حرية التعبير والجندر في الفضاء السيبراني المصري

مقدمة

الجندر هو عامل رئيسي يؤثر بشكل كبير في التمكن من ممارسة حرية التعبير في الفضاء السيبراني. تتضافر عدة عوامل ثقافية واجتماعية لتصنع فجوة ملحوظة في مدى تمكن النساء من ممارسة حقهن في حرية التعبير في الفضاء السيبراني مقارنة بالرجال. 

على الرغم من أن هذه الفجوة قائمة عبر الحدود السياسية للدول إلا أن ارتباطها الوثيق يؤدي إلى أن تتفاوت بين بلد وآخر إلى حد بعيد من حيث حجمها ومواصفاتها النوعية. لفهم العوامل المؤدية إلى وجود فجوة جندرية في التمكن من ممارسة الحق في حرية التعبير يجب أن تتم دراسة هذه العوامل في إطار ما نسميه بالفضاء السيبراني المحلي. يتشكل هذا الفضاء السيبراني كفضاء اجتماعي يضم الأفراد الذين يجمعهم الانتماء إلى بلد أو إقليم جغرافي بعينه. كما أنه يشمل الكيانات الناشطة على شبكة الإنترنت والتي تنتمي إلى البلد ذاته أو توليه اهتمامًا خاصًا.

تسعى هذه الورقة إلى تناول العوامل الأكثر تأثيرًا في ممارسة النساء للحق في حرية التعبير في الفضاء السيبراني المصري. تستخدم الورقة مقاربة تطرح فرضية هي أن العامل الأكثر تأثيرًا في خلق مناخ قامع لممارسة النساء للحق في حرية التعبير هو سيادة خطاب الكراهية والخطاب المعادي للمرأة والرافض بشكل حاسم لمبدأ المساواة الجندرية. 

تطرح الورقة أيضًا فرضية هي أن خطاب الكراهية الموجه ضد النساء في الفضاء السيبراني المصري له خصوصية تتمثل في مجموعة من الصفات. يمكن تتبع جذور هذه الصفات إلى عدة عوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية مؤثرة في المجتمع المصري. تجعل هذه الخصوصية خطاب الكراهية ضد النساء في الفضاء السيبراني المصري أكثر تجذرًا وتؤدي إلى تعظيم أثره على ممارسة النساء للحق في حرية التعبير.

ما المقصود بالفضاء السيبراني المصري؟

الأصل في الفضاء السيبراني أنه عابر للحدود السياسية بين الدول. كما أنه عابر للجماعات والمجتمعات والثقافات وكل الأسس التي تنبني عليها الهويات المختلفة للأفراد. في الواقع العملي، عند النظر إلى الفضاء السيبراني كفضاء اجتماعي يتضح أنه ينقسم إلى فضاءات عدة بحسب القواسم المشتركة التي قد تجمع عددًا من الأفراد. يكون التفاعل بين هؤلاء الأفراد من خلال الفضاء السيبراني أكثر كثافة واستمرارية مقارنة بالتفاعل بين أي منهم مع أفراد لا تجمعهم بهم مثل تلك القواسم المشتركة. 

على ذلك الأساس، يمكن تمييز فضاءات سيبرانية تتعلق بالبلدان المختلفة. أي من هذه الفضاءات يجمع بين أفراده الانتماء إلى أحد البلدان. يأتي ذلك كنتيجة لوحدة اللغة ووجود عديد من القضايا وتفاصيل الحياة اليومية التي تشغل اهتمام هؤلاء الأفراد. 

بالنسبة لغالبية مستخدمي شبكة الإنترنت، يمثل الفضاء السيبراني المحلي، أي الخاص بالبلد الذي يعيشون فيه أو ينتمون إليه، الفضاء الافتراضي الوحيد. ينشط المستخدمون في هذا الفضاء ويتفاعلون بشكل شبه حصري مع أفراده ومواقع الوب وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي المعنية به.

الصفة الرئيسية المميزة للفضاء السيبراني المحلي هي صلته الوثيقة بالواقع الفعلي. يترتب على ذلك آثار بعضها إيجابي والآخر سلبي. من الآثار الإيجابية هو أن الفضاء السيبراني المحلي يمثل امتدادًا للبيئة الاجتماعية للأفراد في حياتهم الواقعية اليومية. يوفر هذا الامتداد عدة وسائل للتواصل مع أفراد العائلة والأصدقاء وزملاء العمل وغيرهم ممن يتفاعل الأفراد معهم في حياتهم الواقعية. 

على جانب آخر، تنتج الصلة الوثيقة بين الفضاء السيبراني المحلي وبين الواقع الفعلي آثارًا سلبية. تشمل تلك الآثار توليد أخطار على الأفراد نتيجة لإمكانية أن ينتقل الخلاف والعداء المتولد عن أنشطتهم في الفضاء السيبراني إلى الواقع الفعلي. في هذه الحالة، تصبح تهديدات ممارسات العنف من خلال شبكة الإنترنت هي تهديدات في الواقع الفعلي؛ ومن ثم، لا تنحصر في أدوات لا يمكنها التسبب في الإيذاء البدني أو أن تهدد حياة المستهدف بها.

ثمة توجه سائد في الفضاء السيبراني بدأ مع ارتفاع معدل انتشار استخدام شبكة الإنترنت حول العالم. يتمثل هذا التوجه في ميل الفضاء السيراني إلى التجزئة إلى فضاءات محلية وإلى تزايد عدم مسامية الحدود بين هذه الفضاءات. من ثم، فقد أصبحت التجربة اليومية المعاشة في إطار الواقع الافتراضي بالنسبة لغالبية مستخدمي الإنترنت هي انعكاس للصفات الغالبة على تجاربهم اليومية المعاشة في الواقع الفعلي. بالإضافة إلى ذلك، أصبح التأثير المتبادل للتجربتين وثيقًا بدرجة أعلى مما كان عليه قبل عقد أو أكثر.

عوامل التمييز الجندري والعداء للمرأة في المجتمع المصري

يعكس الفضاء السيبراني المصري الملامح الاجتماعية والثقافية والاقتصادية السائدة في المجتمع المصري على أرض الواقع. للفضاء السيبراني خصوصيته التي تتعلق بالطريقة التي تتم بها ترجمة هذه الملامح من خلال آليات التفاعل. تشمل هذه الآليات التطبيقات المختلفة على شبكة الإنترنت، وفي مقدمتها مواقع التواصل الاجتماعي.

تتيح هذه التطبيقات آليات لا مثيل لها في الواقع الفعلي المعاش. وبالتالي، فهي تؤدي في كثير من الأحيان إلى تضخيم الأثر وردود الأفعال الناتجة على السلوك الممارس من خلالها. لذلك، من الضروري فهم العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الأكثر تأثيرًا في تصاعد حدة التمييز ضد النساء والعداء للمرأة في الفضاء السيبراني المصري. تتناول الورقة في القسم التالي هذه العوامل.

العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية للتمييز ضد النساء

لا يختلف المجتمع المصري عن غيره من المجتمعات في الخطوط العامة لغلبة التمييز ضد المرأة. لكن تميل مظاهر التمييز في المجتمع المصري إلى أن تكون أكثر حدة بسبب عدة عوامل. تشمل هذه العوامل ميل المجتمع المصري بصفة عامة إلى المحافظة، وصعود الخطاب الديني المتشدد خلال العقود الأخيرة وتجذره في المجتمع، والموقف غير الحاسم لمؤسسات الدولة تجاه تحقيق المساواة الجندرية.

ميل المجتمع المصري إلى المحافظة

الميل إلى المحافظة هو أمر لم يتغير كثيرًا في المجتمع المصري عبر المراحل التاريخية المختلفة التي مر بها. ينعكس ذلك في ثبات مجموعة من التصورات الجندرية التقليدية واستمرار التمسك بها. أكثر هذه التصورات تأثيرًا فيما يتعلق بالمساواة في ممارسة الحق في حرية التعبير هو الاعتقاد بأن المرأة بطبيعتها تتغلب مشاعرها وعاطفتها على قدرتها على التفكير العقلاني.

يتضح هذا التصور في الميل الدائم إلى المصادرة على حق المرأة في إبداء رأيها في أي شأن، بما في ذلك الشؤون التي تخصها. كذلك يتجلى هذا الاعتقاد في تفسير ما تعبر عنه المرأة من آراء وما تتخذه من مواقف على أساس حالتها النفسية أو ظروفها الاجتماعية؛ وهو شكل آخر من المصادرة على هذه الآراء والمواقف وعدم أخذها بجدية.

الموقف غير الحاسم لمؤسسات الدولة تجاه تحقيق المساواة الجندرية

تقر النصوص الدستورية بالتزام الدولة بالمساواة بين المواطنين من حيث الحقوق والواجبات دون تمييز على أساس الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، إلخ (مادة 53 من الدستور المصري 2014). كما تخص هذه النصوص المساواة الجندرية بنص يلزم الدولة بتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة من حيث الحقوق المدنية والسياسية والعمل على إتاحة الفرصة للمرأة لتولي المناصب العليا في الدولة (مادة 11 من الدستور المصري 2014).

بالرغم من ذلك، فإن السياسات المختلفة للدولة تراوح مكانها في تحقيق هذه الالتزامات. كذلك ثمة تباين واضح بين بعض سياسات الدولة التي تدعم المساواة الجندرية وبين الخطاب الرسمي لعديد من مؤسسات الدولة. بالإضافة إلى ذلك، ممارسات بعض هذه المؤسسات تشارك بشكل مباشر في التمييز ضد النساء والانتقاص من حقوقهن. يدفع ذلك الكثيرين من أصحاب المواقف المحافظة المتشددة إلى تفسير الممارسات الداعمة للمساواة الجندرية بأنها شكلية، والهدف منها إظهار الدولة بمظهر تقدمي أمام المجتمع الدولي كأحد ضرورات السياسة الخارجية.

عوامل تصاعد العداء للمرأة

على الرغم من أن ميل المجتمع إلى المحافظة وسيادة الخطاب الديني المتشدد فيه هي ظواهر عامة تنعكس في الجدل حول جميع القضايا المثارة في الفضاء العام، بما في ذلك الفضاء السيبراني، فبالإمكان ملاحظة أن قضايا المرأة وشؤونها تحتل مساحة واسعة من الجدل العام مقارنة بغيرها من القضايا.

كذلك ثمة عوامل ذات علاقة مباشرة بالعداء للمرأة منها الأزمة الاقتصادية الخانقة وانسداد مسارات الصعود الاجتماعي وضيق أفق التحقق، وكذلك منها غياب الآليات التشريعية والقضائية الكافية للحد من النزاعات الناشئة عنه أو حلها بشكل عاجل وناجز. ويمكن أيضًا إضافة الأثر الجانبي لصعود الخطاب النسوي وبروزه منذ ثورة يناير 2011. وفي التالي تناقش الورقة بشكل مختصر هذه العوامل.

صعود الخطاب النسوي

ثمة صعود واضح للنشاط النسوي في العقد الأخير بدأ مع اندلاع ثورة يناير 2011. يتخذ هذا النشاط من الفضاء السيبراني بصفة خاصة مجالًا للعمل دفاعًا عن حقوق المرأة ولطرح القضايا العامة المتعلقة بصور التمييز ضد النساء. نجح هذا النشاط النسوي في أن يخلق لنفسه وجودًا بارزًا في الفضاء السيبراني المصري.

أدى صعود النشاط النسوي في الفضاء السيبراني إلى تمدده إلى مساحات الفضاء العام الأخرى كالإعلام، ومجالات الإبداع الفني، وخاصة المسلسلات الدرامية وأفلام السينما. وفي حين أن هذا الصعود وتمدده كانت له العديد من الآثار الإيجابية إلا أنه أنتج ردود أفعال حادة من جانب ممثلي التيارات المحافظة وكذلك غالبية من الرجال وحتى من النساء ذوات التوجهات الأكثر محافظة. من ثم، فقد تنامى في العقد الأخير خطاب معادٍ للنسوية يستخدم حججًا تستند إلى ادعاءات سائدة بكون الأفكار النسوية دخيلة على المجتمع المصري لمهاجمة المواقف النسوية من قضايا المرأة.

تقاطع وتفاعل العوامل المختلفة لتصاعد العداء للمرأة

تعمل العوامل السابقة بشكل تقاطعي فيما بينها مما يؤدي إلى تعزيز أثر كل منها وكذلك تضخيم الأثر الكلي لها. كل من الصراع حول حقوق المرأة وصعود الخطاب النسوي له تأثيره في تنامي ظاهرة الذكورة الهشة، التي بدورها تسهم في رفع حدة الصراع حول قضايا حقوق المرأة.

على جانب آخر، تعد قضايا حقوق المرأة من أهم ما يتناوله الخطاب النسوي بصفة دائمة. يمتد أثر ذلك إلى تناول هذه القضايا من خلال وسائل الإعلام والأعمال الدرامية التي أصبح بعضها يميل إلى تبني مواقف أقرب للمواقف النسوية من هذه القضايا. يصب هذا بدوره في تأجيج حدة الصراع حولها ويدفع إلى مزيد من العداء المتفشي بالمجتمع ضد المرأة.

آليات خطاب الكراهية والعداء للمرأة في الفضاء السيبراني المصري

تتفاعل العوامل السابق تناولها لتخلق خصوصية الفضاء السيبراني المصري من حيث معالم ممارسات التمييز ضد النساء وخطاب الكراهية والعداء للمرأة. تُترجم هذه العوامل في جانبين. الأول هو خطاب الكراهية نفسه من حيث الطبيعة الغالبة عليه ومن حيث الموضوعات الرئيسية المستخدمة في محتواه. والثاني هو آليات طرح هذا الخطاب للعمل على انتشاره وسيادته في الفضاء السيبراني المصري وتعظيم أثره المباشر على الفئة المستهدفة منه وهي النساء.

محتوى الخطاب

التوزيع الجندري للأدوار الاجتماعية

الحديث عن ضرورة الحفاظ على التوزيع التقليدي للأدوار الاجتماعية للرجل والمرأة هو أحد الموضوعات الرئيسية في الخطاب السائد في الفضاء السيبراني المصري. يكاد يقتصر هذا الخطاب على الشكوى من رفض النساء في الوقت الحالي للالتزام بمقتضيات هذه الأدوار. وفي هذا الإطار، يتم التأكيد بصفة مستمرة على أن الدور الطبيعي للمرأة في المجتمع ينحصر في أن تكون زوجة وأمًا، همها الأول هو رعاية زوجها وأطفالها.

يتم في هذا السياق ذم أية تطلعات للمرأة لتحقيق أية إنجازات، سواء في مجالي التعليم أو العمل. وفي حال كان الخطاب متسامحًا مع تعليم المرأة وخروجها للعمل فهو يعتبرهما مجالات تكميلية ولا ينبغي أن يكون أي منهما غاية وهدفًا للمرأة في حد ذاته. فالمرأة تتعلم لتكون أمًا أفضل، وتخرج للعمل لمعاونة زوجها في تحمل أعباء المعيشة.

رفض المساواة الجندرية في الحقوق

التعبير عن رفض المساواة الجندرية في الحقوق يحتل مساحة كبيرة من الخطاب السائد في الفضاء السيبراني المصري. عادة ما يلجأ مستخدمو هذا الخطاب إلى تركيز الهجوم على جانب مختلق من الحجة المضادة لمحاولة تقويض قوتها. 

آليات استخدام خطاب الكراهية والعداء للمرأة

تُستخدم العديد من الآليات لتعظيم أثر خطاب الكراهية والعداء للمرأة ولقمع أي خطاب مخالف له. تشمل هذه الآليات:

  • صناعة مؤثرين (Influencers) لخطاب الكراهية والعداء للمرأة ودعم نفوذهم في الفضاء السيبراني.
  • توسيع نطاق وصول خطاب الكراهية والعداء للمرأة من خلال الإعادة الكثيفة لنشره.
  • ملاحقة النساء النافذات في الفضاء السيبراني وإغراق منشوراتهن بالتعليقات العدائية.
  • استخدام آليات التواصل الخاص لملاحقة النساء كرد فعل على تعبيرهن عن آرائهن أو على ممارساتهن الشخصية. 

صناعة مؤثرين الكراهية

يفرز كل توجه في الفضاء السيبراني مشاهيره المعبرين بنجاح أكبر من غيرهم عن هذا التوجه. يتميز هؤلاء المؤثرين بالقدرة على صياغة خطاب هذا التوجه بكفاءة و بامتلاك مؤهلات تمنحهم مصداقية أكبر في التعبير عنه. تمثل صناعة المؤثرين آلية فعالة لنشر الخطاب المعبر عن التوجه الذي يمثلونه. يدرك المنتمون إلى توجه بعينه، بشكل تلقائي، أهمية أن يكون له مؤثرين ذوي نفوذ في الفضاء السيبراني. من ثم، فهم يهتمون برفع قيمة هؤلاء المؤثرين ومن ثم زيادة نفوذهم. أفرز الفضاء السيبراني المصري عددًا من النجوم البارزين لخطاب الكراهية والعداء للمرأة.

النشر الكثيف لخطاب الكراهية والعداء للمرأة

تتميز مواقع التواصل الاجتماعي بصفة خاصة بصناعة “الترند” أو الموضوعات الأكثر تكرارًا. تلعب الخوارزميات دورًا أساسيًا في نشر الموضوعات الأكثر تكرارًا على نطاق واسع. تُستخدم هذه الآلية كثيرًا في الفضاء السيبراني المصري من خلال إعادة نشر منشورات تقدم خطاب الكراهية والعداء للنساء بشكل جذاب أو جيد الصياغة. يحدث ذلك بشكل تلقائي نتيجة أن مصدر هذه المنشورات هم عادة من مؤثرين خطاب الكراهية. يتمتع هؤلاء المؤثرون بعدد كبير من المتابعين الذين يميلون إلى إعادة نشر منشوراتهم لكونها تعبر عن آرائهم بصيغة أفضل مما يمكنهم نشره بأنفسهم. 

ملاحقة النساء النافذات

النفوذ في الفضاء السيبراني يتمثل عادة في كثرة المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي. يظهر ذلك في كثرة المهتمين بالشخص وأخباره من خلال المواقع الإعلامية الخبرية وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي تحظى أيضًا بعدد كبير من المتابعين.

الفئة ذات النفوذ التقليدي بحكم الشهرة الواسعة تضم نجوم الفنون الدرامية، ولكن الفضاء السيبراني نفسه قد خلق فئة أخرى وهي المؤثرين. تتعرض النساء النافذات من كلتا الفئتين لملاحقة مستمرة. يحدث ذلك من خلال التعليقات العدائية على منشوراتهن على مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك على أخبارهن التي تنشرها المواقع الخبرية وصفحاتها.

ملاحقة النساء من خلال آليات التواصل الخاص

تتعرض النساء بصفة عامة لاقتحام خصوصيتهن بتواصل الغرباء معهن من خلال آليات التواصل الخاص بمعدل أكبر كثيرًا من تعرض الرجال لذلك. إلى جانب محاولات التقرب الفجة والتحرش تتلقى النساء في كثير من الأحيان تعديات لفظية وتهديدات بالإيذاء.

تتصاعد معدلات اقتحام الخصوصية تلك في الحالات التي ينتشر فيها منشورات لهؤلاء النساء في الفضاء العام على نطاق أوسع من المعتاد لهن. يعتبر كثيرون أن تعبير النساء عن آراء أو مواقف مخالفة للسائد أو نشرهن لصور شخصية هو دعوة لهم لمخاطبتهن من خلال آليات التواصل الخاص.

على جانب آخر، يستخدم بعض هؤلاء النصح الأخلاقي كمدخل لمحاولتهم مد حبال الحوار. كما يقتحم آخرون الفراغ الشخصي الخاص لهؤلاء النساء لمجرد التعبير عن استيائهم وغضبهم تجاه ما عبرن عنه من آراء أو ما نشرنه من صور.

الأثر على حرية التعبير

تخلق الآليات السابق إيضاحها بيئة قامعة لممارسة النساء لحقهن في حرية التعبير بصفة عامة، وفيما يتعلق بالقضايا الخلافية ذات الصلة بحقوق المرأة والمساواة بينها وبين الرجل بصفة خاصة. الآلية الرئيسية لقمع حرية الرأي تتمثل في رفع كلفتها بجعل العواقب السلبية لممارستها ثقيلة الوطأة إلى حد يفضل فيه صاحب الحق عدم ممارسته لتجنب هذه العواقب.

تقوم كل آلية من التي سبق إيضاحها بدور خاص في إثناء النساء عن التعبير عن آرائهن، خاصة إذا ما كانت مخالفة للسائد، أو تعكس محاولة لمواجهة خطاب الكراهية والعداء للمرأة، أو تتخذ موقفًا من إحدى القضايا التي تتعلق بحقوق النساء، وبصفة خاصة حقهن في المساواة. تتناول الأقسام التالية دور كل آلية من تلك في قمع ممارسة النساء للحق في حرية التعبير.

تجنب مواجهة مؤثرين الكراهية

تعرف النساء أن تعبيرهن بشكل مباشر عن آراء ردًا عن تلك التي ينشرها مؤثرين الكراهية من شأنه أن يجعل منهن هدفًا لحملة من الهجوم من قبل المعجبين بهؤلاء المؤثرين أو ربما يؤدي إلى أن ينبري المؤثرين أنفسهم لمهاجمتهن مما يضاعف من حجم وحدة هجوم أتباعهم.

من ثم، تتجنب كثيرات الدخول في مواجهة حتى وإن كانت غير مباشرة مع ما ينشره هؤلاء المؤثرين. تظهر هنا فعالية آلية صنع المؤثرين، حيث إن استخدام أتباعهم لمنشوراتهم لإيصال رسائل تعبر عن أراء يشاركونها معهم يعفي هؤلاء الأتباع من نشر تلك الآراء بأنفسهم. 

أثر النشر الكثيف لخطاب الكراهية والعداء للمرأة

النشر الكثيف لخطاب بعينه قد يؤدي إلى ما يشبه الإغراق لأي خطاب مخالف له، وهو ما يمثل بصورة ما قمعًا لهذا الخطاب، وبالتالي قمع لحق من يمثلونه في ممارسة حرية التعبير. ولكن بصورة أكثر مباشرة تؤدي السيادة الظاهرة لخطاب بعينه في أي فضاء للتفاعل الاجتماعي بشعور أصحاب الخطابات المخالفة أو البديلة بالإحباط وعدم جدوى السباحة في عكس الاتجاه الغالب للتيار.

في نفس الوقت، يعزز النشر الكثيف لأي خطاب من شعور الطرف المخالف له بأن محاولة مواجهته ستؤدي بالضرورة إلى عواقب لا يرغب في تحمل مغبتها. لتلك الأسباب يعد النشر الكثيف لخطاب الكراهية والعداء للمرأة أداة فعالة لقمع ممارسة النساء للحق في حرية التعبير ردا عليه. إضافة إلى ذلك يؤدي تعرض أي فئة مستضعفة في المجتمع لخطاب كراهية مكثف وواسع الانتشار إلى ميل أفرادها إلى الانزواء وتجنب الظهور بصفة عامة. 

من ثم، فالانتشار الواسع لخطاب الكراهية ضد النساء هو أداة فعالة لدفعهن إلى تحجيم نشاطهن في الفضاء السيبراني العام إلى أقل حد ممكن لشعورهن بأنهن مستهدفات بصفة عامة وبغض النظر عن آرائهن أو مواقفهن، خاصة في ظل ثقافة محافظة تعتبر أن ظهور النساء في أي فضاء عام أمرا مستهجنا في حد ذاته.

تجنب الملاحقة

بالنسبة للنساء النافذات في الفضاء السيبراني واللاتي يتعرضن لملاحقة مستمرة بالتعليقات العدائية على منشوراتهن أيًا كان موضوعها، حتى وإن كان تعبيرًا عن رأي مقبول اجتماعيًا، فإن التعبير عن آراء مخالفة للسائد أو ترد بشكل مباشر على خطاب الكراهية والعداء للمرأة كفيل بتعرضهن لحملات عدائية أضعاف ما يتعرضن له في المعتاد، وأضعاف ما يمكن أن تتعرض له غيرهن من النساء الأقل بروزا.

ومن ثم فمن النادر أن تعبر النساء النافذات علانية عن آراء أو مواقف تجر عليهن مثل تلك العواقب، وإلى جانب أن هذا يعد قمعا لحقهن في التعبير فهو يعد خسارة لما يمثله ثقل نفوذهن في دعم قضايا النساء بصفة عامة. إضافة إلى ذلك يمثل ما تتعرض له هؤلاء النساء من ملاحقة في المعتاد مثالا سلبيا لغيرهن من النساء يدفعهن إلى تجنب البروز في الفضاء السيبراني بصفة عامة وهو ما يؤدي بهن إلى تحجيم نشاطهن في هذا الفضاء وهو ما يمثل قمعا أعمق لحقهن في حرية التعبير.

تجنب اقتحام الخصوصية

تنضوي محاولات النساء بصفة عامة لتجنب اقتحام خصوصيتهن بدورها تحت عنوان الانزواء وتجنب الظهور وتحجيم النشاط في الفضاء السيبراني. ويختلف هذا الأثر عن سابقيه في اتساع نطاقه، فلا تكاد تكون ثمة مستخدمة لشبكة الإنترنت لم تتعرض لاقتحام خصوصيتها بالتواصل غير المرغوب به من خلال آليات التواصل الخاص. إلا أن سعة الإنتشار يقابلها تدني الحدة نسبيا، بالنسبة للنساء غير النافذات. 

في المقابل، فإدراك النساء لحقيقة أن تزايد نفوذهن وبروزهن من شأنه أن يرفع معدل تعرضهن لاقتحام مجالهن الخاص يؤدي بهن كما سبقت الإشارة إلى تفضيل الانزواء ومن ثم فآلية اقتحام الخصوصية تظل فعالة في قمع ممارسة النساء لحقهن في حرية الرأي، وهي تتميز باتساع نطاقها حيث تشمل جميع النساء دون تمييز، كما أنها لا تتعلق بالضرورة بالتعبير عن آراء بعينها، بل تشمل نطاقا واسعا من التعبيرات والسلوكيات التي قد تلفت الانتباه إلى صاحبتها.

خاتمة

طرحت هذه الورقة فرضيتين أساسيتين. الأولى هي أن شيوع خطاب الكراهية والعداء للمرأة هو عامل رئيسي في قمع ممارسة النساء للحق في حرية التعبير بصفة عامة. والثانية هي أن الفضاء السيبراني المصري، نظرًا لعوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية فاعلة في الواقع الفعلي وتنعكس في هذا الفضاء بشكل مضخم، يمثل بيئة قامعة بشكل مضاعف لممارسة النساء للحق في حرية التعبير من خلاله. 

سعت الورقة إلى دعم هاتين الفرضيتين من خلال عرض للعوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية السائدة في السياق المصري والأكثر تأثيرًا في شيوع خطاب الكراهية والعداء للمرأة في المجتمع المصري، وبشكل مضاعف في الفضاء السيبراني المصري. ثم عرضت الورقة تحليلا للآليات التي يتم من خلالها نشر خطاب الكراهية والعداء للمرأة في الفضاء السيبراني المصري مع استغلال طبيعة هذا الفضاء لتعزيز أثر هذه الآليات وفعاليتها في قمع ممارسة النساء للحق في حرية التعبير. وأخيرًا أوضحت الورقة دور كل من هذه الآليات في تحقيق القمع المشار إليه.

في خلفية ما عرضته هذه الورقة يبرز دور مؤسسات الدولة الغائب في تحمل مسؤولية مواجهة خطاب الكراهية ضد الفئات الأكثر عرضة للإيذاء وفي مقدمتها النساء، والحاضر بشكل سلبي من خلال اسهام ممارسات هذه المؤسسات في خلق العوامل المؤججة لانتشار خطاب الكراهية والعداء للمرأة. من ثم فالدولة المصرية مطالبة من خلال مؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية بالاضطلاع بالتزاماتها الدستورية تجاه تحقيق العدالة والمساواة للمواطنات والمواطنين من حيث الحقوق والواجبات، وتجاه مواجهة خطاب الكراهية بالتشريعات والسياسات المناسبة. 

في النهاية، قمع ممارسة النساء للحق في حرية التعبير في الفضاء السيبراني المصري هو فقط واحد من عشرات المظاهر للتمييز المتجذر اجتماعيا ضد النساء في مصر، وكغيره من هذه المظاهر لا سبيل إلى التخلص منه إلا من خلال تغيير اجتماعي شامل يستلزم إلى جانب الالتزام الجاد من مؤسسات الدولة بتحقيقه وجود مجتمع مدني قوي وفاعل للقيام بالدور الضروري له في تحقيق هذا التغيير.