الاتصالات التقدمية كأداة لتعزيز المساواة الجندرية

مقدمة

حركة الاتصالات التقدمية هي مظلة لعديد من المنظمات والمجموعات والأفراد يجمعهم هدف رئيسي واحد. الهدف هو استغلال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لخلق عالم أكثر عدالة وشمولًا للفئات المهمشة والأقل حظًا. قدمت “مسار” من قبل تعريفًا بهذه الحركة من خلال ورقة “الاتصالات التقدمية: القيم والمبادئ والأثر.”

توجه الورقة الحالية اهتمامها إلى تقاطع هذه الحركة مع الجندر، وهي البنية الاجتماعية الأوسع تأثيرًا في المجتمع. تمثل النساء نصف المجتمع، ومع ذلك يعانين من استمرار وجود بنى تمييزية ضدهن. يمثل التمييز الجندري تحديًا بالغ الأهمية والصعوبة في سبيل بناء مجتمعات أكثر مساواة وعدالة تمنح أفرادها على السواء فرصًا متكافئة للعيش الآمن الخالي من القمع أو الاضطهاد والذي يسمح لهم بتطوير إمكاناتهم المختلفة.

تقاطع الاتصالات التقدمية مع الجندر كمجال رئيسي للعمل على تحقيق العدالة والمساواة هو أمر بديهي، ويمثل مساحة بالغة الاتساع والتشعب. يمكن التدليل على ذلك من خلال الإشارة إلى أن رابطة الاتصالات التقدمية (Association for Progressive Communications) تخصص واحدًا من برامجها الرئيسية لحقوق المرأة.

حسب الموقع الإلكتروني لهذا البرنامج “تتمتع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بإمكانات هائلة لدعم تقدم حقوق الإنسان للنساء والفتيات.” كما أنها “تقدم منصة للتعبير وللوصول إلى المعلومات لخلق ومشاركة السرديات التي يمكن أن تقود إلى تغييرات في المعايير والقيم التي تسهم في التمييز وعدم المساواة.” 

تسعى هذه الورقة إلى تقديم صورة مجملة لتقاطع الاتصالات التقدمية مع الجندر. تناقش الورقة الدور الذي يمكن أن تلعبه الاتصالات التقدمية في دعم مساعي تحقيق المساواة الجندرية فتستعرض الفرص المتاحة للعب هذا الدور وسبل دعمها. كما تناقش الورقة التطبيق العملي لمبادئ الاتصالات التقدمية في سبيل أن تؤدي دورًا فعالًا في النضال لأجل المساواة. تركز الورقة على كل من أدوار الاتصالات التقدمية في الاستيعاب والمشاركة، وفي تشكيل الخطاب السائد، وفي مواجهة الصور النمطية. وأخيرًا، تعرض الورقة التحديات والعوائق التي يمكن أن تعترض طريق الاتصالات التقدمية نحو القيام بدور فعال في دفع المساواة الجندرية.

تقاطع الاتصالات التقدمية مع الجندر

الاتصالات التقليدية والجندر

هناك معنيان لمصطلح “الاتصالات التقليدية” كما تستخدمه هذه الورقة. المعنى الأول هو أن الاتصالات التقليدية هي تلك التي تعتمد على وسائل اتصال سابقة للعصر الرقمي. على سبيل المثال، كالمطبوعات بشتى صورها ومنها الصحافة الورقية، وكقنوات الإذاعة والتلفزة. 

على الرغم من أن الاتصالات التقليدية بهذا المعنى قدمت ولا تزال تقدم نماذج تقدمية إلا أنها بطبيعة التكنولوجيا المستخدمة فيها ذات أثر محدود في دعم المبادئ التقدمية. فالاتصالات التقليدية أكثر عرضة لآثار محدودية التمويل على سبيل المثال، نتيجة لأن معظمها يحتاج إلى موارد مالية كبيرة نسبيًا. كما أنها أكثر عرضة لسيطرة وقمع الدولة، سواء في إطار القانون أو خارجه.

المعنى الثاني للاتصالات التقليدية هو الاتصالات غير التقدمية. تشمل تلك صور إدارة واستخدام وسائل الاتصالات بأنواعها دون إلتزام مبدأي بالسعي لتحقيق قيم العدالة والمساواة. وبالنسبة للجندر، فذلك يعني عدم أخذ الحساسية الجندرية في الاعتبار، وصولًا إلى صور الاتصالات المحافظة والرجعية المعادية من حيث المبدأ لمفاهيم الحساسية الجندرية.

غياب الحساسية الجندرية في إدارة الاتصالات، سواء كانت رقمية أو ما قبل رقمية، أنتج كثيرًا من الظواهر السائدة في فضاء الاتصالات. تعيد هذه الظواهر إنتاج ممارسات التمييز ضد المرأة، بما في ذلك الحد من مشاركتها الفعالة بشكل مباشر. 

فعلى سبيل المثال، تكون أدوار النساء في مؤسسات الاتصالات التقليدية محدود، وخاصة في مواقع الإدارة والتخطيط وصنع القرار؛ أو من خلال جعل هذه المشاركة أكثر صعوبة، مع تفشي ظواهر مثل التحرش والاعتداءات اللفظية، وغيرها؛ أو السماح للخطاب الكاره للنساء أو الذي يحط من قيمتهم بالانتشار دون ضابط في المجال العام؛ وصولًا إلى ظواهر مثل الانحياز الجندري للخوارزميات وضعف إجراءات حماية الخصوصية.

يكشف فضاء التواصل عن الآثار السلبية المختلفة للاتصالات التقليدية السائدة على حال المساواة الجندرية وعلى وضع النساء في هذا الفضاء. يبرز ذلك الحاجة إلى بديل تقدمي يضع في اعتباره مبادئ وقيم المساواة والعدالة. من ثم، يكون في مقدمة أولوياته دفع سياسات تحد من الظواهر السلبية في فضاء التواصل وعلى شبكة الإنترنت.

تقاطع مبادئ الاتصالات التقدمية مع المساواة الجندرية

تقاطع مبادئ الاتصالات التقدمية مع السعي لتحقيق المساواة الجندرية هو أمر بديهي. ففي حين أن الاتصالات التقدمية تعنى بكافة قضايا المساواة والعدالة لصالح جميع الفئات المهمشة، إلا أن أهمية المساواة الجندرية تكتسب أولوية خاصة. ذلك لأن التمييز الجندري يطال أكبر فئة مهمشة في أي مجتمع وهي النساء اللاتي يمثلن نصف سكان العالم.

على مستوى تفصيلي أكثر، فإن المبادئ الأساسية لحركة الاتصالات التقدمية مثل المساواة، والانفتاح، وحقوق الإنسان تتصل جميعها بمساعي تحرير المرأة وتحقيق المساواة الجندرية. تجمع هذه المبادئ المشتركة بين حركة الاتصالات التقدمية وبين الحركات والمنظمات النسوية الساعية لتحقيق المساواة الجندرية. توفر المبادئ أرضية واحدة تجعل التعاون والعمل المشترك أكثر سهولة وفعالية. 

كما يفتح كل من مبادئ العمل المشتركة بين الجانبين سبيلًا يمكن لحركة الاتصالات التقدمية عن طريقه أن تدعم مساعي المساواة الجندرية. يتحقق ذلك من خلال استخدام مواردها المختلفة المتاحة لاستغلال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التطبيق العملي لهذه المبادئ. يبرز ذلك بصفة خاصة فيما يتعلق بتطبيق مبدأي بناء القوة الذاتية والتنظيم، حيث تفتح تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أفاقًا واسعة لتطوير التطبيق العملي لكل منهما.

دور النساء في تطوير وتشكيل مفهوم الاتصالات التقدمية

لعبت النساء بالفعل أدوارًا هامة في تطوير مفهوم الاتصالات التقدمية بمبادرتهن منذ وقت طويل إلى استخدام وسائل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. استخدمت النساء وسائل الاتصالات، سواء ما قبل الرقمية أو الرقمية الحديثة، في مساعيهن للحصول على حقوقهن في العدالة والمساواة وتحقيق المبادئ التقدمية. 

كما ساهمت النساء في بناء حركة الاتصالات التقدمية من خلال احتلال مواقع قيادية في عديد من المنظمات المنضوية تحت مظلة الحركة. بالإضافة إلى قيامهن بكثير من العمل البحثي حول التمييز الجندري وأهمية تمتع الممارسات التواصلية بالشمول والمساواة لمواجهته.

أدوار النساء في الدعاية وبناء القدرات والنشاطية الرقمية في فضاء الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات كان لها أثر بالغ في تمهيد الطريق أمام بلورة هذه المسارات كأدوات وأهداف للاتصالات التقدمية. كذلك أرسى عمل المنظمات النسوية في مجال تطوير سياسات تدعم تحقيق المساواة وفي مجال التنظيم خبرات وتجارب هامة استفادت منها حركة الاتصالات التقدمية.

دور الاتصالات التقدمية في السعي للمساواة الجندرية

يمكن للاتصالات التقدمية أن تلعب دورًا بالغ الأهمية في النضال الساعي لتحقيق المساواة الجندرية. تناقش الورقة في القسم التالي هذا الدور من خلال التعرض للفرص المتاحة له وكيف يمكن العمل على دعمها. بالإضافة إلى آليات تطبيق مبادئ الاتصالات التقدمية في السعي للمساواة الجندرية مع وضع مبادئ وقضايا الحراك النسوي في الاعتبار.

تنطلق حركة الاتصالات التقدمية من موقع في قلب مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. تعتمد الحركة على امتلاك المعرفة والمهارات والخبرات التقنية التي تسمح باستخدام وسائل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بأفضل سبيل ممكن لدعم مبادئ العدالة والمساواة وخلق عالم أفضل للجميع وبصفة خاصة الفئات المهمشة.

المعرفة المتخصصة وتوافر المهارات الفنية تفتح مساحات واسعة لدعم مساعي المساواة الجندرية. يتحقق ذلك من خلال الآتي:

  • برامج ومبادرات تعتمد على الاستخدام الأمثل للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
  • تقديم الدعم الفني المباشر للبرامج والمبادرات النسوية.
  • نقل المعرفة والخبرة الفنية إلى الناشطات النسويات المنخرطات في المنظمات والمبادرات النسوية، أو اللاتي يعملن بمفردهن، أو في مجموعات صغيرة.

يمكن دعم دور الاتصالات التقدمية من خلال أن تكتسب المنظمات والأفراد المنضوون تحت مظلة حركة الاتصالات التقدمية مزيدًا من المعرفة بقضايا الجندر، وبصفة خاصة تلك التي تتقاطع بشكل مباشر مع مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. اكتساب هذه المعرفة ممكن من خلال الاطلاع على العمل السابق إنجازه في الإنتاج المعرفي للحركات النسوية وللنسويات في الأكاديميا ومراكز الأبحاث ومنظمات حقوق الإنسان.

كما يمكن تغطية أية فجوات في هذا المنتج المعرفي من خلال العمل على دراسة وتحليل الجوانب المختلفة لتقاطع قضايا الجندر مع مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. بالإضافة إلى استغلال التخصص المعرفي لنشطاء الاتصالات التقدمية في هذا المجال.

كذلك يمكن تقديم الدعم للمنظمات النسوية وللنسويات كأفراد من خلال التعاون والعمل المشترك. يوفر ذلك فرص الاحتكاك وتبادل الخبرات ويسمح ببناء صلات وروابط مستديمة. بالإضافة إلى ذلك، فانضواء مجموعات نسوية تحت مظلة حركة الاتصالات التقدمية وعملها يتيح إمكانية التغذية المتبادلة وتعميق التزام حركة الاتصالات التقدمية نحو مساعي المساواة الجندرية وتحرير المرأة وتمكينها.

تطبيق مبادئ الاتصالات التقدمية في السعي للمساواة الجندرية

الاستيعاب والمشاركة

واحد من أهم مبادئ الاتصالات التقدمية هو مبدأ المشاركة. يعني ذلك العمل على انخراط الأفراد من المجموعات المهمشة في عمليات صنع القرار وضمان أن تكون أصواتهم مسموعة. الالتزام بمشاركة النساء في عمليات صنع القرار في مراحل التخطيط والتنفيذ والعمل اليومي للبرامج والمبادرات المؤسسة على مبادئ الاتصالات التقدمية هو في حد ذاته تطبيق للعدالة والمساواة الجندرية. 

إضافة إلى ذلك، تضمن مشاركة النساء في هذه البرامج والمبادرات أن يتوافر بها الحساسية الجندرية. فمشاركة النساء هي الضامن الوحيد لأن تكون مخرجات البرامج والمبادرات خالية من الصور النمطية التقليدية التي ترسخ التمييز الجندري وتنطوي على كراهية للنساء، وأن تحتوى بدلًا من ذلك على رسائل تعزز من دفع المساواة الجندرية.

يمكن لشبكات الاتصالات التقدمية أن تدعم إتاحة الفرصة لأن تكون أصوات النساء مسموعة في المؤتمرات والفعاليات الدولية المعنية بمستقبل الاتصالات. كما تمكنها من أن تكون حاضرة في مراحل الإعداد للاتفاقيات الهامة التي من شأنها أن تؤثر على عالمنا الرقمي.

كمثال لذلك، ففي إطار جهود الإعداد للاتفاق الرقمي العالمي، الذي دعت إليه الأمم المتحدة، شاركت رابطة الاتصالات التقدمية مع جهات أخرى في فعالية بعنوان: “حقوق وخيارات النساء في عالم رقمي: لماذا نحتاج إلى اتفاق رقمي عالمي نسوي”. وذلك “لاتاحة مساحة للحوار والتعاون والدعاية حول القضايا العاجلة ذات الصلة بحقوق النساء في الفضاء الرقمي، وبصفة خاصة عن الأثر الذي سيكون للاتفاق الرقمي العالمي على حقوق وحياة النساء.”

ينطوي تحت تطبيق مبدأ الاستيعاب والمشاركة أيضًا العمل على وضع التقاطعية في الاعتبار. المقصود بالتقاطعية هو أن الجندر يتقاطع دائمًا مع غيره من الهويات الاجتماعية، وفي مقدمتها العرق والطبقة والتوجه الجنسي. التقاطعية كمبدأ للعمل على تحقيق أهداف العدالة والمساواة يدعم نضال الهويات المهمشة بتلاقي جهود أفرادها، وبصفة خاصة تجنب التناقض بين هذه الهويات.

يتطلب الوعي بالتقاطعية في تطبيق مبادئ الاتصالات التقدمية الانتباه لنقاط التناقض بين الخطابات المختلفة التي تُستخدم في سياسات الهوية ولا تأخذ التقاطعية في اعتبارها. على سبيل المثال، قد يصدر عن حركات العداء للعنصرية، أو حركات النضال ضد الطبقية خطاب ذكوري. 

من ثم، فعندما تصوغ برامج ومبادرات الاتصالات التقدمية رسائلها ينبغي أن تنقي الخطاب المستخدم من أية صور نمطية تقليدية تتناقض مع الحساسية الجندرية. تزداد أهمية ذلك عند إعادة استخدام خطاب من تراث الحركات التحررية المختلفة.

في سبيل تحقيق مبدأ المشاركة، ينبغي أن تسعى برامج ومبادرات الاتصالات التقدمية إلى التعاون مع المنظمات والحركات والمبادرات النسوية. يمكن العمل على ذلك من خلال الآتي:

  • الدخول في شراكات معها لتحقيق الأهداف المشتركة.
  • تقديم الدعم لهذه الفعاليات في مجال استغلال وسائل الاتصال بأفضل سبل متاحة وبما يتناسب مع مواردها.
  • تقديم التعليم والتدريب الفني لمساعدة المعنيات في هذه الفعاليات لاكتساب المهارات والخبرات التي تعينهن على أداء أدوراهن.

يعزز التعاون والشراكة مع المجموعات النسوية وعي المنخرطين في برامج ومبادرات الاتصالات التقدمية بالاعتبارات التي تتطلبها الحساسية الجندرية في عملهم. لدى المجموعات النسوية المختلفة أساس نظري معرفي وخبرات متراكمة عبر سنوات عملها يمكن لبرامج ومبادرات الاتصالات التقدمية الاستفادة بها.

تشكيل لغة الخطاب

الخطاب السائد في المجتمع هو أداة أساسية لإعادة إنتاج التمييز الجندري. يتمثل هذه التمييز في ممارسات عدة، إلا أنه يظهر بشدة من خلال خطاب يرسخ استمرارية هذه الممارسات ويقدم تبريرات لها. كما أنه يشجعها من خلال إسباغ صفات إيجابية عليها، أو بربطها بالدين والتقاليد الموروثة. بالإضافة إلى دعم الصور النمطية والمفاهيم المسيئة للنساء بعدد لا حصر له من أساليب التعبير.

وسائل التواصل التي توفرها تكنولوجيات الاتصالات والمعلومات تلعب اليوم دورًا مهمًا في تشكيل الخطاب السائد في المجتمع. بشكل غير مسبوق، أصبح أكبر عدد من الناس اليوم يتواصلون فيما بينهم ويتعرضون لرسائل مختلفة من شتى المصادر من خلال الإنترنت وتعاملهم اليومي معها.

أتاح ذلك أن يصبح الخطاب العام أكثر تعبيرًا عن أفكار الجماهير العادية، بعدما كان لوقت طويل حكرًا على وسائل الاتصال الجماهيري التقليدية. قدمت تلك الوسائل في معظم الأحيان خطابًا نخبويًا تحت سيطرة الدولة بدرجة أو بأخرى. اليوم أصبح المجال العام مفتوحًا وفق قواعد جديدة تعتمد أكثر على تفضيلات الأفراد العاديين. وفي حين أن ذلك تطور إيجابي في حد ذاته، إلا أنه كان له آثار سلبية فيما يتعلق بحيازة الخطاب المحافظ والرجعي أحيانًا مساحات أوسع كثيرًا مما كان متاحًا له في ظل وسائل التواصل التقليدية.

بالنسبة للنساء، ثمة آثار بالغة الخطورة لسيادة خطاب محافظ على وسائل التواصل الحديثة مثل شبكة الإنترنت. لا يقتصر الأمر فقط على أن هذا الخطاب يعزز إعادة إنتاج الممارسات التمييزية ضد النساء في المجتمع، ولكنه يمتد إلى تمكن النساء من استخدام وسائل التواصل هذه بشكل آمن ومفيد. 

فالخطاب المعادي للمرأة على وسائل التواصل يعبر عن نفسه بصور تمتد إلى شيوع التحرش الجنسي والتعديات اللفظية وحملات الإسكات والتشهير. تمثل تلك الممارسات إرهابًا لعديد من النساء. إن لم تؤد بهن إلى الامتناع عن المشاركة بشكل كامل فهي في أغلب الأحيان تحد من هذه المشاركة بصور عدة، منها تعبيرهن بحرية عن أنفسهن.

مما سبق ندرك أن مهمة تشكيل الخطاب السائد لها أهمية كبيرة على مسارين رئيسيين. الأول هو العمل على توفير بيئة آمنة للنساء على الإنترنت، وبصفة خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى تحقيق مساواتهن بالرجال من حيث تمتعهن بحرية التعبير وبحماية خصوصيتهن. المسار الثاني هو العمل على مقاومة الممارسات التمييزية على أرض الواقع. ذلك من خلال تشكيل خطاب يرفض هذه الممارسات ويقدم بدائل عنها قائمة على مبادئ المساواة والعدالة.

تمتلك الاتصالات التقدمية الأدوات المطلوبة للعمل على إعادة تشكيل الخطاب السائد ولدفع تلك العملية على المسارين المشار إليهما. يتطلب ذلك دراسة وفهم آليات صنع ونشر خطاب ما من خلال وسائل التواصل وفي مقدمتها مواقع التواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى استغلال هذه الآليات لصنع ونشر خطابات بديلة عن السائدة.

يمكن تحقيق ذلك من خلال برامج توعية وتدريب حول هذه الآليات وسبل مواجهتها عند استخدامها بشكل مسيء جندريًا وكذلك سبل استغلالها بشكل إيجابي. كما يمكن العمل على بناء حملات مبتكرة، سواء لمواجهة الخطاب التمييزي أو تقديم خطاب بديل عنه.

مواجهة الصور النمطية

الصور النمطية المتوارثة حول المرأة والتي تضعها في مكانة أدنى من الرجل هي أداة رئيسية لإعادة إنتاج الممارسات التمييزية ضد النساء. تكمن صعوبة مواجهة الصور النمطية في تغلغلها في جميع صور التعبير المتوارثة في المجتمع وتمتعها بفعل التكرار المستمر لها بقدر عال من اعتياد الناس عليها.

على جانب آخر، وسائل الاتصالات المختلفة هي مجال إعادة نشر وترويج الصور النمطية بأنواعها. من ثم، فهي الساحة الرئيسية التي يمكن فيها مواجهة هذه الصور والعمل على الحد من انتشارها. بالإضافة إلى استبدالها بصور إيجابية تدعم مكانة المرأة في المجتمع وتدفع جهود المطالبة بالمساواة ووقف التمييز الجندري. تمتلك الاتصالات التقدمية الأدوات اللازمة لمواجهة تلك الصور النمطية.

تحتاج مواجهة الصور النمطية المتعلقة بالجندر التدخل على مسارات عدة. يمكن مواجهة أساليب التعبير التي تتضمن صور من خطاب الكراهية عن طريق حث الجهات التشريعية على تطوير التشريعات القائمة أو سن أخرى جديدة تسمح بمواجهة خطاب الكراهية على الإنترنت. يكون ذلك وفق قواعد حصرية واضحة ودون تعد على الحق في حرية التعبير.

كما يمكن العمل على تحسين آليات كشف الترويج لخطاب الكراهية التي تستخدمها مواقع التواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى حث هذه المواقع على ألا تروج خوارزميات المواقع للمحتوى الذي ينطوي على خطاب كراهية أو صور نمطية جندرية سلبية.

لكن يظل المسار الأكثر فعالية هو مواجهة الصور النمطية السلبية بنشر صور مناقضة لها من الواقع. يمكن لبرامج ومبادرات الاتصالات التقدمية أن تسهم في هذا المسار بدعم حملات تعدها وتطورها المجموعات النسوية لنشر نماذج من الواقع تناقض وتهدم مصداقية الصور النمطية السلبية عن المرأة. كما يمكن أن تشمل هذه النماذج نساء ناجحات في مجالات مختلفة.

تقديم مثل هذه النماذج بصور مبتكرة وباستخدام آليات تضمن انتشارها على نطاق واسع يتطلب خبرة معرفية متخصصة بآليات انتشار المحتوى على الإنترنت. يمكن أن تسهم في ذلك حركة الاتصالات التقدمية التي تمتلك المعرفة والمهارات المتخصصة في هذا المجال.

التحديات والعوائق

على الرغم من التقارب الوثيق بين الاتصالات التقدمية ومساعي تحقيق العدالة والمساواة الجندرية إلا أن إمكانية نجاح الاتصالات التقدمية في لعب دور فعال في دعم هذه المساعي تتطلب مواجهة عدد من التحديات والعوائق وتخطيها. وتعرض الأقسام التالية بعض أهم هذه التحديات والعوائق.

مقاومة التغيير

تغلغل أنماط من السياسات الجندرية التي ظلت ثابتة ومعتادة لفترات طويلة في عمل وسائل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات يجعل محاولات تعديلها واستبدالها بسياسات أكثر استجابة لمتطلبات الحساسية الجندرية أمرًا بالغ الصعوبة. كما أنه يواجه مقاومة حادة.

كثير من السياسات السائدة تبدو من فرط اعتياد الجميع عليها خالية من الانحياز الجندري. لذلك، فإن المطالبة بتعديلها يوَاجه عادة بإنكار انحيازها ويؤدي إلى جدل طويل كثيرًا ما لا يصل إلى نتيجة حاسمة. في حالات أخرى، تعتمد مقاومة التغيير على التحجج بالتوافق مع السائد مجتمعيًا. يكون ذلك إما للحفاظ على قاعدة المتابعين أو خشية ردود الأفعال العنيفة. أخيرًا، تنبع المقاومة في أحيان كثيرة من قناعات متجذرة لدى الأشخاص المعنيين أنفسهم.

السبيل الأساسي للتغلب على عائق مقاومة التغيير هو العمل على نشر ثقافة واعية بحقائق التمييز الجندري ومؤمنة بضرورة التخلص منه. مثل هذه الثقافة وحدها تؤهل أفراد المجتمع لرفض الخطاب التمييزي والصور النمطية المسيئة بغض النظر عن مدى اعتياد تكرارها. وكذلك بغض النظر عن الصورة التي تُقدَم بها، والتي يعتبرها البعض مبررًا لتمريرها، مثل أن تكون في قالب فكاهي ساخر. كما أن امتلاك ثقافة الإيمان بالحق في المساواة الجندرية يؤدي إلى تغليب الالتزام المبدأي في مقابل مخاوف مواجهة السائد في المجتمع.

مقاومة التقاطعية بين المسارات التقدمية

واحدة من مشاكل العمل على كافة جبهات السعي إلى عالم رقمي أكثر شمولًا للجميع وأكثر عدالة ومساواة هي التعامل مع تراث من الأفكار والممارسات المغلوطة التي أوجدت فجوات وتباعد بين المسارات التقدمية المختلفة.

في عديد من الأحيان يسود اعتقاد لدى بعض الحركات التحررية على أساس هوية ما بأن عمل أخرى غيرها يتناقض مع عملها. بصورة أكثر بروزًا تنظر بعض حركات التحرر على أساس طبقي بعين الشك في أحيان عديدة إلى حركات التحرر على أساس الهوية الجندرية أو العرقية. وتعتبر أنها تفتت القاعدة الجماهيرية لها. حتى مع تراجع مثل هذه التوجهات يبقى أن كثيرًا من حركات التحرر تحمل في خطابها بقايا تراث تقليدي متناقض.

عمل حركة الاتصالات التقدمية يتقاطع مع كافة مسارات التحرر التقدمي بأنواعها. لذلك هي معنية بالتغلب على أي تناقضات بين هذه المسارات من شأنه أن يهدر كثيرًا من الوقت والموارد دون مردود فعلي. يمكن لحركة الاتصالات التقدمية أن تفتح المجال أمام تقارب أكبر بين المسارات التحررية من خلال برامج عمل مشترك. تركز تلك البرامج على نقاط التوافق وتسلط الضوء على زيف التصورات التي تخلق تناقضات لا وجود لها في الواقع.

ضعف التوازن في التمثيل

ضعف تمثيل النساء في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات يظل عائقًا أمام تحقيق مبدأ المشاركة. يتطلب هذا المبدأ وجود مؤثر للنساء في عمليات التخطيط والتنفيذ واتخاذ القرار. 

تتمتع المجموعات المنضوية تحت مظلة حركة الاتصالات التقدمية بنسبة أعلى من تمثيل النساء بها، مقارنة بمجمل مجال لاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. لكن لا يغير هذا من حقيقة أنه عند تنفيذ البرامج والمبادرات المختلفة يظل من الصعب تحقيق توازن مقبول في تمثيل النساء في المراحل والجوانب المختلفة للعمل. تتطلب مواجهة هذا العائق بذل مجهودات أكبر لاجتذاب مزيد من الفتيات والنساء لمجالات التخصص المهني في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. بالإضافة إلى توفير فرص التعليم والتدريب والسعي أيضًا لتوفير فرص التوظيف.

نقص الموارد والبيانات

تواجه المهام الرئيسية التي يمكن لحركة الاتصالات التقدمية الاضطلاع بها على مسار تحقيق العدالة والمساواة الجندرية إشكالية حقيقية فيما يتعلق بالموارد والبيانات. على سبيل المثال، كثير من البرامج والمبادرات الخاصة بتضييق الفجوة الجندرية في الوصول إلى الإنترنت، أو بتوفير برامج للتعليم والتدريب تتطلب موارد مادية لا يسهل توفيرها. تزداد تلك الصعوبة بشكل خاص في الدول النامية والفقيرة وبصورة أكثر حدة في المناطق الريفية والنائية في هذه الدول. 

محدودية التمويل لمثل هذه البرامج يوازيها أيضًا محدودية في البيانات والمعلومات الضرورية لتحديد المتطلبات ورصد أوجه القصور وقياس مردود العمل. الإحصائيات الدقيقة للمؤشرات المختلفة، سواء فيما يتعلق بالفجوة الجندرية في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات أو ما يتعلق بظواهر التمييز الجندري وغيرها، محدودة أو شبه منعدمة في عديد من الدول النامية والفقيرة. تحتاج النساء في تلك الدول إلى توجيه القدر الأكبر من الجهود المتاحة، للتفاوت الكبير في تغطية احتياجاتهن مقارنة بما عليه الحال في الدول الصناعية المتقدمة.

يتطلب التغلب على عائق نقص الموارد والبيانات اللجوء إلى حلول مبتكرة لتوفير مصادر لتمويل البرامج والمبادرات المختلفة، والاعتماد على بدائل منخفضة التكلفة. كذلك يتطلب الأمر التخطيط المسبق لعمل مرحلي يعتمد على جمع المعلومات والتوثيق الإحصائي أثناء العمل الفعلي في كل مرحلة للحصول على وضوح أكبر للمتطلبات وتدارك الاخفاقات أو إهدار الموارد.

كذلك يمكن تشجيع العمل البحثي والمسوح الميدانية بالدول الأكثر افتقارًا إليها والعمل على الحصول على منح أكاديمية دولية لدعم هذا العمل. كما يمكن مطالبة الهيئات الدولية الأكثر قدرة على النفاذ إلى المعلومات أو الحصول عليها بتوجيه جهد أكبر للدول النامية والفقيرة لتكون تقاريرها بخصوصها أكثر شمولية ودقة.

خاتمة

تقف الاتصالات التقدمية عند نقطة التقاء مساعي تحقيق المساواة الجندرية مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهي نقطة بالغة الأهمية والحساسية. تتيح تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إمكانات هائلة لدعم مسار التقدم نحو عالم أكثر عدالة خال من التمييز ضد النساء. في ذات الوقت، هي قابلة أيضًا للاستغلال كأداة لإعادة إنتاج ونشر الخطاب المحافظ والرجعي والمعادي للنساء. يعزز هذا الخطاب تجذر الممارسات التمييزية ضد النساء في المجتمع.

 في هذه الصورة، ثمة مجال واسع لأن تلعب الاتصالات التقدمية دورًا حاسمًا في توجيه استغلال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات نحو دعم المساواة الجندرية والتخلص من الممارسات التمييزية ضد النساء. بالإضافة إلى تجنب إساءة استغلال هذه التكنولوجيا لتعزيز ودعم استمرارية هذه الممارسات.

سعت هذه الورقة إلى رسم صورة عامة لتقاطع الاتصالات التقدمية مع قضايا المساواة الجندرية. استعرضت الورقة مظاهر هذا التقاطع وناقشت الجوانب المختلفة للدور الذي يمكن أن تلعبه الاتصالات التقدمية في دعم تحقيق العدالة والمساواة وتحرير المرأة, وأخيرًا تناولت الورقة عددًا من التحديات والمعوقات التي تواجه قيام الاتصالات التقدمية بالدور المأمول لها في مساعي تحقيق المساواة الجندرية.