مقدمة
منذ فجر التاريخ كان التواصل بين البشر هو حجر اﻷساس لتشكيل البنى الاجتماعية وتطورها مع الوقت. قاد تطور السبل التي ابتكرها البشر للتواصل فيما بينهم حركة تطور الحضارة اﻹنسانية. وكانت العلامات الرئيسية على طريق تطور وسائل التواصل ونقل اﻷفكار هي أيضًا علامات على انتقال البشرية من مرحلة إلى أخرى على طريق تقدمها.
تطوير اللغة ثم الكتابة ثم الطباعة فيما قبل العصر الحديث كان كل منها بداية نقلة هائلة لتطور حياة المجتمعات البشرية. وفي العصر الحديث كان ابتكار التليجراف والهاتف والتلفاز قفزات واسعة نقلت مخاطبة الجماهير إلى مستويات لم يعرفها أي عصر سابق. لكن ظهور تكنولوجيا الحواسيب الرقمية وشبكاتها، وفي مقدمتها شبكة اﻹنترنت، كان نقلة نوعية خاصة تختلف عن جميع سابقاتها. اتاحت هذه التكنولوجيا ﻷول مرة التواصل الجماعي بين عدد غير محدود من المرسلين والمستقبلين لرسائل التواصل بصورة لحظية.
فتحت شبكة اﻹنترنت أفاقًا للتواصل بين البشر لم تكن متاحة في أي وقت سابق. أدى انتشار الهواتف الذكية إلى تغلغل شبكة اﻹنترنت في مجتمعات العالم بنسبة لم يصل إليها أية وسيلة اتصالات سابقة. يعني ذلك نظريًا أن بإمكان أي شخص في العالم أن ينشر رسالة لتصل إلى أي شخص آخر في أي مكان بصورة لحظية. وهو كذلك يعني أن أية رسالة يمكن إعادة نشرها لتصل ربما إلى مليارات البشر في وقت قصير.
أثبتت أحداث التاريخ القريب مبلغ التأثير الهائل لتطبيقات شبكة اﻹنترنت، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، على تشكيل توجهات الرأي العام داخل الدول وخارج حدودها أيضًا. مثل هذه القدرة الهائلة للتأثير لم تكن متاحة في أي عصر سابق، وهي تحمل في طياتها نذرًا بالخير والشر معا بناء على مصدر التأثير واتجاهه وأغراضه.
في خضم التطورات التكنولوجية المتسارعة وأثرها البالغ في تشكيل حياتنا اليومية اﻵن وفي المستقبل، تبرز الحاجة إلى الاتصالات التقدمية كأداة ضرورية للسعي ﻷن يكون التأثير الهائل لهذه التطورات عاملًا على تحسين حياة اﻷفراد والمجتمعات.
يقوم مفهوم الاتصالات التقدمية على أساس قيم ومبادئ التقدمية التي تؤمن بأن المجتمعات البشرية قابلة للتطور والتغيير لخلق بيئات أكثر حرية ورخاء وعدالة لجميع أفرادها على السواء. تحقيق هذا الهدف يستلزم عملًا دائبًا من جميع المؤمنين بإمكانية تحقيقه، وتمثل الاتصالات التقدمية أداة رئيسية لهذا المسعى. وحتى يمكن استخدام هذه الأداة بأكبر فعالية ممكنة ينبغي أن يتوافر لدى أكبر عدد ممكن من الناس فهمًا واضحًا للقيم واﻷهداف التقدمية وأثرها في حياة اﻷفراد والمجتمعات، وكذلك للكيفية التي يمكن بها للاتصالات التقدمية أن تعكس هذه القيم واﻷهداف وتساهم في تحقيقها.
تسعى هذه الورقة إلى تقديم تعريف واضح للاتصالات التقدمية، وأن توضح أهم القيم والمبادئ التقدمية وكيف تعكس الاتصالات التقدمية هذه القيم والمبادئ وتساعد على العمل من أجل الوصول إليها. كما تعرض الورقة أهم مظاهر تأثير التطور الحديث للاتصالات التقدمية على كل من الحركات الاجتماعية والحكومات وعالم اﻷعمال، مما يمثل نماذج لما يمكن للاتصالات التقدمية أن تحققه.
ما هي الاتصالات التقدمية؟
التقدمية Progressivism هي قبل أي شيء توجه فكري يقوم على اﻹيمان بأن المجتمعات البشرية قابلة للتغيير للأفضل. ليتحقق هذا التغيير ينبغي التخلص من كافة مظاهر الظلم وغياب العدالة والفقر والمرض وغيرها من صور المعاناة التي لا تزال غالبية البشر مضطرة إلى تحملها في حياتها اليومية.
كحجر أساس لرؤى اجتماعية وسياسية عديدة تتعلق التقدمية بمواجهة مصادر الغبن الاجتماعي في اﻷنظمة السياسية والاجتماعية. كما تتعلق التقدمية بالسعي إلى تحقيق مجموعة من القيم والمبادئ في مقدمتها العدالة الاجتماعية والمساواة وحماية الحريات وحقوق اﻹنسان والشمولية والانفتاح.
التواصل مع اﻵخرين هو اﻷداة الوحيدة لنقل الرسائل إليهم ومن خلالها نشر القيم والمبادئ وتنظيم العمل المشترك لتحقيقها. ومن ثم فسبل الاتصال بصورها المختلفة كانت دائمًا واحدة من اﻷدوات الضرورية للحركات التقدمية.
يمكن تعريف الاتصالات التقدمية بأنها استخدام سبل التواصل المختلفة لتوصيل خطاب تقدمي والتفاعل مع الآخرين بهدف نشر ودعم القيم التقدمية. لا تتعلق الاتصالات التقدمية بتكنولوجيا اتصالات بعينها، فهي معنية بمحتوى الرسالة وجودة التفاعل أولًا، وبالتالي فهي تستخدم كل وسيلة أو تكنولوجيا اتصالات متاحة لتحقيق أهدافها.
لكن الاتصالات التقدمية ليست مجرد أداة لتوصيل رسالة من طرف إلى آخر، وإنما هي وسيلة فعالة وضرورية للعمل على تحقيق القيم والمبادئ التقدمية على أرض الواقع. فبواسطتها يتم بناء القوة الجماعية للفئات والجماعات المختلفة وتنظيم عملها المشترك. كذلك تستخدم الاتصالات التقدمية كأداة لتضخيم أصوات هذه الفئات والجماعات لتشكل أداة ضغط لتحقيق مطالبها وأهدافها. بالإضافة إلى ذلك، تعمل الاتصالات التقدمية كوسيلة لتنظيم عمليات صنع القرار بصورة ديموقراطية، وتوسيع نطاق المشاركة في هذه العمليات. وبصفة عامة فإن توظيف الاتصالات التقدمية لتحقيق أهداف الحركات التقدمية، يعكس بنفسه وبطريقة عمله القيم والمبادئ التقدمية التي يبشر بها.
على الرغم من أن الاتصالات التقدمية ليست مرتبطة بأية تكنولوجيا للاتصالات على وجه التحديد، إلا أن تكنولوجيا الاتصالات قد أصبحت مع الوقت أداة أكثر فعالية لتضخيم الصوت والوصول إلى أكبر عدد من الناس. تساعد كذلك تكنولوجيا الاتصالات على تمكين تفاعل أكثر مساواة وديموقراطية، خاصة مع انتشار شبكة اﻹنترنت وتطبيقاتها المختلفة.
العدالة الاجتماعية
لا يضاهي اتساع مفهوم العدالة الاجتماعية إلا اتساع ساحة الخلاف حول تعريفها النظري أو سبل تطبيقها على أرض الواقع. ستتناول هذه الورقة مفهوم العدالة الاجتماعية من منظور حقوق الإنسان. في هذا المنظور تتعلق العدالة الاجتماعية بحق كل فرد من أفراد المجتمع في حياة كريمة كحد أدنى لا يمكن التنازل عنه. يعني هذا أن من حق كل فرد أن تتاح له إمكانية الوصول إلى القدر الكافي من موارد المجتمع المادية والمعنوية لتحقيق متطلبات الحياة الكريمة. فوق ذلك الحد اﻷدنى يحق لكل فرد من أفراد المجتمع أن تتاح له فرصة وصول عادلة ومتكافئة مع غيره من أفراد المجتمع نفسه إلى الموارد المادية والمعنوية للمجتمع التي تسمح له بالسعي إلى تحقيق ذاته وطموحاته لحياة سعيدة ومنتجة ومفيدة لغيره أيضًا.
وسائل الاتصالات هي أحد الموارد الهامة والرئيسية ﻷي مجتمع، وخاصة في العصر الحالي. تعكس الاتصالات التقدمية قيمة العدالة الاجتماعية من خلال السعي إلى أن يتاح لجميع أفراد المجتمع فرصة وصول عادلة إلى وسائل الاتصالات. يمثل الوصول إلى شبكة الإنترنت في وقتنا الحالي واحدًا من الحقوق التي تسعى الحركات التقدمية إلى أن يتم إقراره بصورة رسمية، بحيث تكون دول العالم ملزمة بالعمل على توفير الوصول إلى شبكة اﻹنترنت لجميع مواطنيها.
إلى جانب ذلك، كوسيلة اتصال فريدة ومختلفة عما سبقها، تعد شبكة اﻹنترنت في حد ذاتها وسيلة للوصول إلى عديد من الموارد المختلفة وبسهولة أكبر مما كان متاحًا فيما قبل. ومن ثم فإن الاتصالات التقدمية تسعى إلى استخدام شبكة اﻹنترنت وتطبيقاتها المختلفة لتوفير موارد مثل المعرفة، والتعليم والتدريب، والرعاية الصحية، وفرص العمل والتوظيف، وكذلك السلع والخدمات بأسعار منافسة إلى أكبر عدد ممكن من اﻷفراد في المجتمع. لا يتوقف ذلك على أن تكون هذه الموارد متاحة وحسب من خلال شبكة اﻹنترنت، وإنما أن تكون إتاحتها بصورة تسمح بأقصى قدر ممكن من الاستفادة بها ﻷكبر عدد من الناس على اختلاف خلفياتهم الاجتماعية والتعليمية.
على جانب آخر، تسعى الاتصالات التقدمية إلى استغلال ما تتيحه سبل الاتصالات المختلفة من فرص لدعم عمل النشطاء كأفراد أو من خلال الجماعات والمنظمات التقدمية المختلفة، للدفاع عن القضايا ذات الصلة بالعدالة الاجتماعية.
المساواة
المساواة هي واحدة من القيم التقدمية اﻷساسية، وهي على اتصال وثيق بقيمة العدالة الاجتماعية. لكن في حين تتعلق العدالة الاجتماعية بفرص الوصول العادل إلى الموارد، فإن المساواة تتخطى ذلك إلى الحق في الاعتراف والاعتبار. المقصود بذلك هو أن يكون لأفراد المجتمع على اختلافاتهم، من حيث الجندر والعرق، والمكانة الاجتماعية، واﻷصل، ومحل اﻹقامة، والديانة، والميول الجنسية، وغير ذلك، الحق في الاعتراف بهم وبهوياتهم. كما تعني المساواة أن يكون لأفراد المجتمع اعتبارهم الكامل على قدم المساواة دون تفرقة أو تمييز فيما بينهم.
على جانب أخر، تعني قيمة المساواة اﻹمكانية المتساوية للمشاركة في كل نشاط جماعي على قدم المساواة، بما في ذلك الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات الجماعية، والحق في اﻹدلاء باﻵراء وطرح الاقتراحات.
تعكس الاتصالات التقدمية قيمة المساواة في تذليلها لعقبات الوصول إلى وسائل الاتصال نفسها دون اعتبار ﻷي اختلافات للهوية لمستخدمي هذه الوسائل. بالإضافة إلى ذلك، تعترف الاتصالات التقدمية بالحق في المجهولية، وهو حق مستَخدِم وسائل الاتصال في ألا تكون أية بيانات كاشفة عن هويته متاحة إلا بقدر رغبته.
كذلك تعكس الاتصالات التقدمية قيمة المساواة من خلال إتاحة أدوات تجعل التواصل بين أفراد أية مجموعة يتم بطريقة تتيح لكل منهم فرصة مساوية في المشاركة في النقاش أو النشاط المشترك.
بناء القوة
في جميع المجتمعات تسلب الطريقة التي تعمل بها النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية القوة من عديد من فئات المجتمع. يعني هذا أن هذه الفئات لا تملك التأثير الكافي على مجريات اﻷمور لحماية حقوقها وتحقيق مصالحها بشكل متكافئ مع غيرها. المقصود ببناء القوة هو أن تمتلك هذه الفئات والجماعات القدرة على التأثير بحيث يكون بإمكانها الدفاع عن حقوقها ومصالحها بشكل فعال.
تسهم الاتصالات التقدمية في بناء قوة الفئات المهمشة والمستضعفة بأكثر من سبيل. تعتبر سبل الاتصال في حد ذاتها أداة بالغة اﻷهمية للتأثير، ومن ثم فأحد عناصر بناء القوة هو إتاحة فرصة الوصول إلى سبل الاتصال واستخدامها لتضخيم أصوات من هم عادة بلا صوت في المجتمع.
على صلة وثيقة بذلك، توفر الاتصالات التقدمية منصات إعلامية وذات وصول واسع ﻹسماع أصوات الفئات المهمشة والمستضعفة وتضخيم هذه اﻷصوات. تسمح أيضًا وسائل الاتصالات التقدمية الحديثة بتنظيم فعاليات وحملات توعية أو دفاع أو دعاية تركز على إضاءة وإبراز مظاهر الغبن الاجتماعي والتمييز التي تتعرض لها بعض فئات المجتمع.
على جانب آخر، تعتبر الاتصالات التقدمية أداة بالغة الأهمية والفعالية للتجمع وتشكيل جماعات ضغط وللتنسيق بين اﻷفراد والمنظمات للعمل بكفاءة أكبر دفاعًا عن قضايا الفئات المهمشة والمستضعفة. تمثل عمليات التجمع والتنظيم واحدة من الصور الأساسية لبناء قوة الجماعات ومنحها قدرًا أكبر من التأثير في السياسات ذات الصلة بقضايا الفئات التي تمثلها.
التنظيم
التنظيم هو واحد من المبادئ التقدمية اﻷساسية، كونه أداة لتحقيق عديد من قيم ومبادئ التقدمية اﻷخرى. يعد التنظيم على اتصال وثيق بمبدأ بناء القوة. لكن يتخطى التنظيم بناء القوة ليؤدي أدوارًا أساسية لتحقيق مبادئ أخرى مثل المساواة.
يتعلق ذلك بشكل التنظيم، فكلما اقترب التنظيم من الشبكية وعدم المركزية، مبتعدًا عن الهرمية والمركزية وتركيز سلطة اتخاذ القرار في أيدي أقلية بعينها، كلما كان أكثر تقدمية وأكثر قدرة على تحقيق اﻷهداف التقدمية التي يسعى إليها.
الاتصالات التقدمية هي ركن أساسي لعمليات بناء التنظيم وعمله على تحقيق أهدافه. تسعى الاتصالات التقدمية إلى توفير أدوات تسمح بإمكان التنظيم بشكل ديموقراطي غير هرمي أو مركزي. وكلما كانت إمكانية الوصول إلى وسائل التواصل متساوية بين اﻷفراد كلما كان باﻹمكان الحفاظ على قدر أكبر من الديموقراطية في إطار تنظيم العمل المشترك بينهم.
الانفتاح
الانفتاح هو قيمة أساسية وضرورية ﻹقامة تواصل بناء وفعال. يتعلق الانفتاح في اﻷساس بإمكانية تجاوز حواجز الاختلاف بين اﻷفراد والمجموعات لتمكين إقامة حوار متحضر فيما بينهم.
يعتمد الانفتاح على تقبل اﻵخر المختلف وإحداث التقارب فيما بين المختلفين على أساس المشترك العام اﻹنساني، وكذلك المشترك الخاص المتعلق بالقضايا والظروف التي قد تجمع بينهم. يسمح الانفتاح بتوفير بيئة آمنة للتواصل والتحاور اﻹيجابي وإحداث التقارب بين اﻷفراد والمجموعات الذي يؤدي إلى إمكانية التعاون والعمل المشترك لتحقيق أهداف واحدة لصالح اﻷطراف المختلفة.
تتيح الاتصالات التقدمية إمكانيات واسعة لتحقيق قيمة الانفتاح. أولًا، تتيح الاتصالات التقدمية فرصة التعرف على اﻵخر عن قرب ومن خلال مصادر أصيلة. يعني ذلك أن صوت الآخر يتم نقله بشكل مباشر بما يسمح له بالتعبير عن نفسه دون وسيط. يسهم ذلك في كسر كثير من الحواجز الوهمية التي يخلقها الجهل باﻵخر أو معرفته من خلال وسطاء قد لا يكونون أمينين في النقل عنه أو قد تكون لهم انحيازاتهم التي تشوه صورة اﻵخر.
كما تسمح الاتصالات التقدمية بخلق مساحات تواصل يكون فيها المتحاورون على قدم المساواة مما يتيح إمكانية تواصل أكثر نزاهة ومصداقية. كذلك تتيح الاتصالات التقدمية مساحات واسعة للتعبير بصور مختلفة تسهم في التعرف على جوانب إنسانية مختلفة للآخر وترسم له صورة متعددة اﻷبعاد، وتوضح مساحات أكبر للتقارب والتشابه على أرضية إنسانية.
في إطار تطور سبل الاتصال في وقتنا الحالي، تسعى الاتصالات التقدمية إلى تشجيع الناس على عدم الاكتفاء بالتواصل بمن تجمعهم بهم هويات جماعية واحدة، سواء كانت الجنسية أو الديانة أو اﻷيديولوجية السياسية وغيرها. تعمل الاتصالات التقدمية على ذلك من خلال بناء مساحات مفتوحة تقوم على اهتمامات لا تعتمد على الهوية. كذلك تسعى الاتصالات التقدمية لتوفير أدوات تساعد على تجاوز الحواجز اﻷكثر صعوبة مثل حاجز اللغة، والاختلافات الثقافية، حتى يمكن ﻷناس ذوي خلفيات ثقافية مختلفة أن يتواصلوا فيما بينهم.
الشمول
الشمول هو قيمة وثيقة الصلة بالانفتاح. يعني الشمول فتح باب المشاركة في التواصل بصوره المختلفة وكذلك في أنواع اﻷنشطة المعتمدة عليه أمام الجميع دون تمييز على أساس الهوية بأي من أشكالها.
بينما يتقاطع الشمول كقيمة مع الانفتاح، ويعتبر أداه لتحقيقه، إلا أنه يتجاوزه من حيث أثره على اﻷفراد. فالشمول يسهم في بناء ثقة اﻷفراد في أنفسهم، كما ينمي شعورهم بقيمتهم بشكل مستقل عن أية هوية جماعية ينتمون إليها.
ينعكس ذلك بدوره على إمكانية إقامة تواصل وحوار بناء بين اﻷفراد. امتلاك الأفراد للثقة بالنفس وشعور بالاستقلالية والقبول بين أقران متساويين يسمح بتواصل أكثر صراحة ونزاهة ومصداقية. كما أن الشعور بقيمة الذات، والقدرة على الفعل التي يولدها قبول اﻷفراد داخل الجماعات المختلفة، يؤدي إلى الثقة في إمكانية تحقيق أهداف بعيدة المنال. لذلك يعد الشمول نواة لبناء القوة الاجتماعية. فاﻷفراد الذين يمتلكون الثقة بالذات أقرب إلى الانخراط في العمل الجماعي لتحقيق أهداف مشتركة.
تسهم الاتصالات التقدمية في تحقيق قيمة الشمول من خلال بناء منصات ومساحات مفتوحة أمام الجميع وتتقبلهم على قدم المساواة دون تفرقة أو تمييز بينهم. كما أن إتاحة الوصول إلى أدوات اتصال تسمح لكل فرد بفرصة متساوية لمخاطبة اﻵخرين دون وساطة تبني الثقة بالنفس والشعور بالاستقلالية وقيمة الذات. تسعى الاتصالات التقدمية كذلك إلى أن تكون مساحات التواصل ذات قواعد للتعامل المتحضر والتواصل بشكل ينطوي على الاحترام المتبادل وقبول اﻵخر، ليشعر كل فرد في هذه المساحات بالقبول وأن له صوت وقيمة مساوية لكل فرد آخر.
التعاون
التعاون هو قيمة تقدمية بالغة اﻷهمية، وهو من بين القيم اﻷكثر اعتمادًا على التواصل البناء بين البشر. في حين يتصل التعاون بشكل وثيق بالعمل الجماعي لتحقيق أهداف مشتركة، إلا أنه يتجاوز ذلك إلى بناء أسس للعون المتبادل بين اﻷفراد والجماعات دون الحاجة إلى وجود أهداف مشتركة، ولكن فقط على أساس الوحدة الإنسانية والتعاطف والاعتراف بإنسانية اﻵخر واحترام حقوقه.
التعاون والتضامن قيم إنسانية تسمح للبشر بتوقع أن يبادر اﻵخرون إلى تقديم يد المساعدة والدعم لهم عند الحاجة، ليس على أساس من وحدة أي هوية بعينها، ولكن فقط على أساس الوحدة بين البشر بوصفهم كذلك. من ثم، فإلى جانب أن التعاون يتيح شبكة أمان لعديد من الناس الذين يفتقدون إلى الموارد الكافية لمواجهة الظروف الطارئة الصعبة، فهو على جانب آخر ينمي قيمة الوحدة اﻹنسانية، ويبني سبلًا للتقارب بين الناس. يفتح التعاون مجالات لمزيد من الدعم المتبادل واكتشاف أرضيات للعمل المشترك ﻷجل تحقيق غايات وأهداف إنسانية عامة.
سعت الاتصالات التقدمية، وتسعى طيلة الوقت، إلى بناء مساحات تواصل بين البشر تتجاوز الحدود والحواجز المختلفة التي تفصل فيما بينهم في المعتاد. في تلك المساحات يتقارب البشر بوصفهم كذلك، وتتولد فيما بينهم روابط إنسانية تسمح بالتعاطف وإدراك التماثل في الاحتياجات والحقوق اﻷساسية.
على هذا اﻷساس تنبني مبادرات التعاون، التي تسعى الاتصالات التقدمية أيضًا ﻷن توفر لها أدوات تجعل باﻹمكان تحقيقها في الواقع. تسهم الاتصالات التقدمية في ذلك من خلال رسائل الدعم المعنوي، أو سبل تقديم العون لتجاوز اﻷزمات والظروف الصعبة. بالإضافة إلى مبادرات تبادل المعرفة والمعلومات، وإتاحة موارد للتعلم والتدريب لمن لا تتوفر لهم من خلال مبادرات فردية وجماعية لا تسعى لتحقيق أية مصلحة سوى تقديم العون إلى من يحتاجه.
حقوق اﻹنسان
المبدأ المؤسس لحقوق اﻹنسان هو أن لكل شخص يولد على كوكب اﻷرض مجموعة من الحقوق اﻷساسية اللصيقة به والتي تتعلق فقط بكونه إنسانًا دون النظر إلى أي هوية له. يُعَد هذا المبدأ واحد من المبادئ اﻷولية للتقدمية والتي ينبني عليها كثير من مبادئها اﻷخرى. حقوق اﻹنسان في مجملها، وفي تفاصيل كل منها على حدة، تمثل تعبيرًا عن عديد من القيم والمبادئ التقدمية التي ناضل كثيرون طوال أكثر من قرنين لفرض اعتراف دول العالم بها.
في حين يمثل التعبير القانوني عن حقوق اﻹنسان من خلال العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية حجر أساس للالتزام الدولي بمبادئ حقوق اﻹنسان ككل، وبكل حق منها على حدة، فهو يظل بالنسبة للفكر التقدمي خطوة هامة ولكن مرحلية نحو تحويل المبادئ التقدمية إلى صيغة ملزمة للسلطة السياسية متمثلة في الدول القومية باحترام وحماية الحقوق اﻷساسية لمواطنيها.
تمضي حركة حقوق اﻹنسان في عملها كحركة تقدمية تسعى إلى توسعة الاعتراف الدولي بمزيد من الحقوق التي ينبغي لكل فرد حول العالم التمتع بها. كما تسعى الحركة نحو ضبط الصياغات الملزمة في العهود والمواثيق الدولية لتجنب العديد من الثغرات فيها، والتي تسمح بانتهاك الحقوق إلى حد تفريغ الحق من محتواه وهدفه في أحيان كثيرة بدعاوى مثل اﻷمن القومي للدول وحفظ النظام واﻵداب العامة، والحفاظ على الخصوصية الثقافية وغيرها.
كانت الاتصالات التقدمية دائمًا ولا تزال وسيلة رئيسية لدفع حركة حقوق اﻹنسان، وكذلك كانت دائمًا ولا تزال في حد ذاتها مكونا هامًا من مكونات حقوق اﻹنسان. تلعب الاتصالات التقدمية دورًا مركزيًا في إتاحة ممارسة كثير من الحقوق اﻷساسية وفي مقدمتها الحق في التعبير، والحق في الخصوصية، والحق في الوصول إلى المعلومات، والحق في المشاركة السياسية، وغيرها.
فيما يلي، تتعرض الورقة بشكل مختصر لهذا الدور بالنسبة لحقين رئيسيين من حقوق اﻹنسان، وهما الحق في حرية التعبير والحق في الخصوصية.
الحق في حرية التعبير
التواصل بين البشر هو الوسيط الوحيد الذي من خلاله يتاح ﻷي منهم ممارسة حقه في حرية التعبير عن آرائه وأفكاره ومشاعره. كل صورة من صور التعبير، سواء باستخدام اللغة المكتوبة أو المنطوقة أو المغناة، أو باستخدام وسائط التعبير الفنية المرئية أو المسموعة، هي في اﻷساس واحدة من صور التواصل بين البشر.
للاتصالات التقدمية دور مهم في تطوير أدوات ووسائط تذلل العوائق التقنية التي يمكن أن تجعل من الصعب على الأفراد التعبير عن أفكارهم بالشكل المرضي لهم. التطور الحديث للتكنولوجيات الرقمية أتاح في متناول عدد متزايد من الناس أدوات للتعبير وخلق الرسائل. بعض هذه الأدوات جعل التعبير باستخدام وسائط تقليدية أكثر سهولة، وبعضها فتح الباب أمام الخيال والابتكار لخلق وسائط جديدة والمزج بينها وبين الوسائط التقليدية بصور لا تخضع إلا لحدود التجريب والابتكار والخيال.
تسعى الاتصالات التقدمية على جانب آخر إلى أن يتاح للجميع فرصًا متكافئة لإيصال رسائلهم التي تحوي تعبيرهم عن آرائهم وأفكارهم ومشاعرهم إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين. كما تسعى إلى تذليل العقبات التي يمكن أن تحول دون ذلك، وفي مقدمتها بالطبع الممارسات الرقابية التي تنتهجها الدول للحيلولة دون وصول محتوى بعينه إلى مواطنيها، وكذلك الممارسات العقابية التي تلاحق أصحاب بعض الرسائل في ظل قوانين وتشريعات تحد من حرية التعبير، أو خارج القانون وبالتحايل عليه.
كذلك تسعى الاتصالات التقدمية إلى توفير سبل التفاف مختلفة حول آليات هذه الممارسات. وفيما يتعلق بشبكة اﻹنترنت بوصفها الوسيط الرئيسي للتواصل اليوم، تقدم تكنولوجيات مثل التشفير، والشبكات الافتراضية الخاصة VPNs وغيرها سبلًا لتجاوز أنظمة الرقابة وفلترة المحتوى. كما تقدم التكنولوجيات نفسها سبل ﻹخفاء الهوية لتجنب الملاحقة.
الحق في الخصوصية
يمثل الحق في الخصوصية واحدًا من أهم حقوق اﻹنسان التي ترتبط بشكل وثيق بالتكامل النفسي للأشخاص. في إطار بيئة من اﻹمكانيات غير المحدودة للتواصل ونقل البيانات والمعلومات، يستشعر اﻷشخاص تهديدات متزايدة بانتهاك خصوصيتهم والتدخل في تفاصيل حياتهم الشخصية.
حماية الخصوصية مع حرية التواصل بين البشر يمثلان وجهان لعملة واحدة لا يمكن الفصل بينهما؛ فحرية التواصل تنطوي في معناها على حرية اختيار حدود هذا التواصل التي ينبغي أن يتاح لكل فرد أن يختارها بنفسه دون تدخل أو إملاء خارجي.
تسعى الاتصالات التقدمية إلى توفير سبل وأدوات تتيح لكل شخص أكبر قدر ممكن من السيطرة الحرة على حدود تواصله مع اﻵخرين. يعني ذلك أن يحدد كل فرد بشكل واضح مدى ما يتاح من خلال هذا التواصل لكل طرف آخر على حدة من معلومات وبيانات وتفاصيل شخصية، بما في ذلك من يتاح له التواصل معه، ومتى، وفي ظل أية ظروف.
مع تطور تكنولوجيات الاتصالات، تسعى الاتصالات التقدمية إلى الحد من أية آثار سلبية لهذا التطور فيما يخص حماية الحق في الخصوصية. كما تسعى إلى تزويد اﻷفراد بأدوات ووسائل لمواجهة ممارسات اختراق البيانات الشخصية وانتهاك الخصوصية.
الاستدامة البيئية
الاستدامة Sustainability كمفهوم عام تتعلق بحفظ استمرار وجود الجنس البشري من خلال العمل على ألا تؤدي السلوكيات البشرية، الفردية أو الجماعية، إلى إحداث خلل في المقومات الضرورية لهذا الوجود. وفي حين أن الاستدامة البيئية هي فرع من هذا المفهوم العام إلا أن ارتباطها بتهديدات واقعية للوجود البشري في المستقبل القريب نسبيًا أدى إلى أن تكون في مقدمة اهتمام البشر باستمرارية وجودهم كنوع. لذلك، يُفهم مفهوم الاستدامة عادة على أنه إشارة إلى الاستدامة البيئية.
تتعلق الاستدامة البيئية بالعمل على الحفاظ على عناصر بيئة كوكب الأرض الضرورية لدعم استمرار وجود الجنس البشري عليها. وفي ظل الواقع الحالي، يتعلق مفهوم الاستدامة البيئية أكثر بالعمل على وقف التدهور المتسارع لبيئة كوكب اﻷرض بما يهدد حياة البشر عليه.
نتج هذا التدهور عن عقود وربما قرون من تطور استغلال البشر لموارد كوكبهم بشكل غير مسؤول، وبصفة خاصة تلويث بيئة هذا الكوكب بناتج عمليات اﻹنتاج الصناعي والزراعي. أدى ذلك إلى ظواهر بالغة الخطورة على استقرار هذه البيئة، وفي مقدمتها تغير المناخ، فقدان التنوع اﻷحيائي، وخفض الجودة النوعية للتربة.
هذه الظواهر وغيرها تهدد بعواقب بالغة الخطورة. من بين تلك العواقب ارتفاع متوسط درجات الحرارة وذوبان قدر كبير من الغطاء الثلجي للقطبين، مما يؤدي إلى ارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار. قد يؤدي هذا بدوره إلى إغراق مساحات واسعة من اليابسة في عديد من مناطق العالم، وهو ما يهدد باختفاء مدن بأكملها. كذلك اشتداد حدة الكوارث الطبيعية وارتفاع معدلات ضحاياها، مما يهدد بفقدان أرواح الكثير من البشر يبلغ عددهم في بعض التقديرات عدة مليارات.
جميع ما سبق يضع الاستدامة البيئية على أجندة الاتصالات التقدمية كأحد أهدافها العاجلة والهامة. تعمل الاتصالات التقدمية من خلال استغلال جميع سبل الاتصال المتاحة على نشر الوعي بخطورة استمرار تدهور بيئة اﻷرض، ونشر المعلومات العلمية الصحيحة حول تغيير مناخ اﻷرض، ومواجهة الدعاية المضادة لمنكري التهديد البيئي للوجود البشري على اﻷرض. كما تدعم الاتصالات البيئية جهود الجماعات والمنظمات التي تعمل في كل أنحاء العالم من أجل تغيير سياسات الحكومات واﻷعمال لمواجهة التهديد البيئي.
تطور الاتصالات التقدمية
يمثل تطور تكنولوجيات الحواسيب والاتصالات الرقمية وشبكاتها، وفي مقدمتها شبكة اﻹنترنت، منعطفًا بالغ اﻷهمية في تطور الاتصالات التقدمية. حملت هذه التكنولوجيات في بنيتها وطريقة عملها إمكانيات لا حدود لها للتواصل بالشكل الذي تسعى الاتصالات التقدمية إلى تحقيقه.
مع الانتشار الواسع لهذه التكنولوجيات تزايد تأثير الاتصالات التقدمية بشكل كبير. انعكس ذلك في عديد من المجالات، منها ما هو على صلة قديمة وثيقة بالاتصالات التقدمية مثل نشاط الحركات الاجتماعية التحررية، ومنها ما كان يعتبر حتى وقت قريب مساحة مغلقة في وجهها مثل الحكومات وعالم اﻷعمال. في النقاط التالية تناقش الورقة بعضًا من آثار تطور الاتصالات التقدمية في هذه المجالات الثلاث.
الحركات الاجتماعية واستخدام الاتصالات التقدمية
للحركات الاجتماعية التحررية تاريخ طويل من استخدام الاتصالات التقدمية، نظرًا لحقيقة أن هذه الحركات تقوم باﻷساس على قيم ومبادئ التقدمية. مع التطور الكبير ﻹمكانيات الاتصالات التقدمية كانت هذه الحركات الطرف الأكثر استفادة منه.
أدى ظهور وانتشار شبكة اﻹنترنت على وجه الخصوص إلى فتح مساحات أكثر اتساعًا أمام هذه الحركات لتيسير عديد من أسس عملها. ساهمت شبكة الإنترنت في الوصول إلى جمهور أكبر وأكثر تنوعًا تجاوز الحدود التقليدية، والتمكن من مخاطبة جمهورها بغض النظر عن مكانهم في العالم، والتواصل مع الأفراد والجماعات ذات الأفكار واﻷهداف المماثلة، والتنسيق والتنظيم على نطاق واسع، وخاصة للتفاعل مع اﻷحداث العالمية ذات الصلة بمجال اهتمامها. بالإضافة إلى التنسيق والتنظيم الداخلي بكفاءة ومرونة أكبر، ورفع مستوى الشفافية والمشاركة في صنع القرار داخل هذه الحركات.
أحد الجوانب غير المسبوقة لأثر تطور الاتصالات التقدمية على الحركات الاجتماعية هو إمكانية بناء حملات مؤثرة في وقت قصير مع اجتذاب أعداد كبيرة من المؤيدين والداعمين لهذه الحملات دون الحاجة إلى أرضية أيديولوجية مشتركة. المقصود بذلك أن إثارة قضايا محددة يجتذب اهتمام أناس عاديين غير معنيين في المعتاد بالتوجهات التقدمية، ومن ثم يمكن اكتساب دعمهم فيما يخص هذه القضايا وبالتالي رفع حجم التأثير ودفع مطالب محددة يمكن التوافق حولها.
على سبيل المثال، فإن نجاح حركات مثل تلك المبنية حول هاشتاج MeToo (أنا أيضًا)، أو Black Lives Matter (حياة السود ذات قيمة)، والمطالبة بوقف العدوان اﻹسرائيلي ضد قطاع غزة في أعقاب الحرب الأخيرة، هي كلها نماذج للأثر الضخم للالتفاف حول قضايا ومواقف محددة لم يكن باﻹمكان تصور تحقيقه دون تطور الاتصالات التقدمية في وقتنا الحالي.
التوجه نحو الحكومات اﻹلكترونية
تطور تكنولوجيات الحواسيب الرقمية وشبكات الاتصالات قد سمح أيضًا للاتصالات التقدمية بالنفاذ إلى مساحة العمليات البيروقراطية للحكومات من خلال دفع ونشر مفهوم الحكومة اﻹلكترونية. يقوم هذا المفهوم باﻷساس على تحقيق عدد من القيم والمبادئ التقدمية الهامة من خلال تطوير آليات عمل الحكومات بواسطة التكنولوجيا الحديثة.
يأتي في مقدمة ملامح الحكومة اﻹلكترونية إتاحة البيانات والمعلومات التي تجمعها وتنتجها المؤسسات الحكومية في المجالات المختلفة للجمهور، وإتاحة استخدام هذه البيانات والمعلومات ﻷغراض البحث، وكذلك ﻷغراض فحص السياسات الحكومية، وإجراءات عمل المصالح والهيئات والوزارات إلخ، وكذلك سبل إقرار السياسات واتخاذ القرارات التنفيذية.
في حين تحقق إتاحة البيانات والمعلومات الحكومية مبدأ الشفافية وكذلك الحق في الوصول إلى المعلومات، فإن هذه اﻹتاحة هي الركيزة التي يقوم عليها الملمح الثاني الهام للحكومة الإلكترونية. هذا الملمح هو إمكانية المحاسبة على مستويات لم تكن متاحة من قبل حتى في اﻷنظمة الديموقراطية. فالمحاسبة السياسية، التي حتى وقت قريب كان صندوق الانتخابات هو أداتها الوحيدة، لم يكن باﻹمكان أن تتجاوز السياسات العامة دون الخوض في تفاصيل تنفيذها.
مع إتاحة المعلومات الحكومية على نطاق واسع أصبح بإمكان الخبراء والمتخصصين والجمهور العادي أيضًا أن يفحصوا عن قرب تفاصيل عمل الأجهزة الحكومية. سمح ذلك باتساع نطاق إمكانية المحاسبة، وعمق وصولها إلى اﻹجراءات والعمليات التنفيذية التي تمس بشكل مباشر تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين.
عالم اﻷعمال والاتصالات التقدمية
عالم اﻷعمال كان بدوره واحدًا من المساحات المستعصية إلى حد كبير على نفاذ الاتصالات التقدمية إليها. ففي حين أن الحكومات (في الدول الديموقراطية على اﻷقل) ملزمة بقدر من الشفافية وإمكانية المحاسبة، فعالم اﻷعمال مكون من كيانات خاصة لا تسمح القوانين بالتدخل في إدارتها الداخلية. كما أن قيادات عالم الأعمال ليست مسؤولة أمام الجمهور وإنما فقط أمام المستثمرين وأصحاب اﻷسهم.
لكن مؤسسات اﻷعمال في الوقت نفسه لها أثر متزايد وكبير على الحياة اليومية لملايين البشر. تجلى ذلك بوضوح أكبر مع نشأة شركات التكنولوجيا الضخمة وسيطرتها على جانب كبير من إدارة شبكة اﻹنترنت، المتمثل في سياسات إدارة المحتوى المتداول على هذه الشبكة. من ثم، تتحمل هذه المؤسسات مسؤوليات اجتماعية ضخمة تتناسب طرديًا مع حجمها واتساع نطاق تأثير المنصات التي تمتلكها.
سعت الاتصالات التقدمية دائمًا إلى نشر وعي جمهور المستخدمين وكذلك الحكومات بحجم وأثر النفوذ الضخم الذي تمتلكه اﻷعمال، وبصفة خاصة شركات التكنولوجيا الضخمة التي تدير منصات التواصل الاجتماعي ونشر المحتوى وماكينات البحث على شبكة اﻹنترنت.
نجحت هذه المساعي في دفع عدد من الشركات إلى المبادرة التطوعية بإتاحة قدر متزايد من الشفافية عن آليات عملها ذات الصلة بحقوق مستخدميها، وبصفة خاصة الحق في حرية التعبير والحق في الخصوصية. كذلك أصبح من المتوقع من أي موقع من مواقع التواصل الاجتماعي أن يتيح قدرًا أكبر من اﻹعدادات التي تسمح لمستخدميه بحرية اختيار حدود التواصل وحماية الخصوصية التي يحتاجونها. كما أتاح عديد من الشركات مسارات للتظلم من الإجراءات العقابية، وكذلك مسارات للإبلاغ عن الانتهاكات.
بالإضافة إلى ذلك، سنت بعض الدول وفي مقدمتها الاتحاد اﻷوروبي تشريعات ولوائح تنظيمية لفرض مزيد من الرقابة على طريقة إدارة شركات التكنولوجيا الضخمة لمنصاتها على شبكة اﻹنترنت. وفي حين أن ما سبق لا يغطي بشكل كامل كافة الجوانب التي يمكن من خلالها ضمان حقوق المستخدمين، وتحقيق قيم ومبادئ التقدمية، إلا أن السعي إلى المزيد لا يزال مستمرًا ويساعد على تشجيع الاستمرار فيه ما قد تم تحقيقه حتى اﻵن.
خاتمة
الاتصالات التقدمية هي مجال بالغ الاتساع، حيث ترتبط بالسعي المستمر لتحقيق قيم ومبادئ التقدمية على أرض الواقع من خلال خلق مساحات وسبل وأدوات لتواصل أكثر فعالية ومساواة. كما تساهم الاتصلات التقدمية في بناء بيئات تشجع الثقة المتبادلة وتفتح آفاق العمل المشترك بين الناس لتغيير مجتمعاتهم ومواجهة أنظمة الغبن الاجتماعي والقهر السياسي.
سعت هذه الورقة إلى تقديم مداخل وتعريفات أساسية للاتصالات التقدمية تتيح فرصة لمزيد من استكشاف اﻷساس التقدمي الكامن في سبل التواصل بين البشر بطبيعتها. كما هدفت الورقة إلى حفز النظر إلى الاتصالات بوصفها أكثر كثيرًا من مجرد أداة محايدة لنقل الرسائل بين البشر. فلا يمكن بأي حال الفصل بين وسيط الاتصال ومحتوى ما ينقله، وهي حقيقة أكدتها الخبرة البشرية عبر قرون. من ثم، فإن جوهر الاتصالات التقدمية هو ذلك السعي الدائم لأن يكون وسيط التواصل بين البشر حاضنة لنقل ونشر وتحقيق القيم والمبادئ التقدمية.