للعالم الرقمي”.

ركز القانون على تحقيق أربعة أهداف هي: 

  • رفع الوعي الجماهيري بالأثر البيئي للاستخدامات المختلفة للتكنولوجيا الرقمية. يشمل ذلك توعية الأفراد والشركات بضرورة تجنب إنتاج كميات كبيرة من المخلفات الإلكترونية، وتجنب الاستهلاك غير الضروري للطاقة.
  • الحد من التجديد المستمر للنهايات الطرفية الرقمية (الحواسيب والهواتف المحمولة) من خلال الحد من الانهاء المتعمد لصلاحية الأجهزة عن طريق عدم دعمها من قبل البرمجيات الجديدة.
  • دعم الاستخدام الرقمي الصديق للبيئة.
  • وضع تنظيمات بيئية للحد من الاستهلاك والانبعاثات المتزايدة للشبكات ومراكز البيانات.

اقتراحات للحد من تزايد الأثر البيئي الضار

يوجد العديد من إمكانيات الحد من تزايد الأثر البيئي الضار لاستخدامات التكنولوجيا الرقمية والصناعات المتعلقة بها. من بين النقاط الرئيسية التي يمكن أن يكون لها أثر كبير:

  • تطوير عمليات الاستخراج والمعالجة للمواد الضرورية للصناعات الرقمية. ثمة مجال واسع لرفع كفاءة هذه العمليات مما يؤدي إلى خفض معدل نموها وكذلك خفض معدلات التلوث البيئي الناتجة عنها. ينبغي إلزام شركات التكنولوجيا الكبرى بتمويل عمليات التطوير هذه خاصة في الدول الفقيرة والنامية.
  • وضع قوانين تحد من النمو المنفلت لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي. بصفة خاصة ينبغي التدخل بشكل يدفع مطوري تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى التخلي عن مسار مضاعفة أحجام نماذج اللغة للوصول إلى قدرات برمجية أعلى، والبحث بدلًا من ذلك عن مسارات بديلة لتطوير قدرات هذه النماذج.
  • رفع معدلات المعالجة الصديقة للبيئة للمخلفات الإلكترونية، وتقديم العون للدول الفقيرة والنامية لتطبيق سياسات إعادة تدوير صديقة للبيئة.
  • حث مطوري التكنولوجيا الرقمية على البحث عن سبل أقل أثرًا على البيئة عن طريق تحسين عمليات التصنيع، وتصميم وتشغيل مراكز البيانات بحلول أقل استهلاكًا للطاقة والمياه وغيرها من الموارد.
  • محاولة الاعتماد على حلول الشبكات اللامركزية التي تقدم بدائل ذات أثر أقل اضرارًا بالبيئة. توزيع أعباء عمليات معالجة البيانات على الحواسيب الشخصية لعدد كبير من المستخدمين قد يغني عن الحاجة إلى نسبة ما من قدرات مراكز البيانات الضخمة.

الممارسات الفردية للمستخدمين

يجب الإشارة إلى أن الأثر المباشر للممارسات الفردية لمستخدمي التكنولوجيا الرقمية بالغ المحدودية فيما يتعلق بالأثر البيئي لهذه التكنولوجيا. ومع ذلك، يمكن أن يكون لتعديل بعض الممارسات الشائعة تأثير تراكمي إيجابي في الحد، ولو بنسبة ضئيلة، من الأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية.

الممارسات المتعلقة باستهلاك الكهرباء ربما تكون هي الأبرز بين الممارسات الفردية ذات الأثر البيئي. كما سبقت الإشارة، تستمر الأجهزة الإلكترونية مثل الحواسيب والهواتف المحمولة في استهلاك الطاقة حتى عندما تكون في وضع التأهب. من ثم، ينبغي إغلاق الأجهزة تمامًا بدلاً من تركها في هذا الوضع إلا عند الضرورة. يمكن لذلك أن يوفر قدرًا كبيرًا من الطاقة، ونظرًا للعدد الضخم منها فإن الأثر التراكمي لهذا التوفير قد يكون ذو معنى.

يؤدي الانسياق وراء التحديث المستمر للأجهزة إلى آثار سلبية متعددة. فهو يقصر من دورة حياة الأجهزة، مما يزيد من معدلات إنتاج المخلفات الإلكترونية. كما يشجع شركات التكنولوجيا على التخطيط المسبق لتحديث منتجاتها بمعدلات طفيفة على أجيال متعددة، مما يرفع من مبيعاتها في حين يكون العائد الفعلي على التحديث للمستخدم ضئيلًا أو غير ذي قيمة في كثير من الأحيان. هذا التحديث غير الضروري والمستمر للأجهزة يعني زيادة الطلب عليها دون حاجة حقيقية، مما يزيد من معدلات تصنيعها وبالتالي يرفع معدلات الأثر البيئي لعمليات التصنيع، بما في ذلك الاستهلاك المفرط للمواد الخام.

بالإضافة إلى ذلك، يجب تجنب التحديثات الدورية الصغيرة للبرمجيات، خاصة تلك التي تتطلب تحديث الأجهزة دون مبرر حقيقي. في كثير من الحالات، يمكن اللجوء إلى بدائل برمجية مفتوحة المصدر، مثل نظام التشغيل لينوكس، الذي يعمل بكفاءة أكبر على الأجهزة القديمة، مما يطيل عمر استخدامها.


خاتمة

مع النمو المتسارع لاستخدام التكنولوجيات الرقمية في شتى مناحي الحياة اليومية للبشر حول العالم، ومع تطورها نحو زيادة استهلاك الطاقة والموارد، أصبحت هذه التكنولوجيات مرشحة لتكون من بين العوامل الأكثر تأثيرًا على جهود الحد من تغير المناخ الذي يهدد البشرية بتدهور كبير في نمط الحياة، بل ويهدد حياة الكثيرين. سعت هذه الورقة إلى تقديم استعراض شامل لأهم جوانب الأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية.

في قسمها الأول، أبرزت الورقة ثلاثة جوانب رئيسية للأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمية. الأول هو الأثر المباشر على انبعاثات غازات الكربون من خلال الاستهلاك الكثيف للطاقة وموراد أخرى. كما أبرزت الورقة بصفة خاصة الدور الكبير لمراكز البيانات في هذا الإطار، والنمو الاستثنائي المتوقع لهذا الدور مع نمو تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي. 

الثاني هو الآثار بالغة الخطورة للنمو المتزايد لحجم المخلفات الإلكترونية وقصور معدلات نمو قدرات إعادة تدويرها بشكل صديق للبيئة عن اللحاق به. الثالث هو الأثر الخفي عن كثيرين لعمليات تصنيع الأجهزة والمعدات التي تحتاجها استخدامات التكنولوجيا الرقمية والآثار البيئية بالغة الخطور لهذه العمليات.

في القسم الثاني استعرضت الورقة بعض إمكانيات التدخل لكبح جماع النمو المتزايد للأثر البيئي للتكنولوجيا الرقمي سواء على مستوى سياسات الدول والشركات أو على مستوى الممارسات الفردية